القائمة الرئيسية

الصفحات



تنمية الوقف بجزء من ريعه
الباحث : د.علي بن أحمد الندوي 




تنمية الوقف بجزء من ريعه
الموضوع : تنمية الوقف بجزء من ريعه:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله النبي الأمي الكريم محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الوقف من قبيل صدقة جارية، ومعناه: "تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة".(المغني 8/184) 
 ومقتضى ذلك أن يصرف ريع الوقف إلى الموقوف عليه، من المستحقين.فلا يجوز التصرف فيه إلا بقدر الضرورة. وبناء على هذا المبدأ لم يتطرق أهل العلم إلى البحث حول هذه القضية المطروحة، المتعلقة بحكم تنمية الوقف بجزء من الريع. بصورة واضحة.
ولكن يتضح بتأمل كلام العلماء حول مسائل متعددة اجتهادية ترتبط بالوقف، أنه لا مانع من أن ينمى ريع الوقف بما يتحقق به الغرض من الوقف، وهذا يتطلب أن تذكر شواهد تدل على ما ذكرت، وهي كما يأتي:
-مسألة جواز وقف النقود :
قال ابن قدامة :" ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، كالدراهم والدنانير والمطعوم والمشروب، والشمع وأشباهه، لا يصح وقفه، في قول عامة الفقهاء وأهل العلم إلا شيئا يحكى عن مالك، والأوزاعي، وليس بصحيح، لأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة، وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف لا يصح فيه ذلك. 
وقيل في الدراهم والدنانير : يصح وقفها، على قول من أجاز إجازتها…، والمراد بالذهب والفضة ههنا الدراهم والدنانير، وما ليس بحلي، لأن ذلك هو الذي يتلف بالانتفاع به."(المغني 8/229-230)
 وقد استهل الإمام البخاري باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت- أي النقد من الذهب والفضة-برأي الإمام الزهري ،وهو يدل على جواز القول عنده بوقف النقود، فجاء نص الأثر كما يأتي:
"وقال الزهري فيمن جعل ألف دينار في سبيل الله، ودفعها إلى غلام له تاجر يتجر بها، وجعل ربحه للمساكين والأقربين، هل للرجل أن يأكل من ربح تلك الألف شيئا وإن لم يكن جعل ربحها صدقة في المساكين ؟قال: ليس له أن يأكل منها."( صحيح البخاري-مع شرحه فتح الباري 5/405، كتاب الوصايا)
قال العلامة أبو السعود في توضيح رأي الإمام ابن شهاب الزهري" ولفظ الوقف وإن لم يصرح في عبارته، ولكن جعل الأصل في سبيل الله، وجعل ربحه صدقة صريح في أن المراد به الوقف المعهود، كما يؤذن به إيراده…في باب مترجم ب"وقف الكراع والعروض والصامت"، وبت القول منه بأن ليس للواقف أن يأكل الربح ظاهر في أن رأيه اللزوم في الوقف، وإلا لما جزم بذلك بناء على صحة الرجوع في الأصل كما لا يخفى."(رسالة في جواز وقف النقود لأبي السعود الحنفي، ص21-22،ط: بيروت  دار ابن حزم)



وقد ذهبت طائفة من أئمة المذاهب إلى جواز وقف النقود. وقد علل الحنفية رأيهم بأن الدراهم وإن كان لا ينتفع بأعيانها فإنما ينتفع ببدلها وهو قائم مقامها لعدم تعينها فكأنها باقية. (انظر: حاشية ابن عابدين 4/364)
ومن الجدير بالذكر أن الحنفية جعلوا الأصل في جواز الوقف هو التعامل، وبناء على ذلك أفتوا بجواز أن تقرض الدراهم للفقراء وتدفع مضاربة ويتصدق بالربح.( انظر: رسالة في جواز وقف النقود لأبي السعود ص 29)
وقال أبو محمد القيرواني المالكي:"ولو أوجب التحبيس في مال ناض، فأوقفه إلى أن يشتري به أصلا محبسا، فذلك جائز إذا اشترط فيه ذلك، وجعلها بيد غيره."(النوادر والزيادات 12/85)
وقد أشار ابن شاس في باب من الزكاة إلى جواز وقف المال للقرض على سائر الأنام.(عقد الجواهر الثمينة 1/316)
وقال النووي:"في وقف الدراهم والدنانير وجهان، كإجارتهما، إن جوزناها، صح الوقف لتكرى، ويصح وقف الحلي لغرض اللبس".(روضة الطالبين 5/315)
وجاء في "الاختيارات ":" ولو قال الواقف: وقفت هذه الدراهم على قرض المحتاجين، لم يكن جواز هذا بعيدا."(الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 248، ط: الرياض، دار العاصمة)
وقد تعرض في "الفتاوى" لمسألة جواز إبدال العين الموقوفة للمصلحة بما هو أنفع للموقوف عليه ثم ذكر عن الإمام أحمد رواية عن وقف الأثمان، وما يتفرع على ذلك من جواز وقف النقود لا للقرض فحسب -كما تقدم في النص المنقول آنفا-، بل للتنمية والتصدق بالربح أيضا، إذ قال ما نصه كالآتي:
" قد نص أحمد على أبلغ من ذلك-وهو وقف ما لا ينتفع به إلا مع إبدال عينه-فقال أبو بكر عبد العزيز في "الشافي ": نقل الميموني عن أحمد : أن الدراهم إذا كانت موقوفة على أهل بيته ففيها الصدقة، وإذا كانت على المساكين فليس فيها صدقة…
قال أبو البركات : وظاهر هذا جواز وقف الأثمان لغرض القرض، أو التنمية، والتصدق بالربح، كما قد حكينا عن مالك والأنصاري.قال :ومذهب مالك صحة وقف الأثمان للقرض. ذكره صاحب" التهذيب " وغيره في الزكاة، وأوجبوا فيها الزكاة كقولهم في الماشية الموقوفة على الفقراء. وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: يجوز وقف الدنانير، لأنه لا ينتفع بها إلا باستهلاك عينها، وتدفع مضاربة، ويصرف ربحها في مصرف الوقف.
ومعلوم أن القرض والقراض يذهب عينه ويقوم بدله مقامه، وجعل المبدل به قائما مقامه لمصلحة الوقف، وإن لم تكن الحاجة ضرورة الوقف لذلك."( مجموع فتاوى شيخ الإسلام 31/234)
ونخلص من ذلك إلى أنه لو كان وقف النقود جائزا للإقراض أو للتنمية أو للتصدق، كما أشير إلى ذلك فيما تقدم من كلام أبي السعود من الحنفية و نص أبي البركات من الحنابلة، فبالأحرى يجوز التصرف في جزء من ريع الموقوف من العقار وغيره لغرض تنميته، وذلك لحماية الوقف نفسه بتوفير مبلغ يستفاد به في إصلاح الوقف وتحسينه بدون أن يلحق ضرر بحقوق المستحقين.
- بيع الوقف واستبداله بخير منه:
قال في "الإنصاف":"اعلم أن الوقف لا يخلو، إما أن تتعطل منافعه أو لا، فإن لم تتعطل منافعه، لم يجز بيعه، ولا المناقلة به مطلقا. نص عليه في رواية علي بن سعيد، قال: لا يستبدل به ولا يبيعه، إلا أن يكون بحال لا ينتفع به، ونقل أبو طالب: لا يغير عن حاله ولا يباع إلا أن لا ينتفع منه بشيء، وعليه الأصحاب. وجوز الشيخ تقي الدين ذلك لمصلحة، وقال: هو قياس"الهدي"، وذكره وجها في المناقلة. وأومأ إليه أحمد.ونقل صالح: يجوز نقل المسجد لمصلحة الناس. وهو من المفردات.واختارهصاحب"الفائق"…، وصنف صاحب"الفائق" مصنفا في جواز المناقلة للمصلحة سماه" المناقلة بالأوقاف وما في ذلك من النزاع والخلاف"،وأجادفيه.ووافقه على جوازها الشيخ برهان الدين ابن القيم، والشيخ عز الدين حمزة ابن شيخ السلامية، وصنف فيه مصنفا سماه"رفعالمثاقلة في منع المناقلة".ووافقه أيضا جماعة في عصره. وكلهم تبع للشيخ تقي الدين في ذلك."(الإنصاف مع الشرح الكبير 16/522-525)
وقد ذكر العلامة المرداويصاحب"الإنصاف" أثناء استعراضه خلاف أهل المذهب في بيع الوقف قول الشيخ تقي الدين وهو"يجب بيعه بمثله مع الحاجة، وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة."(الإنصاف 16/ 528)
