إرادة منفردة
unilateral juridical act - acte juridique unilatéral
الإرادة المنفردة
الإرادة المنفردة
فواز صالح
مفهوم الإرادة المنفردة
حالات التزام إرادة منفردة وخصائصه
أولاً: مفهوم الإرادة المنفردة
الإرادة المنفردة L’acte juridique unilatéral هي تصرف قانوني إرادي يصدر عن شخص ما بهدف إحداث بعض الآثار القانونية، ودون حاجة لإرادة ثانية توافقها. والآثار القانونية التي يمكن أن ترتبها الإرادة المنفردة متنوعة. فيمكن للإرادة المنفردة أن تنقل حقاً عينياً، كما في الوصية، أو تزيل هذا الحق، كالتنازل عن حق عيني. كما يمكن أن يترتب عليها أثر كاشف، كالإقرار بنسب طفل طبيعي في القانون الفرنسي. وتستطيع الإرادة المنفردة أن تنهي بعض العقود، كعقد الوكالة وعقد العمل غير محدد المدة. ولكن هل تستطيع الإرادة أن تنشئ التزاماً؟
بداية لا يحق للشخص أن ينشئ بإرادته المنفردة التزاماً لمصلحته على عاتق الغير؛ لأنه لا يمكن لأي شخص أن يجعل من نفسه دائناً بفعل إرادته المنفردة، وهذا تطبيق لمبدأ الحرية التعاقدية. وبالمقابل يبقى السؤال قائماً عمّا إذا كان باستطاعة الشخص أن ينشئ التزاماً على نفسه لمصلحة الغير بإرادته المنفردة.
ظهرت نظريتان قانونيتان بهذا الشأن: نظرية تقليدية كرسها القانون الفرنسي؛ ونظرية حديثة تبناها القانون الألماني.
1- في القانونين الفرنسي والألماني: يكرس القانون الفرنسي النظرية التقليدية التي تشترط لنشوء الالتزام توافر إرادتين وتوافقهما وتطابقهما، في حين أن القانون الألماني يعترف للإرادة المنفردة بدور في إنشاء الالتزامات، وهذه النظرية الحديثة في هذا المجال ولاسيما بعد أن زعم الفقيه النمساوي سيجل Siegel أنه اكتشف في العام 1874، مصدراً آخر للالتزام، هو إرادة المدين المنفردة.
أ- في القانون الفرنسي: لم تكن الإرادة المنفردة في القانون الروماني قادرة على إنشاء الالتزام، وبالتالي لم يكن باستطاعة الفرد أن يلتزم بإرادته المنفردة. والسبب في ذلك يعود إلى أن القانون الروماني كان يعدّ الالتزام رابطة شخصية بين شخصين، أحدهما دائن والآخر مدين. ويترتب على ذلك أن نشوء الالتزام يتطلب وجود الدائن والمدين. وقد تأثر القانون الفرنسي بهذه النظرية. وهذا ما كان يفرضه المذهب الفردي الذي كان يهيمن على التقنين المدني الفرنسي وقت صدوره عام 1804. فلا يمكن أن يعدّ شخص دائناً بموجب إرادة شخص آخر، وذلك لأن نشوء الالتزام يتطلب توافر رضا الدائن والمدين، أي يتطلب وجود عقد. وبالتالي فإن إرادة المدين وحدها لا تكفي لإنشاء الالتزام. وبالمقابل فإن التقنين المدني الفرنسي لعام 1804 يكرس بعض تصرفات الإرادة المنفردة التي لا تنشيء التزاماً وإنما ترتب أثراً قانونياً آخر قد يكون نقل حق عيني أو إلغاءه أو إنهاء عقد. ومثال على ذلك إقرار نسب طفل طبيعي من قبل الأب أو الأم. والوصية، وهي وفقاً لنص المادة 895 من التقنين المدني الفرنسي تصرف مضاف إلى ما بعد الموت ينعقد بإرادة الموصي وحدها. ومن تصرفات الإرادة المنفردة أيضاً إجازة العقد الباطل بطلاناً نسبياً؛ أي القابل للإبطال. وكذلك إنهاء العقد غير محدد المدة - كعقد العمل - بإرادة أحد الطرفين. وكذلك الشركة المكونة من شريك واحد. إذ أن القانون رقم 697/85 تاريخ 11/7/1985 أجاز للشخص في بعض الحالات المحددة أن ينشئ شركة بإرادته المنفردة، وهذا ما تنص عليه الفقرة /2/ من المادة 1832 من التقنين المدني الفرنسي. ومن تصرفات الإرادة المنفردة في القانون الفرنسي التنازل عن التركة، إذ تجيز المادة 804 من التقنين المدني الفرنسي للوارث أن يتنازل عن حصته في التركة، ولا يحتج بهذا التنازل تجاه الغير إلا إذا تمَّ التنازل أمام المحكمة التي فتحت التركة في دائرتها.
ولم يكرس التقنين المدني الفرنسي نظرية عامة لمثل هذه التصرفات، وإنما نص عليها في أماكن متفرقة منه.
أما فيما يتعلق بقدرة الإرادة المنفردة على إنشاء الالتزام فلم يتطرق التقنين المدني الفرنسي إلى ذلك. وأدى ذلك إلى ظهور تيارين فقهيين متعارضين في فرنسا، أحدهما يعارض أن تكون الإرادة المنفردة مصدراً للالتزام، في حين أن الآخر يؤيد ذلك.
ويرى المعارضون أن نظرية الإرادة المنفردة بوصفها مصدراً للالتزام لا تتعارض ومبدأ سلطان الإرادة الذي تقوم عليه نظرية الالتزامات في القانون الفرنسي. ولكن نظرية الإرادة المنفردة تخالف المنطق القانوني السليم؛ وذلك لأنه إذا كان من الممكن قبول التزام المدين بإرادته المنفردة، ولكن لا يوجد مدين دون دائن، فهل يمكن أن تجبر إرادة المدين شخصاً أن يتلقى أداءً دون علمه أو حتى دون رضاه؟ هذا الأمر مستحيل. حتى يكون التزام إرادة منفردة فعالاً - من وجهة نظر مؤيدي هذه النظرية - يجب أن يكون هناك قبول من طرف الدائن. يترتب على ذلك ضرورة وجود إرادتين متطابقتين من أجل أن تكون أي علاقة قانونية فعالة، وهذا يقرب نظرية الإرادة المنفردة من النظرية التقليدية التي تتطلب وجود إرادتين من أجل إنشاء الالتزامات. زد على ذلك أن نظرية الإرادة المنفردة ترتب آثاراً مشابهة للآثار المترتبة على الإيجاب والقبول في النظرية التقليدية للعقد. فإذا كان باستطاعة المدين أن يلتزم إرادته المنفردة؛ فيجب أن يكون باستطاعته أن يتراجع عن هذا الالتزام وذلك تطبيقاً لمبدأ سلطان الإرادة. فإذا كانت الإرادة المنفردة تستطيع أن تنشئ الالتزام؛ فيجب أن يكون باستطاعتها أيضاً التحرر من ذلك الالتزام دون حاجة إلى إرادة أخرى. ويترتب على القبول بهذه الفرضية أن الالتزام الناشئ من الإرادة المنفردة في مثل هذه الحال هو التزام إرادي بحت، وبالتالي لا يعدّ التزاماً بالمعنى القانوني، وإنما هو تعهد إرادي بحت.
