إِقْرَارُ السَجِينِ في كِيرِ العَدل
إِقْرَارُ السَجِينِ في كِيرِ العَدل
إِقْرَارُ السَجِينِ في كِيرِ العَدل
نايف بن علي بن عبدالله القفاري
ذو الحجة 1433
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
"وبسؤال السجين المدعى عليه عن إقراره لدى جهات الضبط والمصدق من القاضي في المحكمة صادق على توقيعه عليه وأضاف بأنه أُكره من جهات الضبط على ما فيه، وإلا فكل ما في الإقرار المنسوب إليه غير صحيح، وبسؤاله هل لديه بينة على إكراهه؟ أجاب: ليس لدي بينة.
فبناءً على ما سبق ضبطه، ولإقرار المدعى عليه لدى جهات الضبط مع عجزه عن إقامة البينة على دعوى الإكراه..."
هكذا هو العمل الجاري في المحاكم مع إقرارات السجناء، وقد تلقيته من أشياخي، وتابعتهم عليه زمناً مع ما كان يجوس في نفسي منه..
وهذا بحث لطيف في هذه المسألة، أدخلت ما استقر عليه العمل في كِير السابقين، فطار ركامٌ تجلّى بعده طِيب قول الأقدمين واتساقه مع عدل الشريعة "ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون"، و"الحق قديم"([1]) لا يبطله شيءٌ ورجوع إليه خير من تمادى في غيره.
أكثرت فيه من النقل حتى أسرفت أو قاربت لا لشيء إلا ليتقرر الأمر ويتبين تتابع الفقهاء عليه.
وأنا اليوم أعرضه على أنظار أشياخي وزملائي وكافة المهتمين بالشأن القضائي خاصة والشرعي عامة ليفحصوه ويقوموه فالمؤمن مرآة أخيه، و (المتصفح للكتاب أبصر بمواقع الخلل من منشئه)([2]).
اللهم اهدنا أجمعين لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم..
أولاً: ضابط الإكراه الذي يُرد لأجله الإقرار:
تتفاوت عبارتهم في ضابط الإكراه، فالحنفية يضبطونه: بما يلحقُ منه الاغتمام البَيِّن، ومثلوا لهبالحبس والقيد والضرب([3]). وقالوا ليس لما يلحق الاغتمام منه حد لا يزاد عليه، (ولا ينقص منه; لأن نصب المقادير بالرأي لا يكون؛ ولكن ذلك على قدر ما يرى الحاكم إذا رفع ذلك إليه, فما رأى أنه إكراه أبطل الإقرار به; لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس, فالوجيه الذي يضع الحبس من جاهه تأثير الحبس, والقيد يوماً في حقه, فوق تأثير حبس شهر في حق غيره, فلهذا لم تقدر فيه بشيء, وجعلناه موكولاً إلى رأي القاضي ليبني ذلك على حال من ابتلي به)([4])، وبعض المتأخرين منهم جعل حبس اليوم فرقاً بين ذي الجاه وغيره، فاليوم في حق غير ذي الجاه لا يعد إكراهاً؛ لأن مثله لا يبالي بمثلها عادة، ومفهوم عبارتهم أنَّ ما زاد عن اليوم فهو إكراه([5]).
وضبطه المالكية: بالخوف من مؤلمٍ، وابن شاس حَدَّه بأنه: "ما فُعِل بالإنسان مما يضره أو يؤلمه" فأضاف الضرر، وهو عند التحقيق مشمول في قوله "مؤلم" فإن الضرر لا يكون ضرراً حتى يؤلم المرء حساً أو معنى.
ومَثَّلَ خليل في مختصره للخوف المؤلم: بالقتل والضرب والسجن وصفع ذي المروءة بملءٍ من الناس([6]). قال عليش في شرحه لخليل: (وظاهر كلامه ولو قل الضرب أو السجن)([7]).
وأما الشافعية فضبطوه بأنه: ما يُؤْثِر العاقل لأجله الإقدام على ما أكره عليه. ومثل النووي في المنهاج للإكراه بالتخويف بضرب شديد أو حبس أو إتلاف مال. وثمت أقوال عندهم هي أكثر تضييقاً لما يشمله الإكراه فمن الأقوال عندهم أنه يشترط للإكراه: أن يكون تخويفاً بقتل، وقيل: تخويف بقتل أو قطع أو ضرب مخوف. والنووي رحمه الله في المنهاج يختار توسعة باب الإكراه ليشمل ما مثل به من الضرب والحبس وإتلاف المال ونحو ذلك وهو ما يختاره الهيتمي أيضاً([8]). ولا حظ أن هذا الضابط الذي نقلته عنهم وخلافهم: يتحدث عن مرحلة التخويف التي تسبق مرحلة إيقاع ما خوف به.
والشافعية ينصون صراحة كالحنفية على أن الإكراه يختلف باختلاف الأشخاص، يقول الشربيني: (ويختلف الإكراه باختلاف الأشخاص والأسباب المكره عليها, فقد يكون الشيء إكراها في شخص دون آخر, وفي سبب دون آخر, فالإكراه بإتلاف مال لا يضيق على المكرَه بفتح الراء كخمسة دراهم في حق الموسر ليس بإكراه على الطلاق;لأن الإنسان يتحمله, ولا يطلق بخلاف المال الذي يضيق عليه , والحبس في الوجيه إكراه وإنْ قلَّ كما قاله الأذرعي)([9]).
أما ضابطه عند أصحابنا الحنابلة، فهو: ما يستضرُّ به المرء ضرراً كثيراً. ومثلوا له بالقتل والضرب الشديد والحبس والقيد الطويلين، قال في المرداوي: ( وأطلق جماعة الحبس)أهـ. يريد أنهم لم يقيدوه بالطويل.
ووقع خلاف في مرحلة التهديد هل هي داخلة في الإكراه أم لا؟ على روايات. أما إذا تجاوز مرحلة التهديد حتى (نيل بشيءٍ من العذاب؛ كالضرب والخنق والعصر والحبس والغط في الماء مع الوعيد، فإنه يكون إكراهاً بلا إشكال)([10]).
وفرقوا كغيرهم بين أشخاص المكرهين فما قد يكون إكراهاً في حق زيد لا يكون إكراهاً في حق غيره([11]).
وإذا انتقلنا إلى ابن حزم، فقد أفصح عن ضابطه، فقال: (كل ما كان ضرراً في جسم أو مال أو توعد به المرء في ابنه أو أبيه أو أهله أو أخيه المسلم، فهو كره)([12]).
وإذا تركنا هؤلاء الأعلام ورجعنا قليلاً إلى كلام السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ورحمنا وإياهم أجمعين، وقفنا على نصوص تمثل لصور الإكراه، وتتفق على أنَّ الحبس والضرب من صوره بإطلاق من غير تفرقة بين ذي المروءة وغيره، أو بين الحبس الطويل والقصير، أو بين الضرب الشديد وما دونه. ودونك النصوص التي وقفت عليها:
• جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ليس الرجل بأمين على نفسه إن أجعته أو أخفته أوحبسته"([13]). وأُتي رضي الله عنه بسارقٍ فاعترف، فقال: "أرى يد رجل ما هي بيد سارق"، فقال الرجل: والله ما أنا بسارق؛ ولكنهم تهددوني. "فخلى سبيله ولم يقطعه"([14]).
• وعن الزهري عن طارق الشامي أنه أُتي برجل أُخذ في سرقة فضربه, فأقر, فبعث إلى ابن عمر يسأله عن ذلك فقال له ابن عمر: لا تقطعه فإنه إنما أقر بعد ضربك إياه([15]).
• وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ما من كلام يدرأ عني سوطاً أو سوطين عند سلطان إلا تكلمت به"([16]).
• وعن ابن جريج قال : قال ابن شهاب الزهري في رجل اعترف بعدما جلد, قال : ليس عليه حد([17]). وأخرج عبد الرزاق الصنعاني عنه أنه قال: لا يجوز الاعتراف بعد عقوبة في حد ولا غيره([18]).
• وجاء عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: "من أقر بعدما ضرب سوطاً واحداً فهو كذَّاب"([19]). وفي مصنف عبد الرزاق بسنده عن إبراهيم بن ميسرة: أن رجلاً كان مع قوم يتهمون بهوى, فأصبح يوما قتيلاً, فاتهم به رجل من القوم, فأرسل له عمر بن عبد العزيز وأمر بالسياط, فقال الرجل: أيها المسلمون إني والله ما قتلته وإن جلدني لأعترفن فأمر به عمر: "فاستحلف , وخلى سبيله"([20]).
• وكان القاضي شريح يقول: " القيد كره, والوعيد كره, والسجن كره, والضرب كره". وعن ابن سيرين: أنَّ قوماً أرهبوا غلاماً حتى اعترف لهم ببعض ما أرادوا, ثم أنكر بعد, فخاصموه إلى شريح, فقال: "هو هذا إن شاء اعترف, ولم يجز اعترافه بالتهديد"([21]).
وإذا فحصنا قول من فرق في السجن بين المدة الطويلة والقصيرة وبين ذي المروءة وغيره لم نقف على نصٍ يعضد هذا التفريق إلا العادة، والعادة متغيرة، وهي مضطربة إذا نُزلت على الأعيان، ولو قيل إن ذا المروءة يزاد عليه ما لا يزاد على غيره من العوام لكان أولى، فإن ذا المروءة عادة ما يكون ألصق بالصبر وأعرف به، ومن دونه يُظن فيه الجزع، والجزع باب ينتهي إلى الإكراه. على أن الصبر منحة ربانية ومن يَظن من نفسه الصبر -أو يُظن فيه ذلك- قد يخونه ظنه أو يتخلف عنه عند أولِّ محك، "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً"، هذا أبو معمر القطيعي كان من شدة إدْلاله بالسنة، يقول: لو تكلمت بغلتي، لقالت: إنها سنية، فأخذ في محنة القول بخلق القرآن، فأجاب، فلما خرج قال: كفرنا وخرجنا([22]). ويحي ابن معين على جلالته وقدره كان يقول: والله ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد ولا على طريقة أحمد، وبشر بن الحارث العابد قيل له لما أُخذ أحمد بن حنبل: قمْ بنا ننصر هذا الرجل، فقال: هذا مقام النبيين لا أستطيع أن أقومَه([23]).
