القائمة الرئيسية

الصفحات



تطبيقات بيوع المرابحة

تطبيقات بيوع المرابحة





"تطبيقات بيوع المرابحة للآمر بالشراء من   الاستثمار   البسيط إلى 
بناء سوق رأس المال الإسلامي مع اختيار تجربة بنك البركة 
في البحرين كنموذج عملي"

بحث مقدم إلى ندوة "استراتيجية الاستثمار في البنوك الإسلامية" المنظمة بالتعاون بين المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع. للبنك الإسلامي للتنمية في   جدة   والمقرر عقدها أثناء المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي في الفترة الواقعة يبن 22 – 25 شوال 1407 ه الموافق 18 – 21 حزيران 1987 في   عمان   –   المملكة الأردنية الهاشمية   .
إعداد 
الدكتور سامي حسن حمود
مدير عام بنك البركة الإسلامي 
للاستثمار
   المنامة   –   دولة البحرين   
 تقديم البحث وبيان المحتويات 

يعتبر   بيع المرابحة للآمر بالشراء   عصب النجاح في التطبيق المصرفي الإسلامي الحديث، سواء كان ذلك على مستوى التعامل المحلي أم كان على المستوى الدولي. لذلك لم يكن مستغربًا –في ضوء أهمية هذا النوع المستحدث من التعامل أن يخصص له المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب هذه الندوة الخاصة التي تعالج مختلف جوانب هذا التعاقد الفريد، وهو التعاقد الذي دعت إليه الحاجة، وأغنته التجربة وتوجته الآمال المزدانة بطموحات العمل المتصل لاستمرار   الاجتهاد   فيه من أجل التطوير والإبداع.

وإذا كان يحق للأردن أن يفخر بما قدمه العالم الإسلامي من بنات فكر أبناءه في مجال ترسيخ بناء هذه الصورة المركبة من الوعد بالشراء   والبيع بالمرابحة   ، سواء كان ذلك في مرحلة البناء النظري أم في ميدان العمل التطبيقي،  (1)  فإنه ليجدر بمن يسجل الأحداث بحقائقها أن يذكر بالخير ذلك الدور الرائد الذي قام به البنك الإسلامي للتنمية في بواكير دخوله ميدان العمل حيث تبنى رئيس البنك الأخ الفاضل الدكتور أحمد محمد علي فكرة   بيع المرابحة للآمر بالشراء   وطبقها على تمويل عمليات   التجارة الدولية   التي تحتاج إليها   الدول الإسلامية   . 

(1)     المقصود بالإشارة هنا هو السبق العلمي الذي كشف فيه الباحث عن الأساس الفقهي لصورة هذا التعاقد الفريد حيث جرى استخراج النص من موطنه في كتاب "الأم" للإمام الشافعي وذلك من خلال البحث العلمي الذي قدم فيه الباحث رسالته لنيل درجة الدكتوراه في الحقوق لدى جامعة القاهرة والتي جرت مناقشتها بتاريخ 30/ 6/ 1976م وقد أدخل الباحث هذه الصورة التعاقدية في قانون البنك الإسلامي الأردني رقم 13 لسنة 1978 بعد أن وافقت لجنة الفتوى التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية على قبول مبدأ القول بالإلزام في الوعد. انظر في ذلك: أ- سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية الطبعة الأولى (القاهرة، 1976) ص 476 – 481. ب- سامي حمود – الأعمال التحضيرية لإنشاء البنك الإسلامي الأردني محفوظات خاصة لمشروع القانون الخاص بإنشاء البنك ومناقشات لجن الفتوى للمشروع في الفترة الواقعة بين 6/ 7/ 1977- 11/ 9/ 1977  

وإذا كان قد اجتمع في هذه الندوة المباركة السهم الحضاري المتمثل في المجمع الملكي العتيد مع القوس المشدود بعزم الإرادة على العمل المشترك وهو العزم الذي تمثل في إيجاد البنك الإسلامي للتنمية، فإن اجتماع هذا السهم مع ذلك القوس إنما يعبر عن وحدة الفكر والعمل في سبيل استمرار بناء صرح الحضارة الإسلامية المجيد لكي تظل هذه الحضارة مرتفعة الأعلام على مر العصور والأزمان.
ويتألف البحث المقدم من أربعة فصول وخاتمة حيث اشتمل الفصل الأول على نبذة تاريخية عن   بيع المرابحة   وتطوره المعاصر في صورة التعامل المركب من آمر بالشراء ووعد بالتبايع.
أما الفصل الثاني فقد تضمن بيان النموذج الأردني في تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء باعتباره الأساس الذي نسجت على منواله البنوك الإسلامية الأخرى الصور المختلفة للتطبيق مع بعض الاختلافات في الشكل دون الجوهر.
وتناول الفصل الثالث آلية (ميكانيكية) تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء ومجالاته والمشكلات والحلول الفقهية لهذه المشكلات.
وتضمن الفصل الرابع الآفاق المستقبلية لبيع المرابحة من ناحية التخطيط المتصور للانتقال بالعملية من مجرد عملية استثمارية بسيطة إلى قاعدة راسخة لإيجاد أدوات استثمارية ملائمة بحسب طبيعتها لإيجاد نواة سوق   رأس المال   الإسلامي مع الإشارة في ذلك إلى تجربة بنك البركة الإسلامي في البحرين.
وقد أوجزت الخاتمة خلاصة البحث وما يراه الباحث من توصيات.
ولا يسع الباحث إلا أن يتقدم بالشكر والتقدير لهذه المبادرة الطيبة التي رعاها كل من معالي الدكتور ناصر الدين الأسد – رئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – في عمان ومعالي الدكتور أحمد محمد علي – رئيس البنك الإسلامي للتنمية – في   جدة   من أجل بحث موضوع المرابحة على هذا المستوى العلمي الرفيع، كما يشكر الباحث كذلك معالي البروفيسور كوركوتأوزال مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب وجميع المشاركين في إغناء التراث الإسلامي بخلاصة الفكر والإبداع.
ونسأل الله –سبحانه وتعالى- أن يديم لقاءات الخير في ظل مجد هذه الحضارة التي نرجو لها دوام الازدهار لترسيخ مفاهيم العدل والإحسان في تعامل الإنسان مع إخوانه من بني الإنسان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..