وجاء في فتاوى شيخ الإسلام في معرض كلامه حول مسألة إبدال الموقوف بخير منه: "وأما ما وقف للغلة إذا أبدل بخير منه: مثل أن يقف دارا، أو حانوتا، أو بستانا، أو قرية يكون مغلها قليلا، فيبدلها بما هو أنفع للوقف: فقد أجاز ذلك أبو ثور وغيره من العلماء: مثل أبي عبيد بن حرمويه، قاضي مصر، وحكم بذلك.وهو قياس أحمد في تبديل المسجد من عرصة إلى عرصة للمصلحة، بل إذا جاز أن يبدل المسجد بما ليس بمسجد للمصلحة بحيث يصير المسجد سوقا فلأن يجوز إبدال المستغل بمستغل آخر أولى وأحرى."( 31/ 253)
-" وسئل عن وقف على الفقراء والمساكين، وفي أشجار زيتون وغيره يحمل بعض السنين بثمر قليل، فإذا قطعت وبيعت يشتري بثمنها ملك يغل بأكثر منها، فهل للناظر ذلك ؟ …
فأجاب : الحمد لله، نعم، يجوز بيع تلك الأشجار، وأن يشتري بها ما يكون مغله أكثر، فإن الشجر كالبناء، وللناظر أن يغير صورة الوقف من صورة إلى صورة أصلح منها."(مجموع الفتاوى 31/260)
وقال في موضع آخر: "وهل يجوز مع كونه مغلا أن يبدل بخير منه ؟ فيه قولان في مذهبه. والجواز مذهب أبي ثور وغيره."( المصدر نفسه 31/266)
وفي رأي الحنفية-بناء على قول القاضي أبي يوسف- يجوز استبدال الوقف ببدل أكثر غلة.ذكر ابن نجيم بأنه لا يجوز استبدال الوقف العامر إلا في مسائل ومنها:"أن يرغب إنسان فيه ببدل أكثر غلة وأحسن وصفا، فيجوز على قول أبي يوسف رحمه الله، وعليه الفتوى.كما في فتاوى قارىء الهداية."( الأشباه والنظائر، تحقيق محمد مطيع الحافظ، ص225)
-جواز الاستدانة لصالح الوقف عند تحقق الحاجة والمصلحة:
 من الملاحظ أن الحنفية والحنابلة قالوا بجواز الاقتراض لمصلحة الوقف عند الحاجة، إذ يقول ابن نجيم:" الاستدانة على الوقف لا تجوز إلا إذا احتيج إليها لمصلحة الوقف كتعمير وشراء بذر، فتجوز بشرطين: الأول إذن القاضي. الثاني: أن لا تتيسر إجارة العين والصرف من أجرتها، كما حرره ابن وهبان. وليس من الضرورة الصرف على المستحقين.كمافي"القنية"."(الأشباه والنظائر ص 224)
وقال البهوتي:"وللناظر الاستدانة عليه، بلا إذن حاكم لمصلحة، كشرائه للوقف نسيئة أو بنقد لم يعينه."(شرح منتهى الإرادات2/505)
فإذا كانت الاستدانة جائزة عند تحقق المصلحة، فمن باب الأولى جواز تدبير وسيلة لتنمية جزء من ريع الوقف، لصيانة الوقف وتحقيق مقاصده.
 -مراعاة قاعدة المصالح:
ويظهر بأدنى تأمل أن القول بجواز استثمار ريع الوقف تؤيده قاعدة المصلحة، فالأصل مراعاة مصلحة الوقف، لأن الله تعالى أمر بالصلاح، ونهى عن الفساد، وبعث رسله بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. (انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 31/266)
وانطلاقا  من هذا الأصل" الناظر ليس له أن يفعل شيئا في أمر الوقف إلا بمقتضى المصلحة الشرعية، وعليه أن يفعل الأصلح، فالأصلح."(المصدر نفسه 31/67)
ومن المعلوم أن تعمير الوقف بشكل دوري أو على مدار العام من غلة الوقف قد يؤدي إلى حرمان المستحقين منها أو إلى نقصان حصصهم على أقل تقدير، إذ لا حق لهم  في الغلة التي تصرف إلى تعمير الوقف فقد ذكر الحنفية أنه" إذا جعل تعمير الوقف في سنة وقطع معلوم المستحقين كلهم أو بعضهم، فما قطع لا يبقى لهم دينا على الوقف، إذ لا حق لهم في الغلة زمن التعمير، بل زمن الاحتياج إليه، عمره أولا.وفي"الذخيرة" ما يفيد أن الناظر إذا صرف لهم مع الحاجة إلى التعمير، فإنه يضمن."(الأشباه والنظائر ص 237)
وقد ذكر العلامة ابن شاس أيضا أن ترميم الوقف من غلته مقدم على قسمتها بين المستحقين، ونص كلامه كما يأتي:
"يشترط في المتولي الأمانة والكفاية، ويتولى العمارة والإجارة وتحصيل الريع وصرفه إلى المستحق، بعد أن يصلح ما يحتاج فيه إلى الإصلاح، فالبداية بإصلاح ما ينخرم من الوقف."(عقد الجواهر الثمينة 3/51)
فمن مقتضى المصلحة ومن باب دفع الضرر عنهم أن  يشغل  جزء من الريع وينمى بأساليب تجارية تقل المخاطرة فيها، وذلك لكي لا تنقطع المعونة عنهم، وتزداد فائدة الوقف ويتحقق الهدف المقصود منه على أحسن وجه.
 وهذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن تكون تنمية ريع الوقف على غرار تنمية مال اليتيم من حيث إدارته بالدقة والأمانة، لكي لا يضيع الوقف بل يزداد ويثمر، وذلك"لأن مراعاة حفظ الوقف مطلوبة شرعا."(شرح منتهى الإرادات 2/504).والله أعلم

تعليقات