القائمة الرئيسية

الصفحات



الطلاق الشفوي بين أحكام الشرع ومقتضيات الوضع ومنطق الطبع دراسة قانونية وفقهية ومقاصدية، الدكتور عادل حميدي.

الطلاق الشفوي بين أحكام الشرع ومقتضيات الوضع ومنطق الطبع دراسة قانونية وفقهية ومقاصدية، الدكتور عادل حميدي.





عوامل عدة متداخلة عموما وخصوصا، شرعية وقانونية وأخلاقية وحقوقية حملتني على اصطفاء موضوع الطلاق الشفوي واقتحام عقبته، وتخصيصه بتدقيق أحكامه، تأصيلا وتطبيقا، في ضوء الواقع المختلف، أشخاصا وزمانا ومكانا، وعرضها على ميزان الشرع وأحكام الوضع ومنطق الطبع، تأسيسا على مقدمات ونتائج، دون تجاسر أو افتيات، وعدم الوقوف عند ما خطه سادتنا الفقهاء في تآليفهم البديعة الألفاظ السامية الأغراض بإمعة وما زمموه بتسليم، فقد كان صحيحا في وقته سديدا في إبانه، فهم رجال ونحن رجال، والطريق لمن صدق لا لمن سبق كما قال السادة الصوفية. ومن هذه العوامل تعاظم ظاهرة الطلاق الشفوي، واستهتار بعض الأزواج بأثر الطلاق، الخاص والعام، وعدم تقدير المآلات ومراعاة العواقب، وجعل الله عرضة للأيمان دون توثق أو استبيان، وذيوع أيمان الهزل واللغو، وعدم اعتبار كون الحكم يدور مع علته وجودا وانتفاءً، وعدم الاعتداد بتأثير فقه الواقع على الأحكام الشرعية، تعديلا أو إلغاءً، تصويبا وتسديدا، وإهمال تفعيل سلطة ولي الأمر في تقييد المباح في سياقات معينة تقتضي ذلك، وعدم مراعاة المصلحة الفضلى للأبناء، وفساد بعض الذمم وشيوع الجحود والإنكار، وتوسع ظاهرة الأطفال المتخلى عنهم، وازدياد هامش التفكك الأسري واقتصار مفهوم الأسرة على الأسرة النووية (1) وضعف سلطة الأبوين وأفول سطوتها في ظل وجود مؤثرات أخرى أكثر استحكاما وأكبر تأثيرا، كالإعلام والشارع العام.
فضلا عن تزايد ظاهرة التدين الظاهري السطحي، ووجود هوّة بين العقيدة والسلوك، العلم والعمل، وتصدر شيوخ ودعاة الفضائيات للفتوى وقيادة العقل الجمعي، وتلقين الدين من صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية ومنصات الندوات في لحظات حماسة وإثارة، ووجود التباس مفاهيمي ناتج عن عدم ضبط المفاهيم الكبرى وذلك بعدم تحرير مفهوم التوفيقي والتوقيفي، والديني والدنيوي، والغيبي والحسي، والثابت والمتغير، والمناقشة بمعايير الصواب والخطإ والحلال والحرام، وعدم تحرير معاني الاصطلاحات الفقهية، والركون إلى راحة اجترار أقوال السلف، والاقتصار على ذات الحواشي والشروح والمختصرات لذات المتون والتآليف الفقهية، والتوسل بالحيل الفقهية وذيوع التنطع وهجر الرخص وسيادة فقه التشدد واصطحاب فقه الاستثناء في مقام فقه الأصل، والاعتصام بالآراء والمذاهب المهجورة والشاذة، ومناقشة مصادر الشريعة النقلية والعقلية دون استيثاق أو تبين لطبيعتها الثابتة أو المتغيرة. وعدم تجديد هذه المصادر بما يليق ومتطلبات العصر وخصوصية كل مصر، أو ما يصطلح عليه بالفقه الإنشائي، إذ النصوص متناهية والحوادث لامتناهية.




وكذا عدم الالتفات إلى تأسيس الأحكام الشرعية على ضابط المصلحة والعدل في العاد والمعاد، ووجود مصادر عقلية معتمدة، ضامنة لتطور الفقه الإسلامي، الثر الزاخر، والذي لا تحصر معارفه ولا تقصر مصارفه إلى جانب المصادر النقلية المعروفة، أو ما يصطلح عليه بأدلة التشريع فيما لا نص فيه، والتي تمثل عوامل السعة والمرونة في الشريعة، نظير الاستحسان الذي هو ترك الأصل والقياس لدليل أقوى منه حرصا لما هو أنفع للناس،(2) وكذا الاستصحاب والعرف، بل ووسم أحد المصادر الاجتهادية بوسم المصالح المرسلة، وهي التي لم يشهد لها الشرع الحنيف لا بالاعتبار ولا بالإلغاء،(3) وذلك وفق نطاق منضبط من الاجتهاد الشرعي المعتبر، وليس بالهوى والتشهي، مما يدل على قيام الشريعة الغرّاء على علل معقولة منضبطة لا على غيبيات مجهولة، مستجيبة لحاجات الناس في الدارين، ملبية لرغباتهم في الحال والمآل، العاد والمعاد، مراعية لمصالحهم، فطوبى لمن أدركها واتبعها، فحيثما وجدت المصلحة فَثَمَّ شرع الله، على نحو ما قرره الجهابذة من علماء الأصول ونجباؤهم، وما قاله غير واحد منهم، كالإمام العز بن عبد السلام سلطان العلماء والإمام المقاصدي الشاطبي(4)
إن توسع نطاق الطلاق الشفوي والاستهتار بهذه المكنة التي لا تبقي ولا تذر، الهادمة للأسر واستسهالها، وإسرافنا ومغالاتنا في قبولها، لا يعدو أن يكون عرضا لأمراض واعتلالات متعددة، اقتصادية ونفسية ودينية وأخلاقية وقيمية وتربوية ومالية، فإن في إطلاق حبل الطلاق الشفوي على غاربه مفسدة عامة محققة، وذلك من خطل الرأي وخطإ العمل، فكان واجب الوقت عقل هذه المكنة وتقييدها أو حتى عدم الاعتداد بها، وهجرها وإيقاف العمل بها إلى حين توافر موجبات الإعمال، وذلك بعد رجوح أسباب ودواعي الإهمال، أسوة بما وقع من إيقاف سهم المؤلفة قلوبهم وإيقاف إنفاذ حدّ السرقة من قبل الفروق عمر عام الرمادة، ولو تعلق الأمر بنص قطعي الثبوت و قطعي الدلالة،(5) لانتفاء مظنة الإيقاع، فكيف بغيره؟! والمقصد الأسمى والغاية الأسنى حماية لحمة الأسرة، وحق الله بالتبع.