 الفصل الأول
نبذة تاريخية عن بيع المرابحة وتطوره المعاصر 
 1- أساس بيع المرابحة في الفقه الإسلامي: 
يعتبر بيع المرابحة نوعًا من أنواع البيوع المعروفة في الفقه الإسلامي.   والبيع   في الشرع هو كما جاء في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (مبادلة المال بالمال بالتراضي وفي اللغة هو مطلق المبادلة من غير تقييد بالتراضي.  (1)  

(1)     انظر الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، الجزء الرابع (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، دون تاريخ ) ص 2  


والأصل في البيع أنه   جائز   بالكتاب   والسنة     والإجماع   ، أما الكتاب فقد ورد فيه قوله تعالى: {  وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا  }  [من سورة البقرة الآية: 275] وأما   السنة   فقد وردت روايات كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيوع وكان الناس يتعاملون بها فأقرهم على ما يجيزه الشرع ونهاهم عما لا يجوز. وأما   الإجماع   فإن الأمة قد أجمعت على جواز البيع في الجملة وأنه أحد أسباب التملك.  (1)  
ويتميز بيع المرابحة بأن فيه بيانًا   لرأس المال   في الشيء المبيع، فهو من بيوع الأمانة  (2)  وقد عرفه   ابن قدامة   في كتابه المغني بأنه "البيع برأس المال وربح معلوم ويشترط علمهما (أي البائع والمشتري) برأس المال فيقول رأس مالي فيه أو هو علي بمائة بعتك به وربح عشرة فهذا   جائز   لا خلاف في صحته ولا نعلم فيه عند أحد كراهة".  (3)  ثم أورد أبو محمد –رحمه الله تعالى- ما نقل من آراء عن ربط الربح بنسبة من رأس المال، كما لو قال البائع للمشتري بعتك هذا الشيء –مثلًا- برأس مالي فيه وهو مائة وأربح في كل عشرة درهمًا، فقال بأنه نقل عن الإمام   أحمد بن حنبل   كراهة ذلك كما نقل القول بالكراهية أيضًا عن   ابن عمر     وابن عباس   ، وأورد   أبو محمد   أيضًا القول بالترخيص في هذه المسألة عن   سعيد بن المسيب     وابن سيرين     وشريح     والنخعي     والثوري     والشافعي   وأصحاب الرأي.  (4)  

(1)  انظر الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، الجزء الرابع (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، دون تاريخ ) ص 3  
(2)  تصنف البيوع في النظر الفقهي من ناحية بيان الثمن إلى بيوع مساومة وبيوع أمانة.  - أما بيوع المساومة فهي التي يحدد فيها ثمن المبيع بالمفاوضة أو الإيجاب والقبول دون بيان لرأس المال. - وأما بيوع الأمانة فإنها تكون مبنية على أساس بيان رأس المال وهي تتفرع إلى ثلاث صور هي: - المرابحة وتكون بالبيع برأس المال مع إضافة ربح معين يتفق عليه. - التولية وتكون بالبيع برأس المال دون ربح أو خسارة. - الوضعية أو المواضعة وتكون في حالة البيع بخسارة تطرح من رأس المال . انظر – مصطفى أحمد الزرقاء، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، الجزء الأول (المدخل الفقهي العام)، الطبعة السادسة ( دمشق : مطبعة جامعة دمشق 1959)، ص 547  
(3)  انظر: ابن قدامة، المغني، الجزء الرابع ( القاهرة : مكتبة القاهرة، دون تاريخ) ص 136 
(4)  انظر: ابن قدامة، المغني، الجزء الرابع (القاهرة: مكتبة القاهرة، دون تاريخ) ص 136  



والذي يظهر من استعراض آراء من قالوا   بالكراهة   في بيان الربح بطريق النسبة إلى رأس المال هو الظن بوجود الجهالة في الثمن، وهذا الظن ليس واردًا طالما أن الأمر معلوم أو يمكن العلم به بنتيجة الحساب، لذلك فقد انتهى أبو محمد من تحرير المسألة بالقول بأن الكراهة المروية عن ابن عمر وابن عباس إنما هي   كراهة تنزيه   وإن البيع صحيح.
وإن من يتفحص حقيقة هذا البيع المبني على الأمانة في بيان رأس المال أو إعلان حقيقة تكلفة المبيع بما قام به على البائع يجد أن البيع بهذه الصورة يكون من أشرف البيوع لأنه يمسح من نفس الشاري أي تشكك قد يراوده من ناحية الثمن الذي يدفعه. 
 2- الصورة المستحدثة في   بيع المرابحة للآمر بالشراء   : 
يختلف بيع المرابحة الذي تتعامل به   المصارف الإسلامية   عن صورة المرابحة المعروفة عمومًا والمبحوثة في المؤلفات الفقهية لمختلف المذاهب الفقهية المعتبرة. فالمرابحة عند الفقهاء هي نوع من التجارة يكشف فيها التاجر البائع للمشتري رأسماله في السلعة الموجودة بحوزته وذلك بحسب ما اشتراها أو بما قامت عليه، ثم يضيف ربًحا مبينًا ومعلومًا ويقول أبيعها لك برأسمالي فيها وهو كذا وربحي فيها كذا أما بيع المرابحة الذي تتعامل به المصارف الإسلامية فيبدأ من عند صاحب الحاجة الذي يأتي إلى المصرف ليطلب شراء سلعة معينة ليست موجودة بحوزة المصرف وذلك على أساس أن الطالب يعد بأن يشتري السلعة التي يطلبها من المصرف بما تقوم عليه من تكلفة زائدًا الربح الذي يتفق عليه معه.
وهذه هي الصورة المستحدثة لهذا التعامل المركب من وعد وبيع، فما هو أصل هذه الصورة وما هو سندها من الفقه وما مدى احتياج الناس والمصارف الإسلامية إلى تطبيقها في الحياة المعاصرة؟ 
 أساس ظهور الصورة في الفقه الإسلامي: 
ليس لهذا العنوان بالشكل الذي أصبح معروفًا بيع المرابحة للآمر بالشراء وجود في المؤلفات الفقهية القديمة حيث لم تكن هذه الصورة معروفة أساسًا في التعامل قبل عام 1976 عندما اكتشف الباحث –ولأول مرة- وجود الأساس الفقهي لهذه الصورة المركبة من مواعدة وبيع،  (1)  وقد جاء هذا الاكتشاف من خلال البحث العلمي الذي كان يعده الباحث لنيل درجة الدكتوراه في موضوع –تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية وهي الرسالة التي جرت مناقشتها في كلية الحقوق بجامعة   القاهرة   في 30/ 6/ 1976 . 

