الشروع فى الجريمة
محاضرات
الشروع فى الجريمة
الأستاذ الدكتور أشرف توفيق شمس الدين
أستاذ القانون الجنائى
- ماهية الشروع: الشروع هو جريمة ناقصة ، أى قد تخلفت بعض عناصرها ، وموضع النقص فى هذه العناصر هو النتيجة الإجرامية ، فالشروع يفترض توافر كل عناصر الجريمة التامة عدا النتيجة. وإذا كان الشروع يتماثل مع الجريمة التامة فى سائر العناصر عدا النتيجة ؛ فإنه يترتب على ذلك المساواة بينهما من حيث الركن المعنوى ، فالقصد الجنائى يتوافر فى الشروع على النحو الذى يتوافر به فى الجريمة التامة.
- الشروع والجريمة الظنية: الجريمة الوهمية أو الظنية هى ارتكاب الجانى فعلاً لا يجرمه القانون ؛ ولكنه يعتقد أنه يشكل جريمة . ومن أمثلتها: استيلاء الجانى على مال يعتقد أنه مملوك لغيره فى حين يثبت أن ملكيته قد آلت إليه بالميراث ، أو حيازة شخص مادة منومة أو مهدئة غير محظورة ؛ بينما كان يعتقد أن القانون يحظر حيازتها. ولا عقاب على الجريمة الظنية ، لأنه لا عقاب على فعل لم يجرمه القانون ، فالعبرة فى التجريم والعقاب هى بنصوص القانون ، وليس اعتقاد الشخص مرتكب الفعل ، لأن الظن لا يستطيع أن يقلب الفعل المشروع إلى جريمة.
- أنواع الشروع: الشروع نوعان: إما ناقص وإما تام. والشروع الناقص ويطلق عليه كذلك الجريمة الموقوفة يعنى أن الجانى لم يأت كل الأفعال التنفيذية اللازمة للجريمة ، ومثال ذلك أن يصوب سلاحه نحو المجنى عليه ؛ غير أن شخصاً ثالثاً يتدخل فيحول دون الضغط على الزناد ، أو أن يهم الجانى بطعن المجنى عليه فيقاومه فيعجز عن إتمام جريمته. وأما الشروع التام ويطلق عليه كذلك الجريمة الخائبة فيفترض أن الجانى قد أتى كل الأفعال اللازمة لتنفيذ الجريمة ، غير أنها لا تتحقق رغم ذلك ، ومثال ذلك أن يطلق الجانى النار على المجنى عليه فيخطئه لعدم دقته فى التصويب. وللشروع التام ذات عقاب الشروع الناقص ، غير أن التفرقة بينهما لها أهميتها بالنسبة للعدول الاختيارى على النحو الذى سيلى.
- حصر أركان الشروع: أركان الشروع ثلاثة: الأول هو البدء فى تنفيذ فعل ؛ والثانى هو توافر قصد ارتكاب جناية أو جنحة ؛ والثالث هو إيقاف أثر الفعل أو خيبته لأسباب لا ترجع لإرادة الجانى. وفيما يلى نتناول بالدراسة الأركان الثلاثة للشروع ، ثم نبين عقاب الشروع.
§1-البدء فى التنفيذ
- مراحل الجريمة التامة: لتحديد مدلول البدء فى التنفيذ يجب أن نحدد المراحل التى تجتازها الجريمة ، ذلك أن القانون لا يتدخل بالعقاب على كل هذه المراحل ؛ وإنما يتدخل بالعقاب إذا وصلت الجريمة مرحلة معينة. ومراحل الجريمة هى: التفكير فيها والتصميم عليها ثم الإعلان عن الإرادة الإجرامية ، ثم التحضير لارتكابها ثم البدء فى تنفيذها ، وقد يبلغ التنفيذ غايته فتتم الجريمة به أو يخيب أو يقف أثره فتظل الجريمة عند مرحلة الشروع.
-(أولاً) مرحلة التفكير والتصميم: تبدأ الجريمة بفكرة تنبت فى ذهن الجانى ويصمم على تنفيذها ، وقد سبق القول بأن "الفكرة الشريرة مهما كان رسوخها فى النفس ، والتصميم الإجرامى الجازم بسبق الإصرار ، لا تقوم بهما جريمة طالما بقيا مجرد ظواهر نفسية لم تتخذ سبيلها إلى التعبير المادى الخارج عن كيان صاحبها" ، فلا عقاب على هذه المرحلة لأنها نفسية محضة لا تتعدى وجدان الجانى ، وليس لها أى مظهر خارجى يتسم بالخطورة على المجتمع.
- (ثانياً) مرحلة إعلان الإرادة الإجرامية: فى هذه المرحلة يقوم الجانى بالإفصاح عن إرادته الإجرامية ، ومثال ذلك أن يسر بها إلى آخر. والأصل أنه لا عقاب على هذه المرحلة ، لأنه لا يتبلور فيها تعريض المجتمع للخطر ؛ غير أن بعض صور إعلان هذه الإرادة قد يعاقب عليها القانون استقلالاً ، ومثال ذلك جريمة التحريض غير المتبوع بأثر وجريمة التهديد.
- (ثالثاً) مرحلة التحضير للجريمة: إذ تجاوز الجانى مرحلة التفكير فى الجريمة إلى مرحلة الإعداد والتحضير لها ، فإن الشارع لا يتدخل أيضاً بالعقاب على هذه الأفعال بحسب الأصل. ويقصد بالأعمال التحضيرية كل فعل يكون من شأنه تمكين الجانى من ارتكاب الجريمة ، سواء بحيازة وسيلة ارتكاب الجريمة مثل شراء سلاح أو تجهيز المادة السامة وسواء بوضع الجانى نفسه فى موضع يمكنه من ارتكاب الجريمة مثال ذلك أن يندس بين الركاب فى إحدى الحافلات حتى يتمكن من سرقة بعضهم. والقاعدة أنه لا عقاب على الأعمال التحضيرية ، وعلة ذلك أن هذه الأفعال قليلة الأهمية ولا تنطوى على خطر يهدد حقاً أو مصلحة ، كما أن هذه الأفعال تتصف بكونها غامضة وتحتمل تفسيرات مختلفة وقد يصعب كشف قصد الجانى منها أو التوصل إلى نيته الإجرامية من مجرد ارتكابها ، فشراء سلاح قد يدل على اتجاه الجانى إلى ارتكاب جريمة ، ولكنه قد يفسر على اتجاهه فى استعماله للدفاع عن نفسه ، وتركيب مادة سامة قد يدل على ارتكاب جريمة ، غير أنه قد يدل على اتجاه الجانى إلى استخدامها فى إبادة الحشرات. وهكذا تقف صعوبة إثبات النية الإجرامية عقبة فى سبيل تجريم الأعمال التحضيرية بوصف الشروع.
