القائمة الرئيسية

الصفحات



محاضرات في قانون المسطرة الجنائية، الدكتور فريد السموني.

سلسلة محاضرات مركزة ومختصرة في قانون المسطرة الجنائية، الدكتور فريد السموني.


محاضرات في قانون المسطرة الجنائية، الدكتور فريد السموني.
يصعب إعطاء تسمية جامعة لقانون المسطرة الجنائية. فقد ينعت كذلك وقد يوصف بكونه
القانون الشكلي أو الشق اإلجرائي للمادة الجنائية. بل يمكن أن نعتبر مع بعض الفقه المقارن
أن تسمية مسطرة جنائية تغيب الجانب الخاص بالجهاز أو األجهزة المتدخلة في المسار
اإلجرائي.
على أية حال فقانون المسطرة الجنائية ال يخرج عن كونه قواعد قانونية تنظم المسار
اإلجرائي للمحاكمة في المجال الجنائي . ما دمنا نعتبر أن مفهوم المحاكمة الجنائية ال يهم
فقط مرحلة الحسم في النازلة ولكن يمتد ليشمل كل المسار اإلجرائي انطالقا من تلقي خبر
ارتكاب الجريمة لحين الحسم فيها.
يبقى أن ما يميز حقيقة هذا المسار اإلجرائي الذي ينظمه قانون المسطرة الجنائية كونه
متعدد المراحل ) مرحلة البحث / مرحلة المتابعة / مرحلة التحقيق / مرحلة الحكم بمعنى
حسم القضية( وكذا متعدد الفاعلين المتدخلين سواء من السلطة القضائية ) قضاء النيابة
العامة / قضاء التحقيق / قضاء الحكم / وقد نضيف اليوم قضاء تطبيق العقوبات( أو من
خارج السلطة المذكورة ) ونخص بالذكر الشرطة القضائية / كتابة الضبط(.
ومن أجل فهم ما تقوم به وعليه قواعد المسطرة الجنائية أوجد تاريخ العدالة الجنائية نظامين
يكاد يجمع الكل على فائدة المزج بين محاسنهما.
النظام االتهامي والنظام التفتيشي.
النظام األول يستمد تسميته من االتهام الذي يملكه صاحب الحق في االدعاء الذي هو إما
الضحية أو عائلته أو شهود الجريمة أو أي شخص.
بمعنى أن هذا النظام ال يعرف جهة رسمية تحرك الدعوى.كما ال يسمح للقاضي ) الشعبي
غير المحترف( بوضع يده على القضية. بحيث يلزم لهذا األخير أن ينتظر تمكينه من ذلك
من طرف صاحب حق االدعاء الذي يملك إنهاء القضية بالتنازل.
النظام االتهامي يبنى على قواعد الزالت إلى اآلن توظف على مستوى مرحلة الحسم في
القضية كالعلنية ) حيث تجري المحاكمة على مرآى ومسمع الجميع( والشفوية ) حيث ال بد
من عرض الحجج ومناقشتها من دون فتح المجال لغير ذلك من الحجج رغم علم القاضي
بها( ثم الحضورية ونفضل اصطالح التواجهية ) حيث يسمح للطرفين بالحضور والتواجه
من دون إقامة تفرقة بينهما(.
وتحسم القضية في جلسة واحدة.
على خالف ذلك النظام التفتيشي حيث تتكلف باالدعاء جهة رسمية. وهو ادعاء عام على
نقيض ما عليه األمر في النظام االتهامي. وحيث توكل مهمة الحسم في القضايا لقضاء