وإذْ رجعنا في التفريق إلى محض الرأي من غير نصٍ، فقول من قال بعدم التفريق أولى كما هو قول المالكية وإطلاق جماعة من الحنابلة؛ لما يتضمنه من اقتفاءٍ لإطلاق السلف –كما مضى-.
ولأن الذي يحجزُ المٌكْرَه عن تقحم ما أُكره عليه هو الصبر، والصبر في أصله من عمل القلب، وشيءٌ في القلب لا يمكن قياسه حتى يبنى عليه حكمٌ في التفريق، وحتى يقول القاضي هذا يطيق سجن اليوم فيُؤاخذ بإقراره، وهذا الآخر لا يطيقه فلا يؤاخذ بإقراره.
ثانياً:نصوص الفقهاء في أن الحبس إكراه يُرد لأجله الإقرار:
تتطابق أكثر نصوص الفقهاء على أنَّ إقرار السجين لاغٍ لا عبرة به مطلقاً، ويصرحون بأنّ من شروط المؤاخذة بالإقرار: أن يكون صادراً من مختار.
الحنفية:
الحنفية متفقون على أنَّ الحبس والإكراه عموماً مانع من المؤاخذة بالإقرار، ولم يختلفوا في شيء من ذلك إلا في السرقة خاصة فقد أفتى بعض المتأخرين بقبوله، وأنكره بعضهم، وقال: لا يفتى به؛ لأنه جور. ومنهم من حكى الإجماع -بإطلاق- على أنه لا يقبل إقرار المكره.
والحسن بن زياد هو أول من نقل عنه الإكراه في السرقة، وقيل إنه رجع عنه، وأما من قبله من أئمة الحنفية فلم ينقل عن أحدٍ منهم تصحيح إقرار المكره.
جاء في المبسوط للسرخسي: (لو أن قاضيا أكره رجلا بتهديد ضرب, أو حبس, أو قيد حتى يقر على نفسه بحد, أو قصاص كان الإقرار باطلا; لأن الإقرار متمثل بين الصدق, والكذب , وإنما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق على جانب الكذب , والتهديد بالضرب , والحبس يمنع رجحان جانب الصدق على ما قال عمر رضي الله عنه : ليس الرجل على نفسه بأمين إذا ضربت أو أوثقت ,ولم ينقل عن أحد من المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله صحة الإقرار مع التهديد بالضرب , والحبس في حق السارق , وغيره إلا شيء روي عن الحسن بن زياد رضي الله عنه أن بعض الأمراء بعث إليه , وسأله عن ضرب السارق ليقر , فقال ما لم يقطع اللحم أو يبين العظم ,ثم ندم على مقالته , وجاء بنفسه إلى مجلس الأمير ليمنعه من ذلك, فوجده قد ضربه حتى اعترف , وجاء بالمال , فلما رأى المال موضوعا بين يدي الأمير قال : ما رأيت ظلما أشبه بالحق من هذا)([24]). وقال في موطن آخر: (وإذا أقر بالسرقة عند العذاب أو عند الضرب أو عند التهديد بالحبس فإقراره باطل؛..، وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله تعالى أفتوا بصحة إقرار السارق بالسرقة مع الإكراه ; لأن الظاهر أن السراق لا يقرون في زماننا طائعين وسئل الحسن بن زياد رحمه الله تعالى أيحل ضرب السارق حتى يقر فقال : ما لم يقطع اللحم ولا يتبين العظم , وأفتى مرة بجواز ضربه ثم ندم واتبع السائل إلى باب الأمير فوجده قد ضرب السارق وأقر بالمال وجاء به فقال ما رأيت جورا أشبه بالحق من هذا)([25]).
وفي البحر الرائق لابن نجيم: (ولم يقيد المصنف الإقرار بالطواعية. قال في الظهيرية: وإذا أقر بالسرقة مكرهاً فإقراره باطل، ومن المتأخرين من أفتى بصحته، وسئل الحسن بن زياد أيحل ضرب السارق حتى يقر قال ما لم يقطع اللحم ولا يتبين العظم ولم يزد على هذا . ا هـ . وفي التجنيس لا يفتى بعقوبة السارق ; لأنه جور ولا يفتى به)([26]).
وجاء في تنقيح الفتاوى الحامدية: (( سئل ) في رجل أقر لآخر بمال بعد أن أكره على ذلك من ذي شوكة إكراها معتبرا فهل لا يصح إقراره ؟ ( الجواب ): نعم، قال في الخيرية لا يصح الإقرار مع الإكراه بالإجماع ا هـ إقرار المكره باطل إلا إذا أقر السارق مكرها فقد أفتى بعض المتأخرين بصحته كذا في سرقة الظهيرية أشباه من الإقرار)([27]).
المالكية:
أما إمام المذهب فنُقِل عنه عبارات صريحة في أنَّ إقرار المكره كالسجين لا عبرة به، والخلاف حدث في الطبقات التي تليه.
فابن القاسم تابع مالك وحفظ عنه ما هو أبعد من قول مالك، حتى قال: إذا أخرج المقر المكره المتاع والقتيل لم يلزمه الإقرار إلا أن يقرّ مرة أخرى وهو آمن، وينضاف إلى إقراره ما يعرف به صحة ما أقرَّ به، وشرحه ابن فرحون: بأن يجمع مع إخراج القتيل والمتاع وصف الواقعة بحيث يعلم أنه خارج من إقرار المكره وما لا يكون كذباً.
ولاحظ أن ابن القاسم اشترط لإعمال الإقرار توصيف المقر للجُرْم كقرينة على صحة الإقرار: أن يكون المقر غيره مكره ! أما إذا كان مكرهاً فهو لا يعتد بإخراج القتيل والمتاع و لا يعده بينة فضلاً عن توصيف الحادثة !
وإبطال إقرار المكره هو المشهور في مذهب مالك، كما صرح به جملة من الشراح.
وأما سحنون فخالف مالكاً وقال من أقر في سجن سلطان عدل لزمه إقراره، وبعضهم نقل لسحنون قيداً آخر: وهو أن يكون المقر ذا تهمة. وذكر الشراح أن القضاء على قول سحنون.
جاء في المدونة: (قلت : أرأيت إن أقر بشيء من الحدود بعد التهديد أو القيد أو الوعيد أو السجن أو الضرب , أيقام عليه الحد أم لا ؟ قال : قال مالك : من أقر بعد التهديد أقيل , فالوعيد والقيد والسجن والضرب تهديد كله وأرى أن يقال . قلت : والوعيد والتهديد - عند مالك - بمنزلة السجن والضرب ؟ قال : قد أخبرتك بقوله في التهديد فما سألت عنه عندي مثله) ([28]).
وأما تلميذه ابن القاسم فسئل: (قلت: أرأيت إن أقر بعد القيد والضرب , ثم ثبت على إقراره , أيقيم عليه مالك الحد وإنما كان أصل إقراره غير جائز عليه ؟ قال : لم أسمع من مالك في هذا إلا ما أخبرتك أنه قال : يقال . وأنا أرى أنه ما كان إقراره بعد أمن من عقوبة يعرف ذلك , فأرى أن يقام عليه الحد أو يخبر بأمر يعرف به وجه صدق ما أقر به وعين , وإلا لم أر أن يقطع لأن الذي كان من إقراره أول مرة قد انقطع , وهذا كأنه إقرار حادث بل هو إقرار حادث . قلت : أيخلى عنه إذا كان إقراره إنما كان خوفا منه - في قول مالك - وهو لم يرجع عن إقراره ؟ قال : لم أسمع من مالك فيه شيئا , ولا أرى أن يخلى عنه , ولكن أرى أن يحبس حتى يستبرئ أمره .قلت: فإن ضرب وهدد فأقر فأخرج القتيل, أو أخرج المتاع الذي سرق , أيقيم عليه الحد فيما أقر به أم لا وقد أخرج ذلك ؟ قال : لا أقيم عليه الحد إلا أن يقر بذلك آمنا لا يخاف شيئا . قلت فإن جاء ببعض المتاع وأتلف بعض المتاع , أتضمنه بقية المتاع إذا جاء بوجه يعذر به ؟ قال : لا . قلت : أفتضمنه الدية إذا جاء بوجه يعذره به السلطان ؟ قال : لا أضمنه الدية . قلت : أتحفظه عن مالك ؟ قال : لا هو رأيي)([29]).
وجاء في الشرح الصغير: (( ولو أخرج السرقة ): أي الشيء المسروق لاحتمال وصول المسروق إليه من غيره ( أو ) أخرج ( القتيل ) المتهم في قتله: فلا يقطع ولا يقتل, إلا إذا أقر بعد الإكراه آمنا. ( إلا ذا التهمة ): فيؤخذ بإقراره حالة الإكراه عند سحنون على المعتمد, وبه الحكم إن ثبت أنه متهم عند حاكم. ولكن المشهور قول ابن القاسم : ولا يلزم المكره شيء ولو متهما , وهو الموافق لقواعد الشرع )([30]). وعلق الصاوي في حاشيته على قوله: [وبه الحكم إن ثبت] إلخ : أي به القضاء كما في معين الحكام ومتن التحفة لابن عاصم ونسبه فيها لمالك،...واعتمد عب ما لسحنون وحمل ما في المدونة على غير المتهم على أنه وقع فيها محلان : أحدهما صريح في عدم العمل بإقرار المكره , ثانيهما حلف المتهم وتهديده وسجنه, وبهذا علم أن ما لسحنون موافق للمدونة على أحد التأويلين)([31]).
وفي شرح حدود ابن عرفة للرصاع: ( باب فيما تثبت به السرقة قال تثبت بالبينة والإقرار بها طوعا وهو ظاهر وأخرج بالطوع إذا ثبت إكراهه وتأمل إذا أقر بالسجن، وقد نقل عن سحنون أنه قال من أقر في سجن سلطان عدل لزمه إقراره)([32]).
