القائمة الرئيسية

الصفحات



التكييف الفقهي للحسابات الجارية الودائع المصرفية

التكييف الفقهي للحسابات الجارية الودائع المصرفية 




العنوان : التكييف الفقهي للحسابات الجارية (الودائع المصرفية)، وما يترتب على ذلك. 
الباحث : د.علي بن أحمد الندوي 




بسم الله الرحمن الرحيم
 [1]
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن هذا الموضوع على الرغم من كثرة البحث فيه لا يزال مثار التفكير بين المعاصرين، والهدف من إعادة البحث توخي الراجح في ضوء استعراض الآراء والاتجاهات الواردة في تكييف القضية المطروحة.و يحسن قبل الدخول في صميم الموضوع إعطاء نبذة يسيرة عن كل من عقد القرض وعقد الوديعة ، مع تحرير ما بينهما من وجه المشابهة، و نقطة الخلاف ، وذلك لارتباطهما الوثيق بالمسألة محل البحث، ولكي لا يغيب عن الذهن أحكام أساسية مقررة لكلا العقدين، فبيان ما يتصل بكل منهما على النحو الآتي:
عقد القرض وخصائصه:
-"أجمع المسلمون على جواز القرض".(المغني 6/429) 
-وهو "عبارة عن دفع مال إلى الغير، لينتفع به ويرد بدله".(الإنصاف -مع الشرح الكبير-12/323)
-"ويصح بلفظ السلف والقرض، لورود الشرع بهما، وبكل لفظ يؤدي معناهما، مثل أن يقول: ملكتك هذا ، على أن تردّ عليّ بدله".(المغني 6/430)
-"وللمقرض المطالبة ببدله في الحال، لأنه سبب يوجب رد المثل في المثليات، فأوجبه حالا، كالإتلاف".(المصدر نفسه 6/431) 
-"والقرض لا يحتمل الزيادة والنقص في عوضه، وبدل المتلف الواجب فيه المثل من غير زيادة ولا نقص".(المصدر نفسه 6/432).
-"وهو نوع من المعاملات على غير قياسها لمصلحة لاحظها الشرع، رفقا بالمحاويج". (كشاف القناع 3/312)
ويمكن تلخيص خصائص القرض فيما يأتي:
-القرض عقد ضمان، حيث يلتزم بضمان مثله في جميع الأحوال.
-للمقترض أن ينتفع بالقرض كما يشاء، وله ربحه وثمرته.
-القروض تقضى بأمثالها، فلا أثر لما يطرأ عليها من ارتفاع أو انخفاض إلى حين سدادها.




-عقد الوديعة وخصائصها:
"أجمع علماء كل عصر على جواز الإيداع والاستيداع...،فإن بالناس إليها حاجة، فإنه يتعذر على جميعهم حفظ أموالهم بأنفسهم، ويحتاجون إلى من يحفظهم لهم".(المغني 9/256)
-"وهي عقد جائز من الطرفين، متى أراد المودع أخذ وديعته لزم المستودع ردها، لقوله تعالى:(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها).فإن أراد المستودع ردها على صاحبها، لزمه قبولها، لأن المستودع متبرع بإمساكها، فلا يلزمه التبرع في المستقبل".(المصدر نفسه 9/256-257)
-"الإيداع من جانب المالك استحفاظ، ومن جانب المودع التزام بالحفظ". (بدائع الصنائع 6/207)
-"الوديعة أمانة، فإذا تلفت بغير تفريط من المودع، فليس عليه ضمان". (المغني 9/257، وانظر: الكافي لابن عبد البر ص 403)
ويمكن تلخيص خصائصها فيما يأتي:
-الوديعة عقد أمانة، فلا ضمان فيها إلا عند تحقق التعدي أو التفريط من قبل الوديع.
-يلتزم الوديع بحفظ الوديعة وردها إلى مودعها.
-يحق للوديع طلب وديعته متى شاء.
وبهذا يتبين أن الوديعة في الشرع هي المال الذي يودع عند شخص على أن يرده بعينه، وأما القرض فهو المال الذي ينتفع به الآخذ ويرد بدله.
وبالتأمل يتبين الفرق بين العقدين المذكورين من وجهين:
1- تظل الوديعة ملكا للمودع طوال فترة الإيداع، أما القرض فتنتقل به ملكية المال محل القرض من المقرض إلى المقترض، لأنه من عقود الملكية.
2-المنتفع في الوديعة هو المودع، إذ الوديع متبرع بالحفظ.أما في القرض فالأصل أن ينتفع المقترض، على أن للمقرض أجرا وثوابا عند الله حسب نيته وسلامة قصده، وقد ينتفع انتفاعا ماديا في حال قصده ضمان المال بإقراض المليء، كما هو الشأن في الودائع المصرفية.