محترف يشتغل وفق مسطرة سرية تهيمن عليها الكتابة وتعطى فيها األهمية كل األهمية
لمرحلة التحقيق.
هذا النظام برز مع ظهور الدولة المالكة لسلطة عامة. ويتميز بقسوته سواء في التعامل مع
مرتكب الجريمة أو مع الشهود بحيث يقع االستنطاق واالستماع من دون إشعار بالتهمة أو
بطبيعة القضية.
لذلك قيل في حق هذا النظام أنه مبني على افتراض اإلدانة على خالف النظام الثاني المبني
على افتراض البراءة. ناهيك عن أن إضفاء كل األهمية على مرحلة التحقيق انتهى إلى
إعطاء مسطرة الحصول على االعتراف مكانة بارزة بحيث يمكن أن نفهم ذلك كمدخل
قانوني يشرعن من الناحية اإلجرائية لممارسة التعذيب.
وبمقارنة بسيطة بين النظامين يمكن أن نالحظ كيف يرجح النظام األول ضمانات المتهم
على الحق المجتمعي العام. وكيف تغيب ضمانات المحاكمة العادلة في النظام الثاني على
حساب الحق العام.
بالرجوع لقانون المسطرة الجنائية المغربي يمكن أن نقول وبشكل موضوعي أنه عرف
تطورا ملموسا خاصة مع قانون 3 أكتوبر 2002 الذي دخل لحيز التطبيق في فاتح أكتوبر
2003.بحيث تضمن الكثير من المقتضيات اإليجابية سنعرض لها بتفصيل في المحاضرات
المقبلة كقرينة البراءة وكتعريف المحضر المنجز من طرف ضابط الشرطة القضائية
وكالصلح الجنائي وكالمراقبة القضائية لتقوم كبديل لالعتقال االحتياطي وكاستئناف قرارات
غرفة الجنايات وكاستحداث قضاء تطبيق العقوبات وكثير من ضمانات المحاكمة العادلة
وفي كل مراحل المسار اإلجرائي.
ومع ذلك نحن بانتظار مشروع مهم سيعمل على إدخال تعديالت جذرية على قانون 2002
مما ال شك فيه أنها ستغني الضمانات اإلجرائية وبشكل أكثر مالءمة خاصة مع الدستور
الجديد 2011 حيث أصبح هذا األخير يتضمن أفقا واعدا للعدالة الجنائية ال يملك قانون
المسطرة الجنائية الحديث سوى استهدافه واستشراف مستقبل يالئمه.
وحتى ال نبخس قيمة المحطة التاريخية نقول أن ظهير 10 فبراير 1959 لم يكن قانونا
عاديا. بل كان قانونا متقدما خصوصا بالنظر لواقع ما كان عليه المجتمع المغربي آنذاك.
لكن وكما للمواطن حقه في الضمانات. فللدولة أيضا التزامات يأتي على رأسها ضمان
األمن واالستقرار. بحيث من يتأمل في الطبيعة المتقدمة لظهير 1959 وواقع ما كانت
تواجهه الدولة في تلك المرحلة يفهم وفي حدود معينة إكراهات أهم التراجعات التي حصلت
منذ الستينيات إلى سنة 1974 مع ظهير اإلجراءات االنتقالية.
سنرجع لمقتضيات الوثيقة الدستورية في حينه. لكن الحقيقة القانونية التي أصبحت تفرض
نفسها اليوم - خصوصا وأن المغرب بدأ يدشن لترسانته القانونية بتشريعات مغربية تالئم
واقع ما يعرفه من تطورات - أن المقتضيات الجديدة الواردة في دستور 2011 والخاصة
بالعدالة الجنائية أصبحت تفرض نفسها على مستوى المالءمة أسبق من أي مرجعية أخرى.
هذا وبإجراء مقارنة بسيطة بين قواعد المسطرة المدنية وقواعد المسطرة الجنائية يمكن
القول بخصوص األولى أنها تدور باألساس حول المصالح الخاصة لتنتهي في النهاية




