القائمة الرئيسية

الصفحات



اصول محاكمات مدنيه(مقدمه)

civil procedure acts - NULL

 أصول المحاكمات المدنية

أصول المحاكمات المدنية

محمد واصل




تتعلق قواعد الموضوع في التشريعات المختلفة من مدنية أو تجارية، أو اجتماعية أو صحية بتحديد الحقوق والواجبات أو المراكز القانونية، ولكنها لا تتضمن كيفية حماية تلك الحقوق أو المراكز، أو آلية الدفاع عنها أو اقتضائها عند اللزوم. فمما لا شك فيه أن المضمون الأساسي لقانون أصول المحاكمات La procédure civile هو وضع آليات حماية الحقوق والدفاع عنها من خلال القضاء في الدولة، ولهذا فإنه يتميز ويتفرد بمجموعة من الخصائص، مع تأكيد مبدأين عامين في تنازع قوانين الأصول؛ أحدهما يتعلق  بالإجراءات والبطلان، والآخر يتعلق بالأدلة. ويقضي المبدأ الأول: أن كل إجراء أو تدبير تم صحيحاً في ظل قانون معين يبقى صحيحاً ما لم يأتِ النص في القانون الجديد على خلافه، كما أنه يسري على المواعيد المستحدثة بموجب قانون جديد القانون الذي استحدثها حفاظاً على الحقوق المكتسبة. أما المبدأ الثاني فيقضي أنه: يسري بشأن الأدلة التي تعد مسبّقاً القانون الذي أعد الدليل في ظله أو كان مفترضاً إعداده فيه ما لم يكن الأحدث هو الأصلح لعدم تأثيره في الحقوق المكتسبة.

أولاً: مفهوم أصول المحاكمات

1-التعريف بقانون أصول المحاكمات: تختلف تعريفات القوانين المنظمة لعملية التقاضي أمام المحاكم باختلاف التشريعات في الدول حيث إن بعضها أطلق عليها اسم قانون أصول المحاكمات كما هو عليه الأمر في سورية وفرنسا، وسمي في لبنان بقانون أصول المحاكمات المدنية، وآخرين أطلقوا عليها اسم قانون المرافعات المدنية كما هو عليه الأمر في العراق وليبيا، وسماه المشرع المصري بقانون المرافعات المدنية والتجارية وأخذ بهذه التسمية أكثر دول الخليج العربي، وسمي في تونس بمجلة المرافعات، وفي المغرب بالمسطرة الإجرائية، أما المشرع العُماني فقد أطلق عليه اسم قانون الإجراءات المدنية والتجارية؛ لذلك مهما كانت التسميات فهو من حيث المضمون مجموعة القواعد التي تبين المحاكم ودرجاتها وطرق مراجعتها، وذلك من تقديم الدعوى وانتهاء بإصدار الأحكام وتنفيذها مروراً بإجراءات الدفاع والتدخل وطرق الطعن أو المراجعة.

لقد وضع الفقهاء تعريفات متعددة لقانون أصول المحاكمات أو لقانون المرافعات، حيث عَرَّفهُ بعضهم بأنه: «مجموع الأصول والأوضاع والإجراءات التي يجب على المتقاضين مراعاتها للحصول على حقوقهم، كما يجب على المحاكم اتباعها لإقامة العدل بين الناس»،  أو «أنه القانون الذي يعني بتنظيم السلطة القضائية وترتيبها وبيان اختصاص المحاكم والإجراءات الواجب اتباعها أمامها»، أي «هو القانون الذي يطلق على مجموعة القواعد التي تنظم السلطة القضائية واختصاص المحاكم والإجراءات المتبعة أمامها»، ويعرفه آخرون بأنه «مجموعة القواعد التي تُعيِّن المحاكم واختصاصها والإجراءات التي يتعين على المحاكم اتباعها للفصل في الدعاوى المعروضة عليها، أو هو الشكل الذي يتعين بموجبه رفع الدعوى والدفاع فيها، وكذلك التدخـل والتحقيق والحكم بها، وبيان طـرق الطعن التي يمكن سلوكها، مع بيان آلية تنفيذها»، أو أنه «القانون الذي يتضمن مجموعة القواعد التي تنظم المحاكم وسير المحاكمة من تقديم الدعوى حتى صدور الحكم فيها وتنفيذه مروراً بإجراءات المدافعة والتدخل وبإجراءات الإثبات التي يقتضيها فصل الدعوى»، وقد أطلق المشرع السوري على هذا القانون اسم قانون أصول المحاكمات بوصفه قانوناً عاماً يتم الرجوع إليه في كل مسألة لا تنظمها قواعد أصولية أو إجرائية في أي قانون خاص آخر.