إن الإبقاء على مفاعيل الطلاق الشفوي ونفاذ آثاره رغم تنصيص المشرع الواضح والصريح على أن الطلاق يقع حصرا بين يدي القضاء في وثيقة مكتوبة، متمثلة في حكم قضائي متى تعلق الأمر بالتطليق، أو إشهاد عدلي حال تعلقه بالطلاق، معناه وجود تعارض بيِّنٍ ما هو شرعي وما هو قانوني، فتغدو الزوجة معلقة، إذ هي مطلقة شرعا بمقتضى كلمة، غير مطلقة قانونا، تألف سماع كلمة ممجوجة في العقل الجمعي، وتأبى تصديقها، في ازدواجية غريبة شاذة تمس بالأمن المجتمعي، فنصبح أمام إشكالية الحلال والحرام، معصية الله أو معصية الزوج، حق الله أو حق العباد.
وهذا مشكل بنيوي في عقل المسلم المعاصر، توهم وجود تضادّ بين ما هو شرعي وقانوني في مواضيع عدة ومواضع شتى، والتوجس من غاية المشرع وإرادة المقنن ورميها بالريبة والتشكك، وتوهم كون التقنين ذا خلفيات غربية مستلبة، كون أغلب القوانين المغربية مقتبسة من القانون الفرنسي، واعتبار غاية المشرع المستترة تقويض عرى الشريعة ونسخ أحكامها، رغم أن الغاية الرئيسة التي يبتغيها كل مقنن ويتغياها كل مشرع هي تفادي التعارض المذكور، بين الشرعي والقانوني، العرفي والقانوني، خاصة مع تعدد الآراء الشرعية بين المذاهب الفقهية، بل وفي المذهب الفقهي الواحد، واختلاف الأعراف المناطقية، بخلاف التقنين والذي يكون واحدا غير متعدد أو محتمل، وهذه الازدواجية المميزة لن تجدها في الدول ذات المرجعية الواحدة، اللاتينية أو الأنجلوسكسونية أو الجرمانية، ومن شأنها لا محالة إن سيء سبكها المساس بالأمن القانوني وتحديدا بالتوقع والاستقرار القانونيين.
فإذا كانت مسائل الفقه سيما فقه الأسرة لا تؤخذ مجملة، بل بتحرير المعنى وتدقيق الفهم، وإبراز المؤيدات، فأهل هذا الوقت لا يفحمون إلا بالدليل ولا يقتنعُون سوى بالحجة، وقد قيل من تجاوزه الدليل فهو ذليل، كان لا بد من سوق الأسانيد المختلفة، الفقهية والقانونية والواقعية التي تعضد رجاحة رأينا، ومنها: 
-أن المشرع عرّف الطلاق بمقتضى المادة 78 من مدونة الأسرة بكونه : "حل ميثاق الزوجية يمارسه الزوج والزوجة كل حسب شروطه تحت مراقبة القضاء وطبقا لأحكام هذه المدونة."
ولم يعمد إلى التعريف الفقهي الدارج الدال على إمكان وقوع الطلاق شفاهة، إذ الطلاق بحسبه هو: "صفة حكمية ترفع حلية متعة الزوج بزوجته موجبا تكررها مرتين."(6) أو هو: "رفع قيد النكاح في الحال أو المآل بلفظ مخصوص أو ما يقوم مقامه"(7) فدل ذلك على عدم اعتداد المشرع بالطلاق الشفوي.




- إن القول بأن في إنفاذ الطلاق الشفوي معاقبة للأزواج بنقيض القصد، حتى يحجموا عن مثل هذا الفعل، وَيُرووا في الأمر، قول غير سديد، لا يستند إليه أو عليه، لأن فيه معاقبة للزوجات والأبناء والمجتمع بغير ذنب جنوه، وغني عن البيان أن المعاقبة بنقيض القصد لا تكون إلا إذا كان الأثر خاصا أو فرديا، كما هو حال تصرفات المريض مرض الموت، وكذا قتل المورّت أو الموصي عمدا، أما إذا كان عاما فلا معاقبة.(8)
- يجوز لولي الأمر وفق ما قرره الحذاق من فقهاء السياسة الشرعية الأكابر الأكارم تقييد المباح(9) وتضييق دائرة تناوله، ومنع المكلف من فعله في نطاق سلطاته المتاحة، دفعا لمفسدة محققة جرّاء بقاء المباح مطلقا وعلى حالته الأصلية، أو متى تبت عند إعمال فقه الموازنة أن المصالح المستجلبة أقل من المفاسد الحادثة، وقد قيّد المشرع مباح الطلاق جزئيا عندما أوجب صياغته كتابة، وقد كان متاحا وسائغا بغيرها، وتوسل بجميع العبارات الدالة على ذلك، وفقا لما توجبه مقتضيات المادة 79 من مدونة الأسرة، والتي جاء في نصها:
"يجب على من يريد الطلاق أن يطلب الإذن من المحكمة بالإشهاد به لدى عدلين منتصبين لذلك، بدائرة نفوذ المحكمة التي يوجد بها بيت الزوجية، أو موطن الزوجة، أو محل إقامتها أو التي أبرم فيها عقد الزواج حسب الترتيب." (10) والمشرع الأسري أوجب هذا الأمر وعممه على كل من يريد الطلاق، سواء طلق شفويا أو لم يطلق، وتوسله بعبارة "يجب على كل من يريد الطلاق"، يدل على أنه لم يعتد بالطلاق الشفوي، ذلك أن إرادة الطلاق تدل على عدم وقوعه فعلا ولو وقع شفاهة، ولم يشر المشرع البتة إلى الطلاق الشفوي تصريحا، اعتمادا أو استبعادا، أخذا أو ردّا ليبتعد عن أي سجال فقهي، مُعرضا عن حظره تصريحا، باعتباره داخلا في دائرة وحرم الفتوى، وهو اختصاص أصيل للمجلس العلمي الأعلى جدير به أن يحسم الجدل المثار بخصوصه.