ومن ناحية أخرى فإن عدم تجريم الأعمال التحضيرية يجد سنده من السياسة العقابية التى ترمى إلى تشجيع الجانى على العدول عن ارتكاب الجريمة ، ومن ثم إفساح المجال أمامه إلى الوقوف بها عند حد الأعمال التحضيرية. وإذا كانت الأعمال التحضيرية لا عقاب عليها بحسب الأصل ، فإن بعض هذه الأعمال قد تتسم بخطورة معينة تستوجب العقاب عليها ، لا باعتبارها شروعاً فى الجريمة ؛ وإنما باعتبارها جريمة مستقلة ومتميزة عن الجريمة التى جرى التحضير لها. وقد يعاقب على العمل التحضيرى باعتباره ظرفاً مشدد فى الجريمة التى تم التحضير لها. وأخيراً قد يكون العمل التحضيرى وسيلة اشتراك فى الجريمة. وفيما يلى نبين هذه الحالات.
- العمل التحضيرى كجريمة مستقلة بذاتها: ذكرنا أنه قد يعاقب على العمل التحضيرى لا باعتباره شروعاً فى الجريمة التى يجرى التحضير لارتكابها ؛ وإنما كجريمة مستقلة قائمة بذاتها. وعلة تجريم العمل التحضيرى فى هذه الحالة هى ما ينطوى عليه هذا العمل من خطورة وما يكشف عنه من خطورة مرتكبه. ومثال لهذه الأعمال: تجريم حيازة وإحراز السلاح بدون ترخيص ؛ دخول منزل مسكون بقصد ارتكاب جريمة فيه ، حتى ولو لم يتعين نوع هذه الجريمة ؛ وجريمة عرض رشوة دون قبولها.
- العمل التحضيرى كوسيلة اشتراك: إذا قام الجانى بالعمل التحضيرى فلا عقاب عليه ؛ غير أنه إذا كان هذا العمل وسيلة لمساعدة فاعل الجريمة على ارتكابها فإن نشاط الجانى يعد فى هذه الحالة مساهمة منه فى ارتكاب الجريمة ويعد شريكاً فيها بالمساعدة. وتطبيقاً لذلك فإنه إذا حاز الجانى سلاحاً بنية استعماله فى القتل ووقف نشاطه عند هذا الحد ، فلا عقاب عليه من أجل القتل ؛ ولكنه إذا سلم السلاح إلى شخص استعمله فى القتل كان مسئولاً عن هذه الجريمة باعتباره شريكاً فيها.
- (رابعاً) مرحلة البدء فى التنفيذ (الشروع)
إذا جاوز الجانى مرحلة التفكير فى الجريمة والتحضير لها فبدأ فى تنفيذها ، فإن القانون يتدخل بالعقاب فى هذه المرحلة ، ومن باب أولى إذا تم تنفيذ الجريمة . وإذا كان العمل التحضيرى لا عقاب عليه فإن التمييز بينه وبين البدء فى التنفيذ الذى يعاقب عليه القانون يعد أمراً من الأهمية بمكان لأن تحديد طبيعة الفعل وما إذا كان يعد بدء فى التنفيذ يعنى الانتقال من مجال الإباحة إلى مجال التجريم. والتمييز بين العمل التحضيرى والبدء فى التنفيذ يثير بعض الصعوبة ، وانقسم الرأى فى وضع معيار لهذا التمييز إلى مذهبين الأول المذهب الموضوعى ، والثانى المذهب الشخصى.
- المذهب الموضوعى:
ينظر المذهب الموضوعى إلى فعل الجانى باعتباره مصدر الخطر ؛ فالشروع طبقاً لهذا المذهب يتطلب ارتكاب الجانى أفعالاً خطرة فى ذاتها ، غير أن أنصار هذا المذهب لم يتفقوا فى تحديد ماهية الفعل الذى يقوم به البدء فى التنفيذ: فذهب رأى إلى تحديد هذا الفعل بأنه البدء فى ارتكاب الفعل الذى يقوم عليه الركن المادى للجريمة ، وتحديد هذا الفعل يقتضى الرجوع إلى نص القانون ، فالشروع فى القتل لا يقوم إلا إذا بدأ الجانى فى ارتكاب فعل الاعتداء على الحياة ؛ والشروع فى السرقة لا يتوافر إلا إذا بدأ الجانى فى ارتكاب فعل الاختلاس.
وقد وجهت سهام النقد إلى هذا الرأى الذى يضيق من نطاق الشروع إلى الحد الذى يهدر مصلحة المجتمع ، فالتسور والكسر من الخارج لا يقوم بهما البدء فى تنفيذ السرقة على الرغم مما ينطويان عليه من خطر يهدد ملكية المجنى عليه.
- المذهب الشخصى: ينظر المذهب الشخصى إلى نية الجانى وشخصيته باعتبارها مصدر هذا الخطر ، ومن ثم فقد تكون الأفعال التى يأتيها الجانى غير خطرة فى ذاتها ؛ غير أنها تعد بدءاً فى التنفيذ إذا عبرت عن خطورة شخصية الجانى ونيته. وقد تأثر هذا المذهب بالمدرسة الوضعية التى ترى أن مركز الثقل فى قانون العقوبات هو المجرم لا الجريمة. وقد صاغ بعض أنصار هذا المذهب هذا المعيار بأن البدء فى التنفيذ هو "العمل الذى يكون قريباً من الجريمة بحيث يمكن أن يقال أن الجانى قد أقفل باب الرجوع عنها وتحمل مخاطرها" ، أو هو "الفعل الذى يدخل به الجانى فى مرحلة العمل على تنفيذ الجريمة بحيث يمكن القول بأنه قد "أحرق سفنه وخطا نحو الجريمة خطوته الحاسمة". وأقرب الصيغ تعبيراً عن المذهب الشخصى هى التى تحدد البدء فى التنفيذ بأنه "العمل الذى يؤدى حالاً ومباشرة إلى الجريمة". ومن أمثلة ذلك وضع السم فى الطعام أو الشراب المعد للمجنى عليه انتظاراً لتناوله ؛ وقوف السارقين على مقربة من المنزل الذى دخله المجنى عليه ومعهم أدوات الجريمة متحينين الفرصة لمفاجأته داخل المنزل وتجريده من ماله ؛ إحداث الجناة ثقب فى جدار المنزل بقصد سرقته.