لذلك يعني أصول المحاكمات أنه القانون القضائي الخاص، أو قانون اقتضاء الحقوق الخاصة وحمايتها، وعلى القاضي وكل من يراجع عدالة الدولة أن يتقيدا بمضمونه؛ لأنه يتضمن القواعد التي تبين اختصاصات المحاكم وكيفية اللجوء إليها، وتوضح الإجراءات المتبعة أمامها وصولاً إلى اقتضاء الحق أو حمايته، وهو القانون العام في كل ما يتضمنه من قواعد وأحكام؛ لذلك يمكن أن يعرف قانون أصول المحاكمات بأنه «القانون المتضمن مجموعة القواعد التي تبين أنواع المحاكم واختصاصاتها، وتنظم عملها وإجراءات الدعوى والخصومة  وإجراءات الإثبات ، والفصل في الخصومات بإصدار الأحكام بأنواعها، وتبين طرق الطعن في الأحكام وآلياتها وصولاً إلى التنفيذ وإجراءاته وتصفية المراكز القانونية المترتبة عليها». 

2- خصائص قانون أصول المحاكمات: يتميز قانون أصول المحاكمات بأنه قانون إجرائي أو شكلي؛ لأنه ينظم ويحدد القواعد والإجراءات والأشكال التي يجب مراعاتها والأخذ بها عند اللجوء إلى عدالة الدولة لاقتضاء حق أو حمايته من تقديم الدعوى حتى تنفيذ الأحكام الصادرة فيها، كما يتميز بأنه قانون موضوعي في بعض المسائل كالمسائل المتعلقة بقبول الدعوى، وشروط صحتها، والتمثيل أمام المحاكم، والمسائل المتعلقة بالإثبات. لهذا فإن قانون أصول المحاكمات يتصف بخصائص من حيث المضمون، ومن حيث القوة الملزمة، وكذلك من حيث طبيعة قواعده وفق الآتي: 

أ- مضمون قانون أصول المحاكمات: يحتوي قانون الإجراءات على نوعين من القواعد، يطلق على الأولى منها قواعد الموضوع، وتسـمى الثانية بالقواعد الشكلية، ومن القواعد الموضوعية تلك المتعلقة بشروط قبول الدعوى، وشروط صحتها، وصحة تمثيل الأطراف أمام المحاكم، يضاف إليها القواعد المتعلقة بالإثبات وطرق الطعن والإجراءات الخاصة بالتنفيذ الجبري، أما قواعد الشكل فهي تلك المتعلقة بحق الدفـاع وعلانية المحاكمة، وإجراءات الإعلان والحضور أمام المحاكم، وتلك المتعلقة بتبادل اللوائح والمذكرات، وشروط إصدار الأحكام، وطرق الطعن ومهله وغيرها. 

ب-مدى إلزامية قواعد أصول المحاكمات:  تتعلق بعض قواعد الأصول بالنظام العام وبعضها الآخر لا يتعلق بالنظام، فلا يجوز للخصوم ولا للقضاة أن يخالفوا القواعد المتعلقة بالنظام العام، إذ لا يصح أن يُتْرَكَ للخصوم أمر تحديد المحكمة التي يمكن أن يرفعوا دعواهم إليها باستثناء التحكيم، ولا يمكنهم اختيار الإجراءات الواجب اتباعها أمام المحاكم، وبالتالي فإن كل ما يتعلق بالتنظيم القضائي، وبحسن سير العدالة يعد من النظام العام، أما تلك المتعلقة بالاختصاص فمنها ما يتعلق بالنظام العام ومنها ليس كذلك.