- إذا رتبنا الأثر الشرعي على الطلاق الشفوي، فلن يهنأ أي زوج بزوجته، وسيقع يقينا المساس بالأمن الأسري، فإذا كان المرتد يستتاب شرعا قبل إنفاذ الحد عليه للرجوع عن غيّه وللتبين، ولا يؤاخذ بمجرد كلمة قالها،(11) فكيف لا يُمكّن المطلق من فترة لتقليب النظر ودراسة شتى الأبعاد وكافة الآثار. 
- إذا كان الطلاق في التعريف الاصطلاحي هو حل الرابطة الزوجية، فإن الحل يجب أن يكون بنفس الطريقة التي تم بها العقد وهي الكتابة يقينا.
- الطلاق كما جاء في الاستعمال القرآني مرتين، إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان، ولم يبين الحق طريقة إيقاعه، كتابة أو شفاهة، لإدراك رب العباد المكين بتغير الأحكام الشرعية وتبدلها زمانا ومكانا، أي بحسب الأزمة والأمصار والنواحي والأقطار، فكان من باب السعة والتخفيف على المكلفين، إطلاقه هكذا مرسلا لإلباس كل حالة لبوسها، تقييدا أو إطلاقا، تضييقا أو توسيعا بما يليق، فتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، وابتدعوا من الأمور.
- الطلاق المعتد به شرعا هو ذاك الواقع للزوجة في طهر لم تجامع فيه، حيث يتحين وقت طهرها الذي لم يمسه فيه ثم يطلقها، أما الطلاق غير المراعي لذلك فلا يعتد به، فدل ذلك على أنه ليس كل طلاق شفوي يكون منتجا حتى في عصر النبوة وبعدها، بل لا بد له من آداب ووقت وشكليات ضابطة.
- إعمالا لأصل سد الذريعة المعتبر، المعتد به شرعا، المعدود من المصادر العقلية الكبرى الضامنة لاستيعاب ومواكبة المتغيرات، فإن حظر إيقاع الطلاق الشفوي وعدم ترتيب أي أثر شرعي عليه، من شأنه الحفاظ على الأمن الأسري من نزوات عابرة وانفعالات مزاجية ومن تلاعبات بعض الأزواج المستهترين غير المقدرين للنتائج، قال الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام: "وهل يَكُبُّ الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم."(12) وغير المراعين لعواقب الأمور ومآلات الأفعال، قال الإمام المقاصدي الشاطبي في موافقاته، وهو إمام له بالاجتهاد إلمام، منبّها على ذلك وعلى غيره: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، ذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من أفعال المكلفين بالإقدام والإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه هذا الفعل."(13) فالحكم الشرعي لأي فعل لا يحدد مجردا من آثاره، الآجلة والعاجلة، الظاهرة والمستترة، ومن ثمة فإن الطلاق الشفوي تعتريه سائر الأحكام الشرعية، إباحة وحظرا، إجازة ومنعا، بحسب الأثر المترتب، الخفي والظاهر، وإن كان الأصل فيه الحظر والحرمة. (14)
- إن ترتيب الأثر الشرعي على الطلاق الشفوي، معناه إمكان الاستعاضة عن الطلاق الواقع أمام سدة القضاء ومحراب العدالة، بذلك الواقع في غرف مسوّرة، بعيدا عن مراقبة مشروعيته، وهو ما قد يؤدي إلى الجمع بين أكثر من زوجة، بغير لجوء إلى مسطرة التعدد، طالما أن الطلاق يتم بكلمة الرجعة خلال العدة أو المراجعة خارجها بكلمة. بل وحتى تجاوز العدد المسموح به شرعا، وكذا عدم ضبط آماد العدة، وإهدار حق الزوجات وحق الأبناء في الحصول على سائر المستحقات عقب الطلاق وإثره، فهذا الأمر يدخل في زمرة الحقوق العامة لا الخاصة العائدة لمطلق تقدير الأطراف.
- إن إجازة الطلاق الشفوي يقتضي إجازة سائر التصرفات التي كانت تقع شفويا زمن النبي صلى الله عليه وسلم لجريان العمل بذلك، لعدالة أهل ذلك الزمان لقربهم من زمن النبوة، ودماثة أخلاقهم وثبات إيمانهم. وهو ما يزكيه قول الحبيب المعصوم عليه الصلاة والسلام: "خير القرون قرني ثم الّذين يلونهم ثم الّذين يلونهم."(15) وغني عن البيان أن المشرع تدخل وأوجب تزميم سائر التصرفات، العوضية والتبرعية كتابة، واعتبرها وسيلة الإثبات الوحيدة والفريدة المقبولة تحت طائلة عدم الاعتداد بها، أفيسوغ للزوج شرعا وقانونا أن يهب لزوجته شيئا شفاهة؟ وكذلك الأمر بالنسبة للطلاق. ثم كيف لنا أن نستفيد من نعمة التوثيق مستغلين كافة مستجدات العصر في كل التصرفات المتعلقة بالعقارات والمنقولات، ونحرم أنفسنا من هذه النعمة فيما يتعلق بالطلاق؟!
- إن اعتماد الطلاق الشفوي ونفاذ آثاره وسريان مفاعيله كان في زمن لم تكن فيه المحاكم قد أنشئت، ولم يقع تعيين القضاة في الأمصار، بل ولم يقع تمصير الأمصار وإنشاء الدواوين،(16) أما وقد تغيرت أسباب الورود وسياقات التشريع، فلا موجب لبقاء ذات الحكم والإصرار عليه عنادا ومكابرة رغم آثاره الوخيمة العانة والظاهرة لكل ذي نظر سديد بعيد، فالتدرج في التشريع سنة شرعية وتشريعية.
- إن المودة والرحمة المعتبرتين عماد وعمود العلاقة الزوجية(17)، فردا أو جمعا، شفعا أو وترا، الأولى تعني محبة الزوج لزوجته، والثانية رأفته بها وخوفه عليها، واللتين يتطلب ترسيخهما سنينَ عددا، وتضحيات جساما، وصبرا على المكاره وحلما وتغافلا وتغافرا، لا يمكن أن يهونا في لحظة عابرة، فيهدم صرح الأسرة العتيد بأدنى وأتفه المعاذير وأهون وأوهن الأسباب.