- مفهوم الوديعة المصرفية وأقوال المعاصرين في تكييفها:
الوديعة المصرفية - التي يطلق عليها الحساب الجاري-:"هي النقود التي يعهد بها الأفراد أو الهيئات إلى البنك على أن يتعهد الأخير بردها أو برد مبلغ مساو لها لدى الطلب أو بالشروط المتفق عليها". (عمليات البنوك، لعلي جمال الدين عوض ص 17، و المصارف والأعمال المصرفية في الشريعة الإسلامية والقانون، للدكتور غريب الجمال ص36)
هذا، و أما آراء الباحثين في تكييفها فهي تخلص إلى أربعة أقوال على النحو الآتي:
القول الأول: أن الودائع النقدية المصرفية في الفقه الإسلامي ينسحب عليها حكم القرض لاتفاقها معه من حيث النتيجة في تملك عينها، وتعلقها بذمة آخذها، ورده مثلها في حالة مطالبة صاحبها بها.(انظر:مجلة البحوث الإسلامية، العدد 8، عام1403-1404ه"المعاملات المصرفية"، إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، ص41، أحكام السوق في الإسلام وأثرها في الاقتصاد الإسلامي، لأحمد بن يوسف الدريوش، ص 504)
وهذا هو اتجاه جمهور العلماء والباحثين المعاصرين.(انظر: الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية، للدكتور عمر المترك ص346، والجامع في أصول الربا للدكتور رفيق المصري ص 429، المصارف والأعمال المصرفية للدكتور غريب الجمال ص63-64، مشار إليه في"بحوث في المصارف الإسلامية للدكتور رفيق المصري، ص 204)
وقد صدر بذلك قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي و نصه كالآتي:
"الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) سواء أكانت لدى البنوك الإسلامية أو البنوك الربوية هي قروض بالمنظور الفقهي، حيث إن المصرف المتسلم لهذه الودائع يده يد ضمان لها وهو ملزم شرعا بالرد عند الطلب.ولا يؤثر على حكم القرض كون البنك (المقترض) مليئا".قرار رقم: 86(3/9)




القول الثاني: أن الوديعة المصرفية:هي وديعة بالمعنى الشرعي:
وهذا رأي الدكتور حسن الأمين، وهو أبرز من تصدى لهذا التكييف.وتبعه في ذلك الدكتور عبد الرزاق الهيتي.(انظر:الودائع المصرفية النقدية واستثمارها في الإسلام للأمين ص 233، والمصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق للهيتي ص 261 )
القول الثالث: أنها وديعة في الذمة. وهذا ما اتجه إليه الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع.كما أفاد ذلك في التحفظ المذكور في القرار (497) الصادر من الهيئة الشرعية لشركة الراجحي، ونصه:"...لا أرى أن الحسابات الجارية قروض وإنما هي ودائع في الذمة، فإذا قدمت الشركة هدايا لعملائها من غير شرط فلا يظهر لي مانع من ذلك، والله أعلم".
القول الرابع: أنها وديعة مضمونة. هذا ما توجه إليه الدكتور نزيه حماد في بحث وجيز له حول هذا الموضوع.
 و فيما يظهر أنه  لا فرق بين هذا الرأي وبين الرأي السابق، وإنما الاختلاف في التعبير.
أدلة القول الأول:
قال الأستاذ محمد سلام مدكور في توجيه هذا القول:"إن المبالغ المودعة في الحسابات الجارية لا تأخذ صفة الوديعة بالمعنى الشرعي، لأن المصرف يخلطها بغيرها ويتصرف فيها، وإنما تأخذ في عرف الشرع حكم القرض، ويجري عليها ما يجري على القرض من الضمان ورد المثل".(المدخل للفقه الإسلامي ص736،و موقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة للدكتور عبد الله العبادي، ص 198،و البنوك الإسلامية: المنهج والتطبيق 114-115)
ومن مستندات هذا القول أن "العبرة في العقود للمعاني، لا للألفاظ". وفي تعبير آخر:"الألفاظ مفتقرة إلى معرفة معانيها، وليست على ظواهرها".(شرح ابن بطال لصحيح البخاري 9/416)
وقال الإمام ابن القيم:"والتحقيق: أنه لا فرق بين لفظ ولفظ، فالاعتبار في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرد ألفاظها".(زاد المعاد 5/813)
والمراد من هذه القاعدة:"أن اللفظ إن كان موضوعا لمعنى شرعي، فعبر به عن معنى شرعي آخر بطريق التجوز نظرا إلى جملة ما يدل عليه كلام العاقد ومقصده منه، فيصير هو المعتبر.
وذلك كما إذا قال شخص لآخر: وهبت لك هذه البقرة بجملك: كان هذا عقد بيع، ولا يمنع من ذلك التعبير بلفظ:(وهبت)". (الالتزامات لأحمد إبراهيم بك ص 93-94)
ويكاد يكون جليا من استقراء الآراء أن جمهور الفقهاء يأخذون هذه القاعدة في الاعتبار في مجال تقرير الأحكام. ومن المناسب أن أقطف هنا طرفا من المسائل المتخرجة على هذه القاعدة:
- جاء في"المدونة" (في عارية الدنانير والدراهم والطعام والإدام):" قلت: أرأيت إن استعار رجل طعاما أو إداما أيكون هذا عارية أو قرضا؟ قال: كل شيء لا ينتفع به الناس إلا للأكل أو الشرب فلا أراه إلا قرضا".(المدونة6/169)
وهذا ما يتحقق في حال إعارة الدراهم، إذ لا معنى لإعارة الدراهم والدنانير إذا أخذت للتصرف فيها، وإنما تكون قرضاً، لأنها لا تراد إلا لاستهلاك أعيانها. (انظر: عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 2/731، كتاب العارية)
وقال الإمام السرخسي:"وعارية الدراهم والدنانير قرض، للأصل الذي قلنا: إن القرض بمنزلة العارية، والعارية في كل ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك لعينه يكون قرضا".(المبسوط 14/34)
وقال الإمام ابن قدامة:"فإن استعارها-أي الدراهم والدنانير لينفقها فهذا قرض".(المغني 7/346)
وبناء على هذه القاعدة: إذا شرط في المضاربة أن يكون كل الربح للمضارب: كانت في معنى القرض، فإذا تلف المال في يد المضارب يكون مضمونا عليه.قال الإمام الزيلعي:
"العبرة للمعاني دون الألفاظ، حتى كانت المضاربة بشرط أن يكون الربح كله للمضارب قرضا... ". (تبيين الحقائق للزيلعي 5/151، وانظر: شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا ص 62)
فليس معنى هذه الصيغة: وجود مضاربة مضمونة بالنظر إلى اشتراط ضمان الربح.