(1)     كان هذا هو الرأي الذي انتهى إليه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد فرج السنهوري (رحمه الله تعالى) والذي كان أستاذ مادة الفقه المقارن للدراسات العليا بقسم الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة. وقد كان الأستاذ المرحوم مهتمًا اهتمامًا شخصيًا بموضوع الرسالة التي كان يعدها الباحث بعد أن درس على يديه دبلوم الشريعة الإسلامية وكان الأستاذ المشرف على الرسالة (فضيلة الشيخ زكريا البري رئيس قسم الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة) يطمئن إلى رأي الشيخ السنهوري الذي كان أستاذًا للأستاذ المشرف على الرسالة  



وقد جاءت بداية الخيط في تحقيق هذا الكشف العلمي من خلال مراجعة كتاب الأم للإمام   الشافعي   –رحمه الله تعالى- حيث ورد فيه ما يلي:
"وإذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: اشتر هذه وأربحكم فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء   جائز   ، والذي قال أربحكم فيها   بالخيار   إن شاء أحدث فيها بيعًا وإن شاء تركه. وهكذا إن قال اشتر لي متاعًا ووصفه له أو متاعًا أي متاع شئت وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء، يجوز البيع الأول ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت، إن كان قال ابتاعه (الصواب ابتعه) وأشتريه منك بنقد أو دين، يجوز البيع الأول ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز..."  (1)  
وهذا يعني إمكان قيام صاحب الحاجة إلى سلعة ما (سواء كانت خاصة بالاستعمال الشخصي أم كانت للمتاجرة) بتكليف شخص آخر بأن يشتري هذه السلعة في مقابل وعد من الآمر بأن يشتري هذه السلعة في مقابل وعد من الآمر بأن يشتري منه ما اشتراه مع تحديد الربح الذي يعطيه إياه.
وعندما نظر الباحث على هذه الصورة بعين المصرفي المطلع على احتياجات الناس ومتطلباتهم وجد أن هذا الباب يسد حاجة الناس بصورة أوسع مما يسده به باب   المضاربة الشرعية   لو كان هو المنفذ الوحيد للتمويل في نطاق عمل البنك الإسلامي، فقد كانت المضاربة التي هي صورة من صور   المشاركة   بين   رأس المال   وعمل الإنسان هي المخرج الوحيد الذي كان يطرحه المفكرون الإسلاميون في العقدين السادس والسابع من هذا القرن لحل مشكلة   الاستثمار     والتمويل الإسلامي،   ولكن لم يقل لنا هؤلاء المفكرون كيف يمكن أن يمول البنك الإسلامي   بالمضاربة   شخصًا يريد شراء سيارة لاستعماله الشخصي مثلًا أو أثاثًا لمسكنه حيث لا يوجد ربح ولا توجد تجارة، كما لم يقل لنا أحد منهم كيف يمول البنك الإسلامي شراء أنابيب نقل المياه مثلًا إذا رغبت دائرة المياه الحكومية في أن تتمول للشراء.
فهل يقف البنك الإسلامي مكتوفًا أمام هذه الاحتياجات المعتبرة ولا يمول إلا التجارة والتجاريين؟
وهب أن تاجرًا لا يريد شريكًا بل يريد بضاعة يشتريها بالأجل ويتصرف فيها بالبيع والتقليب، أو صانعًا يريد شراء المواد الخام لصناعته ولا يريد لأحد أن يدخل شريكًا معه في مصنعه وعمله، فهل يلزم الناس   بالمشاركة   من أجل التمويل وهم لا يرغبون؟
ولو كان هناك طبيب بحاجة إلى جهاز للأشعة أو آلة للجراحة المتقدمة فهل يجري معه البنك الإسلامي عقد مضاربة على العمل في الآلة؟
إن قاعدة الإسلام مبنية على رفع الحرج عن الناس، وإن عدل الشريعة مبني على التيسير في دين الله، وإنه لا يمكن النظر في إلزام الناس بقبول ما لا يريدون قبوله طالما أن في الشرع متسع للاختيار ولكن الضيق يأتي من نقصان العلم والمعرفة بالأحكام.
فكيف تطورت هذه الصورة من النظرية إلى التطبيق، هذا ما سنعرض إليه في الفصل الثاني. 

(1)     انظر – الشافعي، كتاب الأم، الطبعة الأولى، تصحيح محمد زهدي النجار، الجزء الثالث، (القاهرة: مطبعة الكليات الأزهرية 1961)، صفحة 39  




 الفصل الثاني 
النموذج الأردني   لبيع المرابحة للآمر بالشراء    
 1- خلفية التطوير وأثره في العالم 
كان للتجربة الأردنية أثر واضح في إدخال مفهوم الوعد الملزم على بيع المرابحة للآمر بالشراء وذلك من خلال ما قدمه النموذج الأردني لهذه الصورة عندما صدر قانون البنك الإسلامي رقم 13 لسنة 1978.
فقد رأت لجنة الفتوى التي كلفها معالي وزير الأوقاف في ذلك الوقت معالي الأستاذ كامل الشريف بدراسة مشروع قانون البنك –الذي كان للباحث شرف إعداده وتقديمه- إن الأخذ بالقول بلزوم الوعد في هذا التعامل أمر ممكن باعتباره أن الإلزام القضائي   بالوعد   أمر معروف في الفقه المالكي، فقد نقل الأستاذ الجليل مصطفى أحمد الزرقاء في مؤلفه الجامع "الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد" إن الرأي المشهور عند المالكية يعتبر الوعد بالعقد ملزمًا للواعد قضاء إذا ذكر فيه سبب ودخل الموعود تحت إلزام مالي بمباشرته ذلك السبب بناء على الوعد.  (1)  كما إن القول بلزوم الوعد قضاء منقول كذلك عن ابن شبرمة.  (2)  
ونظرًا لما يؤدي إليه القول بلزوم الوعد قضاء من استقرار في المعاملات ودفع للضرر الذي قد يتعرض له البنك الإسلامي من جراء النكول عن إتمام   البيع   فيما يكون الآمر قد طلب شراءه من سلع أو معدات قد لا تكون صالحة لغير الغاية التي طلبها من أجلها، كل ذلك قاد الباحث إلى الاطمئنان إلى عدالة القول بلزوم الوعد قضاء لدفع الضرر والوصول إلى استقرار المعاملات وتجنب الضرر والتغرير.
وإن من يستعرض قواعد الشرع الحنيف يجد أنه كما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((    لا ضرر ولا ضرار   ))  .
وفي ضوء هذا التصور المنظور ومن أجل سلامة الأساس الذي سيبني عليه عمل البنك الإسلامي الأردني تم وضع التعريف الشامل   لبيع المرابحة للآمر بالشراء   وهو التعريف الذي أقرته لجنة الفتوى  (3)  وتضمنه القانون رقم 78 لسنة 1978 ونصه كما يلي:  (4)  
   بيع المرابحة للآمر بالشراء   : قيام البنك بتنفيذ طلب المتعاقد معه على أساس شراء الأول ما يطلبه الثاني   بالنقد   الذي يدفعه البنك كليًا أو جزئيًا وذلك في مقابل التزام الطالب بشراء ما أمر به وحسب الربح المتفق عليه عند الابتداء. 

