جريمة الحِرابة والفرق بينها وبين جريمة البغي والسرقة
جريمة الحِرابة والفرق بينها وبين جريمة
البغي والسرقة
الحمد لله الذي
جعل في إقامة الحدود صيانة المجتمعات واستقرار الأمن لأهلها، والصلاة والسلام على
من بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فأدى
الأمانة وبلَّغ الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله وأقام الحدود وأمر بإقامتها
وقال: ((وأسم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) ([2]) وعلى آله وصحبه ومن سلك
سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين آمين. أما بعد:
فلقد جاءت الشريعة الإسلامية بأحكامها التي هي عدل الله
بين عباده قائمة على رعاية المصالح للعباد، فهي مقصد عام للتشريع، وتلك المصالح
كما قرر علماء أصول الفقه لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
والثاني: أن تكون حاجية.
والثالث: أن تكون تحسينية.
فأما الضرورية فمعناها أنه لابد منها في قيام الدين
والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت
حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعي والرجوع بالخسران المبين.
وأما الحاجية فمعناها: أنه مفتقر إليها من حيث التوسعة
ورفع الضيق والمؤدي إلى الحرج والمشقة الحقة بفوت المطلوب.
وأما التحسينية فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن
العادات، وتجنب الأحوال التي تأنفها العقول الراجحة. ([3])
وبالاستقراء علم أن الأحكام الضرورية جاءت لحفظ ستة أمور
هي: الدين والنفس والنسل والعرض والعقل والمال، فهي الضروريات الست.
وإقامة الحدود التي شرعها الله سبحانه أمر ضروري
لاستقامة العيش في هذه الحياة الدنيا، ودون ذلك تعيش البشرية في فوضى واضطراب قد
نعلم بداية أمره لكننا قطعاً لا نعلم نهايته، لأن من الناس من يردعه عن ارتكاب
الجرائم عقل ولا يمنعه نقل، إنما توقفه العقوبة، ولو تركت الجريمة بلا جزاء
لانتشرت، وحلت شريعة الغاب، حتى يصير الحكم للقوة والقهر، فشرعت الزواجر سداً لباب
الجريمة وحسماً لمادة الفساد، فالحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه على
أن منّ علينا بشريعة هي أتم الشرائع وأكملها قال الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) ([4]).
وجريمة الحرابة من أفظع الجرائم وأكثرها ضرراً بالناس
لاستهانة فاعلها بالمحرمات فهي تقطع السبل، وتزعزع أمن الدولة وتعصف بهيبة حاكمها
وتبدل الأمن في قلوب الناس خوفاً، وتعطل به عبادات وتفوت مصالح، ولذلك كانت
العقوبة عليها في شريعة الإسلام من أشد العقوبات.
ولقد أحببت أن أشارك بهذا البحث في مجلة العدل الفتية،
شاكراً جهد القائمين عليها وفي مقدمتهم معالي وزير العدل الشيخ عبد الله بن الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ راجياً استمرار صدورها بهذا المستوى والله ولي التوفيق.
معنى الحرابة في اللغة والاصطلاح الفقهي
أولاً:
تعريف الحرابة في اللغة:
الحرابة: كلمة أصلها ثلاثة أحرف هي: الحاء، والراء،
والباء.
قال ابن فارس: الحرب اشتقاقها من الحَرب وهو: السلْب.
1-الحرب: نقيض السلم ويعنون به القتال، ومنه قول الله
تعالى: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وإن فسرت الحرب في
الآية على أن المراد بها القتل فالقتال داعيته.
2-والحرب: المعصية، قال الله تعالى: (الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي يعصونهما.
3-والحرب: العداوة البيَّنة – يقال: رجل حرب لي. أي عدو
محارب وإن لم يكن محارباً. ودار الحرب: بلاد المشركين الذين لا صلح بيننا معشر
المسلمين وبينهم.
ثانياً: تعريف الحرابة في الاصطلاح الفقهي:
اختلف فقهاء الإسلام في تعريف جريمة الحرابة، وذلك نتيجة
اختلافهم فيما يقع عليه اسم الحرابة من الجرائم، ومَن المحارب، وأنا هنا أذكر
تعريفات الحرابة مع شرحها لدى كل من المذاهب الأربعة والمذهب الظاهري.
أولاً: تعريف الحرابة عند الحنفية:
قال أبو جعفر الطحاوي في مختصره: إذا قطع القوم من أهل
الإسلام أو من أهل الذمة الطريقة على قوم من أهل الإسلام أو من أهل الذمة فلم يأخذوا
مالاً ولم يقتلوا أحداً ثم ظهر عليهم الإمام نفاهم. ([10])
وبهذا نعلم أن الحرابة عندهما خي: خروج جماعة معصومين
على التأبيد على مثلهم وقطعهم الطريق عليهم.
والعصمة في اللغة: المنع والحفظ. ([12])
والمراد بها هناك كون الدم والمال معصومين بالإسلام أو
بعقد الذمة أو الأمان، وقيد التأبيد يخرج المستأمن، فإن في إقامة الحد عليه – لو
قطع الطريق على غيره، وفي إقامة الحد على من قطع عليه الطريق – خلاف في المذهب. ([13])
وظاهر قول الطحاوي المتقدم: أن جريمة الحرابة لا تتحقق
من الواحد، وقد نص السرخسي على ذلك فقال: وإنما شرطنا أن يكونوا قوماً، لأن قطاع
الطريق محاربون بالنص والمحاربة عادة من قوم لهم منعة وشوكة يدفعون عن أنفسهم
ويقوون على غيرهم بقوتهم، ولأن السبب هنا قطع الطريق ولا ينقطع الطريق إلا بقوم
لهم منعة ([14]).