- إن كثيرا من الأحكام الشرعية غير الداخلة في حرم الأمور التوقيفية في حاجة إلى مراجعة كلية أو جزئية بما يتناسب مع متطلبات العصر، وواجب الوقت وإكراهات الزمان، دون مساس بالثوابت أو هدم للأصول أو نقض للعزائم. فالشريعة الغرّاء صالحة لكل زمان ومكان، قولا وفعلا، حقا وصدقا، قال ربنا في التنزيل: "ما فرطنا في الكتاب من شيء"،(18) فلا بد والحالة ما ذكر من المرونة في الوسائل مع الثبات في الأهداف، التغير الدائم في السبل مع الاستقرار في المقاصد والغايات، محافظة على الشريعة من التغيير والتحريف وضمانا لاستمراريتها ودوامها تنفيذا لوعد الحق سبحانه الشارع الأعظم في التنزيل، قال جلّ وعلا: " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون." (19).
- إن ترتيب الأثر على الطلاق الشفوي معناه إمكان وجود تضارب في الآثار مع الطلاق الكتابي، أبرزها آماد عدة الطلاق، أتبدأ من تاريخ إيقاعه شفويا؟ أم من تاريخ حدوثه بين يدي القضاء؟ ووقت الرجعة، وبدء سريان نفقة الطلاق الرجعي، ونحوها من الآثار المعتبرة.
- إذا أسغنا الطلاق الشفوي ورتبنا عليه الأثر، فيمكن للمطلق أن يقتصر على الطلاق المذكور ولا يلجأ إلى المحكمة البتة، مقتصرا على ما يعتبره هو مجزءاً وما قد تعتبره الزوجة كذلك، فتعطل أحكام مقتضيات قانونية ملزمة واجبة النفاذ، حامية لحقوق خاصة وعامة.
- إن حماية حق الزوجات والأبناء في علاقة مستقرة وثابتة لا يغشي صفاءها غاش، ولا يكدر صفوها مكدّر، ولا تخضع للتهديد المستمر المفاجئ عند أدنى ابتلاء من قبل طرف من طرفي العلاقة الزوجية، يقتضي عدم ترتيب أي أثر على الطلاق الشفوي، والذي يقع بإرادة منفردة، وقد يقع بعسف وشطط في لحظة غضب أو جفاء عابرة، ناتجة عن طبيعة النفس البشرية المتقلبة الأمارة بالسوء، فالإنسان لا يؤاخذ بلغو اللسان، والقرار الآجل المضمون خير من القرار العاجل المظنون.
- اعتبار أنه بمجرد تلفظ الزوج بلفظ الطلاق فإنه يلتزم به ديانة أمام الله حتى ولم يقع الإشهاد به قضاء غير صحيح بعد تنظيم هذا الأمر تشريعيا بمقتضى نصوص آمرة، ذلك أن الطلاق المعتد به شرعا وقانونا، هو ذاك الواقع بين يدي المحكمة بعد استيفاء مسعى الصلح وتحديد حقوق الزوجة والأبناء المالية وحق الأب في الزيارة وتوثيق ذلك كتابة، ولا يعتد إلا بعدد الطلقات الموثقة دون غيرها.
- إن عدم الاعتداد بالطلاق الشفوي لا يترتب عليه مصادرة حق الزوج في إعمال مكنة متاحة له دائما، بل هو ترشيد وعقل لها، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وذلك بتأكيدها أمام مجلس القضاء بعد التروي وهدوء النفس وزوال غشاوة الانفعال اللحظي ونوازع التأثر الآني، ومراعاة العواقب الخاصة والعامة، وتدخل عقلاء العائلة وتكليف حكمين كيسّين للتوفيق والسداد، وهو ما يزكيه قوله تعالى: "خلق الإنسان من عجل"،(20) وقوله جلّ من قائل: "فلا تستعجلون."(21) وقول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ولكنكم تستعجلون."(22) كناية عن خطورة آفة الاستعجال، وتنبيها لأمته على عظم آثاره، دينا ودنيا، حالا ومآلا. فمن تأنى أصاب أو كاد ومن تعجل أخطأ أو كاد، والمتأني الحليم يكون سعيه حميدا وفعله رشيدا وقوله سديدا.
- إعمالا لفقه الموازنة بين المصالح المستجلبة والمفاسد الواقعة، والضرر الخاص الواقع على الزوج جرّاء حرمانه من استعمال مكنة الطلاق الشفوي والضرر العام الواقع على أسرته وعلى المجتمع، فإن الضرر العام يزال بالضرر الخاص، فيتحمل الضرر الأدنى رفعا للضرر الأعلى، أو يدفع الأكبر بالأصغر، وهي من القواعد الفقهية الكبرى المحكّمة المتعلقة برفع الضرر.
- إن تأخير ترتيب الأثر الشرعي والقانوني للطلاق إلى حين تأكيده أمام أعتاب القضاء من شأنه تحصين الطلاق من القرارات الانفعالية والمزاجية، وحفظه من الانحراف والوقوع في مهاوي الزيغ والشطط الناتج عن ذهاب العقل حال الغضب عند استحكام الخلاف، وطغيان الخصام وظهور الشنآن وغلبة الانفعال، أو المتحصلة عن ردود أفعال غير مروى فيها. فالطلاق يرد على الجنان وينطق به اللسان ويخطه البنان.
- إن انتقال بعض أحكام الشريعة إلى زمرة أحكام القانون عندما يصطفيها الناس ويرتضيها المجتمع يقتضي مراعاة آثار هذا الانتقال تجنبا للازدواجية والتضارب في الأحكام، فننتقل من أحكام شرعية تكون فيها العلاقة بين الإنسان وربه، إلى أحكام قانونية دنيوية متى شرعت من طرف ولي الأمر، أو من طرف جهة التشريع في الدولة، فتراعى خصوصيات هذا التحول من خلال مراعاة خصائص القاعدة القانونية، سيما العموم والإلزام، وكذا وجوب الإذعان لشكليات معينة، توثيقا وإجراءات وآثارا.
- إن نزوع الدولة نحو التقنين وتنظيم وضبط أبرز العلاقات، خاصة الأسرية المعتبرة من النظام العام، في نصوص تشريعية واضحة معلومة لا يعذر أحد بجهلها، يقتضي عدم إطلاق حبل الطلاق على غاربه وتنظيم سائر متعلقاته تنظيما تفصيليا محكما، موضوعا وإجراءات، تنظيما لا يترك مجالا لتأويل المؤولين أو عبث العابثين أو استهتار المستهترين، ولمطلق تقدير الأزواج وأمزجتهم، ومدى ثباتهم الانفعالي ورسوخ إيمانهم ودماثة أخلاقهم، واكتمال دينهم، فالامتثال خير من الأدب، ومثل ذلك لا يختبر فيه صبر الإنسان.