وجاء في تبصرة الحكام: (مسألة : ويثبت حكم السرقة بالإقرار والشهادة, أما الإقرار, فإن كان طوعا وتمادى عليه عمل بمقتضاه فإن أقر بعد أن هدد , فقال مالك: لا يؤخذ به. وقال سحنون: إن كان السلطان يعدل فسجنه فأقر في السجن ألزم. وقال: لا يعرف هذا إلا من ابتلي به. وقال ابن القاسم: إذا أخرج المتاع والقتيل لم يلزمه الإقرار إلا أن يقر بعد أمن من العقوبة ويعرف ذلك أو يقر ويخبر بأمر يعرف به وجه ما أقر به, وعين الشيء وكأنه يريد إذا أخرج المتاع أو القتيل بانفراده لم يؤاخذ به إلا أن ينضاف إلى ذلك من إخباره ما يدل على صحة ذلك , مثل أن يقول : اجترأت أو فعلت كذا وعلى صفة كذا , فيذكر من بساط الأمر ومنتهاه ما يعلم أنه خارج من إقرار المكره وما لا يكون كذبا وإذا لم يذكر ما يدل على ذلك له كان له في التعيين مندوحة من التبصرة للخمي . وفي الموازية إن عينها قطع إلا أن يقول : دفعها إلى فلان , وإنما أقررت لما أصابني من الألم . قال مالك : فلو أخرج دنانير لم يقطع لأنها لا تعرف , وقال أشهب : لا يقطع وإن ثبت على إقراره , وإن عين السرقة إلا أن يعرف أنها للمسروق منه) ([33]) ثم دلف إلى بيان حكم المقر المختار.
الشافعية:
الشافعي في الأم صرح بأن إقرار المكره لا يعتد به ولا يبنى عليه شيء، وهذا ما تتابع عليه فقهاء مذهبه. ونصوا أيضاً على أنه لا تجوز الشهادة على إقرار المحبوس لوجود أمارة الإكراه.
وقد أورد فقهاء المذهب صورة تنازعوا فيها: وهي ما إذا ضُرب المرء ليقر بالصدق عموماً لا على شيء معين، ثم أقرَّ بشيء معين فهل يؤاخذ بهذا الإقرار أو لا؟. لكن جماعة من أئمتهم يذهبون إلى أن الذي يجب اعتماده عدم اعتبار هذا الإقرار؛ ملاحظة منهم لظلم الولاة وشدة جراءتهم على العقوبات !
قال الشافعي في الأم: (الإكراه وما في معناه...،. ( قال الشافعي ) : والإكراه أن يصير الرجل في يديّ من لا يقدر على الامتناع منه من سلطان أو لص أو متغلب على واحد من هؤلاء ويكون المكره يخاف خوفا عليه دلالة أنه إن امتنع من قول ما أمر به يبلغ به الضرب المؤلم أو أكثر منه أو إتلاف نفسه . ( قال الشافعي ) : فإذا خاف هذا سقط عنه حكم ما أكره عليه من قول ما كان القول شراء أو بيعا أو إقرارا لرجل بحق أو حد أو إقرارا بنكاح أو عتق أو طلاق أو إحداث واحد من هذا وهو مكره فأي هذا أحدث وهو مكره لم يلزمه)([34]).
وفي حاشية قليوبي على شرح الجلال المحلي: (قوله : ( مكره على الإقرار ) ويقبل قوله في الإكراه مع قرينة , وتقدم ببينته على بينة الاختيار إن لم تشهد بتقدم إكراه عليه . ولا تجوز الشهادة على إقرار نحو محبوس وذي ترسيم لوجود إمارة الإكراه,..وخرج بالإقرار ما لو أكره ليصدق ولو بالضرب , واستشكله الأذرعي وهو حقيق بالإشكال خصوصا في هذا الزمان الذي فسد فيه أمر الولاة)([35]). وقال ابن حجر الهيتمي: (ويسن أن لا يشهد حيث دلت قرينة على الإكراه، فإن شهد كتب صورة الحال لينتفع المكره بذكر القرينة، وأخذ السبكي من كلام الجرجاني حرمة الشهادة على مقيد, أو محبوس وبه جزم العلائي فقال إن ظهرت قرائن الإكراه ثم أقر لم تجز الشهادة عليه)([36]).
وجاء في أسنى المطالب: (( ولا يصح إقرار المكره ) بما أكره عليه لقوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} جعل الإكراه مسقطا لحكم الكفر فبالأولى ما عداه وصورة إقراره أن يضرب ليقر، ( فلو ضرب ليصدق ) في القضية ( فأقر ) حال الضرب أو بعده ( لزمه ) ما أقر به ; لأنه ليس مكرها إذ المكره من أكره على شيء واحد , وهنا إنما ضرب ليصدق ولا ينحصر الصدق في الإقرار ( و ) لكن ( يكره إلزامه حتى يراجع ويقر ثانيا ) نقل في الروضة ذلك عن الماوردي ثم قال , وقبول إقراره حال الضرب مشكل ; لأنه قريب من المكره ولكنه ليس مكرها وعلله بما قدمته ثم قال , وقبول إقراره بعد الضرب فيه نظر إن غلب على ظنه إعادة الضرب إن لم يقر قال الزركشي والظاهر ما اختاره النووي من عدم قبول إقراره في الحالين , وهو الذي يجب اعتماده في هذه الأمصار مع ظلم الولاة وشدة جراءتهم على العقوبات , وسبقه إليه الأذرعي وبالغ فقال والصواب أن هذا إكراه)([37]).
الحنابلة:
نقل الكوسج عن الإمام أبي عبد الله أنه لا يعتد بإقرار المكره، ونقل ابن قدامة الإجماع على أن إقرار المكره لا يجب به حد. وتتابع الأصحاب على أنَّ إقرار المكره لا يبنى عليه شيء، وهم يعدون الحبس داخل في ضابط الإكراه –وقد مضى بيانه في أولاً-؛ بل وينصون على أنَّ المقرِّ إذا ادعى الإكراه وكان محبوساً قبل قوله في دعوى الإكراه، وصرح بعضهم بحرمة الشهادة على إقراره أو كتابة محاضر عليه -كما يفعله رجال الضبط- في حال وجود إمارة الإكراه كالحبس.
وأشير هنا إلى أنَّ القاضي أبا يعلى في الأحكام السلطانية تابع الشافعية في إيراد صورة ما إذا ضُرِب ليقرَّ بالصدق عموماً، فأقر بشيء معين.. ولعل إيراده لها تأثراً بالماوردي.
جاء في مسائل الكوسج: (قال أحمد: إذا أمير خوف فلا يؤخذ على حديث عمر رضي الله عنهوشريح. قال إسحاق: كما قال أحمد)([38]).
وقال ابن قدامة: (ولا يصح الإقرار من المكره, فلو ضرب الرجل ليقر بالزنا, لم يجب عليه الحد ولم يثبت عليه الزنا. ولا نعلم من أهل العلم خلافا في أن إقرار المكره لا يجب به حد)([39]).
وجاء في شرح المنتهى للبهوتي: (و (لا) يصح الإقرار من (مكره عليه) للخبر...، (وتقبل) من مقر ونحوه (دعوى إكراه) على إقرار (بقرينة) دالة على إكراه (كتوكيل به) أي ترسيم عليه أو سجنه (أو أخذ ماله أو تهديد قادر) على ما هدد به من ضرب أو حبس أو أخذ مال ونحوه , لدلالة الحال عليه، قال في النكت: وعلى هذا تحرم الشهادة عليه وكتب حجة عليه وما أشبه ذلك في هذه الحال)([40]).
نخلص مما سبق إلى أن الفقهاء مطبقون على أنَّ الإكراه-ومنه الحبس- إذا لحق بالمقر ألغى أثر إقراره، ولم يخالف في ذلك إلا:
• بعض متأخري الحنفية في السرقة خاصة، ونوزعوا في ذلك.
• وسحنون من المالكية بشرط: أن يكون السلطان عادلاً، وأن يكون المقر ذا تهمة.
وأين لنا العادل اليوم؟! ومن عمل في القضاء أدرك أن جملة من أفراد الضبط الجنائي يسرفون ويتجاوزون، وبعض أفراد الضبط يوقع على المحاضر بإدانة آخرين امتثالاً لأمر من فوقه وهو راغب أو راهب.
والذي ألجأ بعض المتأخرين من الأحناف وسحنون لهذا الرأي هو الاستحسان فيما يبدو، فنقل السرخسي فيما مضى أنَّ الذي حمل من أفتى على إكراه السارق هو أنَّ سُراق زمانهم لا يقرون طائعين، كما نُقِل عن سحنون أنه قال: (لا يعرف هذا إلا من ابتلي به)([41]).
كما أنَّ من الشافعية والحنابلة: من منع الشهادة على إقرار المحبوس. وألحق بذلك بعض الحنابلة منع كتابة المحاضر على المقرِّ، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
والفقهاء يدللون على قولهم في إبطال الأثر لإقرار المكره بما يلي:
1. عموم الأدلة التي تسقط المؤاخذة عن المكره؛ كقوله تعالى:(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"([42])، قالوا: فإذا أسقط عنه الكفر مع شناعته، فمن باب أولى ما دونه([43]).
2. واحتجوا بعموم الآثار التي سبق ونقلتها عن الصحابة والتابعين رضيالله عنهم أجمعين.
3. واستدلوا بالقياس، فقالوا: إن الإقرار ضرب من الشهادة؛ لكنه شهادة يشهد فيها المقر على نفسه، بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، وكما أن الشهادة ترد بالتهمة؛ فكذا الإقرار يرد بالتهمة([44]).
4. وعللوا أيضاً بتعليل عقلي، فقالوا: إن الإقرار متردد بين الصدق والكذب، وإنما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق فيه على الكذب، والإكراه كالحبس يمنع ترجيح جانب الصدق([45]). وعبارة ابن قدامة في المغني تأول إلى هذا المعنى، يقول رحمه الله: (ولأن الإقرار إنما ثبت به المُقّرُ به; لوجود الداعي إلى الصدق, وانتفاء التهمة عنه, فإن العاقل لا يتهم بقصد الإضرار بنفسه, ومع الإكراه يغلب على الظن أنه قصد بإقراره دفع ضرر الإكراه, فانتفى ظن الصدق عنه , فلم يقبل)([46]).
وإذْ تقرر هذا، فإذا ادعى المقر المحبوس الإكراه، فهل يقبل قوله مجرداً؟ أو يكلف بالبينة؟ وإذا تعارضت بينة الإكراه وبينة الطواعية، فأيهما يقدم؟
هذا ما سيأتي-بإذن الله- بيانه في ثالثاً.