وأكثر فقهاء الحنفية على عدم اعتبار هذا الشرط –
فالكاساني يعرف الحرابة بأنها: الخروج على المارة لأخذ المال على سبيل المغالبة
على وجه يمتنع المارة عن المرور وينقطع الطريق، سواء أكان القطع من جماعة أم من
واحد بعد أن يكون له قوة القطع ([15]). فالفرد – عند أكثر
فقهاء المذهب – تتحقق منه الحرابة متى كان ممتنعاً بقوته ونجدته قادراً على قطع
الطريق. ([16])
ثانياً: تعريف الحرابة عند المالكية:
يعلم تعريف الحرابة عند خليل بن إسحاق من تعريفه للمحارب
بأنه: قاطع الطريق لمنه سلوك، واو آخذ مال مسلم أو غيره، على وجه يتعذر معه الغوث،
وإن انفرد بمدينة. ([17])
وجاء في شرح الكبير([18]): أن المراد بـ((القطع))
الإخافة لا المنع، والإلزام تعليل الشيء بنفسه، وسواء أكانت الطريق خارجة عن
العمران أم داخلة فيه كالأزقة. ([19])
وقوله ((لمنه سلوك)) علة للقطع أي: من قطعها لأجب عدم
الانتفاع بالمرور فيها ولو لم يقصد أخذ مال السالكين.
وقوله: ((أو آخذ)) بالمد اسم فاعل معطوف على قاطع – يفيد
أنه محارب ولو لم يحصل منه قطع طريق، فيشمل من يسقي النَّاس السيكران ([20])، ونحوه ليأخذ المال،
ومخادع الصبي المميز، والكبير بأن خدعه حتى أدخله مكاناً ثم أخذ ما معه،وليشمل
أيضاً من دخل داراً ليأخذ مالاً إن قاتل حين أخذه.
وقد يكون قوله ((أخذ)) مصدراً أي بالهمزة المقطوعة، وكسر
الذال معطوف على قوله ((لمنع سلوك)) أي قطع الطريق لأجل منع سلوكها أو لأخذ مال
المعصوم – وعليه فلا يشمل الصور المتقدمة.
ومراده بغير المسلم: الذمي والعاهد، كما لا يشترط في
المال المأخوذ بلوغه النصاب الذي تقطع فيه اليد للسرقة.
وقوله: (( على وجه يتعذَّر معه الغوث)) أي سأنه تعذر
الغوث وإن أمكن تخليصه منها بقتال، لأن شأنه تعذر الغوث، فإن كان شأنه عدم تعذره
فغير محارب بل غاضب ولو سلطانا، لأن العلماء وهم أهل الحل والعقد ينكرون عليه ذلك
ويأخذون عليه.
وأما قوله: ((وإن انفرد بمدينة)) فهو نص على عدم اشتراط
تعدد المحارب وعدم اشتراط كونه قطع الطريق على عموم الناس، بل وإن كان خاصاً بأهل
مدينة أو بعضهم)). ([21])
وقال ابن عرفة في تعريف الحرابة هي: الخروج لإخافة
السبيل بأخذ مال محترم بمكابرة قتال أو خوفه أو إذهاب عقل، أو قتل خفية أو لمجرد
قطع الطريق لا لإمارة ولا نائرة ولا عداوة. ([23])
وهذا تعريف للحرابة فيه النص على كثير من صورها في
المذهب المالكي.
فقوله: ((أو قتل خفية)) أي: غيلة، والقتل غيلة عند
المالكية من الحرابة.
وقوله: ((لا لإمارة)) أي: لا لأجل أن يجعلوه أميراً
عليهم، لأنه لا يكون حينئذ محارباً بل باغياً)).
والنائرة: العداوة، فالعطف هنا للتفسير. ([24])
((ولكن يرد على التعريف أنه لا يشمل من قاتل لأخذ المال
بلا قطع طريق، أو دخل داراً أو زقاقاً وقاتل ليأخذ المال، ومسقي السيكران، ومخادع
صبي أو غيره ليأخذ ما معه، فهو غير جامع)) . ا . هـ .
وقطع الطريق لأجل هتك العرض بفعل الفاحشة جريمة حرابة،
بل إن مرتكبها أولى بالعقوبة ممن حارب لأجل المال – قال ابن العربي([26]): ((كنت أيام تولية
القضاء قد رفع إلى قوم خرجوا محاربين إلى رفقة، فأخذوا منهم امرأة مغالبة على
نفسها من زوجها من جملة المسلمين معه فيها، فاحتملوها ثم جد فيهم الطلب، فأخذوا
وجيء به، فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين فقالوا: ليسوا محاربين لأن
الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج فقلت لهم: إنا لله وإنا إليه راجعون –
ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال؟ وأن الناس كلهم ليرضون أن
تذهب أموالهم وتحرب من بين أيديهم، ولا يحرب المرء من زوجته وبنته؟ ولو كان فوق ما
قال عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج، وحسبكم من بلاب صحبة الجهال وخصوصاً في الفتيا
والقضاء)) . ا . هـ .
والخلاصة: أن الحقيقة الشرعية لجريمة الحرابة عند
المالكية تنطبق على قطع الطريق أو إخافتها، سواء أكان ذلك في البلد أم المفازة،
لاستباحة الدماء، أو هتك الأعراض أو أخذ المال، كما تنطبق على قتل الغيلة، بل وعلى
كل من أخذ مالاً مقاتلاً، أو بخدعة أو غصب شريطة ألا مغيث من الناس.