-القول بكون سياق الاقتصار على الطلاق الشفوي كان إبان سيادة فقه البداوة والصحراء، ليس سُبَّة أو نقيصة أو معرّة، بل إنه رصد لتأثير الجغرافيا على الفقه، والمجال على الرجال، ووصف لواقع الحال الذي كان سائدا في الجزيرة العربية، والذي لم يكن بحال يعرف ثقافة التوثيق، كما هو الأمر بالنسبة للعراق وفارس ومصر، أي حضارات الأنهار، وهي أمم ذات حضارة تليدة، وعادات معرفية متوارثة بالسند المتصل، وهذا الأمر مرّده لأسباب تاريخية ومجالية وعرفية، متمثلة في كثرة الترحال واستحكام الأمية وسيادة الأعراف التجارية وعدم وجود الصحف والدواوين، وعدم وجود تراكم معرفي وتقاليد للتدوين والتأريخ، ومعلوم أن الحكم يدور مع علته الزمانية والمكانية والشخصية والعرفية، وجودا وعدما، بقاءً وانتفاءً.
- غداة زمن النبوة لم يكن فيه سوى بضعة عشر فردا ممن يعرفون القراءة والكتابة وفق ما ترويه كتب التاريخ والأخبار والسير، قال البلاذري: "دخل الإسلام وبمكة بضعة عشر رجلا يكتب." (23) قال الحق في التنزيل: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين."(24) ولأجله حث الحق جلّ علاه في أول أمر قرآني موجه لأمته على القراءة، (25) إعمالا لفقه الأولويات، تصويبا لاختلال بنيوي قائم، ولأن بها ومعها يتحقق المقصد من وجود الإنسان، واستخلافه في الأرض، وهو فهم الخطاب الديني وعمارة الأرض، بمعنى خطاب التكليف وواجب التشريف، بما يحقق السعادة في الدارين لأمة "إقرأ"، الدنيا والآخرة، فكان بديهيا قبول ترتيب الأثر على الطلاق الشفوي وعلى ما سواه من التصرفات أخذا بحكم الغالب الأعم والسائد في ذلك الإبان.
-وجوب تنصيص المشرع صراحة في متن القانون الأسري على عدم جواز الطلاق الشفوي وعدم الاقتصار على إيجاب إيقاع الطلاق كتابة، منعا من وجود تضارب بين الطلاق الشفوي والكتابي في آماد العدة ومختلف آثار الطلاق الأخرى، ولإزالة التشويش الناتج عن عدم معرفة مدى نفاذ الطلاق الشفوي، ومدى كون الطلاق الكتابي هو المعتبر أو مجرد تحصيل حاصل، يقع من خلاله توثيق الطلاق الشفوي ليس إلا؟
- إن أول عملية توثيق للزواج كتابة كان سنة 1897 بمصر، وهي بالمناسبة نفس السنة صياغة كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين، أما الطلاق فلم يقع توثيقه في مصر سوى سنة 1931، أما في المغرب فإن إيجاب توثيق الزواج والطلاق كان بمناسبة صدور مدونة الأحوال الشخصية سنة 1957، وذلك بعد نزوع الدولة نحو التقنين، وتحيين الترسانة القانونية إثر الاستقلال، عقب اندحار الاستعمار الدابر، وأفول زمن تأثيره وانبلاجه الفج والمباشر في القوانين، فاقتضى التدرج المنطقي البديهي الانتقال من زواج وطلاق شفوي إلى كتابي ملزم.
- إن من شأن عدم اعتبار الطلاق الشفوي وتجريده من كل أثر، إعطاء الفرصة للزوج للتراجع عن قراره والعدول عن مسعاه بعد دراسة مختلف آثاره وكافة تبعاته الخاصة والعامة، المالية والمعنوية، وتمثل كافة أبعاده الفردية والجماعية.
-إن التمييز بين الطلاق الشفوي والزواج الشفوي في ترتيب الأثر الشرعي، وذلك بقبول ترتيب الأثر الرجعي على الثاني دون الأول، وبدءِ سريانه حال توثيقه من تاريخ وقوعه الشفوي خلافا للطلاق، ناتج عن سمو ميثاق الزواج الغليظ والحق وسمه بالميثاق وهو أوثق وأسمى من كونه مجرد عقد، بل وجعله غليظا، قال ربنا جلّ وعلا في التنزيل: وأخذن منكم ميثاقا غليظا."(26) بخلاف الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله، وأيضا لإمكان وجود أبناء خلال الفترة بين وقوع الزواج الشفوي وتوثيقه كتابة، فتقع حمايتهم بترتيب ذلك الأثر الرجعي، كون الشرع الشريف الحنيف متشوقا ومتشوفا إلى لحوق النسب، كون الإنسان يحيا بثبوت النسب ويموت بنفيه.(27)





- إن هناك من الأزواج من يطلق زوجته عشرات المرات في الأسبوع، عقب كل ملمة وإثر كل خصومة، ثم يمضي متابعا حياته دون التفات، يفرغ غضبه وينفس عن كربه ويفرج عن همومه بكلمتين خفيفتين على اللسان،(28) ثقيلتين في الأثر على الإنسان، "أنت طالق"، لا يبالي بهما ولا تبالي بهما زوجته، فهما من باب ما عمّت به البلوى وألفه الأزواج واستظرفوه، فكيف نعتد بطلاق زوج جلِف، مغضاب، متلاف، مُجَرَّح مقترفه سلوكا وأداءً، ونهدم صرح الأسرة العتيد بأدنى سبب وبأتفه مبرر؟ ! فأي حق وضع وأي باطل رفع.
