📁 آخر الأخبار

مسئولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية

مسئولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية




مسئولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية




مسئولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية
المؤلف : رمضان محمد بطيخ

تتعدد فى الواقع أعمال السلطة التنفيذية وهى ما يقال لها أعمال الإدارة les actes de P’administration. وهذه الأعمال رغم تعددها لا تخرج عن أن تكون إما أعمالا قانونية actes juridiques تتم سواء بإرادة منفردة وهى القرارات الإدارية اللائحية والفردية وتهدف إلى أحداث تغيير فى المراكز القانونية القائمة، أو تتم بتقابل أو توافق إرادتين وهى العقود الإدارية، وإما أن تكون أعمالا مادية actes matérelles، تتم فى شكل وقائع أو حوادث مثل قيام أحد رجال البوليس بالاعتداء بالضرب على أحد الأفراد، أو قيام عامل البريد بإصابة شخص بالسيارة الحكومية التى يقودها، أو قيام جهة الإدارة ببناء مصنع أو خزان مياه.... فمثل هذه الأعمال وكما هـــــو واضـــح ليس من شأنها أن تعدل فى المراكز القانونية القائمة للأفراد.
فإذا ما استبعدنا من هذا المجال الأعمال التى تتم بتوافق إرادتين وهى العقود الإدارية، وما قد يترتب عليها من مسئولية يقال لها المسئولية العقدية حيث تفرد لها مؤلفات مستقلة وتحكمها قواعد موضوعية غالبا ما تدرس فى مؤلفات القانون الإدارى ضمن موضوعات نشاط الإدارة العامة، إذا استبعدنا ذلك، فإن كافة أعمال السلطة التنفيذية أو كافة أعمال الإدارة الأخرى هى التى تندرج فى إطار البحث الذى نحن بصدده، والخاص بمدى مسئولية الدولة عنها أو كما يقال لها عادة المسئولية غير العقدية. وهذه هى التى يتناولها الفقهاء سواء فى فرنسا أم فى مصر فى إطار مؤلفات الرقابة القضائية على أعمال الإدارة.





والمسئولية غير العقدية على هذا النحو تنطوى على نوعين من المسئولية: المسئولية عن القرارات الإدارية، الفردية منها واللائحية، والمسئولية عن الأعمال المادية. فما هى القاعدة المستقرة فى هذا الشأن؟ هل هى مسئولية الدولة عن هذه الأعمال؟ أم أن القاعدة هى عدم المسئولية عنها؟
على عكس مدى مسئولية الدولة عن أعمال السلطة التشريعية سواء فى فرنسا أم فى مصر، والسلطة القضائية على الأقل فى مصر، حيث القاعدة السائدة والمستقرة وهى عدم مسئولية الدولة عن أعمال هاتين السلطتين، فإن القاعدة السائدة والمستقرة فى خصوص مدى المسئولية عن أعمال السلطة التنفيذية بالتحديد السابق، أى المسئولية غير العقدية. هى مسئولية الدولة عن هذه الأعمال.
مع ملاحظة أن مسئولية الدولة عن أعمالها المادية وقراراتها الإدارية على هذا النحو لم تكن مبدأ مسلما به منذ البداية، حيث كانت القاعدة من قبل هى عدم المسئولية، إلا أنه نظرا لتطور الحياة وتدخل الدولة فى مختلف المجالات الفردية، وزيادة المرافق العامة، ومن ثم زيادة اتصال الأفراد بهذه المرافق، إضافة إلى أن أعمال السلطة التنفيذية تختلف عن أعمال كل من السلطتين التشريعية والقضائية حيث لا تحاط بالضمانات الكافية لصالح الأفراد(1)، فقد كان من نتيجة ذلك أن امتدت الرقابة القضائية لتشمل كافة هذه الأعمال سواء بإلغائها إذا كانت مخالفة لمبدأ المشروعية أو بتقرير التعويض عن آثارها الضارة، أو بالأمرين معا؛ وبالتالى فقد أصبحت القاعدة هى مسئولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية غير التعاقدية.
بل وبعد أن كانت تطبق على هذه المسئولية قواعد القانون المدنى، أصبحت تطبق الآن، ومنذ صدور حكم مجلس الدولة الفرنسى الشهير "بلانكو" Blanco عام 1873، قواعد خاصة تتلاءم مع طبيعة المنازعات الإدارية، وتختلف من ثم بحسب حاجات المرافق العامة وضرورة التوفيق بين حقوق الدولة ومصالح الأفراد.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن القضاء الإدارى كان يتشدد فى بداية الأمر فى شروط المسئولية الإدارية، مراعاة للصالح العام، وحتى لا يشل عمل جهة الإدارة، ولذلك كان يتطلب لقيام هذه المسئولية ليس فقط ضرورة أن يكون هناك خطأ، وإنما يجب أن يكون هذا الخطأ جسيما. ولكن مع تطور المبادئ  الديمقراطية وبالأخص مبدأ المساواة بين المواطنين أمام الأعباء العامة، بدأ هذا القضاء يخفف من حدة تلك الشروط، بل وبدأ يوازن بين اعتبارات الصالح العام واعتبارات العدالة فى تعويض الأفراد عما يصيبهم من أضرار نتيجة ممارسة النشاط الإدارى.
من هنا فقد أقام المسئولية فى هذه الحالة ليس على أساس الخطأ وإنما على أساس المخاطر le risqué  أو تحمل التبعة، والتى تعنى أن مسئولية الإدارة عن أعمالها غير التعاقدية تقوم بمجرد حدوث ضرر سببه إحدى هذه الأعمال حتى ولو كان هذا العمل مشروعا أو غير خاطئ كم سنرى فيما بعد. ويكون القضاء الإدارى بذلك قد أقام هذه المسئولية على ركنى الضرر وعلاقة السببية بين هذا الضرر وبين تصرفات الإدارة فقط.