ثالثاً: تعريف الحرابة عند الشافعية:
عرف الإمام الشافعي المحاربين بأنهم: ((القوم يعرضون
بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم مجاهرة في الصحاري والطريق)). ([28])
فالشافعي لا يفرق بين وقوع جريمة الحرابة في الصحاري
والقفار وبين وقوعها في القرى والأمصار، بل إنه يرى أن وقوعها في المدن أعظم
ذنباً. ([29])
والمحارب عند الإمام النووي هو: ((قاطع الطريق المسلم
المكلف ذو الشوكة، مع فقد الغوث)) ([30]) وتقييده المحارب بالسلم
يعني أن غير المسلمين لو قطعوا الطريق لا تجري عليهم أحكام المحاربين، وعلى هذا
فالإسلام شرط عنده في المحارب. ([31])
ولم يرتض الشافعية هذا القول، فذكر بعضهم أن مفهوم
المخالفة لقيد ((المسلم)) غير مراد للنووي، وأجابوا: ((بأنَّ الأحكام الآتية
للمحاربين التي منها غسلهم وتكفينهم والصلاة عليهم إذا قتلوا لا تتأتى في الكافر،
أو أن مفهوم القيد فيه تفصيل، إن كان الكافر ذمياً كان كذلك، وإلا فلا، قالوا:
والمفهوم إذا كان فيه تفصيل لا يعترض به. ([32])
بيد أن قول النووي في الروضة لا يسعفهم، لأنَّه لا يحتمل
جوابهم، فهو صريح العبارة مؤكد بأخرى، حيث قال في صفة المحاربين: ((وتعتبر فيهم
الشوكة، والبعد عن الغوث، وأن يكونوا مسلمين مكلفين فالكفار ليس لهم حكم القطاع
وإن أخافوا السبيل)). ([33]) ا . هـ
وبهذا نتبين أن الشوكة أمر نسبي، فقد يكون المحارب ذا
شوكة أمام قوم سليبها أمام آخرين.
ولا يشترط – في الأصح – عند الشافعية أن يكون المحارِب
أقوى من المحارَب بل وإن كان مساوياً لا أضعف، لأنه يكون حينئذ منتهباً. ([36])
و((فقد الغوث)) يكون للبعد عن العمران وعساكر السلطان،
أو من القرب لكن لضعف السلطان وهو يشمل ما لو دخل جماعة داراً ليلاً وشهروا السلاح
ومنعوا أهل الدار من الاستغاثة فهم قطاع على الصحيح مع قوة السلطان وحضوره وهو فقد
الغوث الحكمي. ([37])
وقد نص بعضهم على ذلك، فعرف الحرابة بأنها: ((البروز
لأخذ مال أو لقتل أو إرعاب مكابرة اعتماداً على القوة، مع البعد عن الغوث ولو
حكماً)). ([38])
ولكن ما قول الشافعية في الخروج على الناس لأجل هتك
أعراضهم، هل يعدونه جريمة حرابة أم لا؟
جواب: هذا التساؤل نجده في حاشية الجمل، حيث جاء ما نصه:
رابعاً: تعريف الحرابة عند الحنابلة:
عرّف الإمام الخرقي المحاربين بقوله: ((هم الذين يعرضون
للقوم بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة)). ([41])
الشرط الأوَّل: أن يكون ذلك في الصحراء، فإن كان ذلك
منهم في القرى والأمصار فليسوا محاربين، وأكثر الأصحاب على عدم التفريق، لأن
فسادهم في المصر أكبر فهم أولى بالعقوبة منهم في الصحراء وهو المذهب.
ومنشأ الخلاف: أن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – حينما
سئل عن الذين يعرضون للناس بالسلاح في المدن – توقف فيهم.
الشرط الثاني: أن يكون معهم سلاح، فإن لم يكن معهم سلاح،
فهو غير محاربين لأنهم لا يمنعون أنفسهم ممن يقصدهم لدفع شرهم أو الإمساك بهم، وإن
كان سلاحهم العصي والحجارة فهم محاربون، لأن ذلك يؤدي الغرض، وهو المذهب، غير أن
الظاهر من التعرف هو أن المعترض بالعصي والحجارة ليس محارباً.
الشرط الثالث: أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهراً،
فأما إن أخذوه مختفين فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم،
وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئاً فليسوا بمحاربين
لأنهم لا يرجعون إلى منعة وقوة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق.
قلت: وهذا التعريف لمن تأمله غير جامع، وذلك لأنَّ قطاع
الطريق قد يكون قصدهم الأنفس، أو حتى مجرد الإرهاب وإخافة السبيل.
واختار صاحب الإقناع عد العصا ونحوها سلاحاً، وأن
الحرابة تتحقق في المدن، وبيّن صفة المحاربين فقال في تعريفهم: ((هم قطاع الطريق
المكلفون الملتزمون ولو أنثى، الذين يعرضون للناس بسلاح ولو بعصا وحجارة، في
الصحراء أو بنيان أو بحر، فيغصبونهم مالاً محترماً قهراً مجاهرة)). ([45])
قال شارحه: قوله ((الملتزمون)) أي: المسلمون والذميون،
وينتقص به عهدهم([46]) ويتفق رأي فقهاء
الحنابلة على عدم اشتراط الذكورية والحرية، فالمرأة قد تكون محاربة كما صرح بذلك
صاحب الإقناع، والعبد كذلك.