(1)  انظر- مصطفى أحمد الزرقاء، مرجع سابق، نفس الجزء صفحة 1023 - 1024  
(2)  انظر – ابن حزم: المحلى (بيروت: دار الآفاق الجديدة، دون تاريخ)، الجزء الثامن، ص 28  
(3)  انظر – تقرير لجنة الفتوى إلى معالي وزير الأوقاف عن مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني وهو التقرير الصادر عن دار الإفتاء تحت رقم 4/ 5/ 65 تاريخ 22/ 9/ 1977  
(4)  انظر – المادة رقم 2 من قانون البنك الإسلامي الأردني رقم 13 لسنة 1978 المنشور في الجريدة الرسمية بالعدد 2773 تاريخ 1/4/1978  


ومع صدور هذا التعريف لبيع المرابحة للآمر بالشراء بالصورة التي أقرتها لجنة الفتوى  (1)  فقد بدأ عهد جديد لدخول هذه الصورة نطاق الاستعمال المتسع سواء على مستوى البنوك الإسلامية المحلية  (2)  أم على مستوى التعامل الدولي في داخل العالم الإسلامي وخارجه.  (3)  وهكذا أصبح النموذج الأردني في بيع المرابحة منهجًا معروفًا وتسير على منواله العديد من البنوك   والمؤسسات المالية   الإسلامية مع بعض التفريعات والاختلافات التي لا تؤثر في جوهر التعاقد وطبيعته. 

(1)  شارك في اجتماعات لجنة الفتوى التي كلفت بدراسة مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني كل من: - الشيخ محمد عبده هاشم (المفتي العام)، الشيخ عز الدين الخطيب، الشيخ محمد أبو سردانه، الشيخ أسعد بيوض التميمي، الدكتور إبراهيم يزيد الكيلاني، الدكتور عبد السلام العبادي الدكتور ياسين الدرادكه، وانضم إلى اللجنة من غير أعضاء لجنة الفتوى كل من: الشيخ عبد الحميد السائح، الدكتور محمد أحمد صقر كما شارك الباحث الدكتور سامي حمود في المناقشات باعتباره معد المشروع وقد عقدت اللجنة لهذه الغاية 15 اجتماعًا في الفترة الواقعة بين 6/ 7/ 1977 - 11/ 9/ 1977 وكان بعض هذه الاجتماعات يمتد أحيانًا من بعد صلاة العشاء حتى صلاة الفجر.  
(2)  زار الباحث خلال عامي 1977 / 1978 بناء على دعوات الاستضافة التي تلقاها من البنوك الإسلامية الحديثة لشرح مفهوم العمل المصرفي الإسلامي ومن بينها النموذج الأردني لبيع المرابحة للآمر بالشراء – كلًا من: - الحاج سعيد أحمد لوتاه - رئيس مجلس إدارة بنك دبي الإسلامي – دبي - الحاج أحمد بزيع الياسين – رئيس مجلس إدارة بيت التمويل الكويتي – الكويت - الدكتور أحمد محمد علي – رئيس البنك الإسلامي للتنمية - جدة  
(3)  تنبهت البنوك الأجنبية إلى صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء وأحدثت صورًا من التعامل الذي تتوسط فيه لشراء سلع أو معادن بالنقد من طرف لبيعها إلى طرف آخر بالأجل بفارق ربح يتوازى مع أسعار الفائدة الرائجة ، وقد اجتذبت هذه الطريقة مئات الملايين من أموال البنوك الإسلامية والمستثمرين الإسلاميين بسبب توفر المواد وانتظام الأسواق، ويا حبذا لو طور العالم الإسلامي تجارته لكي يستوعب الأموال الباحثة عن الاستثمار الحلال وهي تعد بالبلايين بحسب الإحصائيات المتوفرة بالأرقام.  


 2- النقد الموجه للنموذج الأردني 
واجه النموذج الأردني   لبيع المرابحة للآمر بالشراء   جبهات متعددة من النقد والتجريح وهو أمر طبيعي في مناهج السلوك والتفكير الإنساني، ذلك أن بيع المرابحة أصبح يمثل حجر الأساس في نجاح البنوك الإسلامية كما أن حجم الاستثمارات المالية المبنية عليه تمثل الحجم الأكبر من استثمارات البنوك الإسلامية التي تستطيع أن تنافس فيها البنوك العادية في كل مجال وميدان.
ورغم كثرة الانتقادات إلا أن أحدًا لم يستطع الاعتراض على أساس التعامل وإنما انصب النقد على جوانبه باستثناء ما أورده البعض من أقوال المالكية الذي أوردوا صورًا مماثلة   لبيع العينة   رغم إن صورة المرابحة ليست منها.
فقد ورد في المقدمات   لابن رشد   إن من صور العينة أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدًا وأنا ابتاعها منك باثني عشر إلى أجل، حيث قال المؤلف أن ذلك   حرام   لا يحل ولا يجوز لأنه رجل ازداد في سلفه.
ورغم أن المنع هنا هو اجتهاد مأخوذ من باب سد الذرائع الذي توسع فيه فقهاء المذهب المالكي إلا أنه لا يعدو أن يكون رأيًا فقهيًا يقابله رأي آخر للإمام   الشافعي   يجيز فيه ذلك صراحة، فلماذا يلزم الناس ويجبر المفكر الإسلامي على اتباع الرأي الأشد في حين أن التيسير ورفع الحرج هما سمة مميزة من سمات   الدين الإسلامي الحنيف   .
وذهب آخرون إلى القول بأن جهة   الحرمة   في هذا التعامل (بحسب زعمهم) تتمثل في القول بالإلزام وأنه لو لم يكن هناك إلزام لكان التعامل صحيحًا ومقبولًا شرعًا.
وهذا أمر أكثر غرابة من سابقه، فهل يكون القول بلزوم الوعد مخالفة في حين أن الله سبحانه وتعالى يأمر بالوفاء بالوعود والعهود؟ 


