القائمة الرئيسية

الصفحات



دور الفاعلين في منظومة العدالة في تحقيق الحكامة القضائية.

دور الفاعلين في منظومة العدالة في تحقيق الحكامة القضائية.




دور الفاعلين في منظومة العدالة في تحقيق الحكامة القضائية.


منذ كان الإنسان وحتى یكون كان العدل وسیبقى حلم حیاتھ، وأمل مفكریھ، وجوھر
شرائعھ وسیاج أمنھ، وكذلك كان وسیبقى رائدا لركبھ على طریق الرجاء والتقدم والسلام،
صانع الحضارات وحارسھا، وغایة الغایات لنضال صفوف لا تنتھي من الشھداء
والشرفاء، نضالا ً باسلا ً شجاعا ً لم تخمد لھ جذور عبر أجیال غیر ذات عدد، من أجل تجمع
1 الأنفع والأكرم والأسمى
.

والعدل
2
ھو الإنصاف، وإعطاء المرء ما لھ، وأخذ ما علیھ، وقد جاءت آیات كثیرة
في القرآن الكریم تأمر بالعدل، وتحث علیھ وتدعو إلى التمسك بھ، من ذلك قولھ عز وجل:
"إن االله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى"
3
، وفي آیة أخرى: "وإذا

4 حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"

، والعدل اسم من أسماء الله الحسنى وصفة من

صفاتھ تعالى.
وإذا كانت مختلف النظریات الفلسفیة نادت بالعدل كسبیل لبلوغ الأمن بمختلف
تجلیاتھ، عبر تقدیم أفكار ورؤى للارتقاء بالإنسانیة ولتجسید علاقات عادلة بین الناس، فإن
ذلك لن یتأت في الوقت الحاضر، إلا بوجود قضاء نزیھ ومحاید، لأن الأمة التي لا قضاء
فیھا، لا حق فیھا ولا عدل.
ولما كان القضاء في جل الدول، رمزا ً لسیادتھا واستقلالھا، باعتباره من أبرز
مظاھر السلطة، ونظرا لما لھ من وظیفة أساسیة في المجتمع؛ إذ یسھر على تكریس السلم
والأمن الاجتماعیین من خلال المحافظة على الاستقرار والتوازن بین كافة مكونات
المجتمع؛ وذلك بتطبیق القانون المنبثق عن الإرادة الجماعیة، فقد تعالت الأصوات منادیة
5 بجعل القضاء سلطة مستقلة إلى جانب السلطتین التنفیذیة والتشریعیة
.

باعتباره الحارس الطبیعي لحقوق الأفراد وحریاتھم، حاملا بذلك لواء الحق والعدل
وحامیا للدیمقراطیة وسیادة القانون، ولكونھ إحدى الركائز الأساسیة التي تقوم علیھا دولة
6 الحق والقانون





. وھذا ما أكد علیھ الملك محمد السادس في إحدى خطبھ
7
:" ...وإننا نعتبر
القضاء عمادا لما نحرص علیھ من مساواة المواطنین أمام القانون، وملاذا للإنصاف،
الموطد للاستقرار الاجتماعي. بل إن قوة شرعیة الدولة نفسھا، وحرمة مؤسساتھا من
قوة العدل، الذي ھو أساس الملك".
ولئن كان الأساس الذي یجعل القضاء مستقلا من عدمھ، سلطة أم مجرد جھاز، ھو
التشریع الأساسي في كل دولة، كان لزاما ً على جل دول العالم، منھا المغرب، التنصیص
على ذلك في دساتیرھا؛ إلا أن القضاء في المغرب لم یكن عبارةً عن سلطة منذ أول دستور
8 للمملكة سنة 1962 ،وكان تنظیمھ قصرا ً على فصولٍ قلیلة

، وفیھ نص الفصل 82 من ذات
الدستور أن: " القضاء مستقل عن السلطة التشریعیة وعن السلطة التنفیذیة". فكان بعد
ذلك إصدار دستور سنة 1970