وهذا ما يتوجه القول به فيما لو قال: "أودعتك هذا المال بشرط ضمانه" ، أو"أذنتك في استثمار هذه الوديعة والربح لك بشرط ضمان رأس المال".أو نحوهما من العبارات و الصياغات سواء صرح بها وقت الإيداع، أو جرى بذلك العرف، كما هو الشأن في الودائع المصرفية، فالعبرة بالمعنى الذي بنيت عليه الصيغة، وهو هنا القرض.
وعلى هذا تكتسب الوديعة النقدية مع الإذن بالاستعمال حكم القرض. أما لو أعطي لها حكم الوديعة حسب المصطلح الشرعي المقرر لما جاز للبنوك استثمار الوديعة ولا الانتفاع بها بوجه من الوجوه، لأن الوديعة يجب حفظ عينها ولا يصح التصرف فيها. 
ويعضد هذا الاتجاه ما جاء في صحيح البخاري:في قضية قضاء دين الزبير على لسان ابنه عبد الله-رضي الله عنهما-:"وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا ولكنه سلف فإني أخشى عليه الضيعة." (الجامع الصحيح مع فتح الباري 6/227-228، باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا)
ففي ذلك ما يدل على استقرار مفهوم القرض أوالسلف عند الزبير بن العوام رضي الله عنه، وهو كان يتعامل بهذا الأسلوب على ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعارضه في ذلك أحد منهم.ويكاد يكون واضحا من خلال هذه الرواية أن القرض لا يقتصر نطاقه على الفقراء المحوجين، بل قد يتعامل به لمقاصد أخرى لدى الموسرين أيضا، فالحكمة الغالبة هي الإرفاق، ولكن لا يعني ذلك تخلف الحكم فيما لو وجدت حكمة أخرى غير الإرفاق وهي  تتمثل في حفظ المال للدافع والانتفاع به للآخذ مع ضمانه، فقد يشتمل حكم على أكثر من حكمة بل و على أكثر من علة.و"الأصل ترتب الأحكام على أسبابها".(الذخيرة 6/18)




وهذا ما أشار إليه العلامة ابن شاس بقوله:"ربط الأحكام بالأسباب الظاهرة في مظان التباس المعاني المقصودة هو دأب الشرع.كما علق البلوغ بالاحتلام، والإسلام بكلمتي الشهادة".(عقد الجواهر الثمينة 2/571) 
ومن أهم ما يترتب على تكييف الحساب الجاري بالقرض:
- أنه لا تجوز أية زيادة للمقرض، سواء كانت مشروطة أو متعارفا عليها، ولا فرق أن يأخذها المقرض باسم الهدية أو العطية.
-دليل القول الثاني:ينطبق على الحسابات الجارية حكم الوديعة في الشريعة الإسلامية، لأن البنك ضامن لها، ملتزم بردها كاملة إلى أصحابها.(المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق  للدكتور عبد الرزاق الهيتي ص260)
ومن جملة ما قال الدكتور حسن عبد الله أمين في معرض التدليل على هذا الرأي:"إذا كانت الوديعة النقدية تحت الطلب هي مبلغ يوضع لدى البنك، ويسحب منه في الوقت الذي يختاره المودع فإن ذلك كل ما يطلب في الوديعة الحقيقية، ولا توجد أي شائبة في ذلك ، وإذا كان البنك قد اعتاد أن يتصرف فيها بحسب مجرى العادة، فإن هذا التصرف المنفرد من جانب البنك لا يمكن أن يحسب على المودع وينسحب على إرادته فيقسرها على الاتجاه من الإيداع إلى القرض، فإرادة المودع لم تتجه أبدا في هذا النوع من الإيداع نحو القرض، كما أن البنك لم يتسلم هذه الوديعة على أنها قرض... ."(الودائع المصرفية النقدية واستثمارها في الإسلام ص233، 234)
وقد استند في تخريجه إلى ما فهم من نصوص المالكية وهو أن التصرف في الوديعة المثلية مكروه لا يرقى إلى مرتبة الحرمة إن كان الوديع مليئا-لا سيما في النقود- بل ذهب بعضهم إلى عدم الكراهية في النقود إذا كان عنده وفاء لها، ويوجبون عليه رد المثل مع بقاء عقد الإيداع، لأن مثل الشيء كعينه، وعليه فإن التصرف في الوديعة المصرفية لا يخرجها عن كونها وديعة حقيقية.(انظر: الودائع المصرفية النقدية للأمين ص227-228)
-دليل القول الثالث: -وهو رأي الشيخ عبد الله المنيع-لم  يذكر الدليل في النص الذي ورد فيه هذا الرأي.
-دليل القول الرابع:-وهو رأي الدكتور نزيه حماد-ذكر في تعليل هذا القول ما خلاصته كالآتي:
1- المقصود الأعظم من عقد القرض الحسن-بحسب طبيعته-إسداء المعروف والإحسان من المقرض إلى المقترض، لوجه الله تعالى أو لوجه المقترض (بحسب نية المقترض) وأن الهدف والغرض الأصلي من الإقراض :إرفاق المقترض ونفعه، كالعارية...فكما أن المنتفع وصاحب المصلحة في العارية هو المستعير لا المعير، فكذلك المنتفع وصاحب المصلحة في القرض، إنما المقترض لا المقرض.
...أما عقد الوديعة، فهو على عكس ذلك، المنتفع وصاحب المصلحة فيه هو المودع.