وإذا كان مبدأ مسئولية الدولة عن جميع أعمالها غير التعاقدية أصبح خارج نطاق كل جدل أو نقاش، مما يعنى أنه يتحتم على جهة الإدارة أن تقوم بتعويض الأفراد عن الأضرار التى تصيبهم من جراء تلك الأعمال سواء أكان ذلك على أساس فكرة الخطأ أم على أساس فكرة المخاطر أو تحمل التبعة؛ إلا أن هناك استثناء خطيرا يرد على هذا المبدأ، استثناء ممقونا من قبل معظم رجال الفقه لا فرق فى ذلك بين فقه القانون العام أم فقه القانون الخاص ألا وهو الاستثناء الخاص بأعمال السيادة. تلك الأعمال التى تمثل سمة لطائفة من التصرفات التى تباشرها السلطة التنفيذية. ولا تخضع فى خصوصها لأية رقابة قضائية سواء من جانب القضاء العادى أو من جانب القضاء الإدارى. فهذه الأعمال لا تكون فى الواقع محلا لإلغاء أو تعويض أو وقف تنفيذ أو فحص مشروعية – ومن ثم يقف القضاء أمامها عاجزا، معلنا فقط عدم اختصاصه بنظرها حتى ولو كانت تمس حقوق الأفراد وحرياتهم.
هذا وقد تعددت المعايير التى قيل بها لتمييز تلك الأعمال؛ فقد قيل مثلا بمعيار الباعث السياسى، وطبقا له يعتبر العمل الذى تتخذه السلطة التنفيذية من أعمال السيادة إذا كان الباعث عليه، أو الدافع إليه سياسيا. ومعيار طبيعة العمل الذاتية والذى مؤداه أنه يجب النظر – لتحديد طبيعة أعمال السيادة – إلى العمل فى ذاته أو فى موضوعه دون اعتداد بالدافع أو الباعث عليه. كما قيل بمعيار العمل المشترك أو الأعمال المختلطة، وطبقا له أعمال السيادة هى الأعمال التى تأتيها السلطة التنفيذية بمناسبة علاقتها بسلطة أخرى لا تخضع لرقابة القضاء الإدارى، وأخيراً فقد قيل بمعيار القائمة القضائية وهى المعيار المعتمد الآن فى مختلف دول العالم، ويقصد به أن أعمال السيادة هى تلك الأعمال التى يضفى عليها القضاء هذه الصفة، فالمرجع إذن فى هذا المعيار – لتحديد ما إذا كان العمل من أعمال السيادة أم من الأعمال الإدارية - هو القضاء. فالقاضى يظل – والحال هكذا – هو سيد الموقف. بمعنى أنه هو وحده الذى يملك وصف العمل المطعون فيه بأنه من أعمال السيادة أو أنه ليس كذلك، وأنه عمل معدوم أو أنه ليس كذلك. وهكذا يستطيع أن يضيق من دائرة أعمال السيادة التى لا يختص بنظرها وأن يوسع فيها. أما المشرع فلا يملك حتى بقانون أن يصف عملا ما تصدره السلطة التنفيذية بأنه من أعمال السيادة(1).
وعلى أية حال وأيا كان المعيار المعتمد فى هذا الشأن، فإن نظرية أعمال السيادة، ومهما قيل فى شأنها من أنها نقطة سوداء فى جبين المشروعية، أو أنها تمثل ثغرة خطيرة فى  جسد الديمقراطية، فهى نظرية قائمة ولا يمكن إنكارها، كما لا تخضع جهات الإدارة فى خصوصها للرقابة القضائية سواء لرقابة الإلغاء فى حالة مخالفة مبدأ المشروعية أم لرقابة التعويض لجبر ما يترتب عليها للمواطنين من ضرر، الأمر الذى يعنى حرمان هؤلاء المواطنين من أهم ضمانة فعالة لحماية حقوقهم وحرياتهم التى تمسها تلك النظرية.
ولكن هل هناك من مبررات لعدم مسئولية الدولة عن أعمال السيادة؟
يصعب فى واقع الأمر إنكار وجود نظرية أعمال السيادة مادام أن المشرع سواء فى مصر أو فى غيرها من الدول الأخرى قد اعترف بها وقررها بنصوص صريحة لا يمكن التغاضى عنها. ولذا دأب كثير من رجال الفقه على البحث عن مبررات لعدم مسئولية الدولة عن تعويض الأضرار الناجمة عن هذه الأعمال، بل وعلى البحث عن مبررات لعدم خضوعها كلية للرقابة القضائية بحيث يستحيل إلغاء تلك الأعمال أو التعويض عنها، فى حين ذهب جانب آخر من الفقه إلى محاولة إخضاعها لقضاء التعويض دون الإلغاء باعتبار أن ذلك يمثل أخف الضررين.
وعلى ذلك نتناول فى فرعين مستقلين الموضوعين التاليين:
الموضوع الأول: المبررات التى قيل بها لاستبعاد أعمال السيادة من مجال الإلغاء والتعويض.
الموضوع الثانى: المبررات التى قيل بها للتعويض عن أعمال السيادة دون إلغائها.