، ومعھ دساتیر 10 ، إذ تضمن نفس الحكم فیما یخص القضاء
؛ فظل حینھا القضاء، مجرد جھاز لم یرق لدرجة سلطة 11 سنوات 1972 و1992 و1996
مستقلة عن السلطتین التشریعیة والتنفیذیة.
وفي ظل سعي المغرب إلى جعل قضائھ مستقلا ً، عبر مجموعة من الإصلاحات،
اھتدى في نھایة المطاف إلى إصدار دستور جدید سنة 2011 ،كان ولا یزال دستورا ً متقدما ً
وتخویلھا من 12 من حیث المستجدات التي أتى بھا، أولھا جعل القضاء سلطةً مستقلةً
ما یجعلھا تحظى بھذا الاستقلال فعلیا ً، علاوة على استحداث بابٍ فرعي كرس 13 الضمانات
14 لحقوق المتقاضین وقواعد سیر العدالة

، لیكون ھذا الدستور خیر تجلٍ للحكامة القضائیة.
ومن المتفق علیھ بین الباحثین والفقھاء أنھ لا یكفي لإشباع غریزة العدالة والمساواة
لدى الإنسان أن تكفل أنظمة الدولة حق المواطن في الالتجاء إلى القضاء، وأن یكون ھذا
الأخیر سلطة مستقلة، فزبون العدالة یرید أن یحصل على حقوقھ داخل أجل معقول،
ولتحقیق ذلك لابد من تضافر جھود مختلف الفاعلین في منظومة العدالة، لأن المنظور
التقلیدي، المبني على فكرة مفادھا أن تحقیق العدل یقع على عاتق القضاء وحده، وأن أي
غیاب لفعالیة ونجاعة العدالة یتحملھ ھذا الأخیر، أصبح متجاوزا وغیر ذي موضوعیة.
فالمنظور الحدیث للعدالة، القائم على مفھوم الحكامة القضائیة، باعتبارھا ضرورة
ملحة من أجل الرفع من جودة الخدمة المقدمة لزبون العدالة، أضحى یشرك مجموعة من
المتدخلین في منظومة العدالة لتحقیقھا – أي الحكامة القضائیة–؛ والتي تقوم على مبادئ
، والكل من 15 أساسیة منھا الاستقلالیة والمسؤولیة والشفافیة والفعالیة والنزاھة والنجاعة والتخلیق
أجل تكریس لحقوق المتقاضین وضمان حسن سیر وتصریف العدالة.
فالحمل الملقى على عاتق القضاء، المتمثل في تحقیق الحكامة القضائیة، یعد رسالة
یصعب تبلیغھا في غیبة مھنیي منظومة العدالة، بل إن تحقیق ھذه الحكامة رھین بدور
المتقاضي في ھذه المنظومة.




