القائمة الرئيسية

الصفحات



حوز الهبة في مدونة الحقوق العينية

حوز الهبة في مدونة الحقوق العينية

عمر الأبيض

رئيس غرفة بمحكمة النقض




بعد انتظار طويل صدرت مدونة الحقوق العينية[1]، لتقنن مجالا له أهمية قصوى. فالعقار أساس كل نشاط اقتصادي، وعماد الاستقرار الاجتماعي. ولاشك أن من بين التحديات التي واجهت واضعي المدونة، واقع ازدواجية النظام العقاري. فبجانب العقار المحفظ، هناك العقار غير المحفظ، وما يترتب عن هذا من اختلاف القواعد التي تحكم كلا منهما. إلا أن المدونة جمعت بين العقارين، في محاولة لتدليل الصعاب التي يمكن أن تواجه الممارس في هذه المادة، عبر تقنين الكثير من قواعد الفقه الإسلامي[2] التي تحكم بالدرجة الأولى العقار غير المحفظ.

فحسب المادة الأولى من المدونة، فإن مقتضياتها تسري على الملكية العقارية والحقوق العينية، ما لم تتعارض مع تشريعات خاصة بالعقار. فإذا لم يوجد نص بالمدونة، تطبق مقتضيات ظهير الالتزامات والعقود، فإن لم يوجد به نص، يرجع إلى الراجح والمشهور وما جرى به العمل من الفقه المالكي.

هذه المادة وضعت حدا للاتجاه القضائي الذي كان يرفض تطبيق مقتضيات ظهير الالتزامات والعقود في النزاعات المتعلقة بالعقار غير المحفظ، بدل قواعد الفقه الإسلامي.[3] وفي نفس الوقت أعطت للظهير المذكور الأولوية في التطبيق عند انعدام النص في المدونة، على حساب قواعد الفقه الإسلامي، التي أصبح تطبيقها يأتي عند انعدام النص في الظهير.

إن الإحالة التي قررتها المادة الأولى، تفرض الرجوع إلى الفقه المالكي في الحالة التي حددتها. ويعني هذا أن تقنين المدونة لقواعد هذا الفقه فيما يتعلق بالملكية العقارية والحقوق العينية، هو تقنين جزئي وليس شاملا بالنسبة لبعض المواضيع التي تناولتها المدونة. وأرى من بينها حوز[4] الهبة الذي بقي خاضعا للفقه الإسلامي بالنسبة للعقار غير المحفظ، بخلاف العقار المحفظ، إلا حد ما، وفي طور التحفيظ الذين حظيا بتقنين حكم حوز هبتهما.

فقد نصت المادة 274 من مدونة الحقوق العينية على ما يلي:

"...

يغني التقييد بالسجلات العقارية عن الحيازة الفعلية للملك الموهوب وعن إخلائه من طرف الواهب إذا كان محفظا أو في طور التحفيظ.

فإذا كان غير محفظ فإن إدراج مطلب لتحفيظه يغني عن حيازته الفعلية وعن إخلائه."

بهذه المقتضيات نظمت المدونة حكم حوز الهبة بالنسبة للعقار المحفظ وفي طور التحفيظ، وفتحت الباب للعقار غير المحفظ من أجل أخذ نفس الحكم بمجرد تقديم مطلب تحفيظ. فقد تبنى المشرع وسيلة يحصل بها الحوز، وهي تقييد الهبة بالسجلات العقارية، واعتبار ذلك التقييد يغني عن الحوز الفعلي والمادي، مع أن هذا الأخير هو الذي يتطلبه الفقه الإسلامي كشرط تمام في عقود التبرع.

لذا سأتناول في الفصل الأول من هذه الدراسة، حوز الهبة بين الفقه الإسلامي ومدونة الحقوق العينية، للوقوف على مدى موافقة موقف المدونة من حوز هبة العقار المحفظ، مع أحكام الفقه الإسلامي المتعلقة بالحوز.