الفرع الأول
المبررات التى قيل بها لاستبعاد أعمال السيادة
عن مجال الإلغاء والتعويض
هناك فى الواقع مبررات قيل بها لاستبعاد أعمال السيادة من مجال التعويض تتمثل فى الآتى(1):
أولا: أن أعمال السيادة إنما وجدت كأداة للتصالح بين كل من السلطتين القضائية والتنفيذية، بحيث يباح لهذه السلطة الأخيرة أن تأتى هذه الأعمال ولا تصبح مسئولة عنها، فى مقابل الحفاظ على بقاء واستمرار مجلس الدولة. فقد ذكرنا من قبل أن مجلس الدولة الفرنسى وعلى أثر الإطاحة بإمبراطورية نابليون وعودة الملكية عام 1814، عمل من جانبه على مهادنة الحكومة ومحاولة استرضائها حتى يتجنب الغدر من جانبها، ويحافظ على بقائه كثمرة من ثمار نابليون. من هنا فقد اتبع سياسة قضائية مرنة تمثلت فى تنازله عن رقابة طائفة من أعمال السلطة التنفيذية، هى ما يقال لها أعمال السيادة، مقابل أن يراقب بقية الأعمال الأخرى. وهكذا اعتبرت أعمال السيادة بمثابة الفدية التى افتدى بها مجلس الدولة بقاءه من ناحية، ومباشرته لباقى اختصاصاته الرقابية من ناحية أخرى.
كما هو واضح تجسد هذه الحجة المرحلة التاريخية التى ظهرت فيها نظرية أعمال السيادة، والتى لا يمكن أن تكون مبررا حقيقيا لعدم التعويض عن الأضرار التى تسببها للمواطنين، ذلك أن مجلس الدولة الفرنسى لم يعد الآن فى حاجة إلى مهادنة الحكومة بعد أن قويت شوكته واستقام عوده واستقر وضعه، بل لا نبالغ إذا قلنا أن الحكومة تخشى الآن مجلس الدولة وتعمل دائما على مهادنته والتقرب منه بعد أن أصبح حاميا حقيقيا لحقوق الأفراد وحرياتهم. إضافة إلى أن فكرة التصالح بين السلطتين التنفيذية والقضائية ينبغى ألا تكون على حساب الأفراد وذلك بحرمانهم من تعويض الأضرار التى تتسبب فيها بعض أعمال السلطة التنفيذية.
ثانيا: من المبررات التى قيل بها فى هذا المجال أيضا، أن أعمال السيادة، إنما تعد من قبيل الأعمال السياسية التى تباشرها الدولة، والأعمال السياسية لا يجب أن تكون محلا لمخاصمات قضائية، ومن ثم يجب ألا تراقب إلا من قبل هيئة سياسية مثل البرلمان. ومعنى ذلك أن أعمال السيادة بصفتها أعمالاً سياسية لا تخضع ولا يجب أن تخضع لرقابة القضاء الإدارى بما تتطلبه هذه الرقابة من إعادة تقدير وتقييم للوقائع وما ترمى إليه من أغراض وأهداف؛ خاصة أن مسألة التمييز بين ما يعتبر من الأعمال السياسية وتلك التى يعتبر من الأعمال الإدارية، تعد مسألة سياسية لا يصلح القضاء لتحديدها.
فى الواقع من الأمر لا تصلح هذه الحجة مبررا لعدم التعويض عن أعمال السيادة، إذ ليس هناك ما يمنع من تقرير هذا التعويض دون إعادة تقدير وتقييم لوقائع تلك الأعمال، وذلك فى حالة ما إذا كان مبنى أو أساس هذا التعويض فكرة المخاطر أو تحمل التبعة، إذ فى هذه الحالة يكتفى فقط بأن يتبين أن هناك ضررا أصاب المواطنين، وأن سبب هذا الضرر عمل من أعمال السيادة. وهكذا يمكن القول فى مثل هذه الحالة أن القضاء – عند إقراره للتعويض عن أعمال السيادة – لا يتعرض لتلك الأعمال فى ذاتها. وإنما فقط لما تحدثه من ضرر للمواطنين؛ فهو لا يتدخل فى الواقع فى مضمونها وفحواها أو فى مدى سلامتها أو عدم سلامتها.
ثالثا: كما قيل أيضا كمبرر لعدم إلغاء أعمال السيادة أو التعويض عنها أن سلامة الدولة فوق القانون، وبما أن القانون وسيلة لا غاية، وسيلة للمحافظة على سلامة الدولة وبقاء كيانها، فإنه يجب الاعتراف للحكام بالخروج على القانون كلما اقتضت الظروف ذلك، مادام فى هذا الخروج تحقيقا للغاية التى وجد القانون لتحقيقها وهى سلامة الدولة.
وهذا التبرير لا يكفى فى واقع الأمر لمنع التعويض عن أعمال السيادة، إذ المطلوب هو تعويض الأضرار المترتبة على هذه الأعمال لما فى ذلك من تحقيق لصالح الأفراد الذين أضيروا من جراء تلك الأعمال ولا علاقة لذلك بالحفاظ على سلامة الدولة، فهذا أمر آخر لا يؤثر فيه دفع مثل هذا التعويض.