فبالإضافة إلى القضاء كفاعل رئیس في منظومة العدالة، ھناك فاعلون آخرون، من
، التي تعتبر محور مؤسسة القضاء، وتتوزع أعمالھا بین ما ھو 16 بینھم كتابة الضبط
قضائي وإداري، كما أن أھمیتھا تبرز من خلال اعتبارھا أول من یستقبل المتقاضي وھو
یلج ردھات المحاكم، والوقوف على جمیع أطوار الدعوى إلى غایة تنفیذ الحكم الصادر
الملك الراحل الحسن الثاني الذي أكد 17 فیھا؛ ولعل خیر دلیل على ذلك ما ورد في خطاب
أن: "... مسؤولیة القاضي لیست أجسم من مسؤولیة كاتب الضبط..."؛ ومن جھة أخرى،
فإن مكانتھا ھذه تفرض علیھا التحلي بالمسؤولیة وحضور البعد الأخلاقي، وھو ما تم
: " ...فإننا نھیب بحكومتنا أن تنظر في 18 التأكید علیھ في خطابٍ للملك محمد السادس
مراجعة وضعیتھم المادیة ووضع نظام أساسي محفز لكتاب الضبط، تحصینا لھم من كل
الإغراءات والانحرافات المخلة بشرف القضاء ونزاھة رسالتھ...".
وفي نفس السیاق، یعد المحامي، كذلك،فاعلا ً في منظومة العدالة، ولھ دور مھم في
تحقیق الحكامة القضائیة، وببساطة، لأنھ الشخص الذي یكرس الحق في الدفاع، الذي یعتبر
، فذلك ما جعلھا 19 مبدأ كونیا، وباعتبار أن الدفاع عن الحقوق ھو أساس وجود المحاماة
الذي یتضمن، في القسم 20 تحظى بمكانة في بعض الدساتیر، من بینھا الدستور البرازیلي
الثالث منھ تحت عنوان ممارسة المحاماة في المادة 133 ،أنھ: " لا غنى عن المحامین
لتوفیر العدالة، ویتمتع ھؤلاء بالحصانة عن أفعالھم ودفوعھم في ممارسة مھنتھم، ضمن
في مادتھ 208 تحت عنوان التمثیل القانوني التي 21 حدود القانون"؛ والدستور البرتغالي
یتضمن أنھ: "یضمن القانون تمتع المحامین بالحصانات اللازمة لممارسة واجباتھم،
في 22 وینظم التمثیل القانوني كعنصر ضروري في إقامة العدل"؛ وأیضا الدستور المصري
مادتھ 98 إذ تنص أنھ: "حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول، واستقلال المحاماة وحمایة
حقوقھا ضمان لكفالة حق الدفاع". وما فتئ جلالة الملك محمد السادس یؤكد على مكانة
أنھ: " فالمملكة المغربیة حریصة على أن 24 ، إذ جاء في إحدى رسالاتھ 23 المحاماة ھذه
تظل رسالة الدفاع حاضرة بمصداقیتھا في قلب الممارسة المؤسسیة...".
ونظرا لما یتطلبھ البت في النزاع من إجراءات التبلیغ لتمكین الطرف من معرفة ما رفع
علیھ من دعاوى وتمكینھ أیضا من الدفاع عن نفسھ، ونظرا لكون الحكم یظل في حالة سكون إلى
أن یتم تحریكھ بتنفیذه، كان لابد من وجود فاعلین آخرین في منظومة العدالة؛ فظھر المفوض
، الذي لھ دور فعال في تحقیق الحكامة القضائیة من خلال المھام المنوطة بھ، التي لا 25 القضائي
مناص منھا في أي عمل قضائي.
ومن جھة أخرى، ولما كان الحاجة تفرض توثیق المعاملات بین الأفراد من أجل حمایة
حقوقھم، باتت الضرورة ملحة لخلق مؤسسة تشرف على ذلك، فظھر العدل و معھ الموثق؛ نظرا
للدور الھام المنوط بھما، سواء فیما یتعلق بإثبات الحقوق وضبط المعاملات المتعلقة بھا
درءا لكل نزاع، ولا شك أن ھذین الفاعلین في منظومة العدالة لھم دور في تحقیق الحكامة
القضائیة.
ولأن الضرورة قد تدفع بالمحكمة لسلوك بعض إجراءات التحقیق، لا سیما إذا كان النزاع
المعروض أمامھا یتطلب بحث مسائل فنیة أو تقنیة، أو یحتاج تدلیل صعوبات لغویة، فإنھ مجال
27 والترجمان المحلف 26 العدالة یتدخل فاعلان آخران، ھما الخبیر القضائي
.

وإذا كان القضاء في إطار نظره في القضایا الزجریة، وحتى یتسنى لھ الفصل فیھا
الذي یعتبر دوره 28 بقناعة، فإنھ قد یحتاج إلى مساعدة فاعلین آخرین، من ضمنھم الطب الشرعي
مھما في تحقیق العدالة الجنائیة من خلال المساعدة على الإدارة الفعالة لسیر القضایا
الزجریة،وكونھ أحد الطرق العلمیة التي تساعد على كشف عوالم الجریمة والتعرف على
الحقائق وجمع الأدلة والقرائن والكشف على مرتكبي الجرائم وتقدیمھم للمحاكمة، والذي
یقوم على توظیف المعارف العلمیة والفنیة في المجال الطبي من أجل تحدید ھویة المجرمین
والضحایا أو لتحدید أسباب الجریمة وتاریخ وقوعھا أو الوسائل التي استعملت في ارتكابھا.
وھو ما یؤكد الأھمیة القصوى التي یؤدیھا الطب الشرعي داخل نظام العدالة الجنائیة،
وإسھامھ في تحقیق الحكامة القضائیة في ھذا المجال؛ وھو ما أخذت بھ بعض التشریعات المقارنة
من قبیل التشریع التركي الذي نظم مھنة الطب الجنائي.