وبما أن ما قررته المدونة بشأن حوز الهبة في العقار في طور التحفيظ، يبدو أنه يحسم النزاع بشكل آلي ومسبق، في حالة قيامه بين الموهوب له ومن يطعن في صحة الهبة، مما ينبغي معه البحث عن مدى إمكانية التوفيق بين ما قررته المدونة بهذا الخصوص، ومقتضيات مسطرة التحفيظ العقاري، ليكون عنوان الفصل الثاني من البحث، هو حوز الهبة بين مدونة الحقوق العينية ومسطرة التحفيظ العقاري.

                                       الفصل الأول

                حوز الهبة بين الفقه الإسلامي ومدونة الحقوق العينية

إذا كان من المفيد معرفة طبيعة شرط الحوز في الهبة وفق منظور الفقه المالكي، فإن إدراك الأساس الشرعي والحكمة منه ضروري، إن لم أقل واجب، حتى يمكن تجنب الوقوع في المحذور بمخالفة أحكام الشريعة الإسلامية. وبما أن مدونة الحقوق العينية وهي بصدد تنظيم عقد الهبة تطرقت لحوزها، فإنه يتعين إبراز موقفها من حوز الهبة، مع الاقتصار في ذلك على العقار المحفظ، وإرجاء الحديث عن موقفها بالنسبة للعقار في طور التحفيظ في الفصل الثاني نظرا لما اقتضته منهجية هذا البحث.

لذا سأقسم هذا الفصل إلى فرعين، أخصص الأول لمنظور الفقة المالكي  لحوز الهبة، والثاني لموقف م ح ع[5] بالنسبة للعقار المحفظ.

الفرع الأول: منظور الفقه المالكي لحوز الهبة

إنمعرفة حقيقة وطبيعة شرط حوز الهبة، تقتضي تحديد مكانته ضمن عقد الهبة من جهة، والوقوف على الأساس الشرعي والحكمة من إقراره من جهة أخرى، لذا سأقسم هذا الفرع إلى مبحثين، يخصص الأول لمكانة الحوز من عقد الهبة والثاني للأساس الشرعي والحكمة من الحوز.

المبحث الأول: مكانة الحوز في عقد الهبة

إن أول قاعدة ينبغي تقريرها في هذا المجال هو أن التبرع ينعقد بالإيجاب والقبول. فهذان الركنان كافيان في ذلك. فعقد الصدقة والهبة يصح من غير قبض. "فإن قال تصدقت عليك بهذا...أو وهبته لك ولم يرد بالهبة عوض الثواب فقال قبلت منك فقد انعقد"[6]. وهكذا فعند مالك يكفي القول من الواهب أي الإيجاب والقبول من الموهوب له.[7]

وأساس قاعدة انعقاد التبرع بالإيجاب والقبول ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية. فقد قال تعالى جل جلاله "يا أيها الذين اَمنوا أوفوا بالعقود"[8]، وما جاء في الحديث الشريف من أن "العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه".[9] فالأمر يتعلق بعقد من العقود فلم يفتقر انعقاده إلى قبض المعقود عليه، ولأنها عطية فلم يفتقر انعقادها إلى قبض كالوصية".[10]

أما القاعدة الثانية فهي جواز الحيازة بلا إذن، ومعناها أن الموهوب له يجوز له حوز محل الهبة من الواهب ولو لم يأذن له هذا الأخير في ذلك[11] لأن الهبة تملك بالقول على المشهور،[12] أي أنها تملك بالإيجاب والقبول وليس القبض بشرط في تمليكها للموهوب.[13] فإذا تم الحوز بدون معارضة من طرف الواهب يكون في ذلك تمام للهبة، وإذا عارض الواهب في الحوز وأبى فإنه يجبر على حيازته للموهوب له[14] وذلك برفع الأمر للحاكم[15] وفق ما أشير إليه سابقا أي إلى القضاء.