2-إن الحساب الجاري يشبه عقد الإقراض، من حيث انشغال ذمة المصرف بالمبالغ المودعة فيه للعميل، والتزامه برد مثلها عند الطلب...غير أنه يخالفه في أنه لا يقبل فيه ولا تسمع فيه دعوى الإنظار للإعسار من قبل البنك إذا طلب المودع وديعته...
وبناء على ذلك، فإن المبالغ التي يودعها العميل في الحساب الجاري هي بمثابة ما في جيبه...وهو من هذه الجهة أيضا أقرب شبها بالوديعة المضمونة، حيث لا يجوز ولا يحق للوديع شرعا تأخير ردها لصاحبها عند الطلب، ولا يسمع ولا يقبل منه طلب الإنظار لإعسار أو لغير ذلك. (ورقة الدكتور نزيه حماد حول التكييف الفقهي للحساب الجاري في البنوك، وما قيل في اعتباره"وديعة مضمونة" لا قرضا)
الإشكالات الأساسية الواردة على تكييف الحساب الجاري بالقرض ودفعها:
الإشكال الأول: أن الأصل في مشروعية القرض هو الإرفاق، حيث قد عرفه بعض الفقهاء بأنه"دفع مال إرفاقا لمن ينتفع به ويرد بدله". (كشاف القناع 3/312)، وليس المقصود من الإيداع في المصارف الرفق بالمصارف والإحسان إليها، وإنما الهدف منه حفظ الأموال.
ويدفع هذا الإشكال بأن القرض جائز في الشرع للفقراء والأغنياء، وليس هناك دليل يمنع ذلك، فهذا الإشكال محل نظر من أصله، لأنه جاء معارضا لحكم شرعي ثابت، وإذا كانت الحكمة الغالبة هي الإرفاق، فليس معناها انعدام حكم أخرى، إذ لا يخلو أن ينطوي حكم على أكثر من علة فضلا عن تضمنها عدة حكم، وإذا سلمنا جدلا بأن الإرفاق علة وليس مجرد حكمة، فلا أثر لذلك، لأنه من المعلوم أن الحكم قد يزول بزوال علته فيما إذا كانت العلة واحدة فقط لا متعددة.قال الإمام القاضي عبد الوهاب:"الحكم إذا وجب لعلة زال بزوالها، ما لم يلحقها غيرها". (الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2/579-580). 
ففي هذه القضية محل البحث سلفت الإشارة إلى أن الزبير رضي الله عنه لم يكن بحاجة إلى أموال الناس، وإنما كان أخذها على وجه السلف والقرض لكي يضمن الأموال ويستثمرها في نفس الوقت.ومن المعلوم أنه عند وجود سبب الحكم يترتب عليه أثره، ولا ينظر فيه إلى الحكمة المشار إليها في أصل المشروعية، وإلا بناء على هذا المبدأ سقطت الرخص الشرعية المترتبة على السفر في حق المرفهين وما أكثرهم في هذا العصر لانعدام المشقة التي تعد حكمة أساسية روعيت في تشريع الحكم بالنسبة للسفر. 
ومن المعلوم أنه قد جرى الخلاف بين الأصوليين في التعليل بالحكمة،وإذا سلمنا جواز التعليل بها، ففيما إذا بني الحكم على علة جامعة لم ينظر في تحقق الحكمة في جميع الحالات، إذ لا عبرة بتخلفها في حق آحاد من الناس. 
ثم إن إعانة الفقراء يختلف حكمها حسب اختلاف أحوالهم، وفي الغالب تكون مستحبة، وعلى هذا يكون الإقراض لهم مستحبا، أما القرض بالنسبة للأغنياء ومن في حكمهم من المؤسسات المالية، فهو على سبيل الإباحة بالنظر إلى أصل الجواز.وهذا ما أشار إليه الشيخ أبو بكر الدمياطي في النص الآتي:
"ولم يذكروا الإباحة-أي في حكم القرض-ويمكن تصويرها بما إذا دفع إلى غني بسؤال من الدافع مع عدم احتياج الغني إليه فيكون مباحا لا مستحبا، لأنه لم يشتمل على تنفيس كربة، وقد يكون في ذلك غرض للدافع كحفظ ماله بإحرازه في ذمة المقترض". (إعانة الطالبين 3/49، مشار إليه أيضا في بحث"الحسابات الجارية"، إعداد: محمد سليمان العريني، ص11)
وهذا ما ينصب على الودائع المصرفية-الحسابات الجارية-كما هو واضح في ضوء واقع التعامل.
الإشكال الثاني:- أن الحساب الجاري يختلف عن القرض في أنه لا تسمع فيه دعوى الإنظار بسبب الإعسار ، ولذا لا يستقيم تخريجه على القرض، ومن هذا المنطلق  يكون الحساب الجاري أقرب شبها بالوديعة المضمونة، حيث لا يسمع ولا يقبل طلب الإنظار لإعسار أو لغير ذلك من الوديع ! (ورقة الدكتور نزيه حماد)
ويدفع ذلك: بأن الأصل كون البنك مليئا، فلا يسمع مجرد دعوى الإعسار، كما هو الشأن بالنسبة لشخص مقترض لقضاء حوائجه، فالأصل فيه العدم والفقر، فشتان بين الحالين.وأضف إلى ذلك أنه فيما لو أفلس بنك من البنوك، وثبت ذلك قضائيا، فالدعوى مسموعة، ويضاف إلى ذلك أن حدوث الإفلاس بالنسبة للمصرف نادر، و"النادر لا حكم له"، و"لا عبرة بالتوهم".
 هذا، أما ما ذكره من الإعسار في الوديعة، فهذا غريب، إذ كيف يتصور وقوع الإعسار في الوديعة ؟ إذ الأصل حفظ عينها بدون تصرف، أما لو تصرف فيها فلم تبق وديعة في نظر الشرع ، وإنما انقلبت ضمانا.