- مذهب القضاء:
أخذ القضاء المصرى وتبعه أغلب قضاء الدول العربية فى بداية الأمر بالمذهب الموضوعى ، غير أن القضاء ما لبث أن تحول إلى المذهب الشخصى وهجر المذهب الموضوعى ، فقضى بأنه "لا يشترط لتحقق الشروع أن يبدأ الفاعل بتنفيذ جزء من الأعمال المادية المكونة للركن المادى للجريمة ؛ بل يكفى لاعتبار أنه شرع فى ارتكاب جريمة أن يبدأ بتنفيذ فعل ما سابق مباشرة على تنفيذ الركن المادى ومؤد إليه حتماً" ، وأنه يكفى أن يكون الفعل الذى باشره الجانى هو الخطوة الأولى فى سبيل ارتكاب الجريمة وأن يكون بذاته مؤدياً حالاً وعن طريق مباشر إلى ارتكابها ، ما دام قصد الجانى من مباشرة هذا الفعل معلوماً وثابتاً".
وتطبيقاً لهذا المعيار اعتبر القضاء الأفعال التالية من قبيل البدء فى التنفيذ: الدخول فى مكان السرقة ؛ الكسر من الخارج أو تسور منزل ملاصق أو استعمال مفاتيح مصطنعة للدخول فى مكان السرقة ؛ ارتكاب أفعال الإكراه بقصد السرقة ؛ إدخال المتهم يده فى جيب المجنى عليه ؛ محاولة إفراغ البنزين الموجود فى سيارة المجنى عليه ؛ فك الصواميل المربوط بها المحرك لسرقته ؛ سكب سائل البترول على نافذة ماكينة الطحين متى كان الفاعل يحمل أعواد ثقاب بقصد إشعال النار فيها ؛ وضع الجانى يده فى جيب المجنى عليه بقصد السرقة ؛ قيام المتهمان بدفع المجنى عليها كرهاً للركوب معهما بالسيارة بقصد مواقعتها. ويعد شروعاً فى القتل إمساك المتهم مسدساً صالحاً للاستعمال ومحشواً بالرصاص ومعداً للإطلاق واقترابه من المجنى عليه ماداً يده بالمسدس نحوه ، بحيث يكون من الميسور التصويب وإطلاق النار عليه فى لحظة سريعة. ويتوافر الشروع فى جريمة تقليد وتزييف العملات من ضبط قوالب للتزييف و عدد من العملات المعدنية المزيفة و بعض السبائك المعدنية وأدوات أخرى مختلفة مما تستعمل فى التزييف وذلك بعد أن انكشف لرجال مكتب مكافحة التزييف أمر المطعون ضدهم وهم يبحثون عن مشتر لعملاتهم المزيفة ، فإنهم يكونوا قد تعدوا مرحلة التقليد و التحضير وانتقلوا إلى دور التنفيذ بحيث لو تركوا و شأنهم لتمت الجريمة فى أعقاب ذلك مباشرة".
- تطبيق معيار البدء فى التنفيذ على الجريمة المستحيلة:
يفترض الشروع إمكان إتمام الجريمة لولا تدخل ظرف عارض طرأ بعد البدء فى تنفيذها فأدى إلى وقف التنفيذ أو خيبة أثره. وقد يحدث أن يقوم منذ اللحظة التى يبدأ فيها الجانى فى تنفيذ فعله سبب يجهله وينفى إمكان تحقق النتيجة الإجرامية فى الظروف التى يرتكب فيها الفعل ، وهو ما يطلق عليه بالجريمة المستحيلة. ومن أمثلة الجريمة المستحيلة أن يطلق الجانى النار على شخص تبين أنه قد توفى قبل ذلك ؛ أو يطلق النار بسلاح تبين أنه قد أفرغ من ذخيرته أو استبدلت بذخيرة غير حقيقية ؛ أو أن يستولى على مال ثم يتضح أنه مملوك له ؛ أو يضع يده فى جيب غيره لسرقة ما به ، فيفاجأ أنه خال ؛ أو أن يحاول شخص قتل آخر فيستخدم مادة غير سامة معتقداً أنها سامة ؛ أو أن يستخدم مادة سامة ولكن بكمية قليلة لا تكفى لإحداث الوفاة. وتشتبه الجريمة المستحيلة بالجريمة الخائبة فى أن الجانى قد استنفذ كل نشاطه ولكن لم تتحقق النتيجة رغم ذلك ؛ غير أنهما يختلفان فى أن سبب عدم تحقق النتيجة فى الجريمة المستحيلة يرجع إلى أسباب قائمة منذ بداية ارتكاب الفعل ، فهى ليست عارضة ؛ وإنما هى مقدرة منذ لحظة بداية ارتكاب الجانى للفعل. أما الجريمة الخائبة فإن سبب عدم تحقق النتيجة يكون سبباً عارضاً غير موجود لحظة بدء الجانى فى ارتكاب مشروعه الإجرامى ؛ وإنما طرأ بعد ذلك. وفى حين أن "الخيبة تبدو محتملة عند بدء الجانى فى الجريمة الخائبة ؛ فإنها تكون محققة عند بدئه فى الجريمة المستحيلة".
وقد أثار حكم الجريمة المستحيلة خلافاً فى الرأى فى الفقه ، فهل تعد الجريمة المستحيلة صورة من صور الجريمة الخائبة وتأخذ حكمها ومن ثم يعد ارتكابها بدءاً فى التنفيذ وتطبق عليه أحكام الشروع ؛ أم أن هذه الاستحالة تحول دون العقاب عليها؟. وفكرة العقاب على الشروع تنهض على أساس إمكان التنفيذ ، إذ أن هذا الإمكان ينطوى على خطر المساس بالحق أو المصلحة التى يحميها القانون ؛ فإذا انتفى هذا الإمكان فهل يمكن رغم ذلك العقاب على الفعل؟.