ثم من قال بأن الإضرار بالبنك الإسلامي يكون مقبولًا شرعًا؟ فإذا أمر المتعامل البنك بشراء آلة لا يحتاجها غيره وجاء له البنك بالآلة حسب ما طلب ثم عن له أن يخلف الوعد، فهل يكون هذا الخلف   بالوعد     حلالًا   ، وإذا كان ذلك يجوز فمن يجبر الضرر الذي يتعرض له البنك بسبب هذا النكول الذي ليس له ما يبرره؟ 
وبالغ بعضهم في القول بأن هذه المعاملة لم يقل بها أحد من السابقين وكأن شرع الله يلقي الحجر على العقول مع أنه الدين الذي يعطى للمجتهد أجرًا إذا أخطأ وأجرين إذا أصاب.
ورغم أن   النقد   والاعتراض صفة من صفات الإنسان بوجه عام إلا أن محاولة فرض الآراء الضيقة من أجل التضييق على الناس أمر لا يجوز في دين الله الذي رفع به الحرج، وأن هؤلاء الذين يريدون أن يجعلوا من أفهامهم الضيقة موازين لمصالح الناس دون أن يرتفعوا بهذه الأفهام إلى مقاصد الشرع وغاياته ومراميه هم أناس ظالمون لأنفسهم أولًا وظالمون لأمتهم المتطلعة للصعود إلى المجد من جديد.
لقد كانت   البنوك الربوية   متفردة في الساحة لإجبار الناس على التعامل بالربا طوعًا وكرهًا وكان هؤلاء المدعون بحماية الإسلام والمسلمين نائمين على الطريق وليس من عمل إلا أنهم يحوقلون.  (1)  فلما جاء   الفكر الإسلامي   المستنير يفتح الطريق للعمل   الحلال   ويحل المشاكل ويقدم الحلول قام هؤلاء النفر ينقدون ويجرحون، فلا هم جاهدوا من قبل ولا تركوا المجاهدين يقاتلون بأي جهد.
ونظرًا لكثرة ما تعرض له   بيع المرابحة للآمر بالشراء   من هجوم فقد تصدى الأستاذ الفاضل الدكتور يوسف القرضاوي لكل ما يقال من ادعاءات حول هذا التعامل بالصورة التي تقوم بها البنوك الإسلامية وأصدر بذلك كتابًا شاملًا يتضمن الرد على الشبهات المثارة فجزاه الله خيرًا.  (2)  

(1)  الحوقلة – هي القول المعروف لا حول ولا قوة إلا بالله.  
(2)  انظر – يوسف القرضاوي – بيع المرابحة كما تجريه المصارف الإسلامية (الكويت دار القلم، 1984) الطبعة الأولى.  



 الفصل الثالث
تطبيقات بيوع المرابحة
" الميكانيكية والمجالات والصعوبات "  
 1-  ميكانيكية التطبيق ونطاقه   
يقوم تطبيق   بيع المرابحة للآمر بالشراء   في البنوك الإٍسلامية على آلية (ميكانيكية) محددة مؤداها أنه لابد من وجود الأطراف التالية: 
1- الآمر بالشراء وهو الراغب في شراء السلعة. 
2-   المصرف الإسلامي   وهو الجهة المستعدة لتلقي الطلب. 
3- البائع وهو مالك السلعة. 
وتتم العملية كما يلي: 
أ – يأتي الراغب في شراء السلعة للمصرف الإسلامي الذي يتعامل معه ويعرض عليه طلب شراء السلعة التي يرغب في شرائها مبينا أوصافها ومصدرها وثمنها الذي يكون قد سامه وعرفه. 
ب – إذا وافق المصرف وكان للمتقدم سقف محدد للتعامل، فإنه يتلقى طلب عميله ( الآمر بالشراء ) ويحدد معه شروط الدفع ويبين له الثمن الذي سوف يبيعه على أساسه وهو السعر المبني على كلفة الشراء ( الثمن الأساسي للسلعة زائدا مصاريف الشحن   والتأمين   والرسوم الجمركية ومصاريف النقل إذا كان المتفق عليه أن يكون   البيع   في خارج الميناء في حالة الاستيراد). 
ج- يقوم المصرف بدفع ثمن البيع للبائع مباشرة كذلك والمصاريف الداخله في حساب الثمن مثل مصاريف الشحن والرسوم الجمركية وغيرها ولا يجوز دفع النقود للآمر بالشراء ليشتري لنفسه تجنبا للوقوع في الشبهات مع أنه يجوز   التوكيل   في الشراء إلا أن الابتعاد عن ذلك أسلم وأتقى إلا إذا أمن المصرف تماما. 


د – عندما يقبل الآمر بالشراء السلعة المشتراة بناء على طلبه فإن هذا القبول يعتبر شراء ( سواء كان ذلك كتابة أو شفاهة أو تعاطيا مستفادا من توقيع الكمبيالات بالثمن المتفق عليه ) حيث يتسلم المشتري المبيع ويقدم الثمن الذي هو عبارة عن كمبيالات موقعة بالأقساط حسب تواريخ الاستحقاق المتفق عليها من الابتداء. 
وبذلك تصل العملية إلى نهايتها. 
أما إذا كانت تصرفات مخالفة سواء من البنوك الإسلامية أو من غيرها فإن التصرف المخالف لا يجوز قبوله. 
من ذلك مثلا ما قيل أن هناك حالات تعطي فيها بعض البنوك الإسلامية النقود للآمر بالشراء ليشتري السلعة بنفسه ثم يبيع لنفسه ويقدم للبنك كمبيالة بالثمن فيكون كأنما خذ الفا نقدا وقدم سندا بألف ومائتين إلى أجل فإن هذا لا يجوز سدا للذرائع وإن كان من   الجائز   توكيل الإنسان بأن يشتري لنفسه. 
كذلك التصرف الذي تتبعه البنوك في عكس عملية المرابحة بخصم قيمة الربح أو جزء منه بعد إتمام   البيع   وهو ما تطلق عليه هذه البنوك Mark down فإن هذا التصرف غير صحيح بالمعيار الإسلامي الدقيق لأنه عملية خصم كمبيالة. 
وكذلك الحال بالنسبة   لبيع المرابحة   الذي تجريه هذه البنوك على أساس شراء سلعة من العميل ثم بيعه نفس سلعته مع ربح مضاف فإن ذلك لا يعتبر مرابحة لأنه ليس فيه تمليك جديد وإنما هو حيلة لبيع   النقد   بالدين وزيادة وهذا هو الربا   الحرام   . 
فالمرابحة بمفهومها الشرعي الكامل هي المرابحة التي تفيد ملكا جديدا في عملية مركبة من ثلاثة أطراف هي البائع والمشترى والمتوسط بالشراء الذي يملك السلعة أولا من البائع ثم ينقل الملك إلى المشترى ويقصد بالتملك هنا حقيقته وآثاره وليس شكله ومظاهره. 
فلو اشترى البنك الإسلامي سلعة وأبقاها في مخازن البائع ثم طلب منه تسليمها إلى المشترى الآخر فإن ذلك التصرف مقبول طالما أن البنك هو البائع في نظر المشتري وإنه يتحمل تبعة الهلاك وإليه يتم رد المبيع بسبب العيب إن وجد وكان من الأسباب الموجبة لرد المبيع. 