ج- طبيعة قانون أصول المحاكمات: لا يعد قانون أصول المحاكمات فرعاً من فروع القانون العام أو فرعاً من فروع القانون الخاص، بل هو تصنيف مستقل لأنه يتضمن القواعد التي تؤدي إلى اقتضاء الحق وحمايته. فهو لا يحكم على نحو مباشر علاقة عامة أو علاقة خاصة، وإنما ينظم وسائل حماية القانون للعلاقات، فهو بذلك فرع من فروع القوانين الأصولية أو الإجرائية التي تخدم القانون الخاص أو القضاء المدني كما يخدم قانون الإجراءات الجزائية القضاء الجزائي. فعندما يتعلق الأمر بالتنظيم القضائي وسلطة المحاكم في الفصل في المنازعات، وقوة الأحكام القضائية يبرز مفهوم السلطة العامة وقوتها  وهذه من مسائل القانون العام، وعندما يُبحث في رفع الدعوى والتنازل عنها وممارسة بعض الإجراءات وإجراءات الخصومة تظهر مسائل تخضع لأحكام القانون الخاص. ويبدو أن الفصل بين فروع القانون هو فصل افتراضي ومنهجي وليس فصلاً حقيقياً؛ لأن كل فروع القانون تعمل في ساحة واحدة، وتتكامل كلها في ضمان الحقوق والحريات، وحماية المصالح الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والسياسية، وإن كلاً من فروع القانون يتصل بعضها ببعض لضمان الاستقرار والتوازن وسلامة الدول واستقلالها.

ثانياً: تطبيق قانون أصول المحاكمات من حيث الزمان والمكان

يقضي المبدأ العام في تشريعات قوانين الأصول أو الإجراءات أنها تطبق بأثر فوري على جميع الدعاوى القائمة التي لم يفصل فيها، وعلى الإجراءات جميعها التي تتخذ في تلك الدعاوى من وقت نفاذ التشريع الأصولي أو الإجرائي الجديد؛ لأن قواعد الأصول تنظم مراكز قانونية تخضع بطبيعتها للتعديل والتغيير من قبل المشرع من دون أن يكون لتطبيقها أثر رجعي لأنها تتعلق بتنظيم مرفق العدالة. لذلك يجب أن تحترم قواعد الأصول الوقائع والأعمال التي تمت في ظل قانون سابق، إذ يمكن أن يحتفظ المشرع ببعض الحقوق أو المراكز القانونية التي ترتبت في ظل القانون السابق على القانون الجديد، وبالتالي فإن المبدأ لا يطبق على إطلاقه لأنه لا يمكن إنكار الأوضاع القانونية القائمة قبل صدورها، والتي يجب أن يحافظ فيها على الحقوق المكتسبة في ظلها، وإن كان هناك من يقول إن نظرية الحقوق المكتسبة ليس لها أهمية لقواعد قانون الإجراءات لأنها على الأغلب لا تضر بتلك الحقوق؛ لكونها لا تمس أصل الحق المدعى به، وهي غالباً تتعلق بالنظام العام  وتهدف إلى حسن سير العدالة، وتنص التشريعات المختلفة في أكثر الدول على امتداد سريان النص السابق وعدم تطبيق النص الجديد على بعض المسائل، وذلك درءاً لأي دفاع يتعلق بالمس بالحقوق المكتسبة، وعلى ذلك ميز قانون أصول المحاكمات في هذا الصدد بين قواعد معدلة للاختصاص، وأخرى معدلة للمواعيد ، وثالثة معدلة لطرق الطعن.

1- تطبيق قانون أصول المحاكمات من حيث الزمان: تثير مسألة تطبيق أحكام قانون الأصول من حيث الزمان عدة مسائل، منها ما يتعلق بالاختصاص عندما ينص على جعل بعض الدعاوى من اختصاص محكمة معينة، ومنها ما يتعلق بالقواعد المعدلة للمواعيد سواء تعلقت بالطعن أم بالإجراءات، وأخرى تتعلق بالقواعد المتعلقة بطرق الطعن من حيث إلغاء طريق من طرق الطعن في الأحكام أو إضافته.