الإشكال الثالث:- ومن جملة الإشكالات التي تضمنها كلام الدكتور نزيه حماد، أن صاحب الحساب الجاري ليس له أن يسترد من البنك إلا مقدار ما أودع فيه عددا، ولا تأثير للهبوط الحاصل للنقود مهما كان فاحشا، وهذا يقتضي تخريجه على الوديعة المضمونة، أما في القروض، فإن الحكم مختلف، إذ يجب في النظر الفقهي عند طروء هبوط قيمة النقود هبوطا فاحشا رفع الضرر عن المقرض المحسن المتضرر بصلح إجباري ينطوي على تعويض عادل له، نتيجة وقوع هذه الجائحة... !
يدفع ذلك: بأن هذا الإشكال أساسا غير مقبول حسب وجهة جمهور الفقهاء، لأن الحسابات الجارية هي قروض في رأيهم، وهي تقضى بأمثالها، ولا ينظر فيها إلى ارتفاع أو هبوط، قال الإمام ابن قدامة: "المستقرض يرد المثل في المثليات، سواء رخص سعره أو غلا، أو كان بحاله".(المغني 6/441)
وما ذكره الأستاذ الدكتور نزيه فهو رأي الرهوني من فقهاء المالكية وقد أخذ به بعض المعاصرين.
ثم ما حيلة المقرض فيما لو ظلت أموال المقرض محفوظة لديه وجاءتها جائحة مالية من انهيار العملة ؟ وكذا ما ذنب المقترض المدفوع إليه القرض على وجه الإرفاق والإحسان-وهو المقصود الأعظم من مشروعية القرض كما ذكر فضيلة الدكتور-، ألا يعد مظلوما في حال ملاحقته بدفع المال إلى المقرض أضعاف ما أخذ، وألا يعود الإحسان إليه ابتداء جورا في حقه انتهاء ؟!
الإشكال الرابع:ومن جملة اعتراضات فضيلة الأستاذ الدكتور نزيه أيضا أنه في حال تخريج الوديعة المصرفية على القرض، تكون نفقات ومصاريف وأجور الإيداع والسحب وما يتعلق بها من قيود حسابية وإجراءات على المصرف دون العميل صاحب الحساب، نظرا لأن عبء ومؤنة تسلم المال المقرض ورد بدله في عقد القرض إنما تقع على المقرض شرعا، و لكن بما أن العميل المودع في الحساب الجاري هو الذي يتحمل تكاليف وأجور الإيداع والسحب المباشر وبواسطة الشيكات، وعبر أجهزة السحب الالكتروني وما يتعلق بذلك من قيود حسابية وتوثيقات وإجراءات، فهذا جار وفق الوديعة الشرعية، حيث يتحمل المودع شرعا عبء ومؤنة الإيداع والاسترداد دون الوديع... !




يدفع ذلك: بأن العملية قد تجري عكس ما ذكر فضيلة الدكتور، حيث لا يتحمل العميل  أي عبء في عديد من الإجراءات المشار إليها، بل يكون العبء على المصرف نفسه، على أساس أنه المقترض فيوفر للعميل أدوات و وسائل لاستيفاء ماله بشتى الأساليب الميسرة.وإذا سلمنا بأن العميل هو الذي يتحمل جميع الرسوم والأعباء وفق العرف المصرفي المطرد ، فهذا لا يتعارض مع تكييف الوديعة المصرفية على القرض، بل فيه ما يدل على براءة عملية القرض واستبعاد التهمة حيث لا ينتفع العميل بالخدمات المتاحة من قبل البنك المقترض  إلا بدفع مقابل لها.
وفي الواقع بعد أن عرفنا أن الوديعة من قبيل عقود الأمانات، لم يتصور وجود وديعة مضمونة في الشرع بالنظر إلى استصحاب الأصل المقرر وهو كما سبق أن الوديع أمين غير ضامن باستثناء حالات التعدي.
-احتجاج الدكتور الأمين برأي المالكية والرد عليه:
هذا، وأما ما ذكره الدكتور الأمين من كلام المالكية في تخريج الوديعة المصرفية على الوديعة الشرعية كما سبق ذكره عند بيان قوله، فالواقع أنه لا يمكن أن يوافق عليه، لأن رأي المالكية إنما يتجه إلى تصحيح عقد الوديعة أي إبقاء صفة الأمانة لها في حال تصرف الوديع في الوديعة المثلية بدون إذن من المودع ثم إعادة ذلك المال المودع إلى حرزه، حيث يترتب على ذلك أنه لو تلف هذا المال بعد إعادته إلى مكانه بدون تعد منه، فلم يضمنه، ولم يؤثر في ذلك تصرفه السابق.وهذا ما يؤخذ به في القضاء عندهم، ولذلك تجد الإمام مالكا ينص على هذه المسألة في كتاب الأقضية كما سيأتي.هذه هي خلاصة كلام المالكية، ويكاد يكون واضحا من نصوصهم أن التعدي يشمل سائر وجوه الانتفاع بالوديعة، ومن أبرزها الاقتراض منها أو الاتجار والاستثمار فيها، وإليك استعراض كلا الجانبين في ضوء ما وقفنا عليه من كلام الفقهاء، لكي يتجلى هذا الموضوع بجلاء:
1-الاقتراض من الوديعة-بدون إذن من المودع-:
إن استقراض الوديعة يمثل الانتفاع بالوديعة، وهو موجب للضمان عند جمهور الفقهاء.(انظر: الموسوعة الفقهية 5/310، انتفاع)
وقد تعرض فقهاء المذهب المالكي لهذه الصورة.ويختلف الحكم فيها على النحو الآتي:
أ-إذا كانت الوديعة من الأموال القيمية، حرم تسلّفها بغير إذن ربها مطلقا، سواء كان الوديع غنيا أو معسرا فقيرا.