ثالثاً: تكليف المحبوس بالبينة على دعواه الإكراه:
صرح بهذه المسألة الشافعية والحنابلة، أما الحنفية والمالكية فلم أقف لهم على نصٍ يعالجها.
وقد أشرت في المقدمة إلى أنَّ العمل المستقر عند القضاة هو تكليف المحبوس بالبينة على دعواه الإكراه متى ما زعم ذلك !
فلنعرض هذا الذي عليه العمل على نصوص الفقهاء وقواعد العدالة التي أمرنا الله بها، ولنبدأ بنصوص الفقهاء أولاً:
يقول الشافعي: ( وإذا شهد شاهدان أن فلاناً أقرّ لفلان وهو محبوس بكذا أو لدى سلطان بكذا، فقال المشهود عليه: أقررت لغم الحبس أو لإكراه السلطان فالقول قوله مع يمينه، إلا أن تشهد البينة أنه أقر عند السلطان غير مكره , ولا يخاف حين شهدوا أنه أقر غير مكروه , ولا محبوس بسبب ما أقر له)([47]).
وقال ابن حجر الهيتمي: (من طلق أو باع أو تصرف ثم ادعى أنه كان مكرهاً، فإن أثبت أنه كان ثمقرينة؛ كحبس أو ترسيم أو كونه في دار ظالم صدق بيمينه وبطلت تصرفاته الواقعة مع قيام تلك القرينة عملاً بها، وإن لم يثبت أنَّ هناك قرينة لم يصدق، نعم له طلب يمين من أنكر كونه مكرهاً بأنه لا يعلم ذلك، فإن حلف كذلك فذاك وإلا حلف هو وبطل تصرفه أيضاً)([48]). وقال أيضاً: (وتقدم بينة الإكراه على بينة اختيار, لم تقل كان مكرها وزال إكراهه ثم أقر)([49]).
وأما أصحابنا الحنابلة فمنصوص أحمد قبول قول مدعي الإكراه، قال ابن رجب في القواعد 322: (لو أقر المحبوس أو المضروب عدواناً ثم ادعى الإكراه قبل قوله نص عليه)([50])، وقد ذكره تحت القاعدة 151 "دلالة الأحوال يختلف بها دلالة الأقوال في قبول دعوى ما يوافقها ورد ما يخالفها , ويترتب عليها الأحكام بمجردها".
وقال البهوتي: (( وتقبل ) من مقر ونحوه ( دعوى إكراه ) على إقرار ( بقرينة ) دالة على إكراه ( كتوكيل به ) أي ترسيم عليه أو سجنه ( أو أخذ ماله أو تهديد قادر ) على ما هدد به من ضرب أو حبس أو أخذ مال ونحوه , لدلالة الحال عليه..، وقال الأزجي : " لو أقام بينة بأمارة الإكراه استفاد بها أن الظاهر معه ( وتقدم بينة إكراه على ) بينة ( طواعية ) لأن مع بينة الإكراه زيادة علم ( ولو قال من ) أي مقر ( ظاهر الإكراه ) لتوكيل ونحوه ( علمت أني لو لم أقر أيضا أطلقوني فلم أكن مكرها لم يصح ) منه ذلك ( لأنه ظن منه فلا يعارض بيقين الإكراه ) قال في الفروع : وفيه احتمال لاعترافه بأنه أقر طوعاً)([51]).
واختم بعبارات المرداوي في الإنصاف:(وتقبل دعوى الإكراه بقرينة؛ كتوكيل به, أو أخذ مال, أو تهديد قادر. قال الأزجي: لو أقام بينة بأمارة الإكراه : استفاد بها أن الظاهر معه. فيحلف ويقبلقوله. قال في الفروع: كذا قال. ويتوجه لا يحلف. فائدة تقدم بينة الإكراه على بينة الطواعية. على الصحيح من المذهب. وقيل: يتعارضان، وتبقى الطواعية فلا يقضي بها)([52]).
نخلص من هذه النصوص إلى ما يلي:
أولاً: نصوص الفقهاء صريحة في أن المحبوس إذا ادعى الإكراه على إقراره قبل قوله مجرداً، فلا يكلف بإحضار بينة زائدة على حاله -وهو ما قرره سماحة الشيخ ابن إبراهيم كما سيأتي النقل عنه-. حتى قال الحنابلة: إن من ظاهره الإكراه كالمحبوس لو قال: علمت أني لو لم أقرّ أيضاً أطلقوني؛ لم يؤاخذ بإقراره؛ لأن هذا ظن منه، فلا يعارض بيقين الإكراه !
ثانياً: اختلفوا هل يقبل دعوى الإكراه قوله بيمينه أو يقبل بلا يمين؟
الشافعي وقول للحنابلة: يكلف بالحلف على دعواه الإكراه.
وفي وجه ذكره ابن مفلح: أنه لا يكلف بالحلف، فيقبل قوله مجرداً، اكتفاءً بدلالة الحال.
ثالثاً: لو تعارضت بينة الإكراه وبينه الطواعية فالذي ذهب إليه ابن حجر الهيتمي وصحيح مذهب الحنابلة فيما ذكر المرداوي: تقدم بينة الإكراه؛ لأن مع بينة الإكراه زيادة علم.
والدليل على أن المحبوس لا يكلف بينة على الإكراه متى ادعاه، ما يلي:
1. أن البينة اسم عام لكل ما يبين الحق كما قرره غير واحد، قال ابن القيم: (البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره ومن خصها بالشاهدين، أو الأربعة، أو الشاهد لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مراداً بها الشاهدان، وإنما أتت مراداً بها الحجة والدليل والبرهان، مفردة مجموعة وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «البينة على المدعي» المراد به: أن عليه بيان ما يصحح دعواه ليحكم له، والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها، لدلالة الحال على صدق المدعي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد)([53])، ولا بينة في المحبوس أعظم من دلالة حاله، فهو مغلولٌ إلى مجلس القاضي بقيوده محاطٌ بسجانيه.
2. أنَّ إكراه رجال الضبط لمن يقع تحت أيديهم أمرٌ مستفيض بين الخاصة والعامة لا يكاد ينكره أحد، ومن الحوادث المشهورة في هذا الباب عدد الأشخاص الذين صادقوا على قتل القاضي السحيباني في الجوف، قبل أن يُسلم الجناة الحقيقيون أنفسهم، وقد كان القضاة إلى وقت قريب يراعون ذلك في أحكامهم ! تابع معي تقرير سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم جواباً على معاملة: (إنَّ البينة التي أحضرها المدعى العام [أي اعتراف المتهم] ليست موصلة فيما يظهر؛ لأنَّ المعروف من إجراءات الشرطة في مثل هذا وما هو أقل منه أنها تسلك وسائل التعذيب والتهديد مع المتهمين حتى يعترفوا تحت الضغط، لا سيما وهو سجين عندهم، ولا يخفى أن مثل هذا دلالة واضحة على الإكراه، وقد ذكر الأصحاب رحمهم الله أنه إذا كان هناك دلالة على الإكراه كقيد وحبس وتَوَكُّلٌ به أن يكون القول قول مدعي الإكراه مع يمينه)([54]). واعتماد القاضي في حكمه على الاستفاضة أمرٌ مقرر شرعاً اطنب فيه ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية وعده طريقاً من طرق الحكم، ومما قاله: (الاستفاضة من أظهر البينات، فلا يتطرق إلى الحاكم تهمة إذا استند إليها؛ فحكمه بها حكم بحجة لا بمجرد علمه الذي يشاركه فيه غيره، ولذلك كان له أن يقبل شهادة الشاهد إذا استفاض في الناس صدقه وعدالته، من غير اعتبار لفظ شهادة على العدالة، ويرد شهادته ويحكم بفسقه باستفاضة فجوره وكذبه، وهذا مما لا يعلم فيه بين العلماء نزاع، وكذلك الجارح والمعدل، يجرح الشاهد بالاستفاضة، صرح بذلك أصحاب الشافعي وأحمد ويعدله بالاستفاضة، ولا ريب أنا نشهد بعدالة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وفسق الحجاج.والمقصود: أن الاستفاضة طريق من طرق العلم التي تنفي التهمة عن الشاهد والحاكم، وهي أقوى من شهادة اثنين مقبولين)([55]) أهـــ.
3. ومن قرائن الإكراه أيضاً: النظر في تاريخ إيقاف السجين وتاريخ التصديق على إقراره لدى القاضي، ولو كان إقراره صدقاً واختياراً لما احتاج تصديقه على الاعتراف إلى كل هذا الزمن، ويظهر هذا جلياً في بعض الموقوفين. وإعمال القرائن القوية أصلٌ قضائي.قال ابن القيم: (الحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات، ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية، كفقهه في جزئيات وكليات الأحكام: أضاع حقوقا كثيرة على أصحابها. وحكم بما يعلم الناس بطلانه لا يشكون فيه، اعتماداً منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله)([56]).
قُصَارى الأمر: أن المحبوس لا يطالب ببينة على دعوى الإكراه؛ لأنه لا بينة أقوى من دلالة حاله، ولأن إكراه رجالات الضبط أمر مستفيض، يعضده تطاول المدد بين تاريخ الإيقاف وتاريخ تصديق الاعتراف. ولو كُلّف السجين بإحضار بينة على الإكراه –غير دلالة الحال والاستفاضة- لكان هذا من التكليف بما لا يطاق، وهو أمرٌ تنزه عنه الشريعة. ووجه: أن الموقوف في السجن لا يملك من أمره شيئاً، فضلاً عن تكليفه بالبحث عن شهود يشهدون على ما يُمارس عليه من إكراه لأجل أن يقرّ بما يُراد منه !
بل لو سلمنا جدلاً بإسقاط دلالة الحال والاستفاضة، لوجب استحساناً قبول قول مدعي الإكراه من غير بينة، لأن الشريعة لا تحجر على المرء فيما ليس من طاقته، ولنا في خبر اللعان سلوة، فهلال بن أمية رضي الله عنه لما قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك" ، فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت آيات اللعان([57]). وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن السائل قال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، فتكلم، جلدتموه، أو قتل، قتلتموه، وإن سكت، سكت على غيظ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم افتح وجعل يدعو" حتى نزلت آيات اللعان([58]). فاستثني رمي الزوج لزوجته من قاعدة القذف؛ لأن الأمر في صورة قذف الزوج لزوجته مختلف عن غيره وله ظرفه بتقدير شريعة أحكم الحاكمين.