أ-القواعد المعدلة للاختصاص: يقضي المبدأ القانوني أنه إذا كان الاختصاص بنظر دعوى معينة معقوداً لاختصاص محكمة أو جهة أخرى ذات اختصاص قضائي، وصدر قانون جديد جعلها من اختصاص محكمة أخرى سواء تعلق ذلك بالاختصاص القيمي أم النوعي أم المحلي يتعين تطبيق القانون الجديد من تاريخ نفاذه. فلو أن الدعوى كانت منظورة أمام محكمة شرعية أو محكمة مدنية وطعن بالحكم أمام محكمة أعلى وأعيدت الدعوى إلى المحكمة المذكورة وصدر قانون جديد يجعـلها غير مختصة في نظرها فعليها في هذه الحالة إحالتها إلى المحكمة المختصة وفق القانون الجديد ما لم ينص القانون الجديد على أن تبقى من اختصاص المحكمة التي كانت تنظر فيها حتى تفصل فيها، ولا يجوز أن تحكم برد الدعوى لعدم الاختصاص. أما إذا كانت الدعوى تنظر أمام إحدى المحاكم المشار إليها أعلاه، وكانت الدعوى قد أصبحت مهيأة للحكم بعد أن تم قفل باب المرافعة فيها فقد وجد المشرع من الحكمة أن يبقى الاختصاص للمحكمة ذاتها كي تفصل فيها، ولا تعد الدعوى مهيأة للحكم فيها ما لم يدلِِ الخصوم بأقوالهم النهائية فيها. غير أنه إذا قررت المحكمة فتح باب المرافعة في الدعوى بعد قفله لسبب تقتضيه ضرورة الفصل فيها كإصدار حكم بإجراء تحقيق فني عن طريق الخبرة الفنية، يتعين عليها في هذه الحالة إحالة الدعوى إلى المحكمة التي أصبحت مختصة للنظر فيها بموجب القانون الجديد. أما إذا كان من شأن القانون الجديد إلغاء محكمة فإنه يتوجب إحالة الدعوى بحالتها الراهنة سواء قفل فيها باب المرافعة أم لم يقفل إلى المحكمة التي أصبحت مختصة بموجب القانون الجديد، إلا أنه إذا صدر حكم عن محكمة الصلح مثلاً في قضية تدخل في اختصاصها قبل صدور القانون الجديد وكان الحكم يقبل الاستئناف، وحكم الاستئناف يقبل الطعن بالنقض، ثم صدر القانون الجديد وألغي طريق الطعن بالنقض فإن الطعن بالنقض يبقى قائماً.

ب- القواعد المعدلة للمواعيد: يقضي المبدأ القانوني أن المواعيد أو المهل المتعلقة بالطعن أو الإجراءات - أو غيرها من تلك المسائل التي يرتبط وجودها باتخاذ إجراء أو تدبير أو ممارسة حق في مدة زمنية معينة - لا يطبق عليها القانون الجديد إذا كانت تلك المهل أو المواعيد قد بدأت قبل صدور القانون الجديد؛ لأن تلك المدد أو الآجال مقررة من قبل المشرع وهو الذي يتحكم في إبطائها أو تسريعها وفقاً لما يرى فيه تحقيقاً للعدالة أو في تقصيرها أو إطالتها سواء تعلقت بمواعيد الطعن أم التبليغ أم كانت متعلقة بإيداع مذكرة دفاع في الدعوى. وقد أراد المشرع من هذا الاستثناء الوارد في الفقرة (ب) من المـادة (1) من قانون أصول المحاكمات الحفاظ على الحقوق المكتسبة التي كانت نافذة في ظل القانون السابق على القانون الجديد فيما يخص طرفي الخصومة سواء كانت المدة أطول أم أقصر، فإذا بدأ الميعاد في ظل قانون معين فإنه من العدل وحسن سير الإجراءات أن ينتهي الميعاد وفق القانون المذكور، فلو كان قد صدر الحكم وكان القانون القديم ينص على أن ميعاد الطعن يبدأ من يوم صدور الحكم، وصدر قانون جديد ينص على أن الميعاد يسري من اليوم التالي أو من التبليغ فإن القانون القديم هو الذي يبقى سارياً على سريان مدة الطعن، لكن لو كان القانون القديم ينص على أن الميعاد يبدأ من تاريخ التبليغ، وصدر قانون جديد ينص على أن يبدأ الميعاد من تاريخ صدور الحكم فإن تطبيق القانون الجديد يلحق ضرراً بالغاً بالخصوم لاحتمال تفويت الميعاد عليهم، وبالتالي فإنه لايمكن حساب الميعاد في هذه الحالة إلا من تاريخ صدور القانون الجديد وليس من تاريخ صدور الحكم.