ووصفه في التعريف المال المغصوب بكونه محترماً، قيد أخرج
من يغصب الصليب والمزمار ونحوهما، فليس بمحارب عند الحنابلة. ([47])
خامساً: تعريف الحرابة عند الظاهرية:
توسع الظاهرية في حقيقة الحرابة الشرعية تبعاً لقاعدتهم
الأصولية وهي إجراء الدليل على ظاهره، فالمحارب عندهم: مكلف مسلم أخاف السبيل.
لأنهم لا يشترطون فيه عدداً ولا ذكورة ولا حرية([48]) ولا يكون معه سلاح، بل
قد يكون الأعزل محارباً، كما أنه لا فرق عند الظاهرية بين أن تقع الجريمة في
الصحراء أو الحاضرة، ولا أن تقع في ظلمة الليل أو وضح النهار، فمخيف السبيل بأي
صورة من الصور محارب في المذهب الظاهري.
جار في المحلى([49]) المحارب هو: ((المكابر
المخيف لأهل الطريق، المفسد في سبيل الأرض، سواء بسلاح أو بلا سلاح أصلاً، سواء
ليلاً أو نهاراً، في مصر أو في فلا أو في قصر الخليفة أو الجامع، سواء قدموا على
أنفسهم إماماً أو لم يقدموا، سِوُىً الخليفة نفسه فعل ذلك بجنده أو غيره، منقطعين
في الصحراء أو أهل قرية سكاناً في دورهم أو أهل حصن كذلك، أو أهل مدينة عظيمة أو
غير عظيمة كذلك، واحداً كان أو أكثر، كل من حارب المار وأخاف السبيل بقتل نفس أو
أخذ مال أو لجراحة أو لانتهاك فرج، فهو محارب، عليه وعليهم. كثروا أو قلوا، حكم
المحاربين المنصوص في الآية)) . ا . هـ([50])
وإذا ارتكب الذمي هذه الجريمة، فإنه بذلك يصبح حربياً لا
محارباً، لأنه قد نقض عهده بحرابته، فلا يقبل منه حينئذ إلا الإسلام أو السيف.
قال ابن حزم: ((وأما الذمي إن حارب فليس محارباً، لكنه
ناقض للذمة، أنه قاد فارق الصَّغار، فلا يجوز إلا قتله ولابد أو يسلم، فلا يجب
عليه شيء أصلاً في كل ما أصاب من دم أو فرج أو مال، إلا ما وجد في يده فقط، لأنه
حربي لا محارب)) . ا . هـ . . ([51])
واللص الذي يدخل على سبيل الخفية ثم يفتضح أمره فليدافع
ويكابر حكمه حكم المحاربين عند أهل الظاهر. ([52])
جرائم معاصرة من الحرابة
أولاً: الاختطاف:
والمراد هنا جريمة خطف الآدميين، وهو يقع على عدة صور
وأشكال، فهناك خطف الأفراد ويكون غالباً داخل المدن، نحو أن يأتي الجناة إلى أحد
من الناس وهو في الطريق أو البيت ثم يقومون بالهجوم عليه وأخذه معهم قهراً، أو
يأخذونه تحت وطأة التهديد بالسلاح.
ويكون أيضاً خارج المدينة، نحو أن يعترض طريقه وهو مسافر
بحيلة أو سواها ثم يقومون باختطافه ومنه خطف الجماعات، فهناك خطف الطائرات
والقاطرات والسفن، ويتم أيضاً على عدة ضروب، فمنه أن يكون المُختطف أحد الركاب –
وهو هو الأغلب – ومنه عملية اعتراض الطريق.
هذه بعض صور الجريمة، وبالنظر إليها والتأمل فيها نجد
أنها محاربة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فهي بلا استثناء جرائم معاصرة
للحرابة يستحق مرتكبها جزاءً الجريمة الذي حده الله سبحانه وتعالى بقوله: (إِِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا
مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ). ([54])
وبالبحث عن دوافع هذه الجريمة نجد أن أغراض الخاطفين
تختلف من جناية إلى أخرى، فهناك من يقصد المال، وهناك من يقصد هتك العرض بفعل
الفاحشة، وهناك من مقصده سياسي أو اقتصادي وهناك أغراض أخرى.
والذي أراه أن دافع الجاني لارتكابه جريمة الخطف لا أثر
له من ناحية جعل جريمته ليست حرية إسقاط الحد عنه، لأن مقصده إن كان الحصول على
المال فهو حراب بلا خلاف، وإن كان فعل الفاحشة فهو أعظم من سابقة كما صرح به كثير
من فقهاء المالكية وهو الصحيح، وأما إن كان القصد سياسياً أو اقتصادياً فهو أيضاً
حرابة، وإخراجه من ذلك تخصيص للنص العام بلا دليل، وعليه فخطف المسئولين وخطف
العامة سواء من حيث وجوب حد الحرابة على الجناة.
ثانياً: السطو:
قال ابن فارس: ((سطا)) السين والطاء والحرف المعتل، أصل
يدل على القهر والعلو، يقال سطا عليه يسطو، وذلك إذا قهره ببطش. ([55])
وفي لسان العرب([56]): السطوة المرة الواحدة،
والجمع: السطوات، وسطا عليه وبه سطواً: صال. وبهذا يظهر لنا أن أخذ الشيء بالقهر
والقوة سطو، كما أن أخذه خفية سرقة.
والمراد هنا نت يقوم بالسطو على المنازل والمتاجر
والبنوك وغيرها ليلاً أو نهاراً، ويقوم بمواجهة من كان فيها وتهديده بالقوة إما
على السكوت على فعلهم وعدم محاولة مقاومتهم أو طلب الغوث، وإما على إعطائهم المال
أو ما يريدون.
