القائمة الرئيسية

الصفحات



التأمين بين الإباحة والحظر

التأمين بين الإباحة والحظر




العنوان : التأمين بين الإباحة والحظر 
الباحث : عبدالله بن سليمان المنيع 


الحمد لله رب العالمين مفهم سليمان ومعلم إبراهيم، عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم، اللهم صلِّ وسلم على سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:فإن التأمين على الأموال والمنافع وغيرها وسيلة من وسائل حفظ المال ورعايته والتعويض عنه في حال تلفه أو ضياعه. والحديث عن التأمين من هذا المنطلق والتصور يقتضي التمهيد له بما يعطي العلم عن مفهوم الإسلام للمال ونظرته إليه من حيث قيمتُه، والحفاظُ عليه وتحصيلُه. وهل هو وسيلة أو غاية؟ ومن حيث توجيُه الإسلام إلى الأخذ بأسباب إثباته والضمانات الكافية لأدائه وتنظيم الإجراءات لمنع وجوده وتكاثره في أيدي قلة من الناس وذلك بسن التشريعات الإلهية لتوزيع الثروات بين مستحقيها ولينتفع بالمال مجموعة من المحتاجين إليه من المسلمين، ولعل الحديث عن ذلك يقتضي التمهيد له بذكر المسائل الآتية:
1 - قيمة المال في نظر الإسلام:
ينظر الإسلام إلى المال نظرة تقدير واحترام وأنه من الأمور التي تعين الإنسان على تحقيق حكمة خلقه ووجوده في هذه الحياة فهو قيام الحياة الدنيا وزينتها قال تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً) وقال تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) وقال صلى الله عليه وسلم:"نعم المال الصالح للعبد الصالح". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين –ومن الثنتين- رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته..."
2 - العناية بالمال وحفظه:
يدعو الإسلام إلى العناية بالمال وحفظه وعدم تمكين السفهاء من وجوده في أيديهم. وإذا كانوا مالكين له فيجب أن يكون المال تحت يد أمينة تحفظه لهم وتقوم باستثماره وتنميته وإخراج الحقوق الواجبة فيه منه. وإذا كان المال قد تعلق بذمم فيجب بذل الأسباب لإثباته بالكتابة والشهادة وأخذ الضمانات الكافية لأدائه من رهن وكفيل ونحو ذلك، وفي حال إنفاقه فيجب أن يكون ذلك في وجوهه الشرعية من غير تقتير ولا إسراف قال تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قَواما) وقد أنحى الإسلام باللائمة على المسرفين في الإنفاق فقال تعالى: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) وقال تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين)، وفي الحديث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قبل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
وقد جاءت الرخص الشرعية في ترك صلاة الجمعة والجماعة في المسجد لمن يخشى على ماله الضياع أو السرقة وذكر صلى الله عليه وسلم أن من قاتل دون ماله فقتل فهو شهيد وأن دم من قتله دون ماله هدر.



3 – نظرة الإسلام نحو كسب المال وتحصيله:
من المعلوم أن الإسلام وهو يعترف للمال بقيمته وأهميته في سبيل أداء حكمة الوجود في هذه الحياة فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم المال الصالح للعبد الصالح. فهو يدعو إلى السعي في تحصيله. ويقول الله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) ويقول تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) ويقول تعالى: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله). والنصوص من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الترغيب في اكتساب المال أكثر من أن تحصر، إلا أنه يضع الضوابط والقيود في ابتغاء المال وتحصيله فيجب أن يكون الحصول عليه خالياً من التعدي والبغي وأخذ أموال الناس بالباطل كأن يكون تحصيله عن طريق الربا أو القمار أو الغرر أو الجهالة أو أن يكون تحصيله عن طريق المتاجرة بتأليف ونشر وتسويق كتب الضلال والزندقة والبدع والمحدثات مما له أثر في إفساد الاعتقاد أو أن يكون عن طريق المتاجرة بالأسلحة في أوقات الفتن والاضطرابات السياسية مما له أثر في تعريض النفوس للهلاك، أو أن تكون المتاجرة بما يعود على العقول بالخلل والاضطرابات النفسية كالمتاجرة بالمخدرات والمسكرات ومشتقاتها وأنواعها وأجناسها. أو أن تكون المتاجرة بما يعتبر أكلاً لأموال الناس بالباطل من ربا ورهان وغرر وجهالة وغير ذلك، أو أن تكون المتاجرة فيما يعود بالضرر والفحشاء على الأعراض والنسل كالنشاطات الاقتصادية في المتاجرة بالأعراض مباشرة بفتح دور البغاء وملاهي الليل. أو غير مباشرة كتأليف ونشر كتب الجنس ومجلاته وإيجاد قنوات فضائية لترويج العهور والفجور ونشر الصور العارية وتمثيل الجنس أو أي نشاط يأتي على الحشمة والكرامة أو العفة أو يؤثر عليها. أو أن يكون اكتساب المال عن طريق الغش أو التدليس أو الخيانة أو التعدي عليه بسرقته أو غصبه أو انتزاعه بغير حق.
فكل مال تم تحصيله من غير طريق مشروع فهو سحت وباطل ونار في بطون مكتسبيه. وهكذا فإن اكتساب المال مشروع ومرغوب في تحصيله إلا أنه يجب أن يكون اكتسابه خالياً من أي طريق تعسفي في اكتسابه.