- ثبت في علم النفس السلوكي أن أغلب القرارات الفورية تكون انفاعلية وغير عقلانية تأتي في سياق رد الفعل أو الانطباع المبدئي الخادع، وغالبا ما تكون خاطئة ومجافية للواقع ومنافية للصواب لأنها لا تقدر المآلات ولا تستشرف العواقب، فكيف نجعلها نافذة باتة مبرمة لا معقب بعدها؟!. بخلاف القرارات العقلانية المروى فيها، حيث تأكد نظرية الاختيار العقلاني أن الشخص يتخذ القرار الصحيح إذا كان يؤدي به إلى أفضل وضع، مع مراعاة جميع الآثار بما في ذلك التكاليف والفوائد. كما تعد النظرية ذات الفائدة المتوقعة واحدة من أبرز نظريات صنع القرار، والتي تصف السلوك العقلاني لصانع القرار، حيث يقوم هذا الأخير أولا قبل اتخاذ القرار بتقييم كافة آثاره والبدائل المختلفة المتاحة وفوائدها.(29)
-الطلاق الشفوي يغدو في حالات كثيرة تحفل بها المحاكم مطية للتحايل، حيث يعمد الزوج إلى الطلاق الشفوي ويقنع زوجته بأن الطلاق قد وقع شرعا، وأنه ملزم قانونا بتوثيقه، لكن عليها التنازل عن مستحقاتها لإتمام الإجراءات بصفة شكلية، حتى يتمكن من إرجاعها عقب ذلك، فتتنازل عن كافة مستحقاتها، فلا يفي بوعده، فتبتلى الزوجة برزيتين الطلاق والحرمان من المستحقات الجابرة للضرر.
- يفترض في الزوج الذي يقود دفة الأسرة والمعدود ربّها أن يكون الرشد حليته، والحلم سمته، فلا يشطط، ولا يتعسف، إذ بالصبر والكياسة واليقين يُنال السداد في الدنيا وتدرك الإمامة في الدين.
- الطلاق الكتابي يعد ذا أثر منشئ لا كاشف، بمعنى أنه لا يسري بمختلف آثاره ومفاعيله إلا من تاريخ وقوعه بين يدي القضاء، وإلا لما كان لمسعى الصلح والسداد المجرى من لدن المحكمة المستوصى به شرعا، المنصوص عليه قانونا، داع منطقي مقبول، ولغدا مجرد تحصيل حاصل وإجراء مسطري زائد، إذ لا صلح بعد وقوع الطلاق.
- إن الغاية من تجريد الطلاق الشفوي من كل أثر شرعي أو قانوني و الاعتداد بالطلاق الكتابي، أصلا وحصرا، هو تمييز الطلاق الجدي المؤسس على أسباب وجيهة ومبررات سائغة، عمّا سواه من أنواع الأطلقة الأخرى، الناتجة عن لحظة هزل أو غضب أو طيش أو اندفاع أو تحايل.
- أحكام الطلاق التوقيفية هي تلك المتعلقة بعدده وآماد العدة وحقوق المطلقة والأبناء، وما عداها فهي أمور توفيقية متروكة لمطلق تقدير الناس بحسب مصالحهم، إطلاقا وتقييدا، توسيعا وتضييقا.
- إن تكريس الطلاق الشفوي من شأنه تكريس الزواج الشفوي وعدم الاعتداد بتوثيقه، بما يفضي إلى عدم ضبط وقائع الزواج والطلاق، وإخضاع الأبناء لنظام الحالة المدنية، وضبط الأنساب، وتوفير قاعدة بيانات إحصائية دقيقة عن عدد الزواج والطلاق، ونسبة العزوبة وعدد المواليد، فمن يقبل الطلاق الشفوي عليه أن يقبل الزواج الشفوي أيضا، وعدم الاعتداد بغير الزواج الموثق يقتضي عدم الاعتداد بغير الطلاق الموثق باعتبار تبعية الطلاق للزواج.
- إن الطلاق الشفوي الواقع زمن النبوة كان صحيحا ومنتجا لكافة آثاره الشرعية ولا ينقضه عدم وقوعه كتابة أمام منصة القضاء، لأن الزواج كان يتم بمثل ذلك.
- لا بد للمجتهد من إعمال العقل وإجالة الفكر وإطلاق النظر، وذلك من خلال التقاط علل الأحكام الشرعية من مصادرها، منقولها ومعقولها، والالتفات إلى المناطات وتحقيقها تحقيقا عاما وخاصا، ومراعاة المآلات والتنبه إلى المقاصد والغايات، أي الوعي قبل السعي، وقديما قيل: استخراج المعاني من النص فهم، واستخراج المرامي فقه، وتلك مقامات العلم، وكذا إعمال فقه الموازنة بين المفاسد الواقعة والمصالح المستجلبة في ضوء الواقع المعيش، وتمثل سائر الأبعاد، الاجتماعية والدينية والاقتصادية، والربط بين المقاصد الشرعية والفقه التنزيلي، إذ لا يعقل أن نظل حبيسي اجتهادات فقهاء انتقلوا إلى رحاب الله، منذ ألف سنة وما يقارب نصف الألف، رغم تبدل علة الاجتهاد، الزمانية والمكانية والشخصية، فسياق الاجتهاد لا يقر على حال، ولا يبقى على وضع، فصاحبا أبي حنيفة خالفاه في ثلثي المذهب، وللشافعي مذهبان قديم في العراق وجديد في مصر، فلا يعقل أن يُنَظِّر الأموات للأحياء، والسابقون للاحقين، حتى لا نغدو عالة عليهم، فكل أعلم بشؤون دنياه، فابتلينا بمرض سقوط الهمة، وكأن الأمة الإسلامية الولادّة والتي وسمها الحق سبحانه بكونها خير أمة أخرجت للناس عقرت أن تنجب فقهاء مجددين مجتهدين مستنيرين، يجعلون مصالح العباد أساسا لاجتهادهم، لإدراكهم المكين بأن الشريعة تبتغي مصالح المكلفين في دنياهم وترومها في أخراهم، فوقع الخلط بين الفقه كمنتوج بشري، والشريعة كمنظومة إلهية محكمة. والابتلاء بتقديس النص ومفسري النص وشراحه ومهمشيه ومحشيه، عوض تقديس علة النص ومناطه ومقاصده، فتم التعامل مع النص المقدس بالواسطة، فغدونا متبعين لا مبتدعين، وكأنه تكليف بالواسطة وبالكهنوت وفهم وتدبر بها، وهذا تحريف وتخريف، فما بين المبالغة في التقديس أو تعمد التبخيس أو التجريد من سياقات التنزيل تهدر عدالة النصوص الشرعية، وتهدر بالتبع المصالح المؤملة.
- إن التماس الأعذار للأزواج في ظل ابتلائهم بضغوط وابتلاءات الحياة القاسية، ووجود إكراهات اقتصادية متعددة، وضعف الثبات الانفعالي، ووجود اعتلالات وأدواء نفسية مختلفة يقتضي عدم قبول غير الطلاق الكتابي وعدم الاعتداد بما سواه وبما عداه.