ب- إذا كانت الوديعة من صنف النقود والمثليات، حرم تسلفها للمعدم المعسر، وكره للغني. وهذا هو المعتمد في المذهب.
و روى أشهب عن الإمام مالك:إن كان له مال فيه وفاء، فأشهد على ذلك، فأرجو أن لا بأس به، إن كانت دنانير أو دراهم، وهو ملي.(انظر: حاشية الصاوي مع الشرح الصغير 3/554-555، وعقد الجواهر الثمينة 2/724، والذخيرة للقرافي 9/172)
وذلك ما يتعلق بالحكم التكليفي في حال الانتفاع بالوديعة والوديع غير مأذون.أما ما يترتب على ذلك من الضمان أو عدمه، ففيه تفصيل عند أئمة المذهب المالكي على النحو الآتي:
"قال يحيى بن عمر: اختلف قول مالك في الذي ينفق من وديعة عنده شيئا، ثم يرده، فقال: لا شيء عليه، وأخذ بها ابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب وأصبغ.
وقال أيضا: إن ردها بإشهاد، برىء، وإلا لم يبرأ.
وقال أيضا:لا يبرأ وإن أشهد، لأنه دين ثبت في ذمته.وهذا قول أهل المدينة من أصحابه". (عقد الجواهر الثمينة2/723-724، وانظر: البيان والتحصيل 15/292-293)
وجاء في نص من "المدونة":"قلت-أي سحنون-: أرأيت إن كان قد تسلف الوديعة كلها فرد مثلها مكانها أيبرأ من الضمان في قول مالك ؟ قال-أي ابن القاسم-: نعم، كذلك قال لي مالك في الدراهم، فالودائع كلها مثل هذا إذا رد مثلها إذا كان يقدر على مثلها مثل الكيل أو الوزن في رأيي". (المصدر نفسه 6/147)
وهذا ما يفيده الضابط الذي جاء مصوغا على لسان أشهب في باب في الوديعة يتسلف منها شيئا ثم يرده...:"كل ما يقدر على رد مثله إذا تسلف بعضه أو جميعه، ثم رد مثل ما تسلف سقط عنه الضمان، وصدق في رد ذلك مع يمينه". (النوادر والزيادات للقيرواني 10/434)
وقال ابن عبد البر:"ومن تعدى في وديعة عنده فاستهلكها ثم ردها مكانها، فإن كانت دنانير أو دراهم أو طعاما أو نحو ذلك مما يكال ويوزن، وضاعت فلا شيء عليه".(الكافي ص404)
فالضمان المشار إليه في هذه النصوص هو ضمان التعدي من الوديع المتصرف،  ولمزيد من التحقيق والتثبت لا بأس أن أسجل هنا نصوصا من كلام الإمام مالك وجدتها في مواضع متفرقة من"المدونة"، فهي كالآتي:
-"قلت: أرأيت لو أني استودعت عند رجل دراهم وحنطة، فأنفق بعض الدراهم أو أكل بعض الحنطة، أيكون ضامنا لجميع الحنطة وجميع الدراهم أم لا في قول مالك ؟ قال: لا يكون ضامنا إلا لما أكل أو لما أنفق، وما سوى ذلك لا يكون ضامنا له..." (المصدر نفسه 6/147)
وجاء في موضع من "كتاب الصرف":
"قلت: أرأيت إن استودعت رجلا دنانير، فصرفها بدراهم، ثم أتيت فأردت أن أجيز ما صنع وآخذ الدراهم ؟ قال: ليس ذلك لك في قول مالك، وإنما لك مثل دنانيرك، لأن مالكا قال: لو أن رجلا استودع رجلا دنانير فاشترى المستودع بتلك الدنانير سلعة من السلع كانت السلعة له وكان عليه مثل الدنانير التي أخذها.
...قال: وقال لي مالك في الطعام: لو أن رجلا استودع رجلا طعاما، فباعه المستودع ؟ قال: هذا بالخيار: إن أحب أن يأخذ الثمن: أخذه، وإن أحب أن يأخذ مثل طعامه: أخذه، لأنه لما تعدى على الحنطة: ضمنها، فصرت مخيرا في أخذك إياه بما ضمن لك أو أخذ ثمن حنطتك...".(المصدر نفسه 3/405) .