4 – نظرة الإسلام إلى المال هل هو غاية أو وسيلة؟
الواقع أن الإسلام ينظر إلى المال باعتباره وسيلة إلى تحقيق مرضاة الله بعبادته وتعظيمه وصرف المال في سبيل ذلك حيث إن بعض العبادات مالية محضة كالزكوات والصدقات والنفقات والصِلات والوقوف. وبعضها بدنية إلا أن المال عنصر أدائي في القيام بها كالحج والعمرة والجهاد في سبيل الله، ومما يؤكد ذلك أن مالك المال بعد وفاته تفنى ذمته المتمثلة في حياته في حقه في الإلزام والالتزام ويفنى بفناء ذمته حقه في التملك حيث تتنقل ملكيته إلى الورثة وإلى من أوصى لهم مما لا يتعارض مع مشروعية الوصية لا وصية لوارث. ولا وصية فيما زاد عن الثلث. فقد انتفت بوفاة مالك المال حاجته إليه فزال ملكه وانتقل إلى غيره. فالمال في نظر الإسلام وسيلة لا غاية وهو مال الله قال تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).
5- نظرة الإسلام إلى تكدس الثروات في أيدي الملاك
إن نظرة الإسلام إلى المال باعتباره وسيلة تقتضي تفتيت الثروات وتوزيعها بين أكبر عدد مستحق لها كي لا يكون دولة بين الأغنياء من المسلمين، وقد اتخذ الإسلام مجموعة من التشريعات في سبيل توزيع الثروات. من ذلك الزكاة والصدقات والصلات والنفقات والوقوف والحض على الإهداء – تهادوا تحابوا- والعطايا والإنفاق في سبيل الله والصدقات الجارية والوصايا ثم بعد الممات توزيع الباقي من الأموال على الورثة كل حسب حصته واستحقاقه. وهذا يؤكد القول بأن الإسلام ينظر إلى المال بصفته وسيلة لا غاية وأنه ضد تكدس الأموال في أيدي قلة من الناس وضد أي تنظيم يؤدي إلى ذلك.
6  - عناية الإسلام بحفظ المال عن طريق وسائل الإثبات:
لا يخفى أن الإسلام دين العقل والنصف والحق والعدل ورعاية الحقوق وترتيب العقوبات المناسبة على الخروج على هذه الثوابت والأصول. والمال حق أساسي في التمليك. فللإسلام في سبيل حمايته وإثباته والمحافظة عليه الكثير من الوسائل المحققة لحفظه ومنها:
1-         الاعتراف بالحق والإقرار به وإثبات ذلك بالكتابة.
2-         الإشهاد على الحق ممن هم أهل للشهادة وأدائها.
3-         الرهن للحق حيث إنه توثقه دين بعين للمرتهن الحق في بيع الرهن لاستيفاء دينه من ثمنه.
4-         الضمان بأي وسيلة من وسائل الضمان كالكفيل والضامن وخطابات الضمان والاعتمادات المستندية.
5-         حفظ المال في الخزائن الحديدية أو الإيداعات البنكية أو الحسابات الجارية مما يتيح لصاحبها السحب والإيداع والاعتماد على ذلك بالإشعارات الممثلة لوثائق حفظ وائتمان.
6-         استخدام وسائل المحافظة على المال في حال التنقل مثل الشيكات بمختلف أنواعها ومن ذلك الشيكات السياحية، ومثل البطاقات الائتمانية وبطاقات الصرف والتحاويل المصرفية وكل وسيلة من وسائل الحفظ والإثبات والائتمان مما تتتابع اختراعاته ومستجداته.
7-         التأمين على الأموال والمنافع بما يتوفر معه وعن طريقه الأمن والأمان وتتحقق بواسطته السلامة من ضياع المال أو تلفه حيث يقوم التعويض مقامه في حال تلفه أو ضياعه.
ونظراً إلى أن موضوع المحاضرة إحدى وسائل حفظ المال والاطمئنان على انتفاء خسارته وهو التأمين فقد آن لنا الدخول في الموضوع مستعينين بالله على بحثه والوصول في ختام البحث إلى نتيجة تتفق مع أصول الشريعة وقواعدها العامة. والله ولي ذلك والمستعان عليه.

التأمين:
      التأمين في اللغة من مادة أمن يأمن أمنا إذا وثق وركن إليه وأمّنه تأمينا إذا جعله في الأمن فكان بذلك آمنا وفي المنجد: يقال أمّن على ماله عند فلان تأمينا أي جعله في ضمانه.
وأما في الاصطلاح فقد اختلفت تعريفاته لدى الباحثين إلا أن الاختلاف في الغالب اختلاف لفظي. ولعل أقرب تعريف إلى الجمع والمنع والشمول هو:
أنه عقد يلتزم المؤمِن بمقتضاه أن يؤدي للمؤمَن له أو من يعينه مستفيداً مبلغاً من المال أو إيراداً دورياً أو تعويضاً عن ضرر إثر حادث مغطى ضرره في العقد وذلك نظير قسط مالي يؤديه المؤمن له للمؤمن بصفة دورية أو دفعة واحدة.
والتأمين من المسائل المستجدة حيث لم يكن لفقهائنا السابقين ذكر له لعدم وجوده في عصورهم. ويذكر أن أول من ذكره من الفقهاء ابن عابدين رحمه الله وذلك حينما اتسعت التجارة بين الشرق والغرب واضطر التجار إلى التأمين على نقل بضائعهم عبر البحر فسئل عنه رحمه الله فأجاب بجواب خلاصته الكراهة. ويظهر – والله أعلم- أن الفتوى لم تكن مبنية على تأصيل وتعليل بقدر ما كانت مبنية على الانطباع العام والمفاجأة بعرضه.
وبعد تطور التجارة واتساعها وظهور مستجدات في محيط اتساع نشاطها ظهر التأمين نازلة من نوازل العصر واتجه الاضطرار إلى بحثه من حيث تصورُه وحكمُه تحليلاً أو تحريماً فعقدت لبحثه مجموعة من المؤتمرات والندوات والمجالس العلمية وكان من أهم ذلك:
1-         أسبوع شيخ الإسلام ابن تيمية المنعقد في دمشق سنة 1362ه وقد حضره مجموعة من فقهاء العصر وعلمائه وقدمت فيه البحوث وكان من أبرز المشاركين فيه الشيخ مصطفى الزرقاء –رحمه الله- القائل بإباحته مطلقاً. وقد انتهى المؤتمر باختلاف المشاركين فيه ما بين مبيح مطلقاً ،ومحرم مطلقاً. ومنهم من فصل في ذلك فأباح التأمين على الأموال ومنع التأمين على الحياة.
2-         أعيد بحث الموضوع في مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة سنة 1365ه واختلف المشاركون فيه في حكم جوازه أو منعه، وقد عرض في هذا المجمع مجموعة من البحوث ما بين مجيز ومحرم وقام الشيخ فرج السنهوري الأمين العام للمجمع بجمعها وقد كادت الآراء المختلفة فيه تتساوى من حيث القول بجوازه و تحريمه.
3-         صدرت مجموعة بحوث وفتاوى من فقيه العصر الشيخ مصطفى الزرقاء –رحمه الله- جمعها في مجموعة كتب انتهى بها إلى القول بجوازه وأول فتوى منه بذلك كانت قبل ستين عاماً فيما نعلم قدمها في أسبوع شيخ الإسلام ابن تيمية المنعقد في دمشق سنة 1362ه.
4-         صدرت فتوى من شيخ الأزهر جاد الحق سنة 1390ه بتحريم التأمين التجاري لما فيه من الربا والغرر والقمار.
5-         عرض موضوع التأمين على مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة سنة 1397 وصدر به قرار المجلس بتقسيم التأمين إلى تأمين تعاوني مباح وتأمين تجاري محرم وذكر في القرار تعليل القول بإباحة التعاوني وتعليل القول بتحريم التجاري.
6-         صدر قرار المؤتمر العالمي المنعقد في مكة المكرمة سنة 1386 بتحريم التأمين التجاري.
7-         صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي سنة 1397ه انتهج فيه المسلك الذي أخذ به مجلس هيئة كبار العلماء بإباحة التعاوني وتحريم التجاري.
8-         صدر قرار مجمع الفقه الدولي بجدة سنة 1406ه بمثل ما صدر به قرارا مجلس هيئة كبار العلماء ومجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
9-         صدرت مجموعة من الفتاوى والقرارات من مجموعة من هيئات الرقابة الشرعية والفتوى لمجموعة من المؤسسات المالية الإسلامية وصدرت مجموعة بحوث من بعض فقهاء العصر بانتهاج المسلك الذي أخذ به مجلس هيئة كبار العلماء وأخذ به المجمعان –المجمع الدولي ومجمع الرابطة- بتقسيم التأمين إلى تعاوني مباح وتجاري محرم.
10-  صدر قرار الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار سنة 1411 بجواز التأمين مطلقاُ –التأمين التعاوني والتأمين التجاري-.
11-  وأخيراً صدرت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بتفسير قرار هيئة كبار العلماء فيما يتعلق بالتأمين التعاوني وأن المقصود به إيجاد جمعية تعاونية معروفٍ أعضاؤها يقومون بجمع مال منهم يستثمر ويخرج منه ما تقتضيه الحوادث عليهم وأن التطبيق الحالي للتأمين التعاوني من قبل شركات التأمين التعاونية غير صحيح وأن هذه الشركات التعاونية تتفق مع شركات التأمين التجارية في العناصر الأساسية في التأمين فهي بذلك تتفق مع شركات التأمين التجارية في الحكم بالتحريم.
التأمين التعاوني ومستند القول بجوازه لدى القائلين به:
لاشك أن التأمين التعاوني يعتمد في إجرائه -وترتيب أحكامه على ذلك الإجراء- على ما يعتمد عليه التأمين التجاري من إجراءات حيث إن التأمين مطلقاً يعتمد على خمس ركائز هي: المؤمن، المؤمن له، محل التأمين، القسط التأميني، التعويض في حال الاقتضاء. ويذكر القائلون بالتفريق بين التأمين التجاري والتعاوني أن التأمين التعاوني يختلف عن التأمين التجاري في أن الفائض من التزامات صندوق التأمين التعاوني يعود إلى المشتركين فيه كل بحسب نسبة اشتراكه وهذا أثر من آثار وصف هذا النوع من التأمين بالتعاوني فهو تعاون بين المشتركين فيه على رأب الصدوع وجبر المصائب وما زاد عن ذلك رجع إليهم وما ظهر من عجز تعيّن عليهم سداده من أموالهم كل بقدر نسبة اشتراكه.
وأما التأمين التجاري فليس فيه هذا التوجه حيث يعتبر الفائض في صندوقه ربحاً لشركة التأمين التجارية وفي حال وجود عجز في هذا الصندوق فيعتبر خسارة على شركة التأمين التجارية الالتزام بتغطية هذا العجز من رأسمال الشركة أو من احتياطياتها حيث تعتبر هذه الخسارة ديناً على الشركة.



ومن هذا العرض يظهر أن دعوى اختلاف التأمين التعاوني عن التأمين التجاري في موضوع الفائض دعوى غير صحيحة فالفائض في القسمين ربح والعجز في صندوق كل منهما خسارة. وسيأتي إن شاء الله مزيد إيضاح في أن التأمين التعاوني يتفق مع التأمين التجاري في ابتغاء الربح. 
وبهذا يتضح أن التأمين التعاوني يتفق مع التأمين التجاري من حيث الإجراء التطبيقي في جميع المراحل التنفيذية وفي العناصر الأساسية وليس بينهما اختلاف يقتضي التفريق بينهما في الحكم إباحة وتحريماً فكلا القسمين يشتمل على خمسة شروط هي: المؤمن والمؤمن له والقسط التأميني والتعويض في حال الاقتضاء. وأن الإلزام والالتزام فيهما يتم بإبرام عقد بين الطرفين –المؤمن والمؤمن له- يكون في العقد بيان أحوال التغطية ومقاديرها والالتزام بها بغض النظر عن ربح أو خسارة.
وقيل في توجيه التفريق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري أن التأمين التجاري يشتمل على الربا والغرر الفاحش والقمار والجهالة، وأن التأمين التعاوني يخلو من ذلك حيث إنه ضرب من التعاون المشروع فهو تعاون على البر والتقوى وأن القسط التأميني يدفعه المؤمن له للمؤمن على سبيل التبرع وأن التعويض في حال الاقتضاء يدفع من صندوق المشتركين وأنهم بحكم تعاونهم ملتزمون بالتعويضات سواءٌ أَوُجِد في الصندوق ما يفي بسدادها أم حصل في الصندوق عجز عن السداد فهم ملزمون بتغطيته من أموالهم كل بنسبة اشتراكه وإذا وجد في الصندوق فائض تعيّن إرجاعه إليهم بخلاف التأمين التجاري فما في الصندوق من فائض يعتبر ربحاً لشركة التأمين التجارية فهي شركة ربحية قائمة على المتاجرة وطلب الربح لا على التعاون. كما قيل بأن التأمين التجاري مبني على الربا والقمار والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل بخلاف التأمين التعاوني فهو مبني على التبرع والتعاون المطلوب شرعاً وعلى المسامحة وانتفاء عنصر المعاوضة.
هذا التوجيه لتسويغ القول بجواز التأمين التعاوني وحرمة التأمين التجاري يحتاج لمناقشته إلى وقفات حتى يتضح لنا وجه قبول هذا التوجيه أو رده.
الوقفة الأولى: فيما يتعلق بدعوى التعاون المحمود في التأمين التعاوني وانتفائه عن التأمين التجاري.
القول بأن التعاون المحمود والمشروع في التأمين التعاوني مقصود في الدخول عند الدخول من قبل المشتركين قول غير صحيح فليس لواحد من المشتركين فيه قصد تعاون بينه وبين إخوانه المشتركين بل إنه في الغالب لا يعرفهم أو أنه يجهل أكثرهم. ولكن هذا التعاون تم بغير قصد كالحال بالنسبة للمشتركين في التأمين التجاري، ولا شك أن التأمين بصفة عامة يحصل منه تعاون غير مقصود من المشتركين فيه كما يحصل ذلك في جميع الأعمال المهنية ومن جميع العاملين فيها فرغيف الخبز مثلاً لا يصل إلى يد آكله حتى يمر بمجموعة من مراحل إعداده –زراعة وحصاداً وتنقيةً وطحناً وعجيناً وخَبزاً- دون أن يكون لعمال كل مرحلة قصد في التعاون مع الآخرين على إعداد هذا الرغيف. فهذا نوع من التعاون فهل هو تعاون مفصول أم هو تعاون تم بحكم بواعثه ونتائجه والحاجة إليه وهذا يعني أن التأمين بقسميه تم بطريق تعاوني غير مقصود كالحكم في تأمين الحاجات البشرية بين مجموعة من الأفراد على سبيل المراحل التنفيذية من غير قصد تعاون في تحصيلها.
ولا أظن أحدا يدعي التفريق بين مشترك في التأمين التعاوني ومشترك في التأمين التجاري فيقول بأن المشترك في التأمين التعاوني بقصد التعاون على البر والتقوى محتسبا الأجر في ذلك عند الله بخلاف المشترك في التأمين التجاري فليس له قصد في التعاون لا شك أن القول بذلك دعوى موغلة في الوهم وعدم الإنفكاك عما يكذبها من حيث الحس والعقل. وبهذا يظهر أن وصف التأمين التعاوني بالتعاون المقصود قول لا حقيقة له وأن الصحيح أنه تعاون غير مقصود كالتعاون التجاري فبطل القول بذلك كفرق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني.
الوقفة الثانية مع القول بأن القسط التأميني في التأمين التعاوني تم تقديمه من قبل المؤمن له على سبيل التبرع.
 هذا القول قرين لدعوى التعاون المقصود والذي تبين بطلانه. فمن خصائص التبرع أن المتبرع له حق العدول عن التبرع بكامل ما يتبرع به أو بجزئه فما على المحسنين من سبيل، كما أن له حق الامتناع عن الاستمرار بما وعد به من تبرع بالأقساط أو بالمشاركة في سد عجز الصندوق. فهل يقبل من المشترك في التأمين التعاوني هذا الحكم على اعتبار أن مشاركته كانت على سبيل التبرع؟ أم أن امتناعه عن الاستمرار في دفع الأقساط أو الامتناع عن المشاركة في تغطية عجز الصندوق يسقط حقه في التعويض وفي المطالبة بما مضى منه دفعه ويعطي القائمين على إدارة التأمين التعاوني حق فسخ العقد معه؟ 
إن الإجابة على هذا التساؤل من باحث عن الحقيقة يبطل القول بدعوى التبرع ويلزم بالقول بأن التعاقد بين المؤمن والمؤمن له تعاقد معاوضة توجب الإلزام والالتزام كالحال بالنسبة للتأمين التجاري. وأن القول بالتبرع دون أن تثبت له أحكامه ضرب من الوهم والخيال.
الوقفة الثالثة مع القول بأن توزيع الفائض في الصندوق بعد دفع المستحقات عليه يخرج التأمين التعاوني من أن يكون طريقا من طرق المتاجرة وطلب الربح.
 وجه الوقوف مع هذا القول من جانبين أحدهما أن طلب الربح والأخذ بأحوال وأنواع التجارة ليس أمرا محرما أو مكروها حتى بعد ذلك من مسوغات القول بتحريم التأمين التجاري لكونه يستهدف ذلك وبإباحة التأمين التعاوني لانتفاء الربح فيه. فالضرب في الأسواق والسعي في طلب الرزق والربح أمر مشروع.




الجانب الآخر يتلخص في أن التأمين التعاوني في واقعه شركة تأمين مكونة من المشتركين أعضاءً فيها. فكل مشترك يحمل في الشركة صفتين، صفة المؤمن باعتباره باشتراكه فيها عضوا له حق في الفائض بقدر نسبة اشتراكه وعليه الالتزام بالمشاركة في سداد عجز صندوق الشركة عن الالتزام بالتعويضات بنسبة مشاركته. وله صفة المؤمن له باعتباره باشتراكه أحد عملاء الشركة ملتزما بدفع القسط التأميني وتلتزم الشركة له بدفع تعويضه عما يلحقه من ضرر مغطى بموجب تعاقده مع الشركة. وبهذا ينتفي وجه التفريق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري فكلاهما شركة تامين تتفق إحداهما مع الأخرى في جميع خصائص التأمين من حيث عناصره ومن حيث الإلزام والالتزام والصفة القانونية لكلا القسمين. فشركة التأمين التجارية شركة قائمة على الإلزام والالتزام والحقوق والواجبات وكذلك الأمر بالنسبة لشركة التأمين التعاونية فهي شركة قائمة على الإلزام والالتزام والحقوق والواجبات ومعلوم أن لكل شركة من الشركتين إدارة مسؤولة عن الجانب التنفيذي لأعمال كل شركة سواء أكانت هذه الإدارة من أهل الشركة نفسها أم كانت إدارة أجنبية مستأجرة للإدارة. وكما أن شركة التأمين التجارية ملزمة بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين عند الاقتضاء والوجوب سواء أكانت الشركة رابحة أم خاسرة فكذلك الأمر بالنسبة لشركات التأمين التعاونية فهي ملزمة كذلك بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين عند الاقتضاء والوجوب وإذا كان صندوق الشركة فيه عجز يحول دون كامل التزاماته أو بعضها تعين الرجوع إلى المشتركين فيها لسد عجز الصندوق، حتى يكون قادرا على الوفاء بتغطية كامل التزاماته حيث أنهم أصحاب الشركة وملاكها فيجب على كل واحد منهم أن يسهم في تغطية العجز كل بقدر نسبة اشتراكه فيها. وقد جاء النص على ذلك في الأنظمة الأساسية لشركات التأمين التعاونية وصدرت قرارات وفتاوى الهيئات الشرعية الرقابية بذلك كما صدرت قرارات مجموعة من المجالس والمجامع الفقهية والندوات العلمية بإلزام المشتركين في شركات التأمين التعاونية بسد عجز صناديقها. وهذا مما تزول به الحواجز المفتعلة بين شركات التأمين التجارية وشركات التأمين التعاونية.
الوقفة الرابعة: مع القول بأن التأمين التجاري يشتمل على الربا والقمار والغرر والجهالة وأن التأمين التعاوني لا يشتمل على ذلك وإنما هو ضرب من ضروب التعاون والتسامح والتبرعات.
مناقشة هذا القول يحتاج إلى استعرض مجموعة أمور:
أحدها: على افتراض بأن التأمين التجاري ينطوي على الربا والقمار والغرر والجهالة فإن التأمين التعاوني يصب في نفس هذا الحوض مع التأمين التجاري. فأهل هذا القول يقولون بأن المؤمن له يدفع أقساطاً تأمينية هي أقل بكثير مما قد يُدفع له تعويضا في حال الاقتضاء. وليس تقابض العوضين في مجلس واحد وإنما أحد العوضين يُتسلم قبل تسلم العوض الآخر إن كان بوقت طويل، وهذا هو عين الربا بقسميه ربا الفضل وربا النسيئة. ويمكن أن يقال في مقابلة هذا القول بأن التأمين التعاوني يسلك هذا المسلك حذو القذة بالقذة ومن يفرق بينهما بدعوى التبرع أو التعاون فتفريقه مردود عليه بما سبق. والقول بأن التأمين التجاري يشتمل على القمار حيث إن القمار يعتمد على غرم محقق وغنم محتمل. حيث إن المشترك يدفع أقساط اشتراكه قطعا ولا يدفع له التعويض عن الضرر إلا في حال وقوعه. ووقوع الضرر محتمل فقد يقع فيُدفع له مبلغ يفوق ما سبق منه دفعه وقد لا يقع الضرر فتضيع مبالغه التي دفعها في شكل أقساط وهذا هو القمار- غرم محقق وغنم محتمل- ويمكن أن يناقش هذا القول بأن التعاوني يتفق مع التأمين التجاري في هذا التصور. فالمشترك في التأمين التعاوني يلتزم بدفع أقساط التأمين بكل حال وقد ينتهي عقد التأمين معه دون أن يقع عليه ما يقتضي التعويض، فاتفق مع التأمين التجاري في دعوى اشتماله على القمار- غرم محقق وغنم محتمل- والقول بأن التأمين التجاري يشتمل على الغرر الفاحش حيث إن المؤمن له لا يدري هل ينتهي عقده دون أن يقع عليه ما يوجب التعويض فتضيع عليه مبالغ أقساطه التي دفعها؟ أم يقع عليه ما يوجب التعويض فما مقداره؟ فهذا عين الغرر. ويمكن أن يناقش هذا القول بأن التأمين التعاوني يتفق مع هذا التصور ويسير بهذا مع التأمين التجاري جنبا إلى جنب. ولا يدفع هذا دعوى أن التأمين التعاوني مبني على التبرع والتعاون والتسامح. فهو قول موغل في الوهم والخيال، وبمثل ما ذكرنا في دعوى الربا والقمار والغرر نقول في دعوى الجهالة فما يقال في التأمين التجاري من أوصاف تقتضي القول بحرمته يلزم أن يقال ذلك في التأمين التعاوني فليس بينهما فروق تقتضي التقسيم والتفريق في الحكم. وأذكر كلمة لفقيه العصر وعلامته الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله وهو ينتقد القول بالتفريق بين التأمينين التجاري والتعاوني حيث يقول: وقد بينت في كتبي وبحوثي في المجمع الفقهي أن التمييز بين تأمين تجاري وتأمين تعاوني خرافة وأن هذا التمييز الوهمي هو نتيجة عدم الإدراك لحقيقة التأمين وواقعها. أه
الأمر الثاني: أن التأمين بنوعيه لو تحقق فيه القول باشتماله على الربا والقمار والغرر الفاحش والجهالة، لو تحقق فيه ذلك أو اشتمل على واحدة مما ذكر لكان ذلك كافيا في القول بحرمته ولا نعلم في القول ببطلان أي عقد يشتمل على الربا أو الغرر الفاحش أو القمار أو الجهالة خلاف بين أهل العلم في البطلان والنصوص الشرعية من كتاب الله ومن سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم متوافرة في ذلك، فهل التأمين بنوعيه يشتمل على ما ذكر من ربا وقمار وغرر وجهالة؟ إننا نستطيع أن نتبين ذلك عن طريق التعرف على محل العقد في التأمين هل محل ذلك المعاوضة بين نقد ونقد كما هو الحال في المصارفة؟ أم أن محل ذلك عنصر الرهان والمقامرة بحيث يربح أحد المتقامرين ويخسر الآخر؟ أم أن محل العقد أمر مجهول لا نعلم حقيقته ولا قدره ولا وجه حصوله؟ أم أن الغرر متحقق حصوله لدى أطرافه؟ الواقع أن محل العقد في التأمين بقسميه ليس ما ذكر وإنما هو ضمان الأمن والأمان والسلامة من ضياع المال أو تلفه. فالأقساط التأمينية ثمن للضمان. فليس لدينا نقود بنقود وليس لدينا غارم وغانم، وإنما كل طرفيه غانم. فالمؤمن غانم للأقساط التي هي ثمن ضمان السلامة. والمؤمن له غانم السلامة سواء سلمت العين المؤمن عليها حيث كسب الطمأنينة والارتياح النفسي أثناء مدة عقد التأمين عليها. وفي حال تلفها فهو كاسب التعويض عنها، فهو سالم في حال السلامة أو التلف.
وقد يثار حول تخريج التأمين على بيع الأمن وشرائه أمور يراد منها رد هذا القول.
 أحد هذه الأمور: أن الأمن شئ معنوي لا يصح أن يكون محلا ًللمعاوضة والجواب عن هذا الإيراد أن الأمن مطلب يسعى لتحقيقه الأفراد والجماعات فالأموال تبذل في سبيل الحماية والحراسة والحفظ وذلك لتحقيق الأمن والسلامة من النقص والتلف والضياع والغصب واضطراب الأمن وانتفاء الاستقرار يستوي في استهداف ذلك الأفراد والجماعات والدول. ولو نظرنا إلى ميزانيات الدول لوجدنا أن وزارات الداخلية تختص بنسب كبيرة من الميزانية ثمنا لتحقيق الأمن والأمان والاستقرار في البلاد وهذا يعني أن الأمن والسلامة والأمان والاستقرار أمور معنوية تبذل في سبيل تحقيقها وتوفيرها للبلاد وأهلها أموال كثيرة قد تتجاوز ثلث ميزانية الدولة. وغني عن البيان القول بأن هناك حقوقا معنوية صالحة لأن تكون محلا للمعاوضات بيعا وشراء وتنازلا وصلحا مثل حقوق الطبع والنشر والإنتاج والعلامات التجارية وبراءات الاختراع والتنازل عن الاختصاصات والمعاوضة عن الرغبات الثابتة بالاختصاص كل ذلك من الحقوق المعنوية القابلة لتنقل الأيدي على تملكها بالمعاوضة عنها وقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة باعتبارها حقوقا صالحة للتداول والمعاوضة عنها ويعتبر الاعتداء عليها كالاعتداء على الحقوق المحسوسة وبهذا يتضح أن القول بأن الأمن لا يصح أن يكون محل معاوضة غير صحيح حيث إنه حق معنوي متفق مع الحقوق المحسوسة في اعتباره محل معاوضة ومحلا لتداول الأيدي على تملكه وحقا تثبت له حقوق حفظه والعقوبة على الاعتداء عليه.
الأمر الثاني: أن من شروط البيع أن يكون المبيع مملوكا للبائع وقت العقد والأمن والأمان ليسا مملوكين للمؤمن وقت إبرام عقد التأمين بينه وبين المؤمن له. والجواب عن هذا الإيراد أن المؤمن وهو شركة التأمين باع من ذمته أمنا جرى وصفه وصفا تنتفي منه الجهالة، وجرى ذكره في العقد وهو قادر على تحقيقه للمؤمن له وقت الاقتضاء وذلك بدفعه التعويض الجالب للطمأنينة والسلامة والأمان. وهذا من أشباه ضمان الأسواق وضمان أمن الطرقات التي جرى ذكرها واعتبارها لدى بعض الفقهاء ومنهم فقهاء الحنفية فقد ذكروا: (لو قال شخص لآخر أسلك هذا الطريق فإنه آمن وإن أصابك شئ فيه فأنا ضامن فسلكه وأخذ اللصوص ماله ضمن القائل تعويضه عما أخذ منه) اه. فهذا نوع من التأمين وهذا القائل أسلك هذا الطريق وأنا ضامن ما يحصل عليك لا يملك الضمان وإنما ضمن له من ذمته الأمن كبيوع السلم فهي مبيعات لا يملكها بائعها وقت العقد وإنما باع من ذمته مما يغلب على الظن قدرته على حصوله عليه وقت حلول أجل التسليم. وبهذا ينتفي رد هذا القول بأن بائع الأمان لا يملكه وقت العقد.
الأمر الثالث: أن القول ببيع الضمان –الأمن والأمان- باعتباره محل العقد يعني القول بأخذ الأجرة على الضمان وهذا القول قد رفضه جمهور أهل العلم بل حكى ابن المنذر الإجماع ممن يحفظ عنه من أهل العلم على منع أخذ الأجرة على الضمان حيث جرى تخريج محل العقد في التأمين على شراء الضمان – أي ضمان حصول الأمن والسلامة للمؤمن له- وأن ذلك غير جائز. والجواب عن هذا ما يلي:
إن القول بمنع أخذ الأجرة على الضمان ليس محل إجماع بين أهل العلم وإن ذكر ذلك ابن المنذر رحمه الله فقد قال بجوازه الإمام اسحق بن راهويه أحد مجتهدي فقهائنا الأقدمين وهو سابق لابن المنذر. وقال بجوازه من فقهاء العصور المتأخرة من علماء الأزهر الشيخ علي الخفيف والشيخ عبدالرحمن عيسى والشيخ عبدالحليم محمود ومن علماء المملكة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي والشيخ عبدالله البسام. وللمحاضر بحث مستقل في جواز أخذ الأجر على الضمان جرى فيه مناقشة دعوى الإجماع وانتهى البحث إلى أن التيسير على المسلمين يقتضي القول بالجواز أسوة بمسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. والإثم في ذلك مخالفته لنص شرعي من كتاب أو سنة أو اشتماله عل ما يعتبر تسويغا لأكل أموال الناس بالباطل. لا سيما والقول بتحريم أخذ الأجرة على الضمان قول لا يعتمد على نص من كتاب الله ولا من سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولا على قول صاحب أو عمله كما أن القول بالإجماع منقوض بالقول بجوازه عند أحد أئمة علمائنا السابقين وهو الفقيه المجتهد إسحاق بن راهويه وهو متقدم على حاكي الإجماع ابن المنذر رحمهم الله. ومع ذلك فابن المنذر في حكايته الإجماع كان دقيقا في حكايته حيث قال: أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحمالة بجُعل يأخذه الحميل لا تحل ولا تجوز. أه فهل من يحفظ عنهم ابن المنذر ينعقد بما يتفقون عليه الإجماع؟
الأمر الرابع: إن الضمان في التأمين وقع على أمر مجهول قدره وغير واقع وقت حصول التعاقد بين الطرفين والعقد على أمر مجهول قدره واقع وقته مما تفسد به العقود.
والجواب عن هذا: أن جمهور أهل العلم يجيزون ضمان المجهول وضمان المعدوم؛ لأن مآله العلم إذا وقع، والإلزام بأثر الضمان لا يتم إلا بوقوع مقتضاه، ومتى وقع حصل العلم بمقداره، وقد نص على جواز ضمان المعدوم والمجهول مجموعة من أهل العلم منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين من الفقهاء. فقد جاء في الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية جمع علاء الدين البعلي ص132 ما نصه: "ويصح ضمان المجهول ومنه ضمان السوق –إلى أن قال- ويصح ضمان حارس ونحوه وتجار حرب بما يذهب من البلد أو البحر وغايته ضمان مجهول وما لم يجب وهو جائز عند أكثر العلم مالك وأبي حنيفة وأحمد"اه.
وخلاصة القول فيما ذكر ما يلي:
1- الإسلام ينظر إلى المال نظرة تقدير واعتبار وأنه وسيلة لتحصيل مرضاة الله وتحقيق حكمة خلق الله عباده وأنه ضد تكدس الأموال في أيدي قلة من الناس وله في سبيل ذلك مجموعة تشريعات وترغيبات لتفتيت الثروات وإعادة توزيعها بعد الممات.
2- الإسلام يضع القيود والضوابط في سبيل تحصيل المال بحيث تكون كافية لمنع الظلم والعدوان في اكتسابه على الأفراد والجماعات.
3- الإسلام يوجه إلى ضرورة حفظ المال وأخذ الوسائل الكفيلة لذلك ومن وسائل حفظ المال التأمين على الأموال لضمان سلامتها بالتعويض عنها في حال ضياعها أو تلفها.
4- التأمين نازلة اقتصادية من نوازل العصر اقتضاها حماية المال وحفظه.
5- التأمين موضوع جديد لا عهد لفقهائنا الأقدمين به وقد جرى بحثه والنظر في حكمه من حيث الجواز أو المنع لدى مجموعة من المجالس والمجامع الفقهية والندوات و الحلقات العلمية ولدى مجموعة من الفقهاء ومن مجموعة من الهيئات الرقابية للمؤسسات المالية الإسلامية.
6- اختلف العلماء في حكمه فمنهم من حرمه مطلقاً ومنهم من أجازه مطلقاً ومنهم من فصل في ذلك فأجاز بعضه وحرم البعض الآخر.
7- ذهب جمهور فقهاء العصر إلى تقسيم التأمين إلى تأمين تعاوني جائز وتأمين تجاري محظور وذكر القائلون بهذا التقسيم وجه القول بجواز التأمين التعاوني ووجه القول بحرمة التأمين التجاري وممن قال بهذا هيئة كبار العلماء ومجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة ومجمع الفقه الإسلامي بجدة.
8- قال بجواز التأمين مطلقاُ الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله وصدر قرار الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية بذلك.
9- استند القائلون بإجازة التأمين التعاوني على أنه تبرع وتعاون وليس من عقود المعاوضات فهو تأمين خال من الربا والقمار والغرر والجهالة وجرى نقاش ذلك بما أزال جسور التفريق بينه وبين التأمين التجاري.
10- جاء في المحاضرة تعيين محل العقد وأنه ضمان الأمن والسلامة للمؤمن له وليس معاوضة نقود بنقود حيث انتفى بهذا التوجيه القول بان التأمين يشتمل على الربا والقمار والغرر والجهالة.
11- الجواب على الإيرادات على القول بضمان الأمن من حيث إن الأمن أمر معنوي ليس محل معاوضة وفي نفس الأمر لا يملكه المؤمن كما لا يجوز أخذ الأجرة على الضمان. وضمان المجهول وما لم يقع محل خلاف ربين أهل العلم.
وبعد فرأيي في أن موضوع التأمين موضوع ذو أهمية بالغة من حيث حصول البلوى به في غالب مجالات حياتنا، وأنه نازلة عصرية يجب تكثيف الجهود لبحثه من قطاعات علمية ومهنية مختلفة ومن جهات ذات اختصاص وممن هم أهل لبحثه من حيث المقدرة الفقهية والتمكن الاقتصادي وبعد النظر من حيث التدبر والاعتبار والتصور والقدرة على تطبيق الأحداث والنوازل على أحكامها الشرعية، وأن يكون ذلك في محيط قواعد الإسلام العامة وثوابته الجلية وفي محيط التطبيقات الميدانية مع الأخذ في الاعتبار والنظر أن الأصل في المعاملات الإباحة استئناساً بقوله صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بشؤون دنياكم.  وأن ما تتحقق به مصالح المسلمين وحفظ أموالهم أمر مشروع مع التقيد بآداب النقاش والبحث عن الحقيقة بحيث يلتزم الباحث بالتجرد عن التعصب لقول معين حتى تظهر وجاهته واعتبار صحته انطلاقاً من مبدأ: الحكمة ضالة المؤمن.  ومن ومبدأ: الرجال يعرفون بالحق لا أن الحق يعرف بالرجال. واحتفظ برأيي في إعطاء الحكم على التأمين من حيث الإباحة أو التحريم حتى وقته المناسب.
والله المستعان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
         إعداد
عبدالله بن سليمان المنيع
عضو هيئة كبار العلماء  

تعليقات