رابعا: وأخيرا برر البعض عدم التعويض عن أعمال السيادة استناداً إلى نص المادة رقم 26 من قانون مجلس الدولة الفرنسى الصادر بتاريخ 24 مايو 1872، ونص المادة 47 من قانون 3 مارس 1849 التى تقرر حق الوزراء فى أن يحيلوا القضايا التى تخرج من اختصاص مجلس الدولة إلى محكمة التنازع. فقد ذهبوا فى تفسيرهم لهذا النص بأن المقصود بالقضايا التى لا تدخل فى اختصاص مجلس الدولة هى أعمال السيادة ويمكن أن تدخل ضمن ذلك أيضا النصوص التى تحرم التعويض، لأعمال السيادة فى القانون المصرى(نص المادة رقم 17 من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972، ونص المادة11 من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972)(1).
بداءة هذا التبرير ليس محل اتفاق بين الفقهاء حيث يرى البعض منهم أن النص المذكور لا يقصد به أعمال السيادة، وإنما يقصد به تحقيق التوازن بين جهتى القضاء العادى والإدارى. ومن ناحية أخرى فإن نصوص القانون وحدها لا تعتبر سندا حقيقيا لتبرير عدم المسئولية عن أعمال السيادة. إذ أن تعديل هذه النصوص أمر ممكن وجائز طالما أن طبيعة العلاقة لا تتنافى مع هذا التعديل(2).