ج- القواعد المتعلقة بطرق الطعن: يمكن أن ينص القانون الجديد على إحداث طريق مـن طرق الطعن أو إلغاء أحد الطرق التي كانت قائمة في ظل القانون السابق، والمبدأ القانوني يقضي بتطبيق القانون السابق على الأحكام التي صدرت قبل العمل بالقانون الجديد. ويعدُّ الحكم صادراً في اللحظة التي نطق القاضي به قبل العمل بالقانون الجديد، ولو تم إيداع مسوَّدته أو نسخته الأصلية في ملف الدعوى بعد ذلك.

2- تطبيق قانون أصول المحاكمات من حيث المكان: تقضي القواعد القانونية بعدم امتداد سلطة المحاكم السورية إلى خارج حدود الدولة التي تمارس فيها سيادتها، وعلى غير مواطنيها الذين لا يحملون جنسيتها، وهذا يفيد من حيث المبدأ امتداد صلاحيتها أو ولايتها القضائية على الأشخاص كافة الذين يقيمون في الدولة سواء كانوا مواطنين أم مقيمين، وعلى المواطنين الذين يحملون جنسيتها أينما كانوا، ومع ذلك يكون مفيداً تحديد من هم الأشخاص الذين يمكن محاكمتهم أمام المحاكم السورية، والذين يسمح لهم بالتقاضي أمامها.

أ- حق الأجنبي بالتقاضي أمام المحاكم السورية: كانت تشريعات بعض الدول تمنع الأجانب من التقاضي أمام محاكمها الوطنية؛ لأن هذا يعد من الحقوق الوطنية التي يتمتع بها المواطنون فقط، إلا أن هذا الأمر أصبح من الماضي، ومع ذلك قيد المشرع السوري حق الأجنبي في التقاضي أمام المحاكم السورية إذا لم يكن له أموال فيها بتقديم كفالة تضمن الوفاء بالرسوم والمصاريف التي يمكن أن يحكم عليه بها.

ب- ولاية القضاء على السوريين: كفل الدستور السوري للمواطن حق مراجعة القضاء الوطني، وعدم حرمانه منه من دون مسوغ، ومن دون تحديد القضاء المختص لمراجعته، ويعد هذا من النظام العام. وتؤكد تشريعات بعض الدول أن حق التقاضي أمام المحاكم الوطنية محصور بالمواطنين دون سواهم، كما تشرّع امتداد ولايتها على من يحملون جنسيتها أينما حطت بهم الرحال. لذلك يختص القضاء السوري في محاكمة السوريين أنَّى وُجِدُوا سواء كانت إقامتهم داخل البلاد أم خارجها؛ لأن القضاء مظهر من مظاهر سيادة الدولة التي تتجلى في سلطتها على إقليمها وما عليه من أشخاص وأشياء، وعلى مواطنيها الذين يحملون جنسيتها أينما كانوا، حتى لو لم يكن لهم سكن أو موطن أو محل إقامة فيها، ويسمى ذلك بالصلاحية الشخصية للمحاكم، وقد أكدت الهيئة العامة لمحكمة النقض هذه الصلاحية.

ج- صلاحية المحاكم في محاكمة المتمتعين بالحصانة القضائية: يقضي المبدأ القانوني العام أن ولاية القضاء هي ولاية إقليمية، وأن رسم حدود هذه الولاية يعتمد على مجموعة من الضوابط؛ منها ضوابط إيجابية تمد نطاق الولاية، وأخرى سلبية تعطل مبدأ الإقليمية. ومن الضوابط السلبية: عدم جواز إقامة الدعوى أمام المحاكم السورية على الأشخاص الذين يتمتعون بالحصانة القضائية. والأشخاص الذين يتمتعون بالحصانة القضائية هم الدول، ورؤساء الدول، والموظفون «الدبلوماسيون»، والهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية وفقاً لأحكام القانون الدولي.