تفرق الرأى فى الفقه إلى اتجاهات ثلاثة: الأول يرى عدم العقاب على الجريمة المستحيلة فى جميع الأحوال ؛ والثانى يرى العقاب عليها فى جميع الأحوال ؛ والثالث يرى العقاب عليها فى بعض الأحوال. والاتجاه الثالث هو الراجح ، وهو ما سوف نبينه فيما يلى:
- الاتجاه الثالث: النظريات التوفيقية: تفرق الرأى فى شأن المعيار الذى يحدد بمقتضاه العقاب على الجريمة المستحيلة ، فذهبت نظرية إلى التفرقة بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية ، وذهبت الثانية إلى التفرقة بين الاستحالة المادية والاستحالة القانونية ، وفيما يلى نتناول بالدراسة هاتين النظريتين. - التفرقة بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية:
الاستحالة المطلقة تعنى استحالة تحقق النتيجة مطلقاً لسبب يرجع إما إلى موضوع الجريمة وإما إلى الوسيلة المستخدمة فى ارتكابها. والأسباب التى ترجع إلى موضوع الجريمة قد تعود إلى عدم وجود محل الجريمة أصلاً أو إلى فقده صفة لازمة لكى يصلح محلاً للحق المعتدى عليه ، ومثال ذلك من يطلق النار على شخص كان قد توفى قبل ذلك ، أو أن يحاول الجانى إجهاض امرأة ، ثم يثبت أنها غير حامل. وأما الاستحالة المطلقة التى ترجع إلى الوسيلة فتفترض أن الجانى قد استعمل وسيلة لا يمكن تحقق النتيجة بها فى جميع الحالات ، ومثال ذلك أن يستخدم مسدساً خالياً من الرصاص أو أن يستعمل فى التسميم مادة غير سامة وهو يعتقد أنها سامة. والاستحالة النسبية تفترض إمكانية وقوع النتيجة فى بعض الحالات ، فهى ترجع إلى أسباب عارضة ومؤقتة تطرأ مصادفة ولا تحول دون تحقق النتيجة فى بعض صورها. وقد ترجع الاستحالة النسبية كذلك إلى موضوع الجريمة أو إلى الوسيلة المستخدمة فى إحداثها. ومن أمثلة الاستحالة النسبية التى ترجع إلى الموضوع أن يكون محل الجريمة موجوداً ، ولكن فى مكان غير الذى اعتقده الجانى ، كالذى يضع يده فى جيب المجنى عليه لسرقة حافظته بينما يكون الجيب خالياً فى هذا الوقت ، أو أن يطلق الجانى النار على المكان الذى اعتاد المجنى عليه أن يتواجد فيه ، غير أنه تغيب عنه مصادفة. وأما الاستحالة النسبية التى ترجع إلى الوسيلة فتفترض صلاحيتها بصفة عامة لإحداث النتيجة ؛ غير أن سبباً طارئاً أدى إلى عدم صلاحيتها لإحداثها ، كألا يحسن الجانى استخدامها أو لعدم كفايتها ، ومثال ذلك أن يطرأ عطل على السلاح النارى لحظة إطلاقه فيؤدى إلى عدم انطلاقه ، أو أن يضع الجانى مادة سامة فى طعام المجنى عليه لقتله ؛ غير أنها لا تكون بالكمية التى تحدث الوفاة ، أو أن يلقى الجانى بقنبلة على جمع من الناس غير أنه لا يزيل صمام الأمان. ومن الأمثلة كذلك أن يكون تحضير الأدوات و السبائك اللازمة للتزييف واستعمالها بالفعل فى إعداد العملة الزائفة لم يصل إلى درجة من الاتفاق تكفل لها الرواج فى المعاملة من أعمال الشروع المعاقب عليه قانوناً.
وعلى الرغم من أن هذه التفرقة قد لاقت قبولاً لدى الفقه والقضاء المقارن ؛ فإنها لم تسلم من النقد: ذلك أن الاستحالة نوع واحد وليست متعددة الأنواع والدرجات: فالجريمة إما أن تكون ممكنة وإما أن تكون مستحيلة ولا وسط بينهما. وأنه فى الاستحالة النسبية فإن النتيجة لم تكن لتحدث فى ظل الظروف التى أحاطت بارتكاب الجريمة وأدت إلى استحالة حدوثها ، فعدم انطلاق السلاح أو عدم نزع فتيل الأمان سيجعل من المستحيل حدوثها فى جميع الأحوال ، ولا يمكن تصور حدوثها إلا إذا تغيرت هذه الظروف.
- التفرقة بين الاستحالة القانونية والاستحالة المادية: الاستحالة القانونية تعنى انتفاء أحد عناصر الجريمة بحيث لا يمكن أن توصف النتيجة التى يريد الجانى تحقيقها بأنها إجرامية ، وإنما هو يسعى إلى تحقيق وضع لا يجرمه القانون ، ومن ثم فلا عقاب عليه. فالاستحالة القانونية لا تنطوى على اعتداء على حق أو مصلحة يحميها القانون ، ومثال ذلك إطلاق النار على إنسان ميت ، ذلك أن حياة المجنى عليه هى أحد العناصر الضرورية فى جريمة القتل ، ويترتب على انتفاء هذا العنصر أن يكون الفعل قد ورد على محل لا يصلح أن يشكل جريمة ومن ثم يكون الشروع فى هذه الحالة غير معاقب عليه.
وأما الاستحالة المادية فهى ترجع إلى ظروف مادية أو أسباب عارضة حالت دون وقوع النتيجة الإجرامية ، وذلك على الرغم من توافر العناصر القانونية للجريمة. فالجريمة فى هذه الحالة تعد ممكنة الوقوع ؛ غير أنها لم تتحقق لظروف خارجة عن إرادة الجانى. ولا يفرق هذا الاتجاه بين صور الاستحالة المادية التى ترجع إلى الوسيلة ، ذلك أن الوسائل تستوى –بحسب الأصل-فى نظر القانون طالما كان من شأنها المساس بالحق.
- مذهب القضاء فى بعض الدول العربية:
يميل القضاء فى مصر وأغلب الدول العربية إلى الأخذ بمذهب التفرقة بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية وأن يقتصر العقاب على الثانية دون الأولى. وعلى سبيل المثال فقد قضى القضاء المصرى بأنه "متى كانت المادة المستعملة للتسميم صالحة بطبيعتها لإحداث النتيجة المبتغاة فلا محل للأخذ بنظرية الجريمة المستحيلة ، لأن مقتضى القول بهذه النظرية ألا يكون فى الإمكان تحقق الجريمة مطلقاً لانعدام الغاية التى ارتكبت من أجلها الجريمة أو لعدم صلاحية الوسيلة التى استخدمت لارتكابها".