وباسترجاع ما تقدم بيانه في تعريف الحرابة عند الفقهاء،
نعلم أنَّ ظاهر الرواية عند الحنفية لا ترة هذه الجريمة من قبل الحرابة، حيث قالوا
بأن المحاربة لا تكون إلا خارج المدن، وهو أيضاً مروي عن الإمام أحمد وبعض
المالكية وأما من قال باشتراط السلاح أو وقت الحراب في المدن فهو يرى أن السطو على
تلك الأماكن حرابة بشرطه الذي اعتبره، والذي اختاره أن السطو على المنازل والمتاجر
والبنوك ونحوها على الصفة المذكورة جريمة حرابة فيها الحد المنصوص عليه في آية
المائدة، لأنه إذا كان أخذ المال على سبيل الخفية والاستسرار عقوبته قطع اليد،
فكيف إذا كان الأخذ تم بقوة السلاح أو البطش والتهديد مجاهرة!
فالواجب أن يكون العقاب أشد وأنكى، لأن هذا الفعل خطير
على المجتمع بأسره، ينزع أمنه وطمأنينته.
ووقع السطو في وضح النهار لا يزيد الجريمة إلا غلظة،
لأنه دليل عظيم خطر المجرمين وجراءتهم، ويؤدي إلى خوف أشد لأن وقوع السطو حال سكون
الناس أهون من وقوعها حال انتشارهم وأمام نواظرهم، فالمجاهرة والمكابرة سر غلظ
عقوبة هذه الجريمة.
ثالثاً: استخدام المتفجرات:
استخدام المتفجرات أو المعبآت الناسفات في عمليات القتل
والتخريب جريمة من الجرائم التي لم تظهر قبل زماننا هذا، فهي جديدة على المجتمع
البشري.
وهي جريمة فشت واتسعت دائرتها وكثر محترفوها، بل هواتها،
تظهر ذلك كله الإحصاءات ومعدلات هذه الجريمة، التي تثبت أنها في ازدياد مستمر.
وأنَّها من الخطورة بمكان، لأنَّ طرق استخدامها تتجدد
يوماً بعد يوم، فبعدما كانت تلقى إلقاء صارت توضع في المباني والمحلات أو بقربها
وفي السيارات والأدوات المختلفة وغير ذلك وتوقّت، ومن ثمّ يصعب على أجهزة الأمن القبض
على مرتكبيها.
والغالب أن هذه الجريمة تكون ثمرة اتفاق جنائي تقوم بع
عصابة من المجرمين، وقد تجمعهم منظمة سرية أو تدعمهم دولة معادية، وهو ما يؤكد الخطر
ويوجب الحذر وسرعة القبض على الفاعلين وإقامة العقوبة عليهم.
والملاحظ على هؤلاء المجرمين – غالباً – أنهم لا يراعون
حرمة ولا يفرقون بين صغير وكبير ولا بين امرأة ورجل، ولا يبالون بحق، وأن لهم من
الجرائم ما يقشعر منه البدن عند سماعه ويشيب الوليد عند رؤيته، فهم يقتلون الناس
دون تمييز، والواقع شاهد بذلك، فيزعزعون سلطان الحاكم وينزعون الأمن ويشيعون
الفوضى، فضررهم عام وخطرهم جسيم.
ولهذا فهذه الجريمة أشد أنواع المحاربة والإفساد في
الأرض.
ويجب في حق مرتكبها العقوبات التي نص الله تعالى عليه
جزاءً لهذه الجريمة، قال الله تعالى: (إِِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا
مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ) ([57]).
العلاقة
بين الحرابة وقطع الطريق
يطلق بعض الفقهاء على جريمة الحرابة لفظ قطع الطريق
تسمية لها باعتبار ما تؤدي إليه، ونحن إذا تأملنا صور هذه الجريمة ونتائجها نجد
أنها تؤدي في الغالب إلى أن تكون الطريق مخيفة، وبالتالي تنقطع الناس عن سلوكها.
بيد أن ذلك ليس على سبيل اللزوم، فإن جريمة الحرابة قد لا تؤدي إلى أن تنقطع الطريق من السابلة، لأن الذي يحدث أن ينتشر الخوف والرعب في غير الطريق، حين ينتشران في المنازل والمتاجر ونحوهما([58]) ولبيين ذلك أضرب مثالاً فأقول: اللصوص الذين يقتحمون على الناس دورهم ومعهم السلاح ويمنعونهم من طلب الغوث بالقوة ثم يعتدون عليهم ويسلبونهم أموالهم، هؤلاء محاربون لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم تجري عليهم أحكام الحرابة، كما أفتى بذلك بعض السلف([59]) وذهب إليه كثير من الفقهاء – كما تقدم – بل هم عندهم أعظم جرماً من الذين يخرجون في الصحراء، مع أن ما ارتكبوه لا تنقطع به الطريق، لذا.. فإن تسمية جريمة الحرابة بقطع الطريق تسمية لها ببعض ما تؤدي إليه لا كله – إلا على القول بأنَّ هذه الجريمة لا تكون إلا خارج المدن، فتسميتها بالحرابة أشمل من تسميتها بقطع الطريق([60]).
فكل قطع طريق حرابة ولا عكس، فالعلاقة بين الحرابة وقطع
الطريق علاقة العام ببعض أفراده، والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق.
الفرق بين المحارب والسارق
يطلق بعض فقهاء الحنفية على الحرابة لفظ السرقة الكبرى،
وسبب تسميتهم لها بالسرقة وجود جامع بينهما، وهو أن قاطع الطريق يأخذ المال سراً
ممن إليه حفظ الطريق وهو الإمام أو من نصبه الإمام لذلك، كما أن السارق يأخذ المال
سراً ممن إليه حفظ المكان منه وهو المالك أو من يقوم مقامه، وهذه التسمية مجازية.