بتحقيق مصالح مالية غالبا ما يحكمها منطق النفع الخاص الذي يقبل تصور كل هوامش
التصرف من صلح وتنازل وحتى مراجعة جهات أخرى غير الجهة القضائية.
بينما القواعد الثانية وبحكم ارتباطها الحيوي بالحق العام تجد نفسها منصهرة في مفهوم
المصلحة العامة التي هي مصلحة المجتمع.
من أجل ذلك كانت وضعية األطراف مختلفة وكذلك قواعد اإلثبات والمبادئ التي تحكمه.
األطراف في المسطرة المدنية يملكان تحكما واضحا بخصوص الدعوى بحيث يصعب
مبدئيا تحكيم منطق الطرف المؤسساتي إال في حدود ما يظهر من طبيعة بعض الدعاوى
المدنية التي تروم تحقيق مصلحة عامة وفق النحو الذي تسير عليه قواعد المسطرة
الجنائية.كما هو الحال في قضايا الحالة المدنية وبعض القضايا الخاصة باألسرة.
بينما وضعية األطراف في المسطرة الجنائية فهي مختلفة تماما بحيث تظهر النيابة العامة
كطرف مؤسساتي يعكس من جهة استقالل السلطة القضائية ويجسد من جهة أخرى الحق
العام. هذا األخير الذي ال يقبل مبدئيا ال الصلح وال التنازل ألنه في ملك المجتمع وال تقوم
النيابة العامة كطرف رسمي مؤتمن عليه سوى بإطالقه وتحريكه من دون انتظار موقف
الضحية أو التقيد بالرغبة في التخلي عنه. وعيه بإمكان النيابة العامة أن تثير المتابعة ولو
عارض الضحية. كما يمكن لها أن تستمر في الدعوى العمومية التي كانت وراء تحريكها
ولو تخلى الضحية عن حقه - الذي ال يخرج عن المطالبة بالتعويض دون أن يطال الحق
العام -.
أما على مستوى اإلثبات فإن كان يحكمه مبدأ القانونية على مستوى المسطرة المدنية بحيث
ال يترك للقاضي هامشا إيجابيا من أجل تفعيل الحجة والتفاعل معها. فإنه حر في المسطرة
الجنائية رهين بمدى اقتناع القاضي وبشكل صميم.
لذلك كان لألطراف الدور البارز لتقديم الحجة ومناقشتها في المسطرة المدنية. بينما يقع
عبء اإلثبات على قضاء النيابة العامة في المسطرة الجنائية ليتمتع المتهم فعال بقرينة
البراءة. انطالقا من هذا المنطق المختلف في التعامل مع مفهوم الحجة في المسطرتين
المدنية والجنائية سمح الفقه اعتمادا على التصورات القانونية قاعدة تجزءة االعتراف في
المادة الجنائية من دون أن يسمح بذلك على مستوى اإلقرار في المادة المدنية.
يبقى أن قواعد المسطرة الجنائية شأنها شأن قواعد الموضوع يحكمها مبدأ الشرعية.فقاعدة
ال جريمة وال عقوبة إال بنص تقابلها في تكريس الشرعية اإلجرائية قاعدة ال ضبط وال
اعتقال وال متابعة وال إدانة إال بنص.
ومع ذلك يطرح مفهوم الشرعية اإلجرائية بعض المشاكل سواء على مستوى تفسير القواعد
أو على مستوى تطبيقها خصوصا من حيث الزمن وحيث تثار إشكالية التطبيق الفوري
لبعض القواعد اإلجرائية التي قد تمس بشكل أو بآخر بحقوق الدفاع.
بخصوص التفسير يتفق الفقه الجنائي على طبيعته الموسعة في قواعد المسطرة الجنائية. فال
بأس من التوسع في تفسير هذه القواعد ما دام الهدف منها كشف الحقيقة بضمانات المحاكمة
العادلة. وال بأس كذلك من استعمال القياس لالستئناس بقواعد إجرائية منصوص عليها في
مواقع شبيهة ومماثلة للمواقع التي لم يعرض لها المشرع اإلجرائي بالتدقيق.
أما إشكالية التطبيق على مستوى تنازع القواعد اإلجرائية فليس هناك مبدئيا اتفاق فقهي.
بحيث هناك من يتشدد في إعمال قاعدة التطبيق الفوري للقواعد الجديدة مهما عدلت

وقلصت من حق الدفاع استجابة لمنطق حسن سير العدالة الجنائية. بينما هناك من ينبه إلى
عدم إعمال القاعدة المذكورة - التطبيق الفوري للقواعد الجديدة - عندما يظهر وبشكل جلي
أنها تمس بحق من حقوق الدفاع أو بصفة عامة بإحدى ضمانات التقاضي.


التحميل من هنا

تعليقات