كما قضى بأن "مجرد تحضير الأدوات اللازمة للتزييف واستعمالها بالفعل فى إعداد العملة الورقية الزائفة التى لم تصل إلى درجة من الإتقان تكفل لها الرواج فى المعاملة فى نظر القانون من أعمال الشروع المعاقب عليها قانوناً إلا أن شريطة ذلك بداهة أن تكون الوسائل المستعملة فى التقليد تصلح بطبيعتها لصنع ورقة زائفة تشبه العملة الورقية الصحيحة ، أما إذا كانت هذه الوسائل غير صالحة بالمرة لتحقيق الغرض المقصود منها ولا تؤدى مهما أتقن استعمالها إلى إنتاج ورقة زائفة شبيهة بالورقة الصحيحة فإن جريمة التقليد فى هذه الحالة تكون مستحيلة استحالة مطلقة والشروع فيها غير مؤثم". ووجهة القضاء هى عدم العقاب على الجريمة المستحيلة إذا لم يكن فى الإمكان تحقق الجريمة مطلقاً ، سواء أكان ذلك راجعاً إلى انعدام الموضوع أو عدم صلاحية الوسيلة. أما إذا كان يمكن تحقق الجريمة فى بعض حالاتها ، كما لو كانت المادة المستعملة فى القتل تؤدى فى بعض صورها إلى إحداث النتيجة ، كان الشروع معاقباً عليه فى هذه الحالة.
- تطبيقات قضائية: قضى بأنه إذا كان المتهم قد وضع مادة سلفات النحاس فى الماء المعد لشرب المجنى عليه متعمداً قتله بها ولم يتم قصده فإن فعله هذا يعد شروعاً فى قتل بالسم ، وذلك لأن هذه المادة من المواد السامة التى قد تحدث الوفاة ، أما كونها ما يندر حدوث الوفاة بها لما تحدثه من قىء يطردها من جوف من شربها فلا يفيد استحالة ارتكاب الجريمة بها لأنه ظرف خارج عن إرادة الجانى قد يحول دون تمامها. وقضى بأنه إذا انتوى المتهم قتل المجنى عليه واستعمل لهذا الغرض بندقية ثبت صلاحيتها إلا أن المقذوف لم ينطلق منها لفساد كبسولته وقد ضبطت معه طلقة أخرى سليمة ، ولكن الفرصة لم تتح لاستعمالها فإن قول الحكم باستحالة الجريمة استحالة مطلقة استناداً إلى فساد كبسولة الطلقة التى استعملها المتهم لا يتفق وصحيح القانون. وإذا كانت المتهمة قد وضعت مادة سامة (سلفات النحاس) فى طعام قدمته إلى المجنى عليها لتأكله قاصدة من ذلك قتلها ، فاسترابت المجنى عليها فى الطعام لرؤيتها لوناً غير عادى به فامتنعت عن تناوله واحتفظت بجزء منه ودل التحليل على أن به سماً فإن هذا يكفى لتحقق جريمة الشروع فى القتل ، أما كون كمية السم الذى وجد بالجزء الذى أجرى تحليله ضئيلة فلا يصح أن يستخلص منه استحالة الجريمة إذ أن هذا الجزء ليس هو كل الطعام الذى وضعت فيه المتهمة السم للمجنى عليها. وقضى بالعقاب على الشروع فى الاحتيال على الرغم من أن المجنى عليه كان عالماً بكذب الجانى بحيث كان انخداعه بحيلته مستحيلاً. فإذا كانت الواقعة أن المتهم قدم الأوراق المزورة إلى موظفى مؤسسة عامة تأييداً لزعمه الكاذب بتوريد أجهزة استقبال إذاعة لا سلكية للاستيلاء على قيمتها إلا أن الجريمة لم تتحقق لسبب لا دخل لإرادته فيه هو فطنة هؤلاء الموظفين مما يعتبر شروعاً فى جريمة احتيال وليس جريمة مستحيلة. ومن أمثلة عدم صلاحية الوسائل فى جريمة التزييف ضبط ورقة مالية مقلدة عن طريق لصق نموذجين ملونين لوجهى الورقة المالية ، نقوشها مطبوعة طباعة سطحية مما يستعمل كوسائل للإيضاح بالكتب المدرسية أو كوسيلة للإعلان ، مع إثبات الخبراء أن الورقة بحالتها الراهنة لا يمكن أن ينخدع فيها الشخص العادى ويقبلها بالتداول على أنها ورقة صحيحة. وقضى بأنه يعد شروعاً فى القتل قيام الجانى بإطلاق مقذوفات نارية على المجنى عليه لم تصبه لوجوده داخل سيارة مغلقة زجاجها غير قابل للكسر ومانع من مرور الرصاص.
§2- القصد الجنائى
- الأحكام العامة للقصد الجنائى فى الشروع: يتماثل الشروع والجريمة التامة من حيث الركن المعنوى ، وإنما ينحصر الفرق بينهما فى تخلف عنصر النتيجة فى الركن المادى بالنسبة للشروع. ويتطلب القصد الجنائى إرادة إحداث النتيجة ؛ فإن لم تتجه إرادة الجانى لإحداثها ، فلا يسأل عن الشروع فيها. وتطبيقاً لذلك إذا أصاب الجانى المجنى عليه بجرح نافذ ، فلا يسأل عن الشروع فى القتل ؛ إلا إذا ثبت توافر إرادته لإحداث هذا القتل. وقضى بأنه إذا وعد شخص موظفاً بإعطائه كل ما يملك فى نظير قيامه بعمل له ، فإن هذا القول لا يفيد أن هناك شروعاً منه جدياً فى إعطاء رشوة ، إذ هو لم يعرض فيه شيئاً معيناً على الموظف بل عرضه هو أشبه بالهزل منه بالجد.
- وجوب انصراف إرادة الجانى إلى جريمة محددة: تطلب توافر إحداث النتيجة لدى الجانى فى الشروع وجب أن تنصرف هذه الإرادة إلى جريمة محددة ، فلا يعرف القانون شروعاً مجرداً أى شروعاً فى غير جريمة معينة. وإذا لم تنصرف إرادة الجانى إلى ارتكاب جريمة معينة ، فلا يمكن مؤاخذته على الشروع. وتطبيقاً لذلك فإنه إذا اقتصرت الواقعة على دخول الجانى إلى أحد المنازل دون إذن أصحابه ، ولم يتضح قصده من هذا الدخول لا يسأل عن شروع ؛ ولكن يسأل عن جريمة انتهاك حرمة ملك الغير .