وكذلك ما نحن فيه،فإن للسجين واقعه الذي ينبغي أن يراعى كما روعي رمي الزوج لزوجته، وإن تكليف السجين بما يقطع العقل باستحالته عادة ظلمٌ يفوق ظلمَ الْجُلُنْدَي([59]). أقول هذا على فرض عدم التسليم، وإلا فإن فيما ذكرته من أدلة عدم تكليفه بالبينة غنية لمن ألقى السمع لعدل الشريعة.
فإن قيل: هو مكره في السجن وفي محاضر رجالات الضبط، لكن لا نسلم أنه مكره إذا حضر عند القاضي وصدق على إقراره في المحكمة بحضرة القاضي، فإن المقرّ يقر لدى الحاكم بطوعه واختياره، ولم يمارس عليه من قبله أي إكراه.
فالجواب: بأنّ هذا لا يصح أيضاً، فإن حضور الموقوف إلى القاضي كان وهو يجرجر بأغلاله والسّجان صاحبه !
وإذا كان الفقهاء يجعلون التوكيل -وهو الملازمة من غير حبس- إكراهاً، فما نحن فيه أولى.
ثمّ إن القاضي في واقع حالنا-لو كذَّب المقر عنده ما طُلب منه أن يصادق عليه بحضوره-لا يملك كفّ أذى رجالات الضبط عن المقرِّ إذا رجعوا به إلى السجن، والمقر في هذه الحال يعلم أن تكذيبه للإقرار المنسوب إليه سيقوده إلى الإيذاء والتعويق مرة أخرى وهذا ما ينأى عنه الإنسان بفطرته.
وقد مرَّ عليَّ متهم بسرقة -فيما أذكر-، أحيل من الشرطة لتصديق اعترافه، فلما حضر عندي أنكر وزعم الإكراه، فدونته في محضر التحقيق، ثم رجع بعد أيام وأقر بما أنكره سابقاً، فسألته: لماذا تقر بما تنكره أولاً، فقال: خليها على الله يا شيخ ! يومئ إلى ما مورس عليه من إيذاء..ومثل هذه الواقعة التي مرت عليَّ يتكرر مثلها في المحاكم.
وهذا الذي ذكرته هنا من أن الإكراه منسحب على الاعتراف المصدق من القاضي ليس بدعاً من الرأي، تعال معي إلى هذه المقطوعة النفيسة للإمام السرخسي !
الإمام السرخسي لما ذكر أن إقرار المكره –كالمحبوس- لاغٍ لا عبرة به، فرع أحوالاً ألحق بعضها بالإكراه منها صورتنا التي نبحث فيها.
يقول رحمه الله: (1- فإن خلي سبيله بعد ما أقر مكرهاً, ثم أخذ بعد ذلك, فجيء به, فأقر بما كان تهدد عليه بغير إكراه مستقل أخذ بذلك كله; لأن إقراره الأول كان باطلا, ولما خلي سبيله , فقد انتهى حكم ذلك الأخذ , والتهديد, فصار كأن لم يوجد أصلا حتى أخذ الآن فأقر بغير إكراه.
2-وإن كان لم يخل سبيله, ولكنه قال: له , وهو في يده بعدما أقر إني لا أؤاخذك بإقرارك الذي أقررت به, ولا أضربك, ولا أحبسك, ولا أعرض لك, فإن شئت فأقر, وإن شئت, فلا تقر, وهو في يد القاضي على حاله لم يجز هذا الإقرار; لأن كينونته في يده حبس منه له, وإنما كان هدده بالحبس, فما دام حابساً له كان أثر ذلك الإكراه باقيا, وقوله لا أحبسك نوع غرور, وخداع منه, فلا ينعدم به أثر ذلك الإكراه, ولأن الظاهر أنه إنما أقر لأجل إقراره المتقدم, فإنه علم أنه لا ينفعه الإنكار, وأنه إذا تناقض كلامه يزداد التشديد عليه بخلاف الأول, فهناك قد خلي سبيله, وصار بحيث يتمكن من الذهاب إن شاء, فينقطع به أثر ذلك الإكراه.
3-وإن خلي سبيله , ولم يتوار عن بصر القاضي حتى بعث من أخذه, ورده إليه, فأقر بالذي أقر به أول مرة من غير إكراه جديد, فإن هذا ليس بشيء; لأنه ما لم يتوار عن بصره, فهو متمكن من أخذه, وحبسه, فيجعل ذلك بمنزلة ما لو كان في يده على حاله.
4-وإن كان حين رده أول مرة لم يحبسه , ولكنه هدده , فلما أقر قال : إني لست أصنع بك شيئا , فإن شئت فأقر , وإن شئت فدع , فأقر لم يأخذه بشيء من ذلك ; لأنه ما دام في يده , فكأنه محبوس في سجنه , فكان أثر التهديد الأول قائماً أرأيت لو خلى سبيله , ثم بعث معه من يحفظه , ثم رده إليه بعد ذلك, فأقر أكان يؤخذ بشيء من ذلك ؟ أو لا يؤخذ به ؟ ; لأن يد من يحفظه له كيده في ذلك)([60]).
وإن قيل: دعوى الإكراه في إقرار السجين تُسْقط الاعتداد به فيما يخص الحد، أما التعزير فلا؛ لأنه بابه أوسع وهو يثبت بالشبهة([61]).
فالجواب: أن إقرار السجين إذا ادعى الإكراه ليس بشيء كما مضى، فهو غير داخل في الشبهة ابتداءً.
ولو سلمنا بأن إقرار السجين شبهة فلا يسلم التعزير على الشبهة بإطلاق؛ بل يقتصر الأمر على الشبهة القوية أو ما قاربها([62])، لكون الأصل في الناس البراءة وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناسٌ دماء رجال وأموالهم؛ ولكن اليمين على المدعى عليه"([63]) وهذا أصل عام في حقوق الله وحقوق المخلوقين في التعازير وغيرها.
وقد نقلت أثر المقر بالسرقة لما جيء به إلى عمر رضي الله عنه فذكر أنهم تهددوه، فخلى سبيله رضي الله عنه ولم يعزره. يقول ابن القيم: (والمقصود: أن الحبس في الدين من جنس الضرب بالسياط والعصي فيه، وذلك عقوبة لا تسوغ إلا عند تحقق السبب الموجب ولا تسوغ بالشبهة، بل سقوطها بالشبهة أقرب إلى قواعد الشريعة من ثبوتها بالشبهة)([64]).
وإنما يصح تعزير المقر بموجب الحد إذا رجع عن إقراره-على القول به- لأن إقراره كان وهو في حال الاختيار، إما إذا كانت دلالة حاله تدل على الإكراه كالسجين فلا محل لمؤاخذته به مطلقاً. وإذا كان الجمهور يسقطون الحد عمن أقرَّ بموجب الحدِّ اختياراً متى رجع عن إقراره ولو لم يدع الإكراه، فمن باب أولى سقوط التعزير إذا ادعى الإكراه.
وأقل أحوال المقر إذا كان سجيناً مع مسألة التعزير بالشبهة أنْ يصدق عليه قول ابن تيمية رحمه الله :(فإذا دار الأمر بين أن يخطئ فيعاقب بريئا أو يخطئ فيعفو عن مذنب كان هذا الخطأ خير الخطأين)([65]).
ويرد بعد هذا أشكالٌ جدير بالبحث، وهو كيف يُجمع بين آثار الصحابة والتابعين ونصوص الفقهاء في اطِّرَاح إقرار المكره، وبين قصة ابن أبي الحقيق مع ما ذكروه في حبس المتهم!
هذا ما سيأتي بيانه –إن شاء الله تعالى- في رابعاً.
رابعاً: الجمع بين إبطال إقرار المكره وبين تجويز الحبس على التهم.
بداية أشير إلى نصوصهم في حبس المتهم ولعلي اكتفي بنصٍ للإمام ابن تيمية فكل الصيد في جوف الفرا، وهو في الأصل طويل لكني سأورده مختصراً قدر الإمكان.
يقول رحمه الله: (الدعاوى التي يحكم فيها ولاة الأمور قسمان : دعوى تهمة, ودعوى غير تهمة.
فدعوى التهمة : أن يُدّعى فعل محرم على المطلوب , يوجب عقوبته , مثل قتل أو قطع طريق أو سرقة أو غير ذلك من العدوان الذي يتعذر إقامة البينة عليه في غالب الأحوال.
وغير التهمة : أن يدعي عقداً من بيع أو قرض أو رهن أو ضمان أو غير ذلك. وهذا القسم لا أعلم فيه نزاعاً أن القول فيه قول المدعى عليه مع يمينه إذا لم يأت المدعي بحجة شرعية وهي البينة.
القسم الثاني من الدعاوى: دعاوى التهم. فهذا ينقسم المدعى عليه فيه إلى ثلاثة أقسام:
فإن المتهم إما أن يكون بريئاً ليس من أهل تلك التهمة, أو فاجراً من أهلها, أو مجهول الحال لا يعرف الوالي والحاكم حاله.
فإن كان بريئاً لم تجز عقوبته اتفاقاً, واختلفوا في عقوبة المتهم له على قولين, أصحهما: أنه يعاقب؛ صيانة لتسلط أهل الشر والعدوان على أعراض البرآء.
القسم الثاني: أن يكون المتهم مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور, فهذا يحبس حتى ينكشف حاله عند عامة علماء الإسلام. والمنصوص عند أكثر الأئمة: أنه يحبسه القاضي والوالي, هكذا نص عليه مالك وأصحابه, وهو منصوص الإمام أحمد ومحققي أصحابه, وذكره أصحاب أبي حنيفة. وقال الإمام أحمد: قد حبس النبي صلى الله عليه وسلم في تهمة , قال أحمد وذلك حتى يتبين للحاكم أمره.
والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك, فإنهم متفقون على أن المدعي إذا طلب المدعى عليه الذي يسوغ إحضاره: وجب على الحاكم إحضاره إلى مجلس الحكم حتى يفصل بينهما , ويحضره من مسافة العدوى، ثم الحاكم قد يكون مشغولاً عن تعجيل الفصل, وقد تكون عنده حكومات سابقة, فيكون المطلوب محبوساً معوقاً من حين يطلب إلى أن يفصل بينه وبين خصمه, وهذا حبس بدون التهمة, ففي التهمة أولى, فإن الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق, وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه سواء كان في بيت أو مسجد, أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيله عليه, وملازمته له .
واختلفوا في مقدار الحبس في التهمة, هل هو مُقدَّر أو مرجعه إلى اجتهاد الوالي والحاكم؟. على قولين ذكرهما الماوردي وأبو يعلى وغيرهما, فقال الزبيري: هو مقدر بشهر, وقال الماوردي: غير مقدر.
القسم الثالث: أن يكون المتهم معروفاً بالفجور, فإذا جاز حبس المجهول فحبس هذا أولى. وما علمت أحداً من أئمة المسلمين يقول: إن المدعى عليه في جميع هذه الدعاوي يُحَّلف ويرسل بلا حبس ولا غيره , فليس هذا - على إطلاقه - مذهباً لأحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من الأئمة , ومن زعم أن هذا- على إطلاقه وعمومه - هو الشرع فقد غلط غلطاً فاحشاً مخالفاً لنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع الأمة.
وبمثل هذا الغلط الفاحش تجرأ الولاة على مخالفة الشرع, وتوهموا أن الشرع لا يقوم بسياسة العالم ومصلحة الأمة, وتولدَّ من جهل الفريقين بحقيقة الشرع خروج عنه إلى أنواع من الظلم والبدع والسياسة , وزعموا أن الشرع ناقص لا يقوم بمصالح الناس. وجعل أولئك ما فهموه من العموميات والإطلاقات هو الشرع، وإن تضمن خلاف ما شهدت به الشواهد والعلامات الصحيحة.
والطائفتان مخطئتان في الشرع أقبح خطأ وأفحشه، وإنما أتوا من تقصيرهم في معرفة الشرع الذي أنزل الله على رسوله، وشرعه بين عباده، فإنه أنزل الكتاب بالحق ليقوم الناس بالقسط، ولم يسوغ تكذيب صادق ولا إبطال أمارة وعلامة شاهدة بالحق، بل أمر بالتثبت في خبر الفاسق، ولم يأمر برده مطلقا، حتى تقوم أمارة على صدقه فيقبل، أو كذبه فيرد، فحكمه دائر مع الحق، والحق دائر مع حكمه أين كان، ومع من كان، وبأي دليل صحيح كان، فتوسع كثير من هؤلاء في أمور ظنوها علامات وأمارات أثبتوا بها أحكاما، وقصر كثير من أولئك عن أدلة وعلامات ظاهرة ظنوها غير صالحة لإثبات الأحكام.
ويسوغ ضرب هذا النوع من المتهمين ,كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بتعذيب المتهم الذي غيب ماله حتى أقرّ به , في قصة ابن أبي الحقيق ([66]). واختلفوا فيه : هل الذي يضربه الوالي دون القاضي , أو كلاهما , أو لا يسوغ ضربه؟ على ثلاثة أقوال .
والذين جعلوا عقوبته للوالي دون القاضي، قالوا : ولاية أمير الحرب معتمدها المنع من الفساد في الأرض وقمع أهل الشر والعدوان , وذلك لا يتم إلا بالعقوبة للمتهمين المعروفين بالإجرام , بخلاف ولاية الحكم فإن مقصودها إيصال الحقوق إلى أربابها وإثباتها.
وهذا القول هو في الحقيقة قول بجواز ذلك في الشريعة, لكن كل ولي أمر يفعل ما فوض إليه.
وأما عقوبة من عُرف أن الحق عنده وقد جحده , فمتفق عليها بين العلماء , لا نزاع بينهم أن من وجب عليه حق من عين أو دين وهو قادر على أدائه وامتنع منه , أنه يعاقب حتى يؤديه , ونصوا على عقوبته بالضرب , ذكر ذلك الفقهاء من الطوائف الأربعة . وكل من وجب عليه حقٌ وهو قادر على أدائه فامتنع منه فإنه يضرب حتى يؤديه. وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم:" لي الواجد يحل عرضه وعقوبته "([67]) والعقوبة لا تختص بالحبس؛ بل هي في الضرب أظهر منها في الحبس , وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مطل الغنى ظلم " ([68])والظالم يستحق العقوبة شرعاً وقدراً)([69]).
نخلص من هذا إلى أنَّ الحبس لا يكون إلا في دعاوى التهم بشرط أن يكون المدعى عليه مجهول الحال، أو معروفاً بالسوابق، وغيرهم يبقى على الأصل لا يحبس إلا ببرهان، وابن الماجشون الذي حكينا قوله هناك في إقرار السجين نقل عنه أنه قال: (من شهدت عليه بينة أنه سارق معروف بالسرقة, متهمٌ بها وقد سجن فيها غير مرة, إلا أنهم حين شهدوا عليه لم يجدوا معه سرقة, فقال : لا قطع عليه بهذه الشهادة, ولكن عليه الحبس الطويل)([70]).
ولا تعارض بين حبسه وبين رد إقرار السجين؛ لكونه مكره ! فليس المقصود من حبس المتهم أن ينتزع منه الاعتراف كما ينتزع السفود الكبير الشعب من الصوف المبتل، لتُبنى عقوبة على هكذا اعتراف([71]).
بل المقصود الوصول إلى دلائل أخرى غير الإقرار لتتقوى التهمة؛ كإخراجه المتاع المسروق أو إخراجه جثة القتيل ونحو ذلك من الدلائل التي تقوي التهمة؛ ومتى تقوت التهمة بالقرائن الحسية جاز للقاضي أن يعتمد في عقوبته على القرائن القوية التي ظهرت لا على الإقرار الذي أُكره عليه. جاء في تبصرة الحكام لابن فرحون: (مسألة: وفي المتيطية: ويضرب السارق حتى يخرج الأعيان التي سرقها. مسألة: ومن اتهم رجلاً أنه غصبه مالاً فأنكر , فإن كان ممن يليق به ذلك هدد وسجن, فإن لم يخرج شيئا أطلق، وفائدته لعله أن يخرج عين ما غصب إن كان يعرف بعينه , وأما الذي لا يعرف بعينه فلا فائدة في تهديده, إذ لو أخرج شيئاً بعد التهديد لا يعرف بعينه, لم يؤخذ منه حتى يقر به وهو آمن غير خائف)([72]).
أما إذا تجرد الإقرار عما يعضده ويقويه من البينات فليس بشيء كما مضى بيانه. يقول الإمام ابن حزم رحمه الله في أثناء بيانه لحكم الامتحان في الحدود: (أما إن لم يكن إلا إقراره فقط فليس بشيء, لأن أخذه بإقرار هذه صفته لم يوجبها قرآن ولا سنة ولا إجماع, وقد صح تحريم بشرته ودمه بيقين, فلا يحل شيء من ذلك إلا بنص أو إجماع، فإن استضاف إلى الإقرار أمر يتحقق به يقينا صحة ما أقر به - ولا يشك في أنه صاحب ذلك - فالواجب إقامة الحد عليه،..)([73]).
ويدل لهذا ما يلي:
1. أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ابن أبي الحقيق كانت القرينة تدل على كذبه، فقد كان يزعم أنَّ الذي أذهب المال الحروب والنفقات، وهذا مستحيل عادة للعلة التي أوردها النبي صلى الله عليه وسلم: "المال كثير والعهد قريب"، فلما تقوت التهمة جاز فيه الذي جاز، يقول ابن القيم بعد سياقه لخبر ابن أبي الحقيق: (وفي ذلك دليل على صحة إقرار المكره إذا ظهر معه المال، وأنه إذا عوقب على أن يقر بالمال المسروق، فأقر به وظهر عنده: قطعت يده، وهذا هو الصواب بلا ريب.وليس هذا إقامة للحد بالإقرار الذي أكره عليه، ولكن بوجود المال المسروق معه الذي توصل إليه بالإقرار)([74]). يؤكده أنَّ هذا هو فهم السلف، ومن ذلك:
2. ما أخرجه ابن حزم في المحلى بسنده: أن طارقاً كان جعل ثعلباً الشامي على المدينة يستخلفه، فأُتي بإنسان اتهم بسرقة فلم يزل يجلده حتى اعترف بالسرقة، فأرسل إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب فاستفتاه؟ فقال ابن عمر: "لا تقطع يده حتى يبرزها"([75]).
3. ولهذا فإن بعض الشافعية الذين أجازوا أن يُضْرب المقرُّ ليصدق، واعْتَدّوا بالإقرار الصادر منه في هذه الحال، معللين: بأنه خارجٌ عن الإكراه، لأن المكره من أكره على شيء واحد، وهذا أكره على الصدق عموماً، ومع هذا كرهوا أنْ يُعمل به حتى يرجع ويقرّ ثانية بعيداً عن المؤثرات، وقالوا: قبول إقراره حال الضرب مشكل؛ لأنه قريب من المكره، وقبول إقراره بعد الضرب فيه نظر إن غلب على ظنه إعادة الضرب إن لم يقرِّ([76]). فالشاهد أنهم كرهوا العمل بالإقرار الصادر منه حال الضرب مع أنهم يجوزونه ويقولون إنه خارج في هذه الصورة عن الإكراه، كل هذا لبقاء شائبة الإكراه -في نظرهم-، ورتبوا على ذلك أنه يُكْره أن يُلزم بأثر إقراره حتى يقرَّ مرة أخرى من غير ضرب وبشرط ألا يغلب على ظنه إنه إن لم يقر بما أريد منه ضرب مرة أخرى ! على أن المعتمد عند الشافعية –كما مضى- هو عدم قبوله إقراره مطلقاً في هذه الصورة لظلم الولاة وشدة جراءتهم على العقوبات.
فحوى ما سبق: أنَّ تجويز حبس المتهم –المجهول أو ذي السوابق- لا تعارض بينه وبين رد إقرار المكره، إذ المقصود من حبسه ظهور أمارات أخرى تقوي التهمة، فإن ظهر شيء وإلا خُلي، ولو صدر منه إقرار مجرد حال حبسه ولم تظهر قرينة تعضد هذا الإقرار فالإقرار حينئذٍ ليس بشيء؛ لأنه صادر من مكره.