وبالرغم من انعقاد التبرع بالإيجاب والقبول، وكونه لازما وقابلا للإجبار فإنه مع ذلك يبقى العقد متوقفا إلى أن يحصل الحوز الذي ينبغي أن يتم قبل حصول المانع حتى يعتد به وتترتب عنه كل الآثار الشرعية للعقد. والمانع قد يكون الموت أو الفلس أو الجنون. فموت الواهب قبل حوز الهبة من طرف الموهوب له يبطلها.

فنفاذ التبرع يحصل بالحوز، وبهذا الأخير ينفذ التبرع. وكثيرا ما يعبر الفقهاء عن ذلك بمصطلح النفوذ حينما يتم الحديث عن القبض كشرط في نفوذ وتمام التبرع[16] ليتبين أن هذا الأخير يتميز بخصوصية عن باقي العقود تتمثل في كون مصير العقد يبقى مرتبطا في نفاذه على حصول الحوز أم لا باعتبار أن هذا الأخير هو الواقعة المادية التي تحسم ذلك المصير.

وعملية الحسم هذه لا تخلو من إحدى الفرضيتين الأولى تتجلى في حصول الحوز وفق الشروط المتطلبة شرعا فيتم نفاذ التبرع، والثانية هي حصول المانع قبل الحوز فيؤدي ذلك إلى بطلان التبرع وكأنه لم يكن.

ولاشك أن وصف الحوز بشرط تمام هو تحديد للطبيعة الحقيقية له وفق منظور الفقه المالكي. "ولا تتم هبة ولا صدقة و لا حبس إلا بالحيازة"[17] حسب الفقه المذكور موازاة مع منظور مذهبي آخر يرى أنه شرط في صحة العقد كما هو الأمر بالنسبة للمذهب الحنفي.[18]

فالتمييز بين اعتبار الحوز شرط تمام أو شرط صحة يدرك بواسطته مدى سعة رقعة الاختلاف بين المنظورين. فإذا كان الحوز مجرد شرط تمام في عقد التبرع فإن هذا الأخير ينعقد بتوفر أركانه وشروطه وذلك بمعزل عن الحوز الذي لا يضيف شيئا ولا ينقص من عملية الانعقاد، وإنما يكون الحوز شرط تمام بالنسبة للعقد وفق فعل أو واقعة تتمثل في تمكين المتبرع عليه من الشيء الموهوب وبسطه يديه عليه ليتم التبرع، شرط أن يحصل ذلك في الوقت المتطلب شرعا أي قبل حصول المانع.

 لما سبق اعتبر فقهاء المالكية الحوز بأنه شرط في نفوذ وتمام الهبة[19] ومنهم من عبر عن ذلك بتمامها واستقرارها لا في الصحة واللزوم.[20] واستعمال كلمة الاستقرار للتعبير عن الوضعية الشرعية التي يوفرها الحوز بالنسبة للتبرع تعبير بالغ الدلالة يدرك منه أن عقد التبرع يكون متسما بعدم الاستقرار مادام لم يحصل الحوز.

المبحث الثاني: الأساس الشرعي لشرط الحوز والحكمة منه

إن قواعد الفقه الإسلامي تستمد مصدرها من الشريعة الإسلامية[21]، سواء من القرآن أو السنة أو غير ذلك من الأدلة الشرعية[22]. لذا فإن شرط الحوز يجد أساسه في كل من حديث سيدتنا عائشة وحديث سيدنا عمر رضي الله عنهما.