وبعد أن عرفنا توضيح المسألة بشيء من التفصيل عند المالكية- بصدد الرد على الدكتور الأمين-، تحسن الإشارة إلى رأي الفقهاء الآخرين، وهذا واضح مما ذكره الإمام ابن قدامة في النص الآتي:
"من أودع شيئا، فأخذ بعضه، لزمه ضمان ما أخذ، فإن رده أو مثله، لم يزل الضمان عنه.وبهذا قال الشافعي.وقال مالك: لا ضمان عليه إذا رده أو مثله.وقال أصحاب الرأي: إن لم ينفق ما أخذه ورده، لم يضمن، وإن أنفقه ثم رده أو مثله ضمن". (المغني 9/277)
و جاء في"الحاوي" عن الإمام الشافعي ما نصه:"ومن تعدى في وديعة ثم ردها إلى موضعها الذي كانت فيه: ضمن، لأنه خرج من الأمانة، ولم يحدث له رب المال استئمانا، فلا يبرأ حتى يدفعها إليه".(الحاوي للماوردي 7/124)
فيتبين من هذه النصوص أن الوديع إذا تصرف تصرفا يخالف مقتضى حكم الوديعة، انقلب حكم الأمانة إلى حكم الضمان. و لا يستفاد منها جواز اشتراط العاقدين على تضمين الوديع في حال الانتفاع بالوديعة بالاقتراض منها كلها أو بعضها.ولا فرق أن يكون الاقتراض لمجرد الاستهلاك لحاجة قائمة أو بغرض الاتجار، فالضمان مترتب في كلتا الصورتين، و الاتجار فيها ممنوع من حيث الأصل كما يتبين مما يأتي:
2-الاتجار في الوديعة وحكم الربح الناتج من التصرف في الوديعة:
الضابط المقرر عند الإمام مالك أنه لا يجوز الاتجار في الوديعة إذ إنها من قبيل الأمانات، كما ثبت عنه في النص الآتي من كتاب اللقطة:
"قلت: أرأيت رجلا حرا وجد لقطة أو مكاتبا أو عبدا تاجرا أيتجر بها في السنة التي يعرّفها فيها في قول مالك ؟ قال: قال مالك في الوديعة: لا يتجر فيها.فأرى اللقطة بمنزلة الوديعة" (6/175، التجارة في اللقطة والعارية)
و على هذا إذا كان استثمار الوديعة ممنوعا فما حكم الربح الذي قد ينتج من تعدي الوديع التصرف بدون إذن من المودع ؟
قد اختلف الفقهاء في الربح الناتج عن التصرف في الوديعة في ثلاثة آراء:
أ) الربح للوديع المتعدي.وهذا ما ذهب إليه الإمام مالك، وإليك نص ما جاء في"الموطأ":
"قال يحيى: سمعت مالكا يقول: إذا استودع الرجل مالا فابتاع به لنفسه، وربح فيه، فإن ذلك الربح له، لأنه ضامن للمال حتى يؤديه إلى صاحبه". (موطأ مالك-مع شرح الزرقاني-4/16، كتاب الأقضية، القضاء في استهلاك الحيوان والطعام وغيره)
هنا مما ينبغي التنبه له أن هذا النص ورد في كتاب الأقضية من"الموطأ"، ضمن بيان الأحكام القضائية بسبب استهلاك الأشياء بدون إذن بغير إذن أصحابها، ولذا لا يستفاد منه جواز التصرف على أساس تضمين الوديعة بالشرط أو التراضي. 
ويعضد ذلك ما ورد في النص الآتي من"المدونة":
-"قلت: أرأيت إن استودعت رجلا وديعة، فعمل فيها، فربح، أيكون الربح للعامل أم لرب المال في قول مالك ؟ قال: للعامل، كذلك قال مالك.
قلت: ولا يتصدق بشيء من الربح في قول مالك ؟ قال: نعم، لا يتصدق بشيء من الربح.
قلت: ويبرأ من الضمان هذا المستودع إذا كان قد رد المال في موضع الوديعة بعد ما ربح في المال ويكون الربح له في قول مالك ؟ قال: نعم يبرأ من الضمان في قول مالك ويكون الربح له". (المدونة 6/159، كتاب الوديعة)
وهذا هو رأي القاضي أبي يوسف من الحنفية، لوقوع التصرف في ضمانه وملكه. وقد ذهب إليه الشافعية في الأظهر، فالربح لمن تصرف في الوديعة وليس للمالك، لأنها لو تلفت لضمنها. (انظر: فتح القدير لابن الهمام 7/373، والقوانين الفقهية لابن جزي ص328، ومغني المحتاج 2/291، مشار إليها في الموسوعة 22/84-85، ربح)
ب) لا يطيب الربح لمن تصرف في الوديعة.وذلك لأن التصرف وإن كان حصل في ملكه وضمانه،لكنه بسبب غير مشروع، لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وما هو كذلك فسبيله التصدق به، إذ الفرع يحصل على وصف الأصل.وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر والشعبي وأحمد في رواية عنه.
ج) والراجح عند الحنابلة: أن الربح لصاحب الوديعة .
قال في "مطالب أولي النهى":" ... لو اتجر مودع في الوديعة، فالربح للمالك على الصحيح من المذهب، ونص عليه في رواية الجماعة". ( 4/62-64)
فهذه الأقوال على ما فيها من اختلاف وجهات النظر تنصب على بيان حكم ربح الوديعة التي حصل فيها التعدي من الوديع بالاتجار فيها. وحتما لا يعني ذلك جواز الإقدام على هذا التصرف و قلب مقتضيات العقود بالتراضي ، وإنما لو تصرف بالإذن صراحة أو دلالة فمآله أن يصحح ذلك بالنظر إلى معنى الصيغة إذ العبرة في العقود والتصرفات بالمعاني، وقد تحقق المعنى هنا وهو انقلاب الوديعة قرضا.وهذا ما يؤيده كلام الفقهاء فيما لو تصرف الوديع بالإذن، وهذا ما نود البحث فيه تحت العنوان الآتي: 
-حكم التصرف في الوديعة بإذن من المودع ؟
لا يجوز قلب عقد أمانة إلى عقد ضمان أو العكس بالتراضي والاشتراط لدى جمهور الفقهاء.وانطلاقا من هذا المبدأ "فالفقهاء يرون بأجمعهم أنه لا ضمان على صاحب الوديعة إلا أن يتعدى". (بداية المجتهد 4/1501،ط: دار ابن حزم، بيروت).