دليل ذلك: أن اسم السرقة لا يطلق على قطع الطريق، إلا مقيداً، فيقال: السرقة
الكبرى، ولو قيل: السرقة فقط، لم يفهم أصلاً، ولزوم التقييد من علامات المجاز.
وأما تسميتها كبرى فلأن ضرر قطع الطريق على أصحاب
الأموال وعلى عامة المسلمين بانقطاع الطريق، بينما ضرر السرقة الصغرى يخص الملاك
بأخذ مالهم وهتك حرزهم، ولهذا غلظ الحد في حق قطاع الطريق. ([61])
وقبل أن أذكر ما يفترق فيه المحارب والسارق وما يتميز به
كل واحد منهما، أورد معنى السرقة في اللغة والشرع، بعد أن تقدم لنا المراد
بالحرابة فيهما.
أولاً: تعريف السرقة في اللغة:
السين، والراء، والقاف، أصل يدل على أخذ شيء في خفاء
وستر، يقال: سرق يسرق سرقة، واسترق السمع، إذا تسمع مختفياً. ([62])
قال تعالى: (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) ([63])وصار ذلك في الشرع
لتناول الشيء من موضع مخصوص وقدر مخصوص([64]) قال الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا) ([65])
ثانياً: تعريف السرقة في الاصطلاح الفقهي:
أ-تعريف السرقة عند الحنفية: قال صاحب الكنز: السرقة هي
أخذ مكلف خفية قدر عشرة دراهم مضروبة محرزة بمكان أو حافظ. ([66])
فالنِّصاب الذي تقطع فيه يد السارق عند الحنفية هو عشرة
دراهم أو مقدارها من الأعيان القابل للادخار، أما ما يتسارع إليها الفساد كالعنب
والرطب ونحوهما علا قطع فيها. ([67])
ووصفه للدراهم بقوله ((مضروبة)) يخرج ما لو سرق عشرة
تبراً لا تساوي عشرة مضروبة، فإنَّه لا يقطع. ([68])
ب-تعريف السرقة عند المالكية: أخذ مكلف حراً لا يعقل
لصغره أو مالاً محترماً لغيره نصاباً أخرجه من حرز بقصد واحد خفية لا شبهة له فيه.
([69])
ففي التعريف ورد اشتراط النصاب في المسروق ولم يبين
مقداره، وهو عند المالكية ربع دينار أو ثلاثة دراهم، أما ما تبلغ قيمته ثلاثة
دراهم من العروض([70]) والتقييد بـ((قصد
واحد)) ليشمل ما إذا سرق أقل من النصاب ثم كرر ذلك مراراً بقصد واحد حتى كمل
النصاب، فإنه يقطع. ([71])
ج-تعريف السرقة عند الشافعية: أخذ البالغ العاقل الملتزم
نصاباً من المال خفية من حرز أمثله لا شبهة له فيه. ([72]) ومرادهم بالملتزم: أي:
لأحكام الإسلام وهو المسلم الذمي، وهل يجب الحد على المستأمن؟
قولان في مذهب الشافعية، وأما النصاب عندهم فهو ربع
دينار مضروب أو ما قيمته ذلك فالتقويم بالدينار خاصة. ([73])
د-تعريف السرقة عند الحنابلة: أخذ المكلف الملتزم نصاباً
من حرز مثله من مال معصوم لا شبهة فيه على وجه الاختفاء([74]) . والنصاب عند الحنابلة
ثلاثة دراهم أو ربع دينار أة ما يبلغ قيمة أحدهما من غيرهما. ([75])
وحرز المال ما جرت العادة بحفظه فيه، فهو يختلف باختلاف
الأموال وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه.
هـ-تعريف السرقة عند الظاهرية: يرى أهل الظاهر أن اسم
السرقة الشرعية وحكمها مصدق على أخذ المكلف شيئاً ليس له، له قيمة على سبيل
الخفية. ([76])
فهو لا يشترطون أن يكون المال حرزاً حال السرقة، كما
أنَّهم لا يستثنون سرقة الوالد ولا الولد، فلو سرق الأوَّل من الثاني ما لا يحتاج
إليه قطع، وكذا الزوجان فيما بينهما. ([77])
وأما النصاب عند الظاهرية فنوعان:
الأوَّل: نصاب الذهب، وهو ربع دينار بوزن مكة فصاعداً،
فلا تقطع اليد في أقل من ذلك من الذهب خاصة.
الثاني: ما سوى الذهب ونصابه ما يساوي ثمن جحفة أو ترس،
قل أو كثر دون تحديد، فلا تقطع اليد فيما دون ذلك مما لا قيمة له أصلا وهو التافه.
غير أنَّ أهل الظاهر يشترطون في المسروق أنَّ يكون مما
يباح الانتفاع به، فيخرج الخمر والخنزير ونحوهما، ويدخل الطيب والوثن ونحوهما، إذا
كان ذا قيمة بعد الكسر لوجوبه. ([78])
مما تقدم نعلم أن السارق والمحارب يتفقان: في أن كلا
منهما يأخذ مال الغير ظلماً، وفي مطلق وجوب القطع، حيث يجب في حق السارق والمحارب
في بعض أحواله([79]) . كما ،هما يتفقان في
وجوب رد ما أخذاه من الأعيان إلى مالكيهما إن كانت باقية. ([80]) ويتميز كل واحد منهما
عن الآخر بما يلي:
أولاً: أنَّ السارق يأخذ المال خفية عن عين مالكه أو
الأمين عليه، بينما المحارب مجاهر يعتصم بالقتال دون الخفية. ([81])
ثانياً: أن السارق إنما يقع ظلمه على أرباب الموال فقط،
بينما المحارب ظلمه يقع على عامة الناس، وتقدم.
ثالثاً: أن السارق بسرقته لا تكون الطريق مخفية، بينما
المحارب بجريمته تنقطع السبل بانقطاع السابلة وينتشر الخوف.
رابعاً: أن بلوغ المأخوذ النصاب شرط في قطع السارق
بالاتفاق.
وإن اختلفوا في مقداره بينما وقع الاختلاف في اشتراط
النصاب أصلاً في قطع المحارب.
خامساً: أن الحد لا يقام على السارق قبل أخذه المال،
بينما المحارب يقام عليه الحد وإن لم يكن قد أخذ المال بعد. ([82])
الفرق بين المحارب والباغي
الحرابة والبغي حدان من حدود الله تعالى، وجريمتان
بينهما وجه تشابه في بعض المسائل ووجه تباين في بعض آخر، وقد أطلق بعض الفقهاء على
البغاة لفظ المحاربين على التأويل. ([83])
لذا أبيِّن هنا معنى البغي في اللسان المراد بهذه
الجريمة في اصطلاح فقهائنا، ومن هو الباغي؟ ثم أذكر بعد ذلك أوجه الاتفاق
والافتراق بين المحارب والباغي.
أولاً: تعريف البغي في اللغة:
قال ابن فارس: الباء، والغين، والياء، أصلان:
أحدهما: طلب الشيء،
والثاني: جنس من الفساد.
فمن الأول: بغيت الشيء أبغيه إذا طلبته، ويقال بغيتك
الشيء إذا طلبته لك.. والأصل الثاني: قولهم: بغى الجرح، إذا ترامى إلى الفساد، ثم
يشتق من هذا ما بعده، فالبِغيّ: الفاجرة.. والبَغْي: الظلم، قال: ([84])
ولكن الفتى جمل بن بدر
|
|
بغى والبغي مرتعه وخيم
|
ثانياً:
تعريف البغي في الاصطلاح الفقهي:
أ-تعريف البغي عند
الحنفية – عرف فقهاء الحنفية البغاة بأنهم: ((كل فئة لهم منعة يتغلبون ويجتمعون
ويقاتلون أهل العدل بتأويل، ويقولون الحق معنا ويدعون الولاية)). ([85])
فلأجل أن يحكم على
الخارجين بأنهم بغاة لابد من توفر شرطين:
أولهلما: القوة والمنعة،
وثانيهما: التأويل الفقهي.
والتقييد بأنهم:
((يقولون الحق معنا)) دليل على اشتراط اعتقادهم أنهم على حق بتأويل.
ويرى فقهاء الحنفية أنه
كان خروج القوم على الإمام لأجل ظلم وقع عليهم منه، فلا يعدون من أهل البغي، وعلى
الإمام أن ينصفهم لأنهم خرجوا بحق، ومن خرج بحق فليس باغياً. ([87])
ب- تعريف البغي عند
المالكية: عرف المالكية الغي ومنه يعلم تعريف البغاة عندهم بطريق اللزوم فقالوا
البغي هو ((الامتناع من طاعة من تثبت إمامته في غير معصية بمغالبة)). ([88])
فيخرج بالقيود المذكورة
أضدادها، فالامتناع عن طاعة من لم تثبت إمامته بأحد الطرق الشرعية الثلاثة ليس
بغياً، وكذلك إذا كان الامتناع عن طاعة الإمام لأمره بالمعصية، أو لدفع ظلم وقع
عليهم، أو كان الخروج لا على سبيل المغالبة. والمراد بالمغالبة: إظهار القهر وإن
لم يقاتلوا، وقيل المراد بها: المقاتلة – ويرى فقهاء المالكية أن جريمة البغي
تتحقق من الواحد. ([89])
ج-تعريف البغي عند
الشافعي: البغاة عند الشافعية هم: ((مسلمون خالفوا الإمام ولو جائراً وهم عادلون
بخروج عليه وترك الانقياد له، أو منع حق توجه عليهم بشرط شوكة لهم تأويل. ([90])
فالتأويل والشوكة خصلتان
لابد من توفرهما في الخارجين متى احتاج الإمام في ردهم إلى الطاعة لكفة ولو كان
عددهم قليلاً إذا كان لهم فضل قوة يتغلبون بها – وهل يشترط أن ينفردوا ببلدة، أو
يكونوا في طرف ولاية الإمام أم لا؟ أقوال في المذهب أصحها ما ذهب إليه المحققون
منهم، وهو أنه لا يعتبر شيء من ذلك، وإنما المعتبر استعصاؤهم وخروجهم من قبضة
الإمام. ([91])
د-تعريف البغي عند
الحنابلة – جاء في المغني أن أهل البغي ((قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام
ويرمون خلعه لتأويل سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش. ([92])
والحنابلة لا يشترطون في
الإمام – هنا – أن يكون عادلاً بل ولو كان ظالماً وهم بذلك يتفقون مع الشافعية. ([95])
هـ- تعريف البغي عند
الظاهرية – يمكن أن نعرف البغي في المذهب الظاهري بأنه: خروج جماعة من المسلمين
على الإمام الحق بتأويل سائغ.