الفرع الثانى
المبررات التى قيل بها للتعويض عن أعمال السيادة دون إلغائها
أمام التسليم بقيام وجود نظرية أعمال السيادة كواقع فعلى وقانونى فى كافة المجتمعات تقريبا، وأمام التسليم كذلك بضرورة تحصين مثل هذه الأعمال ضد رقابة الإلغاء، لما فى هذه الرقابة من إمكانية مناقشة هذه الأعمال وفحصها وتقدير مدى سلامتها من عدمه، وهو ما يتنافى مع مصالح الدولة العليا، فقد طالب كثير من رجال الفقه بأن يكون البديل الأمثل لذلك هو تعويض الأفراد عن الأضرار التى تصيبهم من جرائها، بمعنى أنه طالما يستحيل إنكار أعمال السيادة، وكما يستحيل كذلك إلغاؤها، فلا أقل من إباحة دعوى التعويض للمواطنين فى خصوصها. فالذى يهم الحكومة أولا وقبل كل شىء هو بقاء أعمال السيادة دون إلغائها فما الذى يضيرها إذن من تعويض الأفراد الذين نالهم ضرر من جرائها. بل وتأكيدا لعدم المساس بأعمال السيادة فى ذاتها سواء من ناحية الحكم على مسلك الإدارة حيالها، أى من ناحية فحص مشروعيتها لمعرفة ما إذا كانت الدولة قد أخطأت فى خصوصها أم لم تخطيء ، أم من ناحية مدى ملاءمتها، يقرر الفقه أن أساس التعويض فى هذه الحالة ليس هو فكرة الخطأ، وإنما فكرة المخاطر أو تحمل التبعة. تلك الفكرة التى تعنى – كما ذكرنا – أن مساواة الجميع أمام التكاليف والأعباء العامة تحتم أن ينال المضرور تعويضا عما يصيبه من ضرر من جراء تلك الأعمال، والتى يجب أن يتحمل نتائجها وتبعاتها كافة أفراد المجتمع، إذ لا يعقل أن من يصاب بضرر نتيجة تصرف لجهة الإدارة، تهدف من ورائه تحقيق الصالح العام أو صالح المجموع، أن يتحمل بمفرده نتائج هذا التصرف، بل يجب أن يشاركه الجميع فى تحمل تلك النتائج.
وهذا هو ما انتهى إليه كبار فقهاء القانون العام فى فرنسا من أمثال "هوريو" Hauriou الذى نادى بضرورة التعويض عن أعمال السيادة فى حالة ما إذا ترتب على هذه الأعمال نزع ملكية خاصة، و"جيز" Jéze الذى ذهب مذهبا آخر، إذ نادى بضرورة التعويض عن كافة أعمال السيادة سواء ترتب عليها نزع ملكية خاصة من عدمه، مع استبعاد كل طعن بالإلغاء فى هذه الأعمال؛ و"دويز" Duez الذى يرى أنه ليس هناك نص فى تشريع، أو هناك مبدأ من  المبادئ  العامة للقانون يمنع من تعويض الأفراد عن الأضرار التى تحيق بهم بسبب أعمال السيادة، بل أن مثل هذا التعويض – يضيف الفقيه الكبير- إنما هو ما يتفق مع مبادئ  العدالة والتى تحتم ضرورة المساواة بين المواطنين أمام التكاليف والأعباء العامة، وإن كان قد اشترط  لذلك أن يكون الضرر فى هذه الحالة ذا طابع مادى ومباشر وغير عادى وخاص(1).
وهكذا يمكن التوفيق – من خلال ما انتهى إليه الفقه – بين ضرورة عدم التعرض لأعمال السيادة بالإلغاء وإنما فقط بالتعويض عن تلك الأعمال على أساس فكرة المساواة أمام التكاليف أو الأعباء العامة وهو ما يقال له فكرة المخاطر وتحمل التبعة، وبين الحماية اللازمة لتحصين أعمال السيادة أو أعمال الحكومة ضد تقدير القاضى لها وفحصه لمدى مشروعيتها، إذ يكتفى فى هذه الحالة فقط بمجرد التحقق من توافر ركن الضرر وعلاقة السببية بينه وبين عمل السيادة أو عمل الحكومة.