 2- النشاطات والقطاعات التي يطبق فيها   بيع المرابحة   :  
يمكن تطبيق بيع المرابحة على مختلف الأنشطة والقطاعات سواء كان ذلك خاصا بالأفراد والشركات أم بالمؤسسات والهيئات المحلية أو الحكومية. 
ذلك أن بيع المرابحة غير محدود بالنشاط التجاري بل إنه يشمل كل نشاط سواء كان لتلبية الاحتياجات الفردية (شراء سيارة أو ثلاجة ) أو الاحتياجات المهنية (شراء جهاز أو آلة ) أم كان لتلبية الاحتياجات الحكومية (شراء نفط أو معدات للمطارات والموانيء والمرافق العامة). 
فما هي الصعوبات التي تواجه تطبيق هذا   البيع   في الواقع العملي؟ 
 3- الصعوبات والحلول المقترحة:  
تختلف الصعوبات الخاصة بتطبيق بيع المرابحة باختلاف البلاد وتعدد الحالات، ففي بلد كالأردن حيث تبنى   القانون المدني   المستمد من أحكام الفقه الإسلامي مبدأ الإلزام فإن   المصرف الإسلامي   قد يواجه مشكلة النكول عن الوعد بسبب لا يد له فيه. 
أما أهم الصعوبات التي تعترض تطبيق هذا البيع في الواقع العملي في البلاد عموما فإنها تتمثل في التمسك بشكليات الإجراء في البيوع بوجه عام مثل اشتراط التسجيل المباشر في حالات بيع العقارات والسيارات والسفن وغيرها وما يتبع ذلك من رسوم مستحقة الأداء عند   البيع     والشراء   مما يترتب عليه إيجاد تكلفة إضافية دون سبب لذلك. 
والحل الذي يراه الباحث يتمثل في إمكان السماح للمصرف الإسلامي (باعتباره لا يشتري لنفسه) بأن يشتري باسم شخص يسمى فيما بعد، وهو أسلوب معروف في التداول القانوني في البلاد الغربية ولا يتنافى مع الضوابط الفقهية طالما أن شخص المشتري ليس مؤثرا في سلامة الرضا من جانب البائع. 
فإذا اشترى البنك الإسلامي الأردني – مثلا – سيارة نقل بناء على طلب من عميله فإن دائرة السير تسمح بنقل السيارة من اسم البائع في سجلات الدائرة على أن يبقى اسم المشترى معلقا على التسمية من جانب البنك ولا بأس من جعل المدة قصيرة جدا مثل خمسة أيام أو سبعة أيام على الأكثر حيث يسمى البنك اسم المشتري الذي يتحمل دفع الرسوم مرة واحدة في هذه الحالة بدل الدفع مرتين بلا سبب موجب لذلك. 
وبذلك يستطيع هذا التعامل أن يسهم في تحريم دورة المال في المجتمع ليحقق الغاية التي يحققها الماء الجاري في الحديقة الغناء والتي كان يبقى فيها آسنا إذا أبقيناه حبيس الحوض والبناء. 
فهل هناك من آفاق يمكن أن ينتقل إليها هذا التعامل إلى مدى هو أبعد من حدود هذا التوسط البسيط ؟ 
هذا ما سوف نبينه في الفصل الرابع والأخير من هذا البحث بإذن الله. 




 الفصل الرابع 
تطوير المرابحة كأساس لسوق رأس المال الإسلامي مع 
التعرض لتجربة بنك البركة في البحرين  
 1- الانتقال من التمويل إلى التداول  
يلاحظ المتتبع لنمو البنوك الإسلامية إن هذه البنوك قد نجحت على مستوى القاعدة حيث تدفقت   الودائع   واتسعت آفاق التمويل والطلب عليه، إلا أن هذه البنوك ما تزال تبحث عن الغطاء في قمة العمل المصرفي وهو الغطاء الذي يتمثل في وجود سوق رأس المال الإسلامي، وإنه من المعروف لدى المصرفيين أن البنوك   والمؤسسات المالية   تمثل قاعدة السوق الأولية للمال وإن التكامل يتطلب وجود   السوق الثانوية   لكي تستطيع هذه البنوك أن تكون لها رئة مالية تتنفس فيها شهيقا وزفيرا حيث تعطي الفائض من سيولتها وتمتص ما تحتاجه عند الحاجة إلى هذه   السيولة   . 
وفي ظل عدم وجود السوق الثانوية ذات الإطار الإسلامي وجدت البنوك الإسلامية نفسها أسيرة النظام المالي المتحكم في تدوير أموال الشعوب فكان إن ساهمت هذه البنوك إلى حد كبير وعن غير قصد غالبا- في نقل الأموال الإسلامية إلى الأسواق العالمية تحت ظلال المرابحة في السلع الدولية. 
وليس هناك من سبيل إلى إعادة توطين هذه الأموال المهاجرة من الديار الإسلامية إلى خارج البلاد إلا عن طريق المحاولة لإيجاد سوق   لرأس المال   الإسلامي يكون مرفودا بعمليات تجارية وتعاون اقتصادي بين دول العالم الإسلامي لخدمة أهداف التنمية ووقاية هذا العالم من الوقوع في شرور التناقض الاجتماعي الذي يسببه اختلال الموازين الاقتصادية وانتشار الفقر والحقد الدفين. 
ومن هنا بدأ التطلع والعمل للانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل تطور العمل المصرفي الإسلامي من أجل دخول سوق رأس المال بأدواته المتلائمة مع طبيعة العمل الملزم بأحكام الشرع الحنيف. 
ففي مقابل   سند القرض بالفائدة   لابد أن توجد الأداة الاستثمارية الإسلامية التي تتمتع بما يتمتع به سند الفائدة من سيولة وربحية وضمان في إطار ما هو ممكن وبما لا يتعارض مع قواعد الفقه الإسلامي العظيم. 
وقد كانت بيوع المرابحة هي أساس هذا التفكير الذي يكاد يعلم فيه راس المال والربح فور إبرام   عقد البيع   اللاحق حيث تباع السلعة التي ثمنها ألف دينار بمبلغ ألف ومائة دينار مثلا بعد عام. 
ومن المعلوم أن ثمن المبيع يكون دينا في ذمة المشتري وإن الديون لا تباع إلا بمثل القيمة دون اعتبار للأجل، فكيف يمكن التصرف في مثل هذا الموقف الذي تبقى يد   الدائن   مقيدة إلى أن يحل أجل السداد؟ 
كان هذا هو الحل الذي جاءت به نعمة الرضى من الله سبحانه وتعالى على ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي على نحو ما نبينه أدناه. 