- إن الطلاق المعتد به هو الصادر عن إرادة طائعة مختارة، مجردة من كل تأثير، بعد أناة وتدبر واستيثاق وإعطاء الفرص لمساعي الصلح، وفرص التوفيق والسداد وإصلاح ذات البين، والتبين والتدبر والتغافل عن العيوب والتغافر عن الذنوب، ومراعاة مصلحة الأبناء الفضلى ومصلحة المجتمع العليا.
- إن الطلاق مبني على التراخي لا الفور، والتروي لا الاستعجال، الإحجام لا الإقدام، فلا يعمل به حال الغضب، بل من المحبذ ألا يعمل به أصلا، إلا لداع سائغ، قال ابن تيمية: "إن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة."(30) إذ الزواج الأصل فيه الدوام والاستمرار، والطلاق استثناء وعارض.
إن إساءة استعمال رخصة الطلاق الشفوي يقتضي إما ترشيدها وعقلها عبر عدة سبل، دينية وأخلاقية وقيمية، وإما حظر هذه المكنة بصفة كلية سدا للذريعة ودفعا لضرر عام أفدح وأفضع، فالزوج حرّ في قراراته ما لم يضر، وليس لنا أن نطيعه فنضيعه، فينص بمقتضى صريح فصيح من لدن المقنن على عدم نفاذ مفاعيل الطلاق الشفوي، وليس فقط الاقتصار على كون الطلاق الكتابي هو الوحيد المقبول قانونا، رفعا لكل غشاوة ودرءًا لكل التباس، أو يكون للمجلس العلمي الأعلى فتوى حاسمة وحازمة في الموضوع.
فالشرع الشريف المنيف ساعٍ إلى البناء لا الهدم، تواق إلى الجمع لا الفرقة. الائتلاف لا الاختلاف، حاث على الاستيثاق لا الإرجاف، وعلى الألفة لا البغضاء، ومن نهجه الشريف المنيف على نحو ما علم سلفا وخلفا، التضييق في الطلاق والتوسيع في الزواج، فالطلاق مصطلح يمجّه اللسان، ويلفظه الجنان، فاعتبر الطلاق والحالة ما ذكر أبغض الحلال إلى الله ذي الجلال، وقيّدت ممارسته بعدد محدد، إذ الطلاق مرتان، وبقيود إجرائية ومحترزات موضوعية، واعتبر آخر الدواء وآخره الكي. 
فنحن ها هنا لسنا بإزاء مناقشة أصول الشريعة وثوابتها، أو أسرار مكنونة اختص الحق سبحانه وأنبياؤه بها، بل تفاريع فقهية في حاجة إلى مراجعة دورية من لدن من يجب من علماء الأمة الثقات الاثبات ،ممن لهم قوة الباع ورسوخ الاطلاع وفهم الأوضاع، الذين يسبكون الفقه بالواقع، والعلم بالعمل، والعقيدة بالسلوك، ويراعون اشتراطات العصر، فننتقل من فقه الأوراق إلى فقه الواقع وفقه الآفاق، وفق اجتهاد منضبط راشد.
لذلك ولجميع هذه الأسباب المساقة ولغيرها مما دونها في الأهمية، نخلص إلى أن حظر مكنة الطلاق الشفوي من شأنه حماية الأسرة من خطر موقوت داهم، بل وحماية مستعملها نفسه من نفسه ومن عسفه وشططه، وهذا الأمر أعرف من أن ينكر وأشهر من أن يستدل عليه أو يذكر، وليدرك الأزواج والآباء أنهم يجلسون على عروش أسر لا تساس إلا بالرفق واللّين والحكمة، منتسبوها أمانة عندهم، فرفقا بهم.
فلا يمكن لكل عالم كملت آلته، رواية ودراية، متنا وسندا، واستجمعت أدواته، لغة ومنطقا وفقها واستنباطا وفهما للواقع ولصحيح الدين، أن يسكت على بلايا الطلاق الشفوي الذي تكفينا مغارمه ورزاياه، لأخلص بكل لياقة لفظية وتلطف ودون حماسة أو صخب أو إثارة أو تعصب نبوسي، لأن المقام مقام هدوء وسكينة في حضرة موضوع أسري أثير، أن واجب الوقت يقتضي تقييد هذه المكنة أو حظرها تماما محافظة على عرى الأسرة ولحمتها وسداها، والمعتبرة أصغر وحدة في القياس الهندسي للمجتمع ونواته الصلبة، وذلك بتحصينها من كل ما يوهنها، لتتفرغ لأداء رسالتها في البناء والنماء، فيقع دفع الضرر الأكبر بضرر أصغر، ودفع مفسدة عظمى بأخرى صغرى.
سدّد الله أنظارنا وغفر أوزارنا.
نسأله أن يلهمنا الإصابة ومنه نبتغي الأجر والإثابة.

*************

1- - يراد بالأسرة النووية في أدق تعاريف علم الاجتماع، الأسرة المتكونة من الزوج والزوجة والأبناء فقط دون الأقارب الآخرين، 
واعتبرها بعض علماء الاجتماع الأنسب مع المجتمع الرأسمالي الحديث، حيث تجد الأسرة مجالا لاستقلالها الاقتصادي ولحرية حركتها واستقلال قرارها، كما توفر مناخا أنسب لإظهار وتنمية طاقات الفرد وشخصيته ونشوء علاقات عاطفية مستقرة في ظل سيادة ثقافة تعلي من قيمة الفرد، وقد أكدت الدراسات الأنتروبولوجية على أن الأسرة النووية ظاهرة طبيعية، في حين ترى الدراسات السوسيولوجية وجوب دراسة كافة العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أفرزت بهذا الشكل من الأسرة لفهمها، والشريعة الإسلامية تسعى إلى الأسرة الممتدة من خلال الحث على التكافل والتساند والنفقة على الأقارب وزيارتهم، فضلا عن مظاهر أخرى دالة على ذلك. للتفصيل أكثر ينظر: مصطفى الخشاب، دراسات في علم الاجتماع العائلي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ص: 36، ومحمود حسن، الأسرة ومشكلاتها، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1981، ص: 4.
2- - عرّف الإستحسان بأنه: "دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عبارته." الغزالي المستصفي، المطبعة الأميرية الكبرى، بولاق، 1/138.
3- البوطي، ضوابط المصلحة، ط 2، نشر مؤسسة الرسالة، 1973، ص: 37.