يتبين من كل ذلك أن نظرية الإرادة المنفردة تؤدي إلى حلول قريبة من الحلول التي تؤدي إليها النظرية التقليدية للعقد. ومع ذلك فهناك فرق وحيد بين النظريتين، وهو فرق هام. ويتمثل هذا الفرق في أن قبول الدائن الاستفادة من الالتزام الناشئ بإرادة المدين المنفردة ينتج أثره على نحو رجعي، أي من تاريخ التزام المدين بإرادته المنفردة، في حين أن العقد لا ينعقد إلا من تاريخ صدور القبول وبالتالي لا ينتج - من حيث المبدأ - آثاره على نحو رجعي.
ويرى معارضو هذه النظرية أن التزام الإرادة المنفردة ينجم عنه أخطار على الصعيد العملي. في الحقيقة أن المعاملات التي تسبق عملية التعاقد تجعل المدين يشعر بخطورة الالتزامات التي يمكن أن يقبل بها. وبما أن التزام إرادة منفردة لا تسبقه مثل هذه المعاملات فيخشى أن يقدم المدين على الالتزام دون التفكير بخطورة التزاماته التي تنشأ من إرادته المنفردة. زد على ذلك أنه من الصعب على الصعيد العملي في بعض الأحيان التمييز بين العقد وبين التزام إرادة منفردة. وأخيراً يستحيل في الكثير من الأحيان إثبات الالتزام الناشئ من إرادة المدين المنفردة. ولكن يعترف معارضو هذه النظرية بأنه يمكن التغلب على هذه الصعوبات، وذلك بجعل التزام الإرادة المنفردة تصرفاً رسمياً، لا ينشئ الالتزام إلا إذا توافرت الشكليات التي يتطلبها القانون.
ويستخلص أصحاب هذا الرأي مما تقدم أن الإرادة المنفردة بوصفها مصدراً للالتزام ليس لها أي فائدة، وذلك لأن الاجتهاد القضائي الفرنسي قدم حلولاً مقنعة - قبل ظهور هذه النظرية - لبعض المفاهيم القانونية التي يحاول أنصار هذه النظرية أن يؤسسوها على الإرادة المنفردة، كالإيجاب والوعد بجائزة، والاشتراط لمصلحة الغير.
أما أنصار نظرية الإرادة المنفردة بوصفها مصدراً للالتزام فيرون أن تكريس هذه النظرية ينسجم مع مبدأ سلطان الإرادة الذي تقوم عليه النظرية العامة للعقد في التقنين المدني الفرنسي. زد على ذلك أن تكريس هذه النظرية هو تلبية لضرورات اقتصادية واجتماعية.
كما أن تكريس هذه النظرية يجنب تحوير بعض المفاهيم القانونية كالعقد والجريمة وشبه العقد، وذلك من أجل تسويغ بعض الالتزامات التي في الواقع تنشأ من الإرادة المنفردة كالوعد بجائزة والإيجاب الملزم. ولكن يبدو أن غالبية الفقه المعاصر تقر بأنه على الرغم من أن الإرادة المنفردة بوصفها مصدراً للالتزام مفهوم غريب عن التقاليد القانونية الفرنسية، بيد أنه يمكن القبول بها في بعض الحالات الاستثنائية التي لا يمكن فيها أن يقوم الالتزام إلا على الإرادة المنفردة. وبالتالي يجب الاعتراف بدور ثانوي لهذه النظرية في إنشاء الالتزامات.
ب- في القانون الألماني: يعدّ الالتزام في القانون الألماني عنصراً مالياً، وبالتالي يكرس هذا القانون النظرية المادية في تعريف الالتزام. ويكفي لإنشاء الالتزام في القانون الألماني أن يكون المدين موجوداً وقت نشوئه. ويترتب على ذلك أن هذا القانون يعدّ الإرادة المنفردة مصدراً إرادياً للالتزام إضافة إلى العقد. وهذا يستفاد من المادة 305 من القانون الألماني (BGB) لعام 1901، والتي تقرر أنه باستثناء الحالات التي ينص عليها القانون أن وجود عقد بين طرفين أمر ضروري لإنشاء التزام، وكذلك من أجل تعديل مضمونه. يترتب على ذلك أن المبدأ في القانون الألماني أن الالتزامات الإرادية لا يمكن أن تنشأ إلا عن عقد، ولكن استثناءً من ذلك يجوز بموجب نص قانوني أن ينشأ الالتزام الإرادي عن إرادة المدين المنفردة. ويستخلص من ذلك أن القانون المدني الألماني لا يكرس الإرادة المنفردة مصدراً عاماً للالتزامات، وإنما يمكن أن تكون مصدراً للالتزامات في بعض الحالات الخاصة التي ينص عليها القانون. ويرى الفقهاء الألمان أن المنطق القانوني يقبل أن يلتزم الشخص إرادته المنفردة، فهو حرٌّ في أن يرتب على عاتقه ما يريد من التزامات. ولكن هذا لا يعني بحد ذاته أنه يمكن أن يجبر الدائن على قبول تلك الالتزامات؛ وذلك لأنه لا يمكن إلزام شخص قبولَ حق لا يريده. ويترتب على ذلك أن الواعد في الوعد بجائزة يلتزم إرادته المنفردة؛ طبقاً لما جاء في المادة 657 من القانون المدني الألماني. وكذلك لا تأثير لوفاة الموجب أو فقدانه الأهلية بعد صدور الإيجاب على إيجابه وفقاً لما ذهبت إليه الفقرة الثانية من المادة 130 من القانون ذاته. وقد انتقلت هذه النظرية إلى القانون الوضعي الفرنسي عن طريق الفقيه سالي Saleilles، ومن ثم ظهر مؤيدون لها في هذا القانون وفقاً لما سبق بيانه.