ونظام المرافعات الشرعية يوحي بنتيجة البحث، فالمادة 104 تنص على أن الإقرار الذي يؤاخذ به المرء، هو الإقرار الحاصل أمام القاضي أثناء سير الدعوى، ونصها: (يجب أن يكون الإقرار حاصلاً أمام القضاء أثناء السير في الدعوى المتعلقة بالواقعة المقر بها)، وقد أكدت هذا اللائحة التنفيذية لنظام المرافعات إذ قالت:( الإقرار القضائي هو ما يحصل أمام ناظر الدعوى، أثناء السير فيها، متعلقاً بالواقعة المقر بها).
فقيد قبول الإقرار بقيدين:
1. أن يكون الإقرار أمام ناظر الدعوى.
2. أن يكون الإقرار في أثناء السير في الدعوى، المتعلقة بالواقعة المقر بها.
والإقرارات التي يقر بها المسجون لدى رجال الضبط يتخلف عنها القيد الأول.
والإقرارات المصدقة من قاضٍ يتخلف عنها القيد الثاني.
والمادة 162 من نظام الإجراءات الجزائية تشترط اطمئنان المحكمة على أن الاعتراف الصادر من المقرِّ صحيحٌ، ونصها: (إذا اعترف المتهم في أي وقت بالتهمة المنسوبة إليه فعلى المحكمة أن تسمع أقواله تفصيلاً وتناقشه فيها•فإذا اطمأنت إلى أن الاعتراف صحيح، ورأت أنه لا حاجة إلى أدلة أخرى فعليها أن تكتفي بذلك وتفصل في القضية، وعليها أن تستكمل التحقيق إذا وجدت لذلك داعياً).
الملفت للانتباه أنّ سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم قرر إبطال إقرار السجين متى ما ادعى الإكراه، واستدل بما هو مستفيض عن رجال الشرطة.. وأمر الشيخ قريب ! فمتى بدأ التحول في العمل القضائي..؟!
إننا في الواقع القضائي نحتج بإقرار السجين ولو كان لدى رجالات الضبط ونراه قرينة وإن أنكره المقر واحتج بالإكراه ، أما إن كان إقراره مصدق شرعاً فهذا في منزلة عالية.. حتى ولو تجرد الإقرار عن أي قرينة أخرى تصدقه ! وأغفلنا امتداد الإكراه على السجين حال التصديق-كما مضى الإشارة إليه-
ونحتج أحياناً بأنَّ المقرَّ ذكر وصف الجناية، والوصف لا يصدر إلا من فاعلٍ حقيقة، ونغفل أن اختلاق مثل هذا الوصف ليس بمستبعد عقلاً.
إما من رجل الضبط ! فالذي يكرهه على الإقرار قد لا يتورع عن إكراهه على اختلاق تفاصيله.
وإما من المقر نفسه ! ليتخلص من العذاب الحاضر.
على أن الاعتداد بذكر وصف الجناية كقرينة على صدق الإقرار لم ينص عليه أحدٌ فيما وقفت عليه، ومن زعمه قولاً لابن القاسم من المالكية فقد غلط عليه-وقد مضى تحرير قوله-.
يقول ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر حديث أبي هريرة رضي الله في خبر المرأتين اللتين ادعتا الولد، فحكم به داود عليه السلام للكبرى، فقال سليمان عليه السلام: "ائتوني بالسكين أشقه بينكما فسمحت الكبرى بذلك, فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله, هو ابنها، فقضى به للصغرى " متفق عليه. يقول ابن القيم معلقاً على هذا الحديث: (وهذا هو الحق, فإن الإقرار إذا كان لعلةٍ اطلع عليها الحاكم لم يلتفت إليه أبداً، ولذلك ألغينا إقرار المريض مرض الموت بمال لوارثه؛ لانعقاد سبب التهمة واعتماداً على قرينة الحال في قصده تخصيصه)([77])أهـ.
إن الشريعة الإسلامية تُوصِدُ كل طريق قد ينتهي إلى الظلم، ولهذا ترك صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين مع علمه بهم جرياً على قاعدة الشريعة في أن مبناها على الظاهر، والأصل في ذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"([78]). يقول الشاطبي: (أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضا، فإن سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه.
ولا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال: "خوفا أن يقول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه" ، فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عدم ما علل به، فلا حرج.
لأنا نقول: هذا من أدل الدليل على ما تقرر؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن يحفظ ترتيب الظواهر، فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر، وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة، ألا ترى إلى باب الدعاوى المستند إلى أن "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"، ولم يستثن من ذلك أحد، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج إلى البينة في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه، فقال: "من يشهد لي؟ "، حتى شهد له خزيمة بن ثابت، فجعلها الله شهادتين، فما ظنك بآحاد الأمة؟ فلو ادعى أكفر الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك، والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية)([79]).
ومن دلائل هذا الأصل أيضاً: أن سورة التوبة تضمنت فضح دوافع المنافقين في تخلفهم عن غزوة تبوك، ومع هذا لم يخرج صلى الله عليه وسلم عن أصل الشريعة في إعمال الظاهر، فلما رجع صلى الله عليه وسلم من الغزوة "جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله"([80]).
ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما في خبر اللعان وفيه: (فقال رجل لابن عباس في المجلس: هي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو رجمت أحداً بغير بينة، رجمت هذه" فقال: لا، تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء) رواه البخاري([81]) وسياقه عند ابن ماجة: "لو كنت راجما أحداً بغير بينة لرجمت فلانة. فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها"([82]). قال النووي: (معنى الحديث: أنه اشتهر وشاع عنها الفاحشة؛ ولكن لم يثبت ببينة ولا اعتراف)([83]).
ومن هذا أن الصحيح من أقوال أهل العلم هو منع القاضي من القضاء بعلمه لئلا يكون باباً إلى الظلم أو قدح الناس في الشريعة حين يحكم القاضي بغير بينة ظاهرة للعيان([84]).
إن تقصير جهات الضبط في جمع الأدلة المادية على المتهم، لا يعني أن يتطوع الحاكم بإلقاء التبعة على عاتقه، فيُعمل إقراراً لا يساوي شيئاً في ميزان العدل. وأخذ الناس بالعدل الذي أُرسل به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كافٍ في أمن الناس على ضرورياتهم الخمس، ومن لم يحصل له الأمن بما شرع الله فلا أَمّنه الله، هذا يحي الغساني عامل عمر بن عبد العزيز رحمه الله على الموصل يحكي قائلاً: لما ولاني عمر بن عبدالعزيز الموصل قدمتها فوجدتها من أكثر البلاد سرقة ونقبًا، فكتبت إليه أعلمه حال البلد وأسأل: آخذ الناس بالظنة وأضربهم على التهمة، أو آخذهم بالبينة وما جرت عليه السنة؟. فكتب إليه أن آخذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة: فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحه الله. قال يحيى: ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها سرقة ونقبًا([85]).
وعن نور الدين زنكي يقول ابن الأثير: ومن عدله أنه لم يكن يعاقب العقوبة التي يعاقب بها الملوك في هذه الأعصار على الظنة والتهمة؛ بل يطلب الشهود على المتهم، فإن قامت البينة الشرعية عاقبه العقوبة الشرعية من غير تعدٍ، فدفع الله بهذا الفعل عن الناس من الشر ما يوجد في غير ولايته مع شدة السياسة والمبالغة في العقوبة والأخذ بالظنة، وأمنت بلاده مع سعتها وقل المفسدون ببركة العدل واتباع الشرع المطهر([86]).
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________________________
([1]) السنن الكبرى للبيهقي 10/253.
([2]) ثمرات الأوراق للحموي 222.
([3]) ينظر: المبسوط 24/51، بدائع الصنائع 7/175.
([4]) المبسوط 24/51-52.
([5]) ينظر: درر الحكام 2/270. ونص عبارته: (في المبسوط ليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه ; لأن المقادير لا تكون بالرأي , ولكنه على قدر ما يرى الحاكم إذا رفع إليه ( بخلاف حبس يوم أو قيده ) أي قيد يوم ( أو ضرب غير شديد ) فإنها لا تكون إكراها إذ لا يبالي بمثلها عادة فلا يعدم الرضا ( إلا لذي جاه ) يعني أنها تكون إكراها لرجل له جاه وعزة ; لأن ضرره أشد من ضرر الضرب الشديد لغيره فيفوت به الرضا).
([6]) ينظر: التاج والإكليل 5/312. ونص حرفه:(( لخوف مؤلم من قتل أو ضرب ) ابن شاس: حد الإكراه ما فعل بالإنسان مما يضره أو يؤلمه من ضرب أو غيره . ابن رشد : لا يلزمه اليمين إذا كان إكراهه بشيء يلحقه في بدنه من قتل أو ضرب أو تعذيب , وسواء هدد فقيل له إن لم تحلف فعل بك كذا وكذا أو استحلف ولم يهدد فحلف فرقا من ذلك ( أو سجن ) ابن عرفة : إطلاق الروايات السجن إكراه وقيده اللخمي انظره فيه ( أو صفع لذي مروءة ) ابن رشد : الصفع لذي القدر إكراه ( بملأ ) هذا نص ابن شاس ( أو قتل ولده ) ابن شاس : التخويف بقتل الولد إكراه . ابن عبد السلام : هذا خلاف المنقول ابن عرفة : ليس بخلاف ( أو لماله وهل إن كثر تردد)...)أهـ. وانظر أيضاً: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/401.
([7]) منح الجليل 4/52.
([8]) الفتاوى الفقهية الكبرى 4/132.
([9]) مغني المحتاج 4/471. وانظر: الفتاوى الفقهية الكبرى 4/132، تحفة المحتاج 8/37، حاشية الجمل 4/324-325.
([10]) الشرح الكبير22/152.