(1) صلاحية القضاء في محاكمة الدول: تقضي قواعد القانون الدولي أنه لا يجوز للمحاكم الوطنية أن تنظر من حيث المبدأ في الدعاوى المرفوعة على الدول الأجنبية التي هي من أشخاص القانون الدولي العام؛ لأن هذا الأمر يتعلق باستقلالها وسيادتها، ولا يجوز للقضاء أن يتعرض لأعمال السيادة على نحو مباشر أو غير مباشر، كما أنه يخرج عن ولاية القضاء العادي الأعمال الصادرة عن الحكومة بمقتضى سلطتها العامة التي تهدف منها إلى إرساء النظم الأساسية للمجتمع، وكذلك تلك التي تتخذها للدفاع عن الدولة داخلياً وخارجياً للحفاظ على وحدة تراب أرض الوطن واستقلاله، وكذلك المسائل المتعلقة بالسلطة النقدية أو الدَيْن العام…إلخ.

هناك في عالم اليوم من يأخذ بمسؤولية الدول عن جرائم الحرب والأعمال الإرهابية وعن الأضرار الناشئة عن استخدام الطاقة النووية، وكذلك الأمر - ومن باب أولى - عن أنشطة الدول التجارية، والأعمال العادية التي تخرج عن مفهوم السيادة، وعن ممارسة الدولة لوظيفتها العامة، والتي تخرج من مجال القانون العام وتدخل في نطاق القانون الخاص وتسلك فيها مسلك الأفراد في التعامل، إذ لا يمكن إدخال هذا النشاط تحت مفهوم أعمال السيادة التي يمتنع على المحاكم من النظر في الدعاوى المتعلقة بها، وأن المعيار في ذلك هو في مصالح الدولة الأساسية، وهذه مسألة تكييف للوقائع تخضع لسلطة القاضي الوطني.

(2) صلاحية القضاء في محاكمة رؤساء الدول الأجنبية: يتمتع رؤساء الدول بالحصانة القضائية بوصفها قاعدة من قواعد القانون الدولي العام أساسها المجاملة لشخص رئيس الدولة، وهذه الحصانة لا تشمل رؤساء الحكومات في الدول الأجنبية. وهناك اختلاف في الفقه والنظم القانونية المعمول بها في هذا المجال حيث إن بعضها يجعل الحصانة مطلقة سواء تعلقت بمصالح عامة أم مصالح خاصة بما فيها الأمتعة الشخصية، ويميز بعضهم الآخر بين التصرفات التي يباشرها رئيس الدولة بصفته تلك عندما يكون رئيساً للدولة، وبين التي يباشرها بوصفه شخصاً عادياً، فأخضعوا الأولى للحصانة، ولم يقيموا الحصانة للثانية، كما أنه في بعض الدول يجوز لرئيس الدولة أن يتنازل عن الحصانة، وفي بعضها الآخر غير جائز من دون موافقة برلمان الدولة  على هذا التنازل.

(3) صلاحية القضاء في محاكمة الموظفين «الدبلوماسيين»: تقضي قواعد القانون الدولي العام - وخاصة اتفاقية ڤيينا للعلاقات الدبلوماسية الصادرة في 18 نيسان/أبريل1961 - أن ولاية المحاكم الوطنية المضيفة لا تمتد للنظر في الدعاوى المقامة على من يتمتعون بالحصانة «الدبلوماسية» باستثناء الدعاوى الناشئة عن أعمال تجارية أو ما شابهها والناجمة عن أعمال يقوم بها الموظف «الدبلوماسي» لحسابه الخاص ولا تتعلق بوظيفته، أو إذا تفرعت عن دعوى أصلية تقـدم بها الموظف «الدبلوماسي» بنفسه بوصفه مدعياً، وذلك على أساس أن الحصانة هي ضرورية للعلاقات الدولية وأساسها المجاملة، أو استقلال الدول وسيادتها. ومع هذا فإن الحصانة بمواجهة القضاء الوطني ليست مطلقة، إذ يستطيع صاحب المصلحة أن يراجع الجهات «الدبلوماسية» بالطرق الإدارية للمطالبة بدين مترتب له بذمة تلك الجهات، فإذا لم يفلح يستطيع أيضاً أن يراجع عن طريق وزارة الخارجية التي تقوم بمخاطبة الجهات المعنية بالطريق «الدبلوماسي» لحل الموضوع ودياً، فإن لم تحصل وزارة الخارجية على جواب فإنها تمنح الإذن لصاحب المصلحة بمراجعة المحكمة المختصة لاقتضاء دينه. وإن موافقة وزارة الخارجية تعني رفع الحصانة القضائية عن الشخص المتمتع بها سواء كان شخصاً طبيعياً أم اعتبارياً.