- الجرائم التى لا يتصور الشروع فيها: هناك بعض الجرائم لا يتصور الشروع فيها ، ويمكن تأصيل هذه الجرائم بردها إلى طوائف ثلاث: الأولى هى الجرائم غير العمدية ، والثانية هى الجرائم التى تجاوز قصد الجانى ، والثالثة الجرائم التى يأبى ركنها المادى تحقق الشروع فيها.
- أولاً: الجرائم غير العمدية: يترتب على اعتبار القصد الجنائى ركناً فى الشروع استبعاد الجرائم غير العمدية. والركن المعنوى فى الجريمة غير العمدية لا يقوم على القصد ؛ وإنما على الخطأ ؛ بل إنه يفترض انتفاء هذا القصد ، فالجانى لم يقصد تحقق النتيجة ، ولم تتجه إرادته إليها. ويترتب على ذلك أنه إذا لم تقع النتيجة فى الجريمة غير العمدية ، فلا يمكن مؤاخذة الجانى على الشروع فيها ، ولكن إذا شكل فعله جريمة أخرى أمكن مساءلته عنها. وتطبيقاً لذلك فإنه إذا قاد الجانى سيارته بسرعة وفى طريق مزدحم ، فلا يسأل عن الشروع فى جريمة قتل أو إصابة خطأ ؛ غير أنه قد يسأل عن جريمة قيادة سيارة بحالة ينجم عنها خطر على الأشخاص والأموال أو عن تجاوز السرعة المقررة. ومن الأمثلة أيضاً أن يطلق الجانى النار ابتهاجاً بحفل عرس فيصيب خطأ أحد الأشخاص ، ففى هذه الحالة يسأل عن جريمة إصابة خطأ تامة ؛ لأنه لا شروع فى الجرائم التى تقع بطريق الخطأ.
- ثانياً: الجرائم التى تجاوز قصد الجانى: الجرائم التى تجاوز قصد الجانى هى جرائم تفترض أن الجانى أراد ارتكاب جريمة معينة ؛ غير أنه وقعت نتيجة أخرى أشد جسامة لم يتجه إليها قصده. ولا يتوافر الشروع فى هذه الحالة بالنسبة للجريمة الأشد جسامة. وتطبيقاً لذلك فإنه إذا قصد الجانى ضرب المجنى عليه ؛ غير أن هذا الضرب أفضى إلى وفاته فإنه لا يسأل عن جريمة قتل عمدى ؛ وإنما عن جريمة ضرب أفضى إلى موت (قتل شبه عمد). وهذه الجريمة الأخيرة لم تتجه إليها إرادته ولذلك لا يمكن تصور الشروع فيها ؛ إذ لم يقصد سوى إحداث الضرب. وإذا كانت جريمة الضرب المفضى إلى الموت لا يتصور فيها اتجاه إرادة الجانى إلى إحداث وفاة المجنى عليه ؛ فإن بعض الجرائم الأخرى التى تجاوز قصد الجانى من الجائز تصور انصراف إرادة الجانى إلى النتيجة الأخرى. ومن أمثلة هذه الجرائم جريمة الضرب المفضى إلى عاهة مستديمة إذ أن لها صورتان: الأولى أن يقصد الجانى ضرب المجنى عليه إلا أنه يترتب على هذا الفعل إحداث عاهة به ، ومثال ذلك أن يقوم الجانى بضرب المجنى عليه بأداة قاصداً ضربه فيفضى هذا الفعل إلى عاهة مثل بتر اليد أو إحداث إعاقة بها أو فقء العين. وفى هذه الصورة لا يتصور الشروع ؛ لأن الجانى لم تتجه إرادته إلى إحداث العاهة بالمجنى عليه ؛ وإنما غاية ما قصد إليه هو إحداث فعل الضرب.
ومن الأمثلة تجريم التعدى على أحد الموظفين العموميين القائمين على تنفيذ هذا القانون أو قاومه بالقوة أو العنف، أثناء تأدية وظيفته أو بسببها إذا نشأ عن التعدي عاهة مستديمة أو تشويه جسيم لا يحتمل زواله. ففى هذه الصورة يستوى لدى الشارع أن تتجه إرادة الجانى ابتداء إلى إحداث العاهة أو أن تحدث كنتيجة لفعل الجانى. فإذا كانت هى الفرض الثانى ، فإن ذلك يعنى أن إرادته قد اتجهت إلى التعدى ولم تتجه إلى العاهة ، ففى هذه الصورة لا يتصور الشروع. أما الصورة الثانية فهى أن يقصد الجانى إحداث العاهة غير أن جريمته لا تتم لسبب لا دخل لإرادته فيه ، وفى هذه الصورة يكون الشروع متصوراً. وتطبيقاً لذلك فإنه إذا قصد الجانى تشويه المجنى عليها ، وأعد لذلك مادة كاوية وتوجه إلى حيث تتواجد المجنى عليها ؛ غير أنه قبض عليه قبل أن يتمكن من تنفيذ جريمته ؛ فإن الشروع فى إحداث العاهة يعد متوافراً. وفى الحقيقة فإن الصورة الثانية لا تعد من الجرائم المجاوزة قصد الجانى ، ذلك أن قصد الجانى قد اتجه ابتداء إلى إحداث العاهة ، ومن ثم كان الشروع فيها متصوراً.
- ثالثاً: الجرائم التى يأبى ركنها المادى على تصور الشروع فيها:
هناك طائفة من الجرائم التى يأبى ركنها المادى على تصور تحقق الشروع فيها ، وعلة ذلك هو عدم قابلية الركن المادى فيها للتجزئة ، ومن أمثلة هذه الجرائم: جريمة الرشوة إذا أتخذ ركنها المادى صورة القبول أو الطلب ، وهى تتم بذلك ولو لم يحصل الموظف على العطية بالفعل ، فإما أن يعبر الموظف عن معنى قبول العطية أو يطلبها وفى هذه الحالة تقع الجريمة تامة ؛ وإما لا يعبر عن هذا المعنى فلا تقع الجريمة على الإطلاق. ويتحقق الركن المادى فى جريمة خيانة الأمانة واختلاس الموظف المال الموجود فى حيازته بسبب وظيفته بتغيير الجانى نيته على المال الذى فى حيازته وإضافته إلى ملكه ، وفى هذه الحالة إما أن يكشف الفعل الذى يأتيه الجانى عن تغير فى هذه النية وحينئذ تقع الجريمة تامة ، وإما لا يكشف عن هذه النية ومن ثم لا يكون هناك ما يستوجب العقاب عليه. ومن الأمثلة كذلك جريمة الشهادة الزور ، إذ لا تقع إلا بإصرار الشاهد على أقواله حتى إقفال باب المرافعة ، فإن عدل عنها حتى هذا الحين لم تقع الجريمة ، وإن أصر عليها تحققت كاملة.