ومن خلال المقارنة بين موقفي القانونين الفرنسي والألماني يتبين أن الاختلاف بينهما عميق، ولا يمكن التوفيق بينهما. ولكن هذا الاختلاف في الحقيقة يقتصر على الأساس القانوني الذي يبني كل قانون موقفه عليه. فالقانون الفرنسي التقليدي لا يقرّ بأي دور للإرادة المنفردة في إنشاء الالتزام، في حين أن القانون الألماني يعترف بدور محدود للإرادة المنفردة في إنشاء الالتزام، وبالتالي تعدّ هذه الإرادة المنفردة مصدراً إرادياً للالتزام في القانون الألماني. وبالمقابل هناك تقارب كبير بين القانونين على صعيد النتائج العملية المترتبة على الأساس القانوني الذي تبناه كل قانون. ففي القانون الألماني يلتزم الواعد في الوعد بجائزة إرادتَه المنفردة. وكذلك يلتزم الموجب إرادتَه المنفردة، وبالتالي لا تأثير للوفاة أو انعدام الأهلية على الإيجاب الصادر قبل ذلك. والقانون الوضعي الفرنسي يعد الواعد ملتزماً في الوعد بجائزة، ولكن ليس على أساس الإرادة المنفردة وإنما على أساس العقد، وكذلك الحال للإيجاب الملزم إذ يلتزم الموجب البقاءَ على إيجابه على أساس العقد؛ وذلك لأن سكوت الموجه إليه - في مثل هذه الحال - يعدّ قبولاً لأن الإيجاب الملزم يعدّ منفعة محضة للموجه إليه.
على الرغم من التقارب بين النظريتين الفرنسية والألمانية على الصعيد العملي؛ فإنه يبقى هناك فارق بينهما. وهذا الفارق يكمن في أن الالتزام الناشئ من الإرادة المنفردة ينشأ من تاريخ التعبير عن هذه الإرادة، أما الالتزام الناشئ من العقد فينشأ من حيث المبدأ من تاريخ صدور القبول.
2- في القانون السوري: القانون المدني السوري - كما هو معلوم - مستمد من القانون المدني المصري. وكانت المادة 228 من المشروع التمهيدي للقانون المدني المصري تجعل الإرادة المنفردة - على غرار العقد - مصدراً عاماً للالتزام. وكانت هذه المادة تنص على أنه:
«1- إذا كان الوعد الصادر من جانب واحد مكتوباً وكان لمدة معيّنة، فإن هذا الوعد يلزم صاحبه من الوقت الذي يصل فيه إلى علم من وُجِّه إليه ما دام هذا لم يرفضه.
2- وتسري على هذا الوعد الأحكام الخاصة بالعقود؛ إلا ما تعلق فيها بضرورة وجود إرادتين متطابقتين لإنشاء الالتزام.
3- يبقى الإيجاب في العقود خاضعاً للأحكام الخاصة به، ويسري حكم المادة التالية على كل وعد بجائزة يوجه إلى الجمهور».
ولكن لجنة المراجعة حذفت هذا النص، وبالتالي رفضت عدّ الإرادة المنفردة مصدراً عاماً للالتزام، وإنما أقرت للإرادة المنفردة بقدرتها على إنشاء الالتزام في الحالات الاستثنائية التي ينص عليها القانون. وهذا ما كرسه القانون المدني المصري الجديد. ومن ثم أخذ القانون المدني السوري بما جاء في القانون المدني المصري، من حيث إن الإرادة المنفردة لا تعد مصدراً عاماً للالتزام، وإنما تعدّ مصدراً للالتزام في حالات استثنائية ينص عليها القانون.
وقد أفرد القانون المدني السوري - على غرار أصله المصري - الفصل الثاني من الباب الأول من الكتاب الأول من القسم الأول للإرادة المنفردة بوصفها مصدراً إرادياً للالتزام. ويتضمن هذا الفصل مادة وحيدة، وهي المادة المكرسة للوعد بجائزة كأحد تطبيقات الإرادة المنفردة.
ونتيجة حذف نص المادة 228 من المشروع التمهيدي للقانون المدني الذي يجعل من الإرادة المنفردة مصدراً عاماً للالتزام؛ ذهب بعض الفقهاء إلى القول: إن الالتزامات التي تنشأ من الإرادة المنفردة في الحالات الاستثنائية التي ينص عليها القانون إنما مصدرها المباشر هو القانون لا الإرادة المنفردة. وتبعاً لذلك يرى بعضهم أنه من الواجب حذف الفصل الخاص بالإرادة المنفردة وإدماجه في الفصل الخاص بالقانون. وبالمقابل فإن قسماً آخر من الفقهاء ينتقد هذا الاتجاه، ويعدّ الإرادة المنفردة مصدراً مباشراً للالتزام حتى في الحالات الاستثنائية التي ينص عليها القانون، وبالتالي فإن المحل الطبيعي للإرادة المنفردة هو أن تأتي بعد العقد مصدراً إرادياً للالتزام.
وفي الحقيقة لا يمكن إنكار دور الإرادة المنفردة في إنشاء الالتزام حتى لو كان هذا الدور مقيداً بوجود نص قانوني خاص. فالالتزام في مثل هذه الحالات الاستثنائية إنما ينشأ مباشرة من الإرادة المنفردة؛ وذلك لأنها اتجهت إلى إحداث مثل هذا الأثر القانوني، ويبقى القانون هنا مصدراً غير مباشر للالتزام كما هو عليه الحال في جميع المصادر الأخرى للالتزام. ويترتب على ذلك أن المشرع حسناً فعل عندما أبقى الفصل الخاص بالإرادة المنفردة ضمن المصادر الإرادية للالتزام.
ثانياً: حالات التزام إرادة منفردة وخصائصه
1- حالات التزام إرادة منفردة: وتعدّ الإرادة المنفردة ملزمة في حالات عدة نص عليها القانون السوري، وهي:
أ- الإيجاب الملزم: وهو الإيجاب الذي يعين فيه الموجب ميعاداً للقبول، وبالتالي يلتزم الموجب - وفقاً لأحكام المادة 94 من القانون المدني السوري- البقاءَ على إيجابه حتى انقضاء ذلك الميعاد. ويمكن أن يستخلص الميعاد إما من ظروف الحال وإما من طبيعة المعاملة. ومصدر التزام الموجب البقاءَ على إيجابه في مثل هذه الحال هو إرادته المنفردة.
ب- المؤسسات: ألغيت الأحكام المتعلقة بالمؤسسات في القانون المدني بموجب القانون رقم 93 تاريخ 8/7/1958. والمؤسسة بموجب هذا القانون هي مشروع يخصص له المؤسس مالاً معيناً للغرض الذي يريد تحقيقه، وذلك بموجب سند رسمي أو وصية. وبالتالي فإن إرادة المؤسس المنفردة هي مصدر التزامه- في مثل هذه الحال، أو ورثته من بعد وفاته- نقلَ المال الذي خصص للمؤسسة لملكيتها.