ولا یقف التدخل في ھذا المجال فقط على الطب الشرعي وإنما تتدخل أیضا الشرطة
القضائیة، إذ یعتبر ھذا الجھاز بدوره فاعلا في منظومة العدالة، ولھ مكانة مھمة في تحقیق
الحكامة القضائیةفكل فاعل في منظومة العدالة یساھم من موقعھ بقسط في تحقیق الحكامة
القضائیة، الشيء الذي یجعل أي إصلاح قضائي تقبل علیھ الدولة، یجب أن یُتخذ بمنظور شمولي
یأخذ بعین الاعتبار كل الفاعلین في منظومة العدالة، ولعل أبرز ما یؤكد ھذا التصور، ما تضمنتھ
بعض الخطب والرسائل الملكیة من أھمھا: الكلمة السامیة للملك محمد السادس بمناسبة ترؤسھ
افتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء – الرباط فاتح مارس 2002" .وبالرغم مما قطعناه من
خطوات، فإن إصلاح القضاء لا یزال بعیدا عن الھدف الذي نتوخاه لھ ودون الطموحات
المشروعة للمتقاضین وللمجتمع. ولذا فإننا مصممون على أن یأخذ تسریع النھج الإصلاحي
وتیرتھ القصوى. فقد دقت ساعة الحقیقة معلنة حلول وقت التعبئة الكاملة والقویة للقضاة،
ولكل الفاعلین في مجال العدالة للمضي قدما بإصلاح القضاء نحو وجھتھ الصحیحة وانتھاء
. ورسالتھ السامیة الموجھة إلى المؤتمر 49 29 زمن العرقلة والتخاذل والتردد والانتظاریة"
للاتحاد الدولي للمحامین – فاس 31 غشت 2005" ومن ثم جعلنا في مقدمة ركائز مشروعنا
الدیمقراطي الارتقاء بالعمل القضائي وتأھیلھ باستمرار، مھیبین بوزارة العدل وجمعیة ھیئات
المحامین بالمغرب، أن تنسج فیما بینھا علاقات شراكة وتعاون ثابتة في إطار المسؤولیة
والتعبئة من أجل تحدیث المنظومة القانونیة وتأھیل كل الفاعلین في الحقل القضائي مع الانفتاح
على التجارب المثمرة والاستشراف للغد الأفضل".
وقد تبلورت المجھودات المبذولة لإصلاح منظومة العدالة من خلال میثاق إصلاح
منظومة العدالة، الذي یعتبر تكریسا حقیقیا لكل التوجھات الملكیة، لا سیما خطاب الملك
محمد السادس بتاریخ 20 غشت 2009 ،ومن ثم یعتبر ھذا المیثاق من خلال كافة
التوصیات التي تضمنھا، خریطة طریق نحو إصلاح منظومة العدالة الإصلاح الشامل
والعمیق، وكان من البدیھي أن تنصب مختلف التوصیات، بشكل مباشر أو غیر مباشر،
على مختلف الفاعلین في منظومة العدالة، بدءا من القضاء مرورا بالمتقاضي وباقي
مساعدي القضاء.
وتبرز أھمیة الموضوع في تسلیط الضوء على دور كل المتدخلین في صناعة مقرر
قضائي؛ والذي یبدأ منذ تحویل واقعة معینة إلى دعوى مرورا بما یستتبع ذلك من إجراءات
وصولا إلى تنفیذ ما قد یقضي بھ القضاء، والوقوف على حجم مساھمتھم في تكریس
المبادئ الدستوریة المتعلقة بحقوق المتقاضین وقواعد سیر العدالة، وعقلنة الزمن القضائي
والرفع من جودة الخدمة المقدمة لزبون العدالة، إلى أي حد تمكن الفاعلون في
منظومة العدالة، في ضوء الإصلاحات التي شھدتھا بلادنا، من تحقیق الحكامة
القضائیة؟

یمكن القول إن كل فاعل في منظومة العدالة یعتبر عنصراً ضروریا في تحقیق
الحكامة القضائیة، إلا أن بعض الفاعلین لازال دورھم قاصراً في تحقیقھا، مما ینبغ العمل
على الارتقاء بھذا الدور.
وستتم دراسة ھذا الموضوع من خلال تشخیص واقع دور الفاعلین في منظومة
العدالة في تحقیق الحكامة القضائیة (المبحث الأول)، ثم محاولة بحث المداخل الجوھریة
الكفیلة برفع ھذا الدور تكریسا للحكامة القضائیة (المبحث الثاني)؛ وذلك من خلال التقسیم
التالي:


تعليقات