الأول: صنف تأولوا
تأويلاً وجهه على كثير من أهل العلم، فهؤلاء معذورون ثم أعطاهم أحكام البغاة في
الشريعة من حيث عدم القود فيما أصابوا من دم حال بغيهم ونحو ذلك.
الصنف الثاني: من تأول
تأويل فاسداً لا يعذر فيه.
الصنف الثالث: من قام في
طلب دنيا بلا تأويل.
وهذان الصنفان لا يأخذان
أحكام البغاة عند أهل الظاهر، لأن التأويل فاسد في الأول ومعدوم في الثاني، فعليهم
القود والضمان فيما أصابوا من دماء وأموال، هذا إذا لم يخيفوا الطريق، أو يأخذوا
مال من لقوا، أو يسفكوا الدماء هملاً، فإن فعلوا شيئاً من ذلك انتقل حكمهم إلى حكم
المحاربين. ([97])
ومن خرج بحق أو لدفع ظلم
عن نفسه فليس باغياً، بل الباغي من خالفه وإن كان الإمام نفسه لعموم الدليل. ([98])
بعد أن بينت مفهوم جريمة
البغي عند فقهائنا من خلال تعريفاتهم لهم – يظهر لنا أن بين المحارب والباغي أوجه
شبه هي:
أن فعل كل منهما خروج عن
طاعة الإمام والانقياد له، ومجاهرة بالعصيان.
وأن كلا منهما متمتع
بالشوكة والمنعة، وإن كانت شوكة المحارب بالنسبة للمحروب، والباغي بالنسبة للإمام.
وبالنظر إلى أحكامهما في
الشريعة نجد أنهما يتفقان فيما يلي:
أولاً: مشروعية
مناشدتهما قبل اللجوء إلى القتال، ألا يتعذر ذلك.
ثانياً: وجوب مقاتلتهم على
الإمام ومن عينه الإمام، متى شهروا السلاح وتحقق ضررهم على العامة، دفعاً لفتنتهم،
ولأجل إخضاعهم للعدالة. ([99])
أما الفرق بين المحارب
والباغي فيظهر من التفسير الفقهي لجريمة كل منهما، وهي في الأمور التالية:
أولاً: أن القصد الجنائي
في جريمة الحرابة موجه للعامة لا لأحد بعينه، أما القصد الجنائي في جريمة البغي
موجه للإمام فقط.
ثانياً: دافع الخروج:
حيث نجد أن المحارب خرج بلا تأويل البتة، إنما ارتكب جريمة بدافع الإجرام المجرد
والسعي في الأرض بالإفساد، وقهراً للآمنين، بالاعتداء على أرواحهم وانتهاك أعراضهم
واغتصاب أموالهم وسلب طمأنينتهم فيما نجد أن الباغي إنما خرج بدافع الإصلاح، فهو
محسن في ظنه، متأولاً له وجه، معرضاً عن الناس ما أعرضوا عنه.
وأما الفرق بين المحارب
والباغي من حيث الأحكام، فقد ذكر بعض العلماء ما يختص بقتال كل منهما، وهي خمسة
فروق. ([101])
الأول: أنه يجوز قتال
المحاربين مقبلين ومدبرين لاستيفاء الحقوق منهم، ولا يجوز إتباع من ولّى من أهل
البغي.
الثاني: أنه يجوز أن
يعمد في الحرب إلى قتل من المحاربين، ولا يجوز أن يعمد إلى أهل البغي.
الثالث: أن المحاربين
يؤخذون بما استهلكوا من دم ومال في الحرب وغيرها، بخلاف أهل البغي.
الرابع: أنه يجوز حبس من
أسر من المحاربين لاستبراء حاله، وإن لم يجز حبس أحد من أهل البغي.
الخامس: أن ما اجتباه
المحاربون من خراج وأخذوه من صدقات فهو كالمأخوذ غصباً نهباً، لا يسقط عن أهل
الخراج والصداقت حقا، فيكون غرمه عليهم مستحقاً، بخلاف أهل البغي.
وختاماً أسأل الله عز
وجل أن يحفظ ديار المسلمين وأن يقمع أهل الفساد ويوفق ولاة أمور المسلمين للحكم
بشريعته وتطبيق أحكامه إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.
([20]) السيكران: نبت تدوم خضرته القيظ كله، ويقال له أيضاً: السُّخر.
راجع لسان العرب وتاج العروس، مادة ((سكر)) وعرفه الصاوي في حاشية على الشرح
الصغير ج6 ص219 بقوله: هو المسمى بالحشيشة وله حب تأكله الناس ولا يغيب العقل يسمى
بالشرائق . ا . هـ . ومراد المالكية: أن من يسقي الناس السيكران أو أي شيء من
المخدرات ثم يأخذ ما معهم فهو محارب.
([75]) هذا هو المذهب، وهي إحدى روايات ثلاث عن الإمام أحمد رحمه الله
تعالى. والثانية: أن ما عدا الأثمان تعتبر قيمة بالدراهم خاصة. والثالثة: أن الورق
هو الأصل، والذهب والعروض يقومان به. وثمرة اختلاف الروايات تظهر فيما إذا اختلف
الصرف.
راجع: الإفصاح لابن هبيرة، ج2 ص250،
والإنصاف ج10 ص262.
وحجة الظاهرية في ذلك كله أن الله سبحانه
وتعالى لم يخص بالحكم سارقاً دون آخر، ولم يشترط الحرز حين قال: (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) فهو عموم لكل ما
اقتضاه لفظه، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع السارق عموماً.
شكرا جزيلا
للاستفادة من موقعنا ابحثوا على الموضوع الذين تريدون، بمربع البحث. نسعى دائما لتطوير موقعنا، شكرا لكم