(4) صلاحية القضاء في محاكمة المنظمات والهيئات الدولية: تستفيد المنظمات والهيئات الدولية من الحصانة القضائية وفقاً للاتفاقيات الدولية المتعلقة بهذا الشأن ولاسيما المادة (105) من ميثاق هيئة الأمم المتحدة التي منحت موظفي الأمم المتحدة تلك الحصانة ما لم ترفعها عنهم وفقاً للقواعد ذات الصلة؛ إذ إن الفقرة (8) من المادة (1) من نظام الموظفـين نصت على أن الحصانة: «يجب ألا تحول دون تنفيذ موظفي هيئة الأمم المتحدة التزاماتهم الخاصة والتقيد بالقوانين والأنظمة النافذة». كما أن اتفاقية حصانات جامعة الدول العربية ومزاياها التي أقرها مجلس الجامعة في 10/5/1953 قد نصت في المادة الثانية منها على تمتع أموال الجامعة وموجوداتها أينما تكون وأياً كــان حائزها بالحصانة القضائية، ما لم يقرر الأمين العام للجامعة التنازل عنها صراحة، ويطبق الأمر ذاته في لمنظمة المؤتمر الإسلامي.

مراجع للاستزادة:

- إبراهيم نجيب سعد، القانون القضائي الخاص، ج1 (منشأة المعارف، الإسكندرية 1973).

- أحمد أبو الوفا، التعليق على قانون المرافعات المصري، ج1( منشأة المعارف، الإسكندرية 1979).

- أحمد السيد صاوي، الوسيط في شرح قانون المرافعات المدنية والتجارية (دار النهضة العربية، القاهرة 1990).

- أحمد الهندي، أصول قانون المرافعات المدنية والتجارية (كلية الحقوق جامعة الإسكندرية، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية 2002م).

- أحمد مسلم، أصول المرافعات (دار الفكر العربي، القاهرة 1978).

-  إدوار عيد، موسوعة أصول المحاكمات،  الأجزاء 1 و2 و3 و4 (1978-1986).

- رزق الله إنطاكي، أصول المحاكمات المدنية والتجارية، الطبعة الرابعة (مطبعة الإنشاء، دمشق  1961).

- رمزي سيف، الوسيط في شرح قانون المرافعات المدنية والتجارية (دار النهضة العربية، القاهرة 1965).

- عبد الحميد أبو هيف، المرافعات المدنية والتجارية والنظام القضائي في مصر (مكتبة الاعتماد، القاهرة 1921).

- عبد المنعم الشرقاوي وعبد الباسط جميعي، شرح قانون المرافعات الجديد (دار الفكر العربي، القاهرة 1975-1976).

- عوض أحمد الزعبي، أصول المحاكمات المدنية، ج 2(دار وائل للنشر، عمّان  2002م). 

- فتحي والي، الوسيط في قانون القضاء المدني (ج1) (دار النهضة العربية، القاهرة 1992).

- مأمون الكزبري وإدريس العلوي، شرح المسطرة المغربية، ج3 (1971).

- محمد وعبد الوهاب عشماوي، قانون المرافعات في التشريع المصري والمقارن ـ ج1 (مكتبة الأدب، القاهرة 1957).

- محمود محمد هاشم، قانون القضاء المدني، ج1 (دار الفكر العربي، القاهرة 1981).

- محمود الكيلاني، شرح قانون أصول المحاكمات المدنية (دار وائل للنشر، عمّان  2002م).

- مفلح القضاة، أصول المحاكمات المدنية والتنظيم القضائي، (دار الثقافة – عمّان 1998).

- وجدي راغب، مبادئ القضاء المدني (دار الفكر العربي، القاهرة 1986).

- نبيل إسماعيل عمر، أصول المرافعات المدنية والتجارية (منشأة المعارف، الإسكندرية 1986).
المصدر: http://arab-ency.com

تعليقات