 2- إدخال مفهوم أدوات سوق رأس المال الإسلامي للاقتصاد الإسلامي 
طرح الباحث في ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي التي تم عقدها في   تونس   بين 4- 7 نوفمبر (تشرين الثاني ) 1984 موضوع الوسائل الشرعية لتداول الحصص الاستثمارية في حالات   السلم     والإيجار     والمرابحة   . 
وقد كان   بيع المرابحة   من أبرز الأمثلة المختارة لبيع الحصص الاستثمارية باعتبار أن بيع المرابحة بعد أن يتم يمكن فيه تماما معرفة الربح وموعد تحققه ونسبة ما يستحق من الزمن وما يتبقى لما هو باق من الأيام. 
وإذا كانت الديون بحد ذاتها لا تباع إلا مثلا بمثل فإن هذه الديون إذا كانت جزءا من موجودات مختلطة مع النقود والأعيان فإنها تصبح قابلة للبيع، ولذا جاز في المخارجة وهي بيع الوارث نصيبه في التركة مع أن فيها ديونا ونقودًا ومنافع لأنها مختلطة بعضها مع بعض. وكذلك جاز لمالك السهم أن يبيع سهمه في   الشركة   مع أن هذا السهم يمثل حصة في موجودات الشركة كلها بما يدخل فيها من نقود وديون وأعيان. 


ومن هنا كان مبنى الفكرة المعروضة على لجنة العلماء المشاركين في ندوة البركة الثانية  (1)  وهي الفكرة المتمثلة في إنشاء شركة تابعة لبنك البركة الإسلامي في البحرين تكون مختصة في تمويل المرابحة وتكون أسهمها قابلة   للبيع     والشراء   وفق أسعار معلنة مقدما على أساس محسوب تبعا للعمليات المنفذة   والأرباح   المستحقة في بيوع المرابحة القائمة وذلك باعتبار أن السهم في   الشركة   التابعة يمثل جزءا شائعا في موجودات الشركة بكاملها. 

(1)     ضمن ندوة البكرة الثانية مجموعة من العلماء من مختلف المذاهب وهم أصحاب الفضيلة:  1- الشيخ عبد الحميد السائح رئيسا.  2- الشيخ زكريا البري عضوًا.  3- الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير عضوًا. 4- الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة عضوًا.  5- الدكتور حسين حامد حسان عضوًا. 6- الشيخ محمد السعدي فرهود عضوًا.  7- الدكتور عبد الستار أبو غدة عضوًا.  8- الدكتور حسن عبد الله الأمين عضوًا.  9- الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عضوًا.  10 – الدكتور محمد إبراهيم عضوًا.  11- الدكتور محمد الطيب النجار عضوًا.  12- الدكتور عبد اللطيف آل محمود عضوًا. 13- الدكتور با بكر عبد الله إبراهيم عضوًا.  14- الشيخ أبو تراب الظاهري عضوًا. 15- الشيخ المختار السلامي عضوًا.  16- الحاج أحمد البزيع الياسين عضوًا مراقبًا  17- الدكتور سامي حسن حمود عضوًا  





وعندما طرحت فكرة الشركة التابعة على السلطات المختصة في البحرين وتم إيضاح الأهداف المتوخاة من أجل المساهمة في إنشاء سوق   رأس المال   الإسلامي عن طريق تهيئة الأدوات الملائمة لوجود هذا السوق لم تتردد هذه السلطات في التجاوب الحميد حيث أصدر سعادة وزير التجارة والزراعة في البحرين الأستاذ حبيب أحمد قاسم القرار رقم 17 لسنة 1986 لتسجل دولة البحرين بذلك سبقا كبيرا في مجال التنافس المحمود لوضع قواعد الأساس لنوع جديد من   الشركات المساهمة   الإسلامية التي تتمتع بخاصيتين هامتين: 
أولاهما: وجود نوعين من   الأسهم   هما أسهم الإدارة و  أسهم المشاركة   والفرق بين النوعين أن أسهم الإدارة تمثل ملكية الشركة وإدارتها أسهم المشاركة فليس للمساهم حق التصويت أو التدخل في الإدارة وإنما هو يشارك في الربح المتحقق فقط. 
ورغم أن المعروف في هذه الأسهم المسماة بالاصطلاح الأجنبي Non – Voting Shares أنها ترجع إلى الأصول الإنجليزية في التشريع إلا أن الواقع يدل على أن حقيقة التصور في المسألة تتمثل في الأساس الإسلامي الذي تفترق فيه الملكية عن التصرف والإدارة، ولعل المثل الواضح في ذلك هو علاقة رب المال بالعامل في مال   المضاربة   حيث أن رب المال وهو المالك لا يستطيع أن يتدخل في إدارة   مال المضاربة   رغم أن المال ماله حيث أن التدخل يفسد العقد من أساسه. 
وقد كان حريا بأصحاب   الفكر الإسلامي   أن يقدموا للعالم صورة   الشركة المساهمة   الإسلامية التي تستطيع أن تصدر أسهم   المضاربة   لتمويل عملياتها دون أن يحدث هناك خلل في ملكية الشركة وإدارتها وخاصة بالنسبة لبلد مثل بلدنا الأردن الذي يبحث عن الوسائل المناسبة لتشجيع   المستثمرين   على القدوم إلى البلاد مع الرغبة في المحافظة على الملكية الوطنية للشركات المساهمة التي تمثل دعامة البناء الاقتصادي الوطني. 
ففي ظل نور الفقه الإسلامي يأتي الحل الموفق بين هذا وذاك. 
أما الخاصية الثانية فإنها تتمثل في قبول فكرة   رأس المال   القابل للتغيير وهو أمر معروف في بعض   القوانين التجارية   حيث يتصاعد رأس المال أو يقل بمقدار الإصدارات المطروحة من   أسهم المشاركة   أو المباعة أو المطفأة. 
وقد أحسن القرار الوزاري البحريني صنعا حين الزم في مادته الأولى مثل هذه الشركات المعفاة بأن تعمل وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية. 
واستنادا إلى صدور القرار الوزاري المشار إليه أعلاه قام بنك البركة الإسلامي في البحرين بتأسيس شركة مساهمة بحرينية معفاة ذات رأس مال متغير لممارسة أعمال الإصدارات المختلفة في صناديق المرابحة   والإيجار     والسلم   والمشروعات ومن المقرر أن يكون الإصدار الأول لصندوق المرابحة من اجل لفت الأنظار إلى إمكان وجود الأدوات المالية الإسلامية والتي تتمتع   بالسيولة   والربحية والقابلية للتسويق المنظم على أساس   السعر المعلن والمكشوف   . 


 3- ميكانيكية العمل في صندوق المرابحة وإصداراته المختلفة  
تقوم فكرة الإصدارات المختلفة   لأسهم المشاركة   في صندوق المرابحة على أساس أن الصندوق يمثل جزءا من موجودات   الشركة   بميزانية فرعية تختلط فيها النقود مع الديون والأعيان وأن المساهم يملك حصة مشاعة في مجموع هذه الموجودات. 
وبما أن عمليات المرابحة يمكن فيها حساب الربح المتحقق شهرا فشهرًا، فإن قيمة السهم يمكن أن تزيد بما يعادل   نسبة الربح   المتحقق بالفعل، ويستطيع بنك البركة بصفته يملك   الشركة   أن يعلن استعداده لشراء   الأسهم   المعروضة وفق سعر محسوب فيه ثمن الأساس زائدا الربح المتحقق بالنسبة لما فات من شهور، وطالما أن الاستعداد للشراء موجود فإن القابلية للبيع تزداد وتستطيع الشركة أن تصدر رأس مالها بمقدار ما تطرحه في السوق من أسهم جديدة للاكتتاب تبعا للعمليات الجارية بانتظام. 
وبذلك يستطيع المستثمر أن يطمئن إلى أن في إمكانه أن يشتري في أي وقت وأن يبيع أسهمه كذلك عند الحاجة بسعر يمثل سعر الأساس زائدا ما يكون قد تحقق له من أرباح. 
وهكذا يولد السوق من خلال توفير الاستعداد الدائم المفتوح   للبيع     والشراء   وبما أن الأدوات المالية المباعة والمشتراة تمثل أسهما تزيد بالربح وليست سندات تزيد   بالفائدة   فإن الوصف الإسلامي لهذا السوق لا يجافي الحقيقة والواقع. 
وعندما توجد مثل هذه السوق ويشتد عودها فإنها تكون الأولى باجتذاب فائض   السيولة   لدى البنوك الإسلامية حيث تستطيع الشراء عندما تفيض لديها الموارد وتبيع عندما تشعر بالحاجة إلى السيولة. 


 الخلاصة والتوصيات  
نستخلص مما سبق بيانه ما يلي: 
1 – أن   بيع المرابحة للآمر بالشراء   في بنائه الفقهي يستند إلى أساس سليم وأن الصورة التطبيقية التي أقرتها لجنة الفتوى في الأردن من ناحية القول بلزوم الوعد في   بيع المرابحة   هي الصورة الأقرب لتحقيق الاستقرار في التعامل وأعمال الشروط   الجائزة   بين المسلمين. 
2 – أن بيع المرابحة للآمر بالشراء ليس مجرد وسيلة للتمويل أو الاستثمار المحدود ولكنه يمكن أن يتطور إلى إدارة   لرأس المال   القابلة للتداول والتدوير. 
3 – أن الجهات التشريعية في البلاد الإسلامية مطالبة بأخذ التطورات الحديثة التي استدعتها العمليات المستجدة للبنوك الإسلامية على محمل التيسير بهدف تسهيل انتشار التعامل الإسلامي الذي يحقق العدل والإحسان فيما بين الناس. 
4 – أن العمل الجاد لإيجاد أدوات سوق رأس المال الإسلامي يكاد يكون ضرورة لازمة في سبيل تسهيل إعادة توطين الأموال المتدفقة من بلاد العالم الإسلامي إلى خارج ديار الإسلام، وأن البنوك الإسلامية سوف تكون مضطرة أمام فقدان هذه   السوق المالية   بأدواتها المتلائمة مع المبادئ الإسلامية إلى الهجرة بفائض ما لديها من أموال إلى حيث توجد السعة والفرص المتاحة لاستيعاب هذه الأموال.
5 – أن شركات المرابحة المساهمة المعفاة  (1)  يمكن أن تكون نواة ناجحة لإيجاد الأداة المناسبة للتداول والتي يمكن أن تشكل مع غيرها من الأدوات إطارا متكاملا لسوق رأس المال الإسلامي بكل ما يتمتع به هذا السوق من خصائص الجذب والاجتذاب. 
وكما يبنى البيت الكبير من تجميع الحجر فوق الحجر في نظام هندسي بديع كذلك يبنى النظام المالي المتكامل من تجميع الأداة إلى جانب الأداة في نظام هرمي راسخ في الأرض ومرتفع إلى عنان السماء. 
وإن هذا البلد الأردني المعطاء لجدير بأن يكون مع غيره من الأشقاء في سلم القيادة على طريق الحق والخير بإذن الله. 
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الدكتور سامي حسن حمود 
مدير عام بنك البركة الإسلامي للاستثمار 
دولة البحرين 

(1)     الشركات المعفاة بالمفهوم القانوني في دولة البحرين يعني الشركات المعفاة من بعض أحكام قانون الشركات وذلك من ناحية تملك المواطنين مثل لما لا يقل عن 51 %  من رأس المال وغير ذلك من الاشتراطات وقد نجحت دولة البحرين في اجتذاب العديد من الشركات المسجلة في الدولة للعمل في خارج البلاد على طريقة الافشور أي طريقة التعامل الخارجي لمنع المنافسة مع الشركات الوطنية  

 مراجع البحث  
- ابن حزم             المحلي (بيروت: دار الآفاق الجديدة، دون تاريخ) 
- ابن قدامة           المغني ( القاهرة، مكتبة القاهرة، دون تاريخ) 
- الشافعي            كتاب الأم ( القاهرة – مطبعة الكليات الأزهرية، 1961) الطبعة الأولى 
- الزيلعي             تبين الحقائق شرح كنز الدقائق (بيروت – دار المعرفة، دون تاريخ) 
- مصطفى الزرقاء   الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ( المدخل الفقهي العام ) 
 (دمشق، مطبعة جامعة دمشق، 1959). الطبعة السادسة
- سامي حمود      تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية 
 (عمان – دار الفكر – 1981) الطبعة الثانية. 
- سامي حمود      الأعمال التحضيرية لإنشاء البنك الإسلامي 
 محفوظات خاصة مطبوعة بالآلة الكاتبة.
- يوسف القرضاوي   بيع المرابحة   كما تجريه المصارف الإسلامية 
 (الكويت: دار القلم، 1984) الطبعة الأولى. 

تعليقات