- الجرائم السلبية: ذكرنا أن الجرائم السلبية إما بسيطة ، وإما ذات نتيجة ويطلق عليها جرائم إيجابية ترتكب بسلوك سلبى. والجرائم السلبية البسيطة لا تضم بين عناصرها نتيجة إجرامية متميزة عن سلوك الجانى ، فالعقاب فيها يتناول السلوك السلبى ذاته بصرف النظر عن تحقق نتيجة ما ، فإذا نسب للجانى ارتكابه هذا السلوك فإن جريمته تكون قد وقعت تامة ، وإن لم ينسب له فلا جريمة على الإطلاق. ومن الأمثلة على الجرائم السلبية البسيطة عدم تقديم الإقرار الجمركى ، إذ تتحقق هذه الجريمة بمجرد عدم تقديم الإثباتات التى تطلبها القانون لذلك ولو لم تتحقق أية نتيجة من هذا الامتناع ، ولا يمكن تصور الشروع فى عدم تقديمها. وتعتبر جريمة إغراء أو إكراه شاهد على الامتناع عن الشهادة من الجرائم السلبية البسيطة ، إذ تتحقق الجريمة بمجرد ارتكاب فعل الإكراه أو الإغراء ولو لم يبلغ الجانى مقصده. وكذلك امتناع الطبيب عن إبلاغ السلطات المختصة عن وجود علامات أو توافر ظروف بمتوف أو مصاب ، تدعو إلى الاشتباه في سبب الوفاة أو الإصابة. إذ تتحقق الجريمة بمجرد الامتناع عن الإبلاغ ، ولو لم يسفر التحقيق عن أن الاشتباه كان صحيحاً. ومن الأمثلة كذلك امتناع من علم بوقوع جناية، أو بوجود مشروع لارتكاب جريمة في وقت يستطاع فيه منع ارتكابها ، عن إبلاغ ذلك إلى السلطات المختصة.
أما الجرائم السلبية ذات النتيجة فهى تشتمل على نتيجة إجرامية يتجه إليها قصد الجانى وعدم تحققها إنما يرجع لسبب لا دخل لإرادة الجانى فيه ، ومن أمثلة ذلك امتناع الأم عن إرضاع وليدها أو عن ربط حبله السرى بقصد قتله ، فهى تشتمل على نتيجة إجرامية ويكون الشروع فيها متصوراً ، كما لو أمكن إنقاذ الطفل قبل وفاته.
§ 3-عدم إتمام الجريمة لسبب غير اختيارى
- تمهيد: يفترض الشروع المعاقب عليه أمرين الأول هو عدم إتمام الجريمة ، والثانى أن يكون ذلك غير راجع إلى إرادة الجانى ، وفيما يلى نتناول الأمرين بالدراسة.
- عدم إتمام الجريمة: سبق أن ذكرنا أن الفرق بين الشروع والجريمة التامة ينحصر فى تخلف عنصر النتيجة فى الركن المادى فى الشروع. ويعنى ذلك أنه للوقوف على ما إذا كانت الجريمة قد تمت أو أنها وقفت عند حد الشروع ، فإنه يجب تحديد عنصر النتيجة فى الجريمة وهو ما يقتضى الرجوع إلى نص القانون لاستخلاص الواقعة التى تتم بها الجريمة وتكتمل. وتتم جريمة القتل بوفاة المجنى عليه ، فإن لم تتحقق هذه النتيجة فإن الجريمة تقف عند حد الشروع مهما كانت جسامة الإصابات التى تلحق بالمجنى عليه ؛ ولا تتم جريمة السرقة إلا بإخراج الجانى الشىء من حيازة المجنى عليه وإدخاله فى حيازة أخرى ، فإن لم تتغير الحيازة على النحو السابق فإن الجريمة تقف عند حد الشروع ؛ وتتم جريمة استيراد السلع من الخارج بغير ترخيص بمجرد وصول السلع إلى أحد منافذ الجمارك القطرية ، وذلك بصرف النظر عن استلامها بالفعل من الجمارك. وهناك طائفة من الجرائم والتى تسمى الجرائم الشكلية يندمج الفعل فيها والنتيجة على نحو يعد ارتكاب الفعل وقوعاً للنتيجة فى ذات الوقت ، ومن أمثلة الجرائم الشكلية جريمة الحريق إذ تتم بمجرد وضع النار فى المكان المراد إحراقه سواء أشتعل الحريق أو لم يشتعل ، وتتحقق الجريمة ولو بادر الجانى إلى إطفاء النار فور وضعها ولو لم تتلف شيئاً.
- العدول الاختيارى وعدم تمام الجريمة لسبب لا يرجع لإرادة الجانى: للتفرقة بين العدول الاختيارى والعدول الاضطرارى أهمية كبيرة: فالعدول الاختيارى لا يعاقب عليه القانون ؛ بينما فى العدول الاضطرارى فإن القانون يعاقب على الجريمة بوصف الشروع. وعلة انتفاء العقاب فى حالة العدول الاختيارى ترجع إلى رغبة الشارع فى تشجيع من بدأ فى تنفيذ الجريمة على أن يعدل باختياره عن إتمامها وهو أمر يتفق مع أصول السياسة العقابية.