ج- الوصية: وهي تصرف في تركة الموصي مضاف إلى ما بعد الموت، وفقاً لما ذهبت إليه المادة 207 من قانون الأحوال الشخصية. وهي تنعقد بإرادة الموصي المنفردة.
د- الوقف: وهو «حبس للمال على حكم ملك الله تعالى، والتصدق بمنفعته». ومن ثم فإن ذلك المال يخرج من ملك مالكه بإرادته المنفردة، ويمتنع التصرف في عينه. ونتيجة ذلك تمنع المادة 998 من القانون المدني السوري بيع العقار الموقوف، أو التفرغ عنه، أو انتقاله بطريق الإرث. كما تمنع رهنه أو عقد تأمين عليه. ولا يرتب الوقف أي أثر - وفقاً لنص المادة 1000 من هذا القانون - إلا من يوم قيده في السجل العقاري. وبالتالي فإن الوقف ينشئ التزاماً على الواقف أو على ورثته قيدَ الوقف في السجل العقاري.
هـ- الوعد بجائزة: وهو تصرف إرادة منفردة وفقاً لما ذهبت إليه المادة 163 من القانون المدني السوري.
2- خصائص تصرف الإرادة المنفردة: يمتاز تصرف الإرادة المنفردة بالخصائص الآتية:
أ- تعدّ الإرادة المنفردة مصدراً محدوداً واستثنائياً لإنشاء الالتزام، ولا تعدّ مصدراً عاماً لأن في ذلك خطورة كبرى، إذ قد تكون هذه الإرادة اعتباطية وغير مؤكدة. وبالتالي قصر المشرع دور الإرادة المنفردة على إنشاء الالتزام على الحالات الخاصة التي ينص عليها القانون، حتى تكون هذه الإرادة ثابتة وجدية. وتتميز الإرادة المنفردة بهذه الخاصية من بقية مصادر الالتزام، كالعقد والفعل غير المشروع والإثراء بلا سبب التي تعدّ مصدراً عاماً للالتزام؛ إذ إنها تستطيع أن تنشئ الالتزام كلما توافرت للالتزام مقومات وجوده.
ب- تصرف الإرادة المنفردة هو تصرف إرادي ينتج أثره بإرادة واحدة دون أن يتوقف ذلك على إرادة ثانية، كما هو عليه الحال في العقد. ويترتب على ذلك أن تصرف الإرادة المنفردة يتميز من العقد الملزم لجانب واحد بأن العقد يحتاج إلى إرادتين، أما تصرف الإرادة المنفردة فيكفي فيه توافر إرادة واحدة، وهي إرادة صاحبه.
ج- تطبق على تصرف الإرادة المنفردة - عندما يكون مصدراً للالتزام- الأحكام العامة للعقد باستثناء ما يتعلق منها بوجود إرادتين متطابقتين، الأمر الذي يتعارض وطبيعة تصرف الإرادة المنفردة. واستناداً إلى ذلك يجب أن تتوافر في المتصرف بالإرادة المنفردة أهلية الأداء تحت طائلة بطلان تصرفه أو قابليته للإبطال تبعاً لما إذا كانت هذه الأهلية منعدمة أو ناقصة. كما يجب أن يكون تصرف الإرادة المنفردة خالياً من عيوب الإرادة؛ وإلا كان قابلاً للإبطال. ولكن لا يشترط في الغلط الذي يقع فيه المتصرف بالإرادة المنفردة أن يعلم المتصرف إليه به. كما لا يشترط في التدليس والإكراه، الواقعين على المتصرف بالإرادة المنفردة، أن يكون المتصرف إليه على علم بهما.
كما يجب أن يكون الباعث على تصرف الإرادة المنفردة مشروعاً، وإلا كان العقد باطلاً. ولكن لا يشترط علم المتصرف إليه بالباعث غير المشروع حتى يترتب البطلان.
كما يجب أيضاً أن يكون لالتزام المتصرف الإرادة المنفردة محل تتوافر فيه شرائط محل العقد.
د- ينتج تصرف الإرادة المنفردة أثره من وقت صدور التعبير عن الإرادة من المتصرف؛ شريطة أن تتوافر في هذا التعبير جميع أركانه وشرائط صحته.
مراجع للاستزادة:
- أحمد حشمت أبو ستيت، نظرية الالتزام في القانون المدني الجديد (الطبعة الثانية، مطبعة مصر، القاهرة 1954).
- توفيق حسن فرج، النظرية العامة للالتزام - في مصادر الالتزام (الدار الجامعية للطباعة والنشر، دون تاريخ).
- سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني -2-، في الالتزامات (المجلد الأول : نظرية العقد والإرادة المنفردة، طبعة 1987).
- عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام (المجلد الأول، القاهرة، دون تاريخ).
- عبد الفتاح عبد الباقي، موسوعة القانون المدني المصري، نظرية العقد والإرادة المنفردة (دراسة معمقة ومقارنة بالفقه الإسلامي 1984).
- عبد المنعم البدراوي، النظرية العامة للالتزامات في القانون المصري (الجزء الأول، مصادر الالتزام، القاهرة 1975).
- عكاشة محمد عبد العال، طارق المجذوب، تاريخ النظم القانونية والاجتماعية (المكتبة القانونية، والنظم القانونية، كتاب جامعي، مطبعة ابن خلدون، 1986).
- مصطفى الزرقاء، شرح القانون المدني السوري، نظرية الالتزام العامة -1- المصادر، العقد و الإرادة المنفردة (طـ 4، مطبعة دار الحياة، دمشق 1964).
- محمد وحيد الدين سوار، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزام، الجزء الأول مـــصادر الالتزام،1، المصادر الإرادية، و 2- المصادر غير الإرادية (مطبعة رياض، دمشق 1982 -1983).
- Jacques FLOUR , Jean -Luc AUBERT et Éric SAVAUX, Les obligations, I, L’acte juridique (10 éd., Armand Colin, Paris, 2002).
- Ch. LARROUMET, Droit civil (tome 3, Les obligations, le contrat, 3e édition, Economica - Delta, 1996).
- H., L., J.MAZEAUD et F.CHABAS, Leçon de droit civil (tome II, volume I, Obligations- théorie générale, 9ème édition, Delta, 2000).
- F.TERRE, Ph. SIMLER et Y. LEQUETTE, Droit civil, Les obligations (8ème édition, Dalloz, 2002).