(1)  ققد ذهب جانب من الفقه – بحق – إلى القول فى هذا الخصوص بأنه إذا كان فى تصور رقابة التعويض بالنسبة لأعمال السلطتين التشريعية والقضائية مساس بإحدى الضمانات الهامة للأفراد، إلا أن هذا المساس من حيث الواقع أقل خطورة على الأفراد من تصور تلك الرقابة بالنسبة لبعض الأعمال الإدارية. فالسلطة التشريعية يفترض فيها أنها ممثلة لأفراد الشعب، فإرادتها التى تظهر فى وضع قواعد عامة تعتبر هى إرادة الأفراد أنفسهم، فضلا عن أن القضاء فى كثير من الدول يراقب القوانين الصادرة عنها، ويبحث فى مدى دستوريتها، ليمتنع عن تطبيقها، إذا كانت مخالفة لأحكام الدستور أو يلغيها. وكذلك الأمر بالنسبة لأعمال السلطة القضائية إذ المفروض أنها تطبق القانون، فضلا عن وجود درجات للتقاضى، مما يحقق للأفراد كثيراً من الضمانات، أما بالنسبة لأعمال السلطة التنفيذية ، فالأمر على خلاف ذلك، فليست إرادتها هى إرادة الشعب ، فضلا عن أنه لا تتوافر لها الضمانات التى تتوافر فى أعمال السلطة القضائية، ولذلك كان من الطبيعى أن تمتد الرقابة القضائية إلى أعمالها سواء بتقرير التعويض عن آثارها الضارة بالأفراد أو بإلغائها إذا كانت مخالفة للقانون.
      الدكتور/ رمزى الشاعر، المرجع السابق (القضاء الإدارى)، ص 32، 33.
(1)  الدكتور/ عبد الفتاح حسن، المرجع السابق، ص 62 ومابعدها.
(1)  حول هذه المبررات انظر:
      نظرية أعمال السيادة للدكتور/ عبد الفتاح ساير داير، دكتوراه ، جامعة القاهرة، عام 1954 ، ص 215 ومابعدها؛ أمال السيادة فى القانون المصرى والمقارن للدكتور/ حافظ هريدى، دكتوراه، جامعة القاهرة، الطبعة الأولى، 1952، ص 233 ومابعدها، المرجع السابق للدكتور/ وحيد رأفت، ص 172 ومابعدها؛ مسئولية الدولة غير التعاقدية، الدكتور/ أنور رسلان، القاهرة، 1982، ص 132 ومابعدها؛ الرقابة على أعمال الإدا ة، الدكتور/ كامل ليلة، بيروت، 1970، ص 675 ومابعدها؛ قضاء التعويض، للدكتور/ رمزى الشاعر، المرجع السابق، ص 414 ومابعدها.
(1)  الدكتور/ رمزى الشاعر، القضاء الإدارى، قضاء التعويض، مرجع سبق ذكره، ص 216.
(2)  الدكتور/ أنور سلامة، وسيط القضاء الإدارى، مرجع سبق ذكره، ص 663.
(1)  وردت كافة هذه الآراء وتفصيلاتها برسالة الدكتور/ عبد الفتاح ساير داير، سبقت الإشارة إليها، ص 255 ومابعدها.

تعليقات