ويجب حتى يكون العدول اختيارياً أن يرجع إلى مرتكب الفعل نفسه دون تدخل أية عوامل خارجية مستقلة عن شخص الفاعل تكون قد أثرت عليه ودفعته جبراً إلى العدول عن الجريمة. فالجانى فى العدول الاختيارى يكون بمقدوره ارتكاب الجريمة ؛ غير أنه لا يرغب فى ذلك. ولذلك فإن على سلطات التحقيق الوقوف على ما إذا كان باستطاعة الفاعل أن يتم جريمته ولكنه عدل عنها باختياره ؛ أم أن هناك سبباً قد أكرهه على ذلك العدول. ولا أهمية للباعث الذى دعا الفاعل على العدول الاختيارى فقد يكون الندم أو الرغبة فى التوبة أو الخشية من العقوبة أو من اللوم الاجتماعى المترتب على ارتكاب جريمته ، أو ما قد يلحق بأسرته من آثار ناتجة عن اتهامه بارتكاب الجريمة وتوقيع العقوبة عليه ، وقد يكون الباعث هو الشفقة بالمجنى عليه أو الخشية من تعاليم الدين أو الأخلاق ، وقد يكون الخشية من مقاومة المجنى عليه أو التعرض للقبض وللمحاكمة. ويكون العدول غير اختيارى إذا كان يرجع إلى أسباب خارجية فرضت على الجانى عدم إتمام جريمته ، فإرادة الجانى لم تكن حرة فى عدولها وإنما تعرضت لإكراه مادى أو معنوى ألجأتها إلى العدول عن ارتكاب الجريمة. ومن أمثلة العدول غير الاختيارى أن يتعرض الجانى لمقاومة شديدة من المجنى عليه فلا تمكنه من ارتكاب جريمته أو أن يوقف فعل الجانى بسبب تدخل شخص آخر مثل أحد رجال الشرطة أو أحد المارة. وحكم العدول غير الاختيارى أنه لا يمنع من عقاب الفاعل بخلاف العدول الاختيارى.
ويدق الأمر فى بعض الصور التى يكون فيها العدول مختلطاً ، فهو من جانب اختيارى ، ومن جانب آخر اضطرارى. وفى هذه الصورة عرضت للفاعل واقعة خارجية أثرت على تفكيره وجعلته يوقف جريمته. ومثال ذلك أن يرى الفاعل شخصاً مقبلاً نحوه أو أن يسمع صوتاً قريباً منه فيعتقد أنه مهدد بالقبض ،فيوقف نشاطه ، وقد يكون هذا الاعتقاد غير صحيح كما لو توهم أن القادم نحوه شرطى وهو ليس كذلك ؛ أو كمن تصطدم قدمه أثناء السرقة ببعض أثاث المنزل فيحدث جلبة ، فيخشى الجانى من افتضاح أمره فيلوذ بالفرار.
وقد اختلف الرأى فى شأن العدول المختلط ، ويذهب الرأى الراجح فى تقديرنا إلى أنه يتعين على قاضى الموضوع أن يطرح التساؤل الآتى: هل كان فى مقدور المتهم أن يستمر فى جريمته ، أم أن الواقعة الخارجية قد أثرت فى نفسيته على نحو جعلته غير قادر على الاستمرار فيها؟. فإذا كان الاختيار ما زال فى يد الجانى ، وكان يمكنه الاستمرار فى التنفيذ أو أن يعود أدراجه كان العدول اختيارياً ، مع تطبيق القاعدة الأصولية التى تقضى بتفسير الشك لمصلحة المتهم.
- اللحظة التى ينتج فيها العدول أثره: لا ينتج العدول الاختيارى أثره فى انتفاء الشروع إلا إذا تحقق فى لحظة سابقة على اكتمال الشروع ، وسابقاً كذلك بداهة على إتمام الجريمة. أما إذا تم العدول بعد هذه اللحظة فإنه لا يؤثر فى انتفاء الشروع ، ذلك أن الندم أو التوبة اللاحقة على الجريمة لا أثر لها على أركان الجريمة فى القانون . ويعنى ذلك أن الجانى إذا أتم العمل التنفيذى للجريمة وخاب أثره لسبب لا دخل لإرادته فيه اكتملت أركان الشروع واستحق العقاب عليه ، ولا يجديه بعد ذلك عدوله عن تكرار هذا العمل. وتطبيقاً لذلك قضى بعدم توافر العدول الاختياري في واقعة تتحصل في قيام المتهمين بتسلق جدار منزل ملاصق للذي انتووا سرقته والصعود إلى سطحه حيث تم ضبطهم ، وعلة ذلك أن الجناة قد "دخلوا فعلاً فى دور التنفيذ و أنهم قطعوا أول خطوة من الخطوات المؤدية حالاً وبطريق مباشر إلى ارتكاب السرقة التى اتفقوا على ارتكابها من المنزل الملاصق ، بحيث أصبح عدولهم بعد ذلك باختيارهم عن مقارفة الجريمة المقصودة بالذات أمراً غير محتمل".
- أثر العدول الاختيارى: يترتب على توافر العدول الاختيارى انتفاء أحد أركان الشروع ، فإذا كان وقف التنفيذ أو خيبة أثره يرجع إلى إرادة الجانى ، فإن الشروع يفقد أحد أركانه الأساسية الأمر الذى يجعل الفعل غير معاقب عليه. والعدول الاختيارى وإن كان يحول دون توافر الشروع فى الجريمة التى كان يقصدها الجانى ؛ إلا أنه لا يمنع من عقابه على ما ارتكبه من أفعال سابقة على هذا العدول وتشكل جرائم أخرى. وتطبيقاً لذلك فإنه إذا بدأ الجانى فى تنفيذ جريمة القتل بالسم ، ثم أعطى ترياقاً للمجنى عليه أفسد به أثر هذا السم ، فإنه لا يعاقب بوصف الشروع فى القتل ؛ وإنما تتوافر فى حقه جنحة إعطاء مواد ضارة.
§ 4- العقاب على الشروع
- وجهة القانون فى العقاب على الشروع :
الأصل أن يعاقب على الشروع بعقوبة تقل عن عقوبة الجريمة التامة. وتبرير ذلك أن الشروع هو مجرد تهديد بخطر ارتكاب الجريمة ، ولم ينطو على إهدار الحق الذى يحميه القانون ، ومن ثم كان أقل إضراراً من الجريمة التامة الأمر الذى يبرر إفراده بعقوبة تقل عن عقوبة الجريمة التامة.
وقد سلكت القوانين فى تقرير عقوبة الشروع خطة قوامها التدرج فى العقوبة ، وذلك بحسب نوع العقوبة المقررة للجريمة. وقد يخرج الشارع على القواعد العامة التى سبق ذكرها ، فيغاير فى قاعدة التدرج فى العقاب ويساوى بين عقوبة الشروع وعقوبة الجريمة التامة مخالفاً بذلك قاعدة التدرج فى العقوبة ، وعلة ذك خطورة الشروع وتهديده الجسيم بالحق محل الحماية.
شكرا جزيلا
للاستفادة من موقعنا ابحثوا على الموضوع الذين تريدون، بمربع البحث. نسعى دائما لتطوير موقعنا، شكرا لكم