المصدر: http://arab-ency.com
unilateral juridical act - acte juridique unilatéral
الإرادة المنفردة
الإرادة المنفردة
فواز صالح
مفهوم الإرادة المنفردة
حالات التزام إرادة منفردة وخصائصه
أولاً: مفهوم الإرادة المنفردة
الإرادة المنفردة L’acte juridique unilatéral هي تصرف قانوني إرادي يصدر عن شخص ما بهدف إحداث بعض الآثار القانونية، ودون حاجة لإرادة ثانية توافقها. والآثار القانونية التي يمكن أن ترتبها الإرادة المنفردة متنوعة. فيمكن للإرادة المنفردة أن تنقل حقاً عينياً، كما في الوصية، أو تزيل هذا الحق، كالتنازل عن حق عيني. كما يمكن أن يترتب عليها أثر كاشف، كالإقرار بنسب طفل طبيعي في القانون الفرنسي. وتستطيع الإرادة المنفردة أن تنهي بعض العقود، كعقد الوكالة وعقد العمل غير محدد المدة. ولكن هل تستطيع الإرادة أن تنشئ التزاماً؟
بداية لا يحق للشخص أن ينشئ بإرادته المنفردة التزاماً لمصلحته على عاتق الغير؛ لأنه لا يمكن لأي شخص أن يجعل من نفسه دائناً بفعل إرادته المنفردة، وهذا تطبيق لمبدأ الحرية التعاقدية. وبالمقابل يبقى السؤال قائماً عمّا إذا كان باستطاعة الشخص أن ينشئ التزاماً على نفسه لمصلحة الغير بإرادته المنفردة.
ظهرت نظريتان قانونيتان بهذا الشأن: نظرية تقليدية كرسها القانون الفرنسي؛ ونظرية حديثة تبناها القانون الألماني.
1- في القانونين الفرنسي والألماني: يكرس القانون الفرنسي النظرية التقليدية التي تشترط لنشوء الالتزام توافر إرادتين وتوافقهما وتطابقهما، في حين أن القانون الألماني يعترف للإرادة المنفردة بدور في إنشاء الالتزامات، وهذه النظرية الحديثة في هذا المجال ولاسيما بعد أن زعم الفقيه النمساوي سيجل Siegel أنه اكتشف في العام 1874، مصدراً آخر للالتزام، هو إرادة المدين المنفردة.
أ- في القانون الفرنسي: لم تكن الإرادة المنفردة في القانون الروماني قادرة على إنشاء الالتزام، وبالتالي لم يكن باستطاعة الفرد أن يلتزم بإرادته المنفردة. والسبب في ذلك يعود إلى أن القانون الروماني كان يعدّ الالتزام رابطة شخصية بين شخصين، أحدهما دائن والآخر مدين. ويترتب على ذلك أن نشوء الالتزام يتطلب وجود الدائن والمدين. وقد تأثر القانون الفرنسي بهذه النظرية. وهذا ما كان يفرضه المذهب الفردي الذي كان يهيمن على التقنين المدني الفرنسي وقت صدوره عام 1804. فلا يمكن أن يعدّ شخص دائناً بموجب إرادة شخص آخر، وذلك لأن نشوء الالتزام يتطلب توافر رضا الدائن والمدين، أي يتطلب وجود عقد. وبالتالي فإن إرادة المدين وحدها لا تكفي لإنشاء الالتزام. وبالمقابل فإن التقنين المدني الفرنسي لعام 1804 يكرس بعض تصرفات الإرادة المنفردة التي لا تنشيء التزاماً وإنما ترتب أثراً قانونياً آخر قد يكون نقل حق عيني أو إلغاءه أو إنهاء عقد. ومثال على ذلك إقرار نسب طفل طبيعي من قبل الأب أو الأم. والوصية، وهي وفقاً لنص المادة 895 من التقنين المدني الفرنسي تصرف مضاف إلى ما بعد الموت ينعقد بإرادة الموصي وحدها. ومن تصرفات الإرادة المنفردة أيضاً إجازة العقد الباطل بطلاناً نسبياً؛ أي القابل للإبطال. وكذلك إنهاء العقد غير محدد المدة - كعقد العمل - بإرادة أحد الطرفين. وكذلك الشركة المكونة من شريك واحد. إذ أن القانون رقم 697/85 تاريخ 11/7/1985 أجاز للشخص في بعض الحالات المحددة أن ينشئ شركة بإرادته المنفردة، وهذا ما تنص عليه الفقرة /2/ من المادة 1832 من التقنين المدني الفرنسي. ومن تصرفات الإرادة المنفردة في القانون الفرنسي التنازل عن التركة، إذ تجيز المادة 804 من التقنين المدني الفرنسي للوارث أن يتنازل عن حصته في التركة، ولا يحتج بهذا التنازل تجاه الغير إلا إذا تمَّ التنازل أمام المحكمة التي فتحت التركة في دائرتها.
ولم يكرس التقنين المدني الفرنسي نظرية عامة لمثل هذه التصرفات، وإنما نص عليها في أماكن متفرقة منه.
أما فيما يتعلق بقدرة الإرادة المنفردة على إنشاء الالتزام فلم يتطرق التقنين المدني الفرنسي إلى ذلك. وأدى ذلك إلى ظهور تيارين فقهيين متعارضين في فرنسا، أحدهما يعارض أن تكون الإرادة المنفردة مصدراً للالتزام، في حين أن الآخر يؤيد ذلك.
ويرى المعارضون أن نظرية الإرادة المنفردة بوصفها مصدراً للالتزام لا تتعارض ومبدأ سلطان الإرادة الذي تقوم عليه نظرية الالتزامات في القانون الفرنسي. ولكن نظرية الإرادة المنفردة تخالف المنطق القانوني السليم؛ وذلك لأنه إذا كان من الممكن قبول التزام المدين بإرادته المنفردة، ولكن لا يوجد مدين دون دائن، فهل يمكن أن تجبر إرادة المدين شخصاً أن يتلقى أداءً دون علمه أو حتى دون رضاه؟ هذا الأمر مستحيل. حتى يكون التزام إرادة منفردة فعالاً - من وجهة نظر مؤيدي هذه النظرية - يجب أن يكون هناك قبول من طرف الدائن. يترتب على ذلك ضرورة وجود إرادتين متطابقتين من أجل أن تكون أي علاقة قانونية فعالة، وهذا يقرب نظرية الإرادة المنفردة من النظرية التقليدية التي تتطلب وجود إرادتين من أجل إنشاء الالتزامات. زد على ذلك أن نظرية الإرادة المنفردة ترتب آثاراً مشابهة للآثار المترتبة على الإيجاب والقبول في النظرية التقليدية للعقد. فإذا كان باستطاعة المدين أن يلتزم إرادته المنفردة؛ فيجب أن يكون باستطاعته أن يتراجع عن هذا الالتزام وذلك تطبيقاً لمبدأ سلطان الإرادة. فإذا كانت الإرادة المنفردة تستطيع أن تنشئ الالتزام؛ فيجب أن يكون باستطاعتها أيضاً التحرر من ذلك الالتزام دون حاجة إلى إرادة أخرى. ويترتب على القبول بهذه الفرضية أن الالتزام الناشئ من الإرادة المنفردة في مثل هذه الحال هو التزام إرادي بحت، وبالتالي لا يعدّ التزاماً بالمعنى القانوني، وإنما هو تعهد إرادي بحت.
يتبين من كل ذلك أن نظرية الإرادة المنفردة تؤدي إلى حلول قريبة من الحلول التي تؤدي إليها النظرية التقليدية للعقد. ومع ذلك فهناك فرق وحيد بين النظريتين، وهو فرق هام. ويتمثل هذا الفرق في أن قبول الدائن الاستفادة من الالتزام الناشئ بإرادة المدين المنفردة ينتج أثره على نحو رجعي، أي من تاريخ التزام المدين بإرادته المنفردة، في حين أن العقد لا ينعقد إلا من تاريخ صدور القبول وبالتالي لا ينتج - من حيث المبدأ - آثاره على نحو رجعي.
ويرى معارضو هذه النظرية أن التزام الإرادة المنفردة ينجم عنه أخطار على الصعيد العملي. في الحقيقة أن المعاملات التي تسبق عملية التعاقد تجعل المدين يشعر بخطورة الالتزامات التي يمكن أن يقبل بها. وبما أن التزام إرادة منفردة لا تسبقه مثل هذه المعاملات فيخشى أن يقدم المدين على الالتزام دون التفكير بخطورة التزاماته التي تنشأ من إرادته المنفردة. زد على ذلك أنه من الصعب على الصعيد العملي في بعض الأحيان التمييز بين العقد وبين التزام إرادة منفردة. وأخيراً يستحيل في الكثير من الأحيان إثبات الالتزام الناشئ من إرادة المدين المنفردة. ولكن يعترف معارضو هذه النظرية بأنه يمكن التغلب على هذه الصعوبات، وذلك بجعل التزام الإرادة المنفردة تصرفاً رسمياً، لا ينشئ الالتزام إلا إذا توافرت الشكليات التي يتطلبها القانون.
ويستخلص أصحاب هذا الرأي مما تقدم أن الإرادة المنفردة بوصفها مصدراً للالتزام ليس لها أي فائدة، وذلك لأن الاجتهاد القضائي الفرنسي قدم حلولاً مقنعة - قبل ظهور هذه النظرية - لبعض المفاهيم القانونية التي يحاول أنصار هذه النظرية أن يؤسسوها على الإرادة المنفردة، كالإيجاب والوعد بجائزة، والاشتراط لمصلحة الغير.
أما أنصار نظرية الإرادة المنفردة بوصفها مصدراً للالتزام فيرون أن تكريس هذه النظرية ينسجم مع مبدأ سلطان الإرادة الذي تقوم عليه النظرية العامة للعقد في التقنين المدني الفرنسي. زد على ذلك أن تكريس هذه النظرية هو تلبية لضرورات اقتصادية واجتماعية.
كما أن تكريس هذه النظرية يجنب تحوير بعض المفاهيم القانونية كالعقد والجريمة وشبه العقد، وذلك من أجل تسويغ بعض الالتزامات التي في الواقع تنشأ من الإرادة المنفردة كالوعد بجائزة والإيجاب الملزم. ولكن يبدو أن غالبية الفقه المعاصر تقر بأنه على الرغم من أن الإرادة المنفردة بوصفها مصدراً للالتزام مفهوم غريب عن التقاليد القانونية الفرنسية، بيد أنه يمكن القبول بها في بعض الحالات الاستثنائية التي لا يمكن فيها أن يقوم الالتزام إلا على الإرادة المنفردة. وبالتالي يجب الاعتراف بدور ثانوي لهذه النظرية في إنشاء الالتزامات.
ب- في القانون الألماني: يعدّ الالتزام في القانون الألماني عنصراً مالياً، وبالتالي يكرس هذا القانون النظرية المادية في تعريف الالتزام. ويكفي لإنشاء الالتزام في القانون الألماني أن يكون المدين موجوداً وقت نشوئه. ويترتب على ذلك أن هذا القانون يعدّ الإرادة المنفردة مصدراً إرادياً للالتزام إضافة إلى العقد. وهذا يستفاد من المادة 305 من القانون الألماني (BGB) لعام 1901، والتي تقرر أنه باستثناء الحالات التي ينص عليها القانون أن وجود عقد بين طرفين أمر ضروري لإنشاء التزام، وكذلك من أجل تعديل مضمونه. يترتب على ذلك أن المبدأ في القانون الألماني أن الالتزامات الإرادية لا يمكن أن تنشأ إلا عن عقد، ولكن استثناءً من ذلك يجوز بموجب نص قانوني أن ينشأ الالتزام الإرادي عن إرادة المدين المنفردة. ويستخلص من ذلك أن القانون المدني الألماني لا يكرس الإرادة المنفردة مصدراً عاماً للالتزامات، وإنما يمكن أن تكون مصدراً للالتزامات في بعض الحالات الخاصة التي ينص عليها القانون. ويرى الفقهاء الألمان أن المنطق القانوني يقبل أن يلتزم الشخص إرادته المنفردة، فهو حرٌّ في أن يرتب على عاتقه ما يريد من التزامات. ولكن هذا لا يعني بحد ذاته أنه يمكن أن يجبر الدائن على قبول تلك الالتزامات؛ وذلك لأنه لا يمكن إلزام شخص قبولَ حق لا يريده. ويترتب على ذلك أن الواعد في الوعد بجائزة يلتزم إرادته المنفردة؛ طبقاً لما جاء في المادة 657 من القانون المدني الألماني. وكذلك لا تأثير لوفاة الموجب أو فقدانه الأهلية بعد صدور الإيجاب على إيجابه وفقاً لما ذهبت إليه الفقرة الثانية من المادة 130 من القانون ذاته. وقد انتقلت هذه النظرية إلى القانون الوضعي الفرنسي عن طريق الفقيه سالي Saleilles، ومن ثم ظهر مؤيدون لها في هذا القانون وفقاً لما سبق بيانه.
ومن خلال المقارنة بين موقفي القانونين الفرنسي والألماني يتبين أن الاختلاف بينهما عميق، ولا يمكن التوفيق بينهما. ولكن هذا الاختلاف في الحقيقة يقتصر على الأساس القانوني الذي يبني كل قانون موقفه عليه. فالقانون الفرنسي التقليدي لا يقرّ بأي دور للإرادة المنفردة في إنشاء الالتزام، في حين أن القانون الألماني يعترف بدور محدود للإرادة المنفردة في إنشاء الالتزام، وبالتالي تعدّ هذه الإرادة المنفردة مصدراً إرادياً للالتزام في القانون الألماني. وبالمقابل هناك تقارب كبير بين القانونين على صعيد النتائج العملية المترتبة على الأساس القانوني الذي تبناه كل قانون. ففي القانون الألماني يلتزم الواعد في الوعد بجائزة إرادتَه المنفردة. وكذلك يلتزم الموجب إرادتَه المنفردة، وبالتالي لا تأثير للوفاة أو انعدام الأهلية على الإيجاب الصادر قبل ذلك. والقانون الوضعي الفرنسي يعد الواعد ملتزماً في الوعد بجائزة، ولكن ليس على أساس الإرادة المنفردة وإنما على أساس العقد، وكذلك الحال للإيجاب الملزم إذ يلتزم الموجب البقاءَ على إيجابه على أساس العقد؛ وذلك لأن سكوت الموجه إليه - في مثل هذه الحال - يعدّ قبولاً لأن الإيجاب الملزم يعدّ منفعة محضة للموجه إليه.
على الرغم من التقارب بين النظريتين الفرنسية والألمانية على الصعيد العملي؛ فإنه يبقى هناك فارق بينهما. وهذا الفارق يكمن في أن الالتزام الناشئ من الإرادة المنفردة ينشأ من تاريخ التعبير عن هذه الإرادة، أما الالتزام الناشئ من العقد فينشأ من حيث المبدأ من تاريخ صدور القبول.
2- في القانون السوري: القانون المدني السوري - كما هو معلوم - مستمد من القانون المدني المصري. وكانت المادة 228 من المشروع التمهيدي للقانون المدني المصري تجعل الإرادة المنفردة - على غرار العقد - مصدراً عاماً للالتزام. وكانت هذه المادة تنص على أنه:
«1- إذا كان الوعد الصادر من جانب واحد مكتوباً وكان لمدة معيّنة، فإن هذا الوعد يلزم صاحبه من الوقت الذي يصل فيه إلى علم من وُجِّه إليه ما دام هذا لم يرفضه.
2- وتسري على هذا الوعد الأحكام الخاصة بالعقود؛ إلا ما تعلق فيها بضرورة وجود إرادتين متطابقتين لإنشاء الالتزام.
3- يبقى الإيجاب في العقود خاضعاً للأحكام الخاصة به، ويسري حكم المادة التالية على كل وعد بجائزة يوجه إلى الجمهور».
ولكن لجنة المراجعة حذفت هذا النص، وبالتالي رفضت عدّ الإرادة المنفردة مصدراً عاماً للالتزام، وإنما أقرت للإرادة المنفردة بقدرتها على إنشاء الالتزام في الحالات الاستثنائية التي ينص عليها القانون. وهذا ما كرسه القانون المدني المصري الجديد. ومن ثم أخذ القانون المدني السوري بما جاء في القانون المدني المصري، من حيث إن الإرادة المنفردة لا تعد مصدراً عاماً للالتزام، وإنما تعدّ مصدراً للالتزام في حالات استثنائية ينص عليها القانون.
وقد أفرد القانون المدني السوري - على غرار أصله المصري - الفصل الثاني من الباب الأول من الكتاب الأول من القسم الأول للإرادة المنفردة بوصفها مصدراً إرادياً للالتزام. ويتضمن هذا الفصل مادة وحيدة، وهي المادة المكرسة للوعد بجائزة كأحد تطبيقات الإرادة المنفردة.
ونتيجة حذف نص المادة 228 من المشروع التمهيدي للقانون المدني الذي يجعل من الإرادة المنفردة مصدراً عاماً للالتزام؛ ذهب بعض الفقهاء إلى القول: إن الالتزامات التي تنشأ من الإرادة المنفردة في الحالات الاستثنائية التي ينص عليها القانون إنما مصدرها المباشر هو القانون لا الإرادة المنفردة. وتبعاً لذلك يرى بعضهم أنه من الواجب حذف الفصل الخاص بالإرادة المنفردة وإدماجه في الفصل الخاص بالقانون. وبالمقابل فإن قسماً آخر من الفقهاء ينتقد هذا الاتجاه، ويعدّ الإرادة المنفردة مصدراً مباشراً للالتزام حتى في الحالات الاستثنائية التي ينص عليها القانون، وبالتالي فإن المحل الطبيعي للإرادة المنفردة هو أن تأتي بعد العقد مصدراً إرادياً للالتزام.
وفي الحقيقة لا يمكن إنكار دور الإرادة المنفردة في إنشاء الالتزام حتى لو كان هذا الدور مقيداً بوجود نص قانوني خاص. فالالتزام في مثل هذه الحالات الاستثنائية إنما ينشأ مباشرة من الإرادة المنفردة؛ وذلك لأنها اتجهت إلى إحداث مثل هذا الأثر القانوني، ويبقى القانون هنا مصدراً غير مباشر للالتزام كما هو عليه الحال في جميع المصادر الأخرى للالتزام. ويترتب على ذلك أن المشرع حسناً فعل عندما أبقى الفصل الخاص بالإرادة المنفردة ضمن المصادر الإرادية للالتزام.
ثانياً: حالات التزام إرادة منفردة وخصائصه
1- حالات التزام إرادة منفردة: وتعدّ الإرادة المنفردة ملزمة في حالات عدة نص عليها القانون السوري، وهي:
أ- الإيجاب الملزم: وهو الإيجاب الذي يعين فيه الموجب ميعاداً للقبول، وبالتالي يلتزم الموجب - وفقاً لأحكام المادة 94 من القانون المدني السوري- البقاءَ على إيجابه حتى انقضاء ذلك الميعاد. ويمكن أن يستخلص الميعاد إما من ظروف الحال وإما من طبيعة المعاملة. ومصدر التزام الموجب البقاءَ على إيجابه في مثل هذه الحال هو إرادته المنفردة.
ب- المؤسسات: ألغيت الأحكام المتعلقة بالمؤسسات في القانون المدني بموجب القانون رقم 93 تاريخ 8/7/1958. والمؤسسة بموجب هذا القانون هي مشروع يخصص له المؤسس مالاً معيناً للغرض الذي يريد تحقيقه، وذلك بموجب سند رسمي أو وصية. وبالتالي فإن إرادة المؤسس المنفردة هي مصدر التزامه- في مثل هذه الحال، أو ورثته من بعد وفاته- نقلَ المال الذي خصص للمؤسسة لملكيتها.
ج- الوصية: وهي تصرف في تركة الموصي مضاف إلى ما بعد الموت، وفقاً لما ذهبت إليه المادة 207 من قانون الأحوال الشخصية. وهي تنعقد بإرادة الموصي المنفردة.
د- الوقف: وهو «حبس للمال على حكم ملك الله تعالى، والتصدق بمنفعته». ومن ثم فإن ذلك المال يخرج من ملك مالكه بإرادته المنفردة، ويمتنع التصرف في عينه. ونتيجة ذلك تمنع المادة 998 من القانون المدني السوري بيع العقار الموقوف، أو التفرغ عنه، أو انتقاله بطريق الإرث. كما تمنع رهنه أو عقد تأمين عليه. ولا يرتب الوقف أي أثر - وفقاً لنص المادة 1000 من هذا القانون - إلا من يوم قيده في السجل العقاري. وبالتالي فإن الوقف ينشئ التزاماً على الواقف أو على ورثته قيدَ الوقف في السجل العقاري.
هـ- الوعد بجائزة: وهو تصرف إرادة منفردة وفقاً لما ذهبت إليه المادة 163 من القانون المدني السوري.
2- خصائص تصرف الإرادة المنفردة: يمتاز تصرف الإرادة المنفردة بالخصائص الآتية:
أ- تعدّ الإرادة المنفردة مصدراً محدوداً واستثنائياً لإنشاء الالتزام، ولا تعدّ مصدراً عاماً لأن في ذلك خطورة كبرى، إذ قد تكون هذه الإرادة اعتباطية وغير مؤكدة. وبالتالي قصر المشرع دور الإرادة المنفردة على إنشاء الالتزام على الحالات الخاصة التي ينص عليها القانون، حتى تكون هذه الإرادة ثابتة وجدية. وتتميز الإرادة المنفردة بهذه الخاصية من بقية مصادر الالتزام، كالعقد والفعل غير المشروع والإثراء بلا سبب التي تعدّ مصدراً عاماً للالتزام؛ إذ إنها تستطيع أن تنشئ الالتزام كلما توافرت للالتزام مقومات وجوده.
ب- تصرف الإرادة المنفردة هو تصرف إرادي ينتج أثره بإرادة واحدة دون أن يتوقف ذلك على إرادة ثانية، كما هو عليه الحال في العقد. ويترتب على ذلك أن تصرف الإرادة المنفردة يتميز من العقد الملزم لجانب واحد بأن العقد يحتاج إلى إرادتين، أما تصرف الإرادة المنفردة فيكفي فيه توافر إرادة واحدة، وهي إرادة صاحبه.
ج- تطبق على تصرف الإرادة المنفردة - عندما يكون مصدراً للالتزام- الأحكام العامة للعقد باستثناء ما يتعلق منها بوجود إرادتين متطابقتين، الأمر الذي يتعارض وطبيعة تصرف الإرادة المنفردة. واستناداً إلى ذلك يجب أن تتوافر في المتصرف بالإرادة المنفردة أهلية الأداء تحت طائلة بطلان تصرفه أو قابليته للإبطال تبعاً لما إذا كانت هذه الأهلية منعدمة أو ناقصة. كما يجب أن يكون تصرف الإرادة المنفردة خالياً من عيوب الإرادة؛ وإلا كان قابلاً للإبطال. ولكن لا يشترط في الغلط الذي يقع فيه المتصرف بالإرادة المنفردة أن يعلم المتصرف إليه به. كما لا يشترط في التدليس والإكراه، الواقعين على المتصرف بالإرادة المنفردة، أن يكون المتصرف إليه على علم بهما.
كما يجب أن يكون الباعث على تصرف الإرادة المنفردة مشروعاً، وإلا كان العقد باطلاً. ولكن لا يشترط علم المتصرف إليه بالباعث غير المشروع حتى يترتب البطلان.
كما يجب أيضاً أن يكون لالتزام المتصرف الإرادة المنفردة محل تتوافر فيه شرائط محل العقد.
د- ينتج تصرف الإرادة المنفردة أثره من وقت صدور التعبير عن الإرادة من المتصرف؛ شريطة أن تتوافر في هذا التعبير جميع أركانه وشرائط صحته.
مراجع للاستزادة:
- أحمد حشمت أبو ستيت، نظرية الالتزام في القانون المدني الجديد (الطبعة الثانية، مطبعة مصر، القاهرة 1954).
- توفيق حسن فرج، النظرية العامة للالتزام - في مصادر الالتزام (الدار الجامعية للطباعة والنشر، دون تاريخ).
- سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني -2-، في الالتزامات (المجلد الأول : نظرية العقد والإرادة المنفردة، طبعة 1987).
- عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام (المجلد الأول، القاهرة، دون تاريخ).
- عبد الفتاح عبد الباقي، موسوعة القانون المدني المصري، نظرية العقد والإرادة المنفردة (دراسة معمقة ومقارنة بالفقه الإسلامي 1984).
- عبد المنعم البدراوي، النظرية العامة للالتزامات في القانون المصري (الجزء الأول، مصادر الالتزام، القاهرة 1975).
- عكاشة محمد عبد العال، طارق المجذوب، تاريخ النظم القانونية والاجتماعية (المكتبة القانونية، والنظم القانونية، كتاب جامعي، مطبعة ابن خلدون، 1986).
- مصطفى الزرقاء، شرح القانون المدني السوري، نظرية الالتزام العامة -1- المصادر، العقد و الإرادة المنفردة (طـ 4، مطبعة دار الحياة، دمشق 1964).
- محمد وحيد الدين سوار، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزام، الجزء الأول مـــصادر الالتزام،1، المصادر الإرادية، و 2- المصادر غير الإرادية (مطبعة رياض، دمشق 1982 -1983).
- Jacques FLOUR , Jean -Luc AUBERT et Éric SAVAUX, Les obligations, I, L’acte juridique (10 éd., Armand Colin, Paris, 2002).
- Ch. LARROUMET, Droit civil (tome 3, Les obligations, le contrat, 3e édition, Economica - Delta, 1996).
- H., L., J.MAZEAUD et F.CHABAS, Leçon de droit civil (tome II, volume I, Obligations- théorie générale, 9ème édition, Delta, 2000).
- F.TERRE, Ph. SIMLER et Y. LEQUETTE, Droit civil, Les obligations (8ème édition, Dalloz, 2002).
المصدر: http://arab-ency.com
شكرا جزيلا
للاستفادة من موقعنا ابحثوا على الموضوع الذين تريدون، بمربع البحث. نسعى دائما لتطوير موقعنا، شكرا لكم