و"إذا أودعها بشرط الضمان، فالجمهور على أنه لا يضمن". (المصدر نفسه 4/1501)."لأن جعل ما أصله أمانة لا يصيره مضمونا بالشرط كالشركة والوكالة". (الإشراف للقاضي عبد الوهاب 2/626، وانظر: أصول الفتيا للخشني ص 376) و لأن"الضمان ينافي الأمانة"(المغني 9/257)
 وجاء في كلام الإمام ابن قدامة ما يفسر تلك القواعد والضوابط ، حيث قال:
-"إذا شرط رب الوديعة على المستودع ضمان الوديعة، فقبله أو قال: أنا ضامن لها، لم يضمن.قال أحمد في المودع: إذا قال: أنا ضامن لها، فسرقت، فلا شيء عليه.وكذلك كل ما أصله الأمانة، كالمضاربة، ومال الشركة، والرهن، والوكالة.
وبهذا قال الثوري، والشافعي وإسحاق، وابن المنذر، وذلك لأنه شرط ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه، فلم يلزمه، كما لو شرط ضمان ما يتلف في يد مالكه".(المغني 9/258)
وقد تطرق المالكية إلى هذه المسألة بصدد بيانهم حكم تسلف الوديعة بإذن من المودع، كما يتبين ذلك بالنظر فيما يأتي:
ذكر الإمام أبو محمد القيرواني من كتاب ابن شعبان: "ومن أودع وديعة وقيل له: تسلف منها إن شئت، وتسلف منها وقال: رددتها، فهذا لا يبرئه رده إياها إلا إلى ربها".(النوادر والزيادات 10/435، وانظر: الذخيرة 9/171) 
وهذا ما أورده العلامة ابن شاس ضمن أسباب التقصير في الوديعة، مقرونا بالتعليل وهو كون المسألة من قبيل القرض في هذه الصورة، وإليك نصه:
-"من أودع وديعة، وقيل له: تسلف منها إن شئت، فتسلف منها، وقال: رددتها، فهذا لا يبرئه رده إياها إلا إلى ربها، لأن هذا مقترض لم يردّ ما اقترض". (عقد الجواهر الثمينة 2/724،كتاب الوديعة، أسباب التقصير، وانظر: البيان والتحصيل 15/293)
وقال العلامة الدردير بصدد ذكر التسلف الجائز بإذن من رب الوديعة:"...أو أن يقول له ربها: إن احتجت فخذ، فأخذ، فبردها: أي فلا إلا بردها لربها: ولا يبرئه ردها لمحلها، لأنها بالإذن انتقلت من الأمانة إلى الدين". (الشرح الصغير 3/556، وانظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/422) 
وبعد عرض الأقوال في تكييف الوديعة المصرفية وتأملها يترجح رأي جمهور الفقهاء والباحثين المعاصرين وهو تكييف الوديعة المصرفية على القرض ، لقوة دليله،ولضعف أدلة المعارضين لهذا القول، كما اتضح ذلك من خلال دفع الاعتراضات والإشكالات الواردة على القول المختار. وليس في كلام الفقهاء ما يستدل به على جواز الوديعة المضمونة، إذ المراد برأيهم أن الوديعة تبقى على حكمها وتعد أمانة على الرغم من تصرف الوديع فيها، وذلك عند إعادة مثلها إلى محلها، وعلى هذا يسقط الضمان عنه إذا تلفت بعد إعادتها إلى حرزها.وتلك الصور تمثل حالة التعدي من الوديع، لانتفاعه بها. 
أما لو تصرف فيها لمصلحته بإذن من المودع، بغض النظر عن صيغة الإذن، فمآل ذلك انقلاب عقد أمانة إلى عقد ضمان، وهو المتمثل في القرض، حيث ترتب الدين في ذمته بالمثل أو القيمة فيما لو تعذر المثل.
ويكاد يكون جليا أن الإذن عرفا ودلالة بمثابة الإذن لفظا وصراحة، فمن القواعد المتفق عليها"الإذن العرفي كالإذن اللفظي" و"المعروف عرفا كالمشروط شرطا".
ثم ما ذا يترتب على الأخذ برأي من كيّف الوديعة على أنها وديعة مضمونة أو وديعة في الذمة؟ فهل يجر هذا التخريج إلى منفعة ربما لا يستحقها العميل المودع في صورة تكييفها قرضا، بحيث يجوز له أخذ أية زيادة عليها من هدايا عينية أو نقدية أو مزايا أخرى محل الاعتبار، مع العلم بأن الوديعة المضمونة عبارة عن مال ثابت في ذمة الوديع  أي أصبحت دينا؟ فالواقع أن الأمر سواء في كلا الحالين من ناحية عدم جواز تقديم هدايا أو إعطاء مميزات للمودعين.
هذا، وأما تكييفها على الوديعة الشرعية، فهو لا ينسجم مطلقا مع المصطلح الشرعي المقرر لعقد الوديعة ولا لحكمة مشروعيته-وهي مجرد التبرع بحفظ الأموال-.
فهذا القول يتعارض مع الحكم الشرعي من حيث إنه كيف تظل الوديعة المصرفية وديعة شرعية على الرغم من التصرف فيها ، أما منافاته مع حكمة التشريع فهو أنه كيف يتصور أن يتبرع الوديع المتمثل في المصرف بحفظ أرصدة الناس الضخمة على وجه الوديعة الشرعية، تلبية لحاجة المودعين وهي مجرد حفظ الودائع بعينها بدون استثمارها ؟! ولله در الإمام العز بن عبد السلام القائل:"فما أحسن أحكام الشرع إذا أجريت على قواعدها"(قواعد الأحكام 1/276)، وما أروع قول تلميذه القرافي :"كل فقه لم يخرج على القواعد فليس بشيء".(الذخيرة 1/55) والله أعلم.



________________________________________
 [1]تم بحثه بناء على طلب الهيئة الشرعية في اجتماعها الثاني والسبعين بتاريخ 11و12و13و14و15/6/1424ه أثناء مناقشتها لموضوع: "حكم تمييز بعض العملاء بإعفائهم من رسوم بعض الخدمات".

تعليقات