([11]) ينظر: الشرح الكبير مع الإنصاف 22/155-156، كشاف القناع 5/236. ونص عبارة المرداوي في الإنصاف:(قال المصنف والشارح: وأما الضرب اليسير: فإن كان في حق من لا يبالي به: فليس بإكراه. وإن كان في ذوي المروءات, على وجه يكون إخراقاً بصاحبه وغضاً له, وشهرةً له في حقه: فهو كالضرب الكثير في حق غيره. انتهيا. فأما السب والشتم والإخراق : فلا يكون إكراها. رواية واحدة . قاله المصنف , والشارح . وقدمه في الرعاية , والفروع . وقيل : إخراق من يؤلمه ذلك: إكراه . وهو ظاهر كلامه في الواضح . قال القاضي في الجامع الكبير: الإكراه يختلف. فلا يكون إكراها رواية واحدة في حق كل أحد , ممن يتألم بالشتم أو لا يتألم . قال ابن عقيل : وهو قول حسن)أهـ.
([12]) المحلى 12/41.
([13]) أخرجه ابن أبي شيبه في المصنف 6/489-490.
([14]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 10/193.
([15]) أخرجه ابن أبي شيبه في المصنف 6/489-490.
([16]) أخرجه ابن حزم في المحلى بسنده 12/41.
([17]) أخرجه ابن أبي شيبه في المصنف 6/489-490.
([18]) مصنف عبد الرزاق 10/192.
([19]) أخرجه ابن أبي شيبه في المصنف 6/489-490.
([20]) مصنف عبد الرزاق 10/192.
([21]) مصنف عبد الرزاق 10/192-193.
([22]) راجع: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي 520، سير أعلام النبلاء 11/70.
([23]) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي 154، 159.
([24]) المبسوط 24/70.
([25]) المبسوط 9/184-185.
([26]) البحر الرائق 5/56.
([27]) تنقيح الفتاوى الحامدية 2/144.
([28]) المدونة 4/547-548.
([29]) المدونة 4/548.
([30]) الشرح الصغير 4/286، وكذلك الخرشي في شرحه لمختصر خليل ذكر أن قول ابن القاسم هو المشهور8/102.
([31]) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4/286.
([32]) شرح حدود ابن عرفة 507.
([33]) تبصرة الحكام 2/250.
([34]) الأم 3/242.
([35]) حاشية قليوبي 3/5.
([36]) تحفة المحتاج 5/360.
([37]) أسنى المطالب 2/290-291.
([38]) مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية 7/3628.
([39]) المغني 9/63.
([40]) شرح المنتهى 3/318.
([41]) تبصرة الحكام 2/250.
([42]) أخرجه ابن حبان في صحيحه ح: 7219، والحاكم ح:2801 وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في المشكاة لطرقه 3/1771.
([43]) الأم للشافعي 3/242،
([44]) ينظر: الإكراه وأثره في التصرفات لعيسى شقره 182.
([45]) المبسوط 24/70.
([46]) المغني 9/63.
([47]) الأم 3/242.
([48]) الفتاوى الفقهية الكبرى 4/132. وانظر أيضاً: تحفة المحتاج 5/359-360.
([49]) تحفة المحتاج 5/360.
([50]) القواعد 322.
([51]) شرح المنتهى 3/618.
([52]) 30/152 الإنصاف بحاشية الشرح الكبير.
([53]) الطرق الحكمية 11.
([54]) فتاوى ابن إبراهيم13/74. وله فتوى أخرى 13 / 73 جاء فيها: فقد وصل إلينا كتابك المؤرخ في 20/5/83 المتضمن الاسترشاد عن قضية الرجل المتهم بسرقة حلي قيمته (1000) ألف ريال، وقد اعترف لدى الشرطة بذلك عند التحقيق معه، ولنه أنكر لما حضر في المحكمة، وادعى أن اعترافه لدى الشرطة من تعذيبها وتهديدها؛ في حين أن الشرطة أنكرت تعذيبه دون تهديده فلم تنكره، وتسال: هل إنكاره يدرأ عنه الحد فقط، لأن ما أقر به حق لآدمي أو يسقط الجميع نظراً لدعوى الإكراه - كما تسال هل يصدق المدعي بقدر ثمن الحلي أو يحتاج إلى إثبات ذلك....الخ. الجواب: الحمد لله: إذا أقر بالحق ثم ادعى الإكراه لم يقبل منه إلا ببينة. إلا أن تكون هناك دلالة على الإكراه كقيد وحبس وترسيم عليه فيكون هذا قرينة على صدقه والقول قوله مع يمنيه، لكن إن كان هناك قرائن تدل على قوة التهمة بحقه ووقوع ما ذكر منه فلا ينبغي أن تمهل تلك القرائن لا سيما إذا تظافرت، وحينئذ فيجوز أن يمس بشيء من العذاب ليقر، لقصة كنز ابن أبي الحقيق. وإذا أقر فيتابع مع التحقيق عن المسروق حتى يوصل إلى النتيجة. أما قيمة المسروق فلا يصدق صاحبه بمقدارها إلا ببينة، فإن عجز فالقول قول المقر لأنه غارم، صرح الفقهاء بمعنى ما ذكر، والسلام عليكم. أهــ.
([55]) الطرق الحكمية 170.
([56]) الطرق الحكمية 4.
([57]) أخرجه البخاري ح: 4747.
([58]) أخرجه مسلم ح: 10-1495.
([59]) من أمثال العرب "أَظْلَمُ مِنَ الْجُلُنْدَي"، قال الميداني في مجمع الأمثال1/466:( هذا مَثَلٌ من أمثال أهل عمان، ويزعمون أنه جَرَى ذكره في القرآن في قوله عزَّ وجل {وكان وَرَاءهم مَلِكٌ يأخُذُ كلَّ سَفِينةٍ غصْباً} ويزعم كثير من الناس أن الْجُلُنْدَي وقع إلى سيف فارس في دولة الإسلام، وأن الذي كان يأخذ السفُنَ كان في بحر مصر، لا في بحر فارس).
([60]) المبسوط للسرخسي24/70.
([61])جاء في الأشباه والنظائر لابن نجيم (111) : (تنبيه: التعزير يثبت مع الشبهة) وفي الأشباه والنظائر للسيوطي (123): ( الشبهة: لا تسقط التعزير) . وانظر : الحاوي الكبير (10 / 314) ، درء العقوبات بالشبهات لمحمد المحيذيف (2/63وما بعدها )، التشريع الجنائي لعبد القادر عودة 1/216.
([62]) راجع درء العقوبات بالشبهات لمحمد المحيذيف (2/63وما بعدها )، التشريع الجنائي لعبد القادر عودة 1/216.
([63]) أخرجه مسلم ح:1-1711.
([64]) الطرق الحكمية 59.
([65]) مجموع الفتاوى 15/308.
([66]) رواه أبو داود ح: 2990 ، والبيهقي 9/232 ، قال ابن حجر في الفتح 7/548: رواه البيهقي بإسناد رجاله ثقات..
([67]) رواه أبو داود ح : 3628 ، وغيره . وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح .
([68]) رواه البخاري ح : 2287، ومسلم ح : 1564 .
([69]) نقله ابن القيم في الطرق الحكمية 88 وما بعدها والتخريج لنص ابن تيمية مستفاد من تحقيق د.نايف الحمد، وهو في الفتاوى 35/396-402. وقد تأثر به ابن فرحون المالكي في تبصرة الحكام والطرابلسي الحنفي في معين الحكام.
([70]) تبصرة الحكام 2/160.
([71]) وقد وقفت على نصٍ مشكلٍ للطرابلسي الحنفي في كتابه معين الحكام، يقول رحمه الله: (( مسألة ) :إذا رفع للقاضي رجل يعرف بالسرقة والدعارة فادعى عليه بذلك رجل فحبسه لاختبار ذلك فأقر في السجن بما ادعى عليه من ذلك فذلك يلزمه , وهذا الحبس خارج عن الإكراه . قال في شرح التجريد في مثله : وإن خوفه بضرب سوط أو حبس يوم حتى يقر فليس هذا بإكراه . قال محمد : وليس في هذا وقت ولكن ما يجيء منه الاغتمام البين ; لأن الناس متفاوتون في ذلك , فرب إنسان يغتم بحبس يوم , والآخر لا يغتم لتفاوتهم في الشرف والدناءة , فيفوض ذلك إلى رأي كل قاض في زمانه , فينظر إن رأى أن ذلك الإكراه فوت عليه رضاه أبطله , وإلا فلا , هذا في الأموال . وأما لو أكرهه على الإقرار بحد أو قصاص فلا يجوز إقراره). فجوز مؤاخذته بإقراره في السرقة والدعارة، ثم في آخر شيء استثناء الإكراه على الإقرار بحد، والسرقة من الحدود ! إلا أن يريد حقوق الآدميين فقط بحيث يضمن السارق مال المسروق منه، وهذا ما فهمه منه د.محمد عثمان في كتابه النظام القضائية في الفقه الإسلامي ص288 حيث يقول:(الطرابلسي الفقيه الحنفي يرى أن حبس المتهم أو ضربه ليقر إنما هو في قضايا الأموال)أهـ. لكن يشكل على هذا ما حكاه ابن تيمية في دعاوى العقد. ويحتمل أنَّ كلام الطرابلسي هنا مبني على التفريق بين الحبس الطويل والقصير، وأن الحبس القصير في غير ذي المروءة لا يعد إكراهاً كما هو قول الحنفية وقد سبق نقل نصوصهم. ولعل هذا أقرب ويرجحه ما نقله في آخر المقطع عن محمد.
([72]) تبصرة الحكام 2/160.
([73]) المحلى 12/40.
([74]) الطرق الحكمية 8.
([75]) المحلى 12/40.
([76]) ينظر: أسنى المطالب2/290-291. وقد سبق نقل عبارته بحرفها.
([77]) الطرق الحكمية 5.
([78]) البخاري ح: 7168.
([79]) الموافقات 2/467-469.
([80]) أخرجه البخاري ح: 4418، ومسلم ح: 53-2769.
([81]) ح: 5310.
([82]) ح: 2559 وصححه الألباني.
([83]) شرح النووي على مسلم 10/130.
([84]) ينظر: الطرق الحكمية 163 وما بعدها.
([85]) تاريخ الخلفاء 178.
([86]) عيون الروضتين 1/40.
شكرا جزيلا
للاستفادة من موقعنا ابحثوا على الموضوع الذين تريدون، بمربع البحث. نسعى دائما لتطوير موقعنا، شكرا لكم