وقد اشترط جمهور الفقهاء خمسة شروط لإعمال المصلحة المرسلة، مستهلها أن تكون المصلحة ضرورية أو حاجية، وثانيها أن تكون حقيقية، وثالثها أن تكون عامة، ورابعها ألا تكون متعارضة مع حكم ثابت بنص من القرآن أو السنة أو الإجماع، وخامسها أن تكون معقولة المعنى. للاستزادة ينظر: الشاطبي، الاعتصام، الطبعة الأولى 1992، نشر دار ابن عفان السعودية، ص: 632.
4- قال الشاطبي في موافقاته: "ومعلوم أن الشريعة وضعت لمصالح الخلق بإطلاق". تحقيق محمد عبد الله دراز، نشر دار الكتب العلمية، ط 1، 2014، ج 1، ص: 145.
5 - قال تعالى: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" الآية 38 من سورة المائدة.
6- شرح مختصر خليل، للخرشي، ط دار الفكر، بيروت، ج 4 ص: 12.
7- البهوتي، كشاف القناع عن متن الإقناع، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 5، ص: 261 ومحمد القلعجي معجم لغة الفقهاء، ط 1 مطبعة النهضة العربية، لبنان 1988، ص: 101.
8 - السيوطي، الأشباه والنظائر، ص: 169 والشاطبي، الموافقات، م س، ج 1، ص: 261.
9- المراد بتقييد المباح في الاصطلاح الأصولي اختيار الإمام أحد أفراد المباح الذي جاز فعله أو تركه أصلا مع إلزام الناس بهذا الاختيار، سواء بمنعهم من الفعل أو بإلزامهم به، فإذا كان الأصل أن يظل المباح كما شرعه الله تعالى لا ينهى عنه أو يقيد ولا يؤمر به أمر إيجاب وإلزام، فإنه يسوغ لولي الأمر تقييد المباح وفق ضوابط محددة، حتى لا يعطى حق التشريع لغير الله تعالى، وهكذا فإن التقييد للمباح أو الإلزام به لا بد له من قيدين أولهما، أن تكون الحالة الملجئة حالة حقيقية، وثانيهما ألا يكون هناك مخرج آخر يمكن تحقيق المراد به من غير هذا التقييد أو الإلزام. ينظر البشير المكي عبد اللاوي، سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، مطبعة دار المعارف، 2011، ص: 18.
10 جاء في الدليل العملي لمدونة الأسرة: " إن الطلاق الذي هو حل رابطة الزوجية، يمارس من طرف الزوج كما تمارسه الزوجة في حق التمليك، في إطار مسطرة يراقبها القضاء، صيانة لهذه الرابطة من العبث، والتعسف في ممارسته، وبكيفية تضمن حقوق المطلقة والأولاد، وتعزز آليات التوفيق والتسديد عن طريق محاولة الإصلاح ". دليل عملي لمدونة الأسرة. منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، سلسلة الشروح والدلائل، العدد الأول، مطبعة فضالة المحمدية 2004، ص 62.
11 - قال ابن قدامة في المفني: "المرتد لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا، هذا قول أكثر أهل العلم، منهم عمر وعلي وعطاء والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي... لأن الرّدة إنما تكون لشبهة، ولا تزول في الحال، فوجب أن ينتظر مدة يرتئي فيها، وأولى ذلك ثلاثة أيام." طبع دار عالم الكتب للطباعة والنشر، ج 9، ص: 18.
12- • أخرجه الترميذي في سننه، أبواب الايمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة. الجامع الكبير للترميذي. تحقيق بشار عواد معروفي، الجزء الرابع، دار الغرب الإسلامي، ص 308
13 الموفقات في أصول الشريعة، م س، ج 1، ص: 78.
14- قال ابن تيمية: "ولولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه كما دلت عليه الآثار والأصول، ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعباده لحاجتهم إليه أحيانا." مجموع فتاوى ابن تيمية، طبع دار الوفاء، ط 3، 2005، ج 3 ص: 74.
15- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الجزء الرابع، دار إحياء التراث العربين بيروت، ص 1963 . أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد. تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، الجزء الرابع، نشر دار طوق النجاة، ص 171
16- د عبد العزيز الدوري، النظم الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2008 ص: 161 وينظر أيضا أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري، الوزراء والكتاب، مطبعة مصطفى الحلبي 1938، ص: 35.
17- قال الحق سبحانه وتعالى: "وجعل بينكم مودة ورحمة." الآية 21 من سورة الروم.
يقول الحافظ ابن كثير في كتابه الموسوم ب: "تفسير القرآن العظيم: "من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم، وجعل بينهم وبينهن مودة وهي المحبة، ورحمة وهي الرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو الرحمة بها، بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما وغير ذلك." نشر دار طيبة، 1999، ج 6، ص:309.
18 - الآية 38 من سورة الأنعام.
19- الآية 18 من سورة الجاثية.
20- الآية 37 من سورة الأنبياء.
21 - الآية 37 من سورة الأنبياء.
22 - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر ، الجزء الرابع، نشر دار طوق النجاة، ص 201
23 - جاء الإسلام وفي قريش بضعة عشر يكتبون وتحديدا سبعة عشر رجلا وهم: عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وعثمان بن عفان وأبو عبيدة بن الجراح وطلحة ويزيد بن أبي سفيان وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وحاطب بن عمرو وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وأبان بن سعيد بن العاصي وخالد بن سعيد بن العاصي وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وخويطب بن عبد العزي العامري وأبو سفيان بن حرب بن أمية ومعاوية بن أبي سفيان وجهم بن الصلت ومن حلفاء قريش العلاء بن الحضرمي. البلاذري فتوح البلدان، مطبعة الموسوعات، مصر، 1901، ج 3، ص: 583 و القلقشندي صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ط دار الكتب المصرية، ج 3، ص: 13.
24- الآية الثانية من سورة الجمعة.
25- قال ربنا في التنزيل: "إقرأ باسم ربك الذي خلق." سورة العلق، الآية الأولى.
26 - الآية 21 من سورة النساء.
27 - عادل حاميدي، الدليل الفقهي والقضائي للقاضي والمحامي في المنازعات الأسرية. المطبعة والوراقة الوطنية 2016، ص312-313
28- قال الحكماء: الإنسان من حيث فضيلته نصفان، جنان ولسان، فالجنان للتدبير واللسان للتعبير.
29 -"CROZIER. W. RAY, Ranyaid, Rob, Cognitive Process modeles and explantation of decision making". Frontiers of congnitive science. London Routledge, P:5.
30 - مجموع فتاوى ابن تيمية، م س، 32/293


تعليقات