فقد جاء في الموطأ "حدثني مالك عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقا من ماله بالغابة. فلما حضرته الوفاة قال: والله، يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك. و لا أعز علي فقرا بعدي منك. وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا. فلو كنت جددتيه واجتزتيه كان لك. وإنما هو اليوم مال وارث. و إنما هما أخواك وأختاك. فاقتسموه على كتاب الله. قالت عائشة: فقلت يأبت، والله لو كان كذا لتركته. إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ فقال أبو بكر: ذو بطن بنت خارجة. أراها جارية."[23]

وجاء كذلك في المؤطأ "حدثني  مالك عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمان بن عبد القاري؛ أن عمر بن الخطاب قال: ما بال رجال ينحلون أبناءهم نُحْلاً. ثم يمسكونها فإن مات ابن أحدهم، قال: مالي بيدي لم أعطه أحدا. وإن مات هو، قال لابْنِي كنت أعطيته إياه. من نحل نحلة، فلم يحزها الذي نحلها، حتى يكون إن مات لورثته، فهي باطل."[24]

إن الفقهاء وهم يتطرقون إلى الأساس الشرعي للحوز، يستندون في ذلك إلى الحديثين أعلاه. فهما أصل حيازة الهبة في الموطأ[25]. وحينما يقال الهبة فإن الأمر يسري بطبيعة الحال على كافة عقود التبرع.

ولا شك أن في فرض شرط الحوز حكمة واضحة. فأحكام الشريعة الإسلامية ينبغي الانصياع لها، والعمل على مراعاتها لئلا يقع الشخص في المحذور إن هو حاذ عن ذلك أو تحايل في تطبيقها. ولما كانت التبرعات من صدقة و هبة وحبس تقتضي إخراج محلها من يد المتبرع وتمكين المتبرع عليه من ذلك في حياة الأول، فإن أي إخلال بهذه القاعدة أو تحايل عنها من شأنه إبطال التبرع.

لذا، فإن اشتراط الحوز في المذهب هو "لنفي التهمة لئلا ينتفع الإنسان بماله عمره ويخرجه عن ورثته عند الموت".[26] لأن في هذا مس بأحكام الوصية وتحايل عليها ما دام أنه بهذه الطريقة قد تتم الوصية المغلفة بتبرع لوارث وهذا ممنوع شرعا. فيكون إخراج المال عزم على تحقيق التبرع.





كما أن بطلان الهبة في هذه الحالة يكون نظرا لكون الفقهاء أنزلوها "حين وهبها (أي الواهب) ولم يسلمها إلى أن مات منزلة من أراد إخراج تلك العطية بعد موته من رأس ماله لوارث أو غير وارث وكانت في يده طول حياته، فلم يرض بها بعد مماته فلم يجز له شيء من ذلك".[27] في حين أن تكييف مثل هذا التصرف بالوصية، وهذه لا تجوز في أكثر من ثلث مال الموصي.

فيتأكد مما سبق بيانه أن اشتراط الحوز هو لسد الذريعة التي ذكرها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.[28]

الفرع الثاني: موقف م ح ع بالنسبة للعقار المحفظ.

أقرت م ح ع قاعدة أساسية تتمثل في الاستغناء عن الحوز الفعلي بتقييد الهبة بالرسم العقاري، وهذا تكريس لأحد الاتجاهين القضائين الذي تُوج بالقرار رقم 555 الصادر بجميع غرف محكمة النقض[29]. إلا أن هذا القرار تم حصر نطاقه من طرف العمل القضائي اللاحق في حالة واحدة، وهي تقييد الهبة بالرسم العقاري قبل حصول المانع، أما في غيرها من الحالات، فيعتد بالحوز الفعلي والمتطلب شرعا، مما يحق معه التساؤل عن مدى إمكانية استمرار الحصر القضائي المذكور بعد تطبيق مقتضيات م ح ع.

لذا سأقسم هذا الفرع إلى مبحثين، الأول الاستغناء عن الحوز المادي بالتقييد، والثاني الحصر القضائي لنطاق القاعدة.

المبحث الأول: الاستغناء عن الحوز الفعلي بالتقييد

تعني هذه القاعدة التخلي عما يقرره الفقه الإسلامي من ضرورة حصول الحوز الفعلي والمادي للهبة من طرف الموهوب له، والاكتفاء بتقييدها بالرسم العقاري إذا كان محلها عقارا محفظا. وهذا التوجه سبق أن تبناه بعض القضاء، كما أنه كان محل خلاف حاد على مستوى الفقه بين مؤيد ومعارض له.[30]

وقد استمر الخلاف حتى على مستوى محكمة النقض، إلى أن صدر القرار رقم 555 عن هذه المحكمة بجميع غرفها، والذي اعتبر تقييد الهبة بالرسم العقاري قبل حصول المانع يغني عن الحيازة المادية لمحل الهبة. وكان للطبيعة الإلزامية لهذا القرار، أثر بارز على الاجتهاد القضائي اللاحق له، تمثل في التزام هذا الاجتهاد بالقرار رقم 555، وذلك على مستوى غرف محكمة النقض، وعلى الأخص غرفة الأحوال الشخصية والعقار، باعتبارها الغرفة التي تسلم لها القضايا المتعلقة بالهبة بحكم نظام توزيع القضايا داخل المحكمة.

إن واضعي المدونة بتبنيهم هذا الموقف، لم يعيروا أي اهتمام للأساس الشرعي والحكمة من فرض شرط حوز الهبة قبل حصول المانع. وأصبح إلغاء هذا الشرط من طرف المشرع، فيه فتح الباب لكافة أوجه التحايل على أحكام الإرث والوصية، التي وضعت قواعد الفقه من أجل سد الطريق على هذا التحايل.

فهذا الموقف يبرر باسم القانون، هبة عقار محفظ لوارث والاكتفاء بتسجيلها بالرسم العقاري، دون حوزه فعليا من طرف الموهوب له، وقد يبقى العقار تحت يد وتصرف الواهب إلى وفاته. فيصبح المنهي عنه شرعا مباحا بمقتضى نص قانوني. والمناسبة هنا تقتضي التذكير بحديث سيدنا عمر رضي الله عنه، الذي أعطى صورة واضحة للمحذور الذي يتعين على المسلم عدم الوقوع فيه، فبالأحرى أن يزكيه ويباركه القانون.

ولا يمكن أن يصحح هذا الوضع، سوى بحصول تصرف لاحق من الموهوب له يفوت بموجبه العقار بالبيع، أو ينقل ملكيته بسبب آخر، أو يحوزه بعد إخلائه من طرف المتبرع ورفع يده عنه، على أن يتم ذلك قبل حصول المانع.

إن إعتبار تقييد الهبة بالرسم العقاري يغني عن الحوز الفعلي، هو إضفاء بُعد على هذا التقييد لا تبرره سواء مقتضيات النظام المطبق على العقارات المحفظة، ولا القواعد الموضوعية التي تنظم عقد الهبة. فهذه الأخيرة لها أركانها وشروطها التي ينبغي أن تتوفر حتى يكون العقد قائما وتاما ونافذا. وأن تقييدها بالرسم العقاري من المفروض أن يكون بعد توفر الأركان والشروط، وإلا كان لمن له المصلحة طلب التشطيب عليها من الرسم العقاري.

ومؤدى ما سبق أن التقييد مجرد إجراء اقتضاه النظام المطبق على العقارات المحفظة، وبالتالي لا يمكن أن يصحح نقصا اعترى العقد خلافا لما تتطلبه القواعد الموضوعية التي تحكمه، أو يمس من صحة العقد الذي نشأ صحيحا في منظور القواعد المذكورة.

فبمقضى أي مبرر يتم تجاوز هذا المبدأ بمنح إجراء تقييد الهبة، ما لا تسمح به مقتضيات النظام المطبق على العقارات المحفظة، في حين أن الأمر بالنسبة لباقي العقود، وعلى الأخص عقود المعاوضة، لا يمكن تصور ذلك، وإلا فإنه يمكن اعتبار تقييد بيع بالرسم العقاري يطهر ذلك البيع من أي طعن  لسبب ما، كعيوب الرضا مثلا.

إن م ح ع ذهبت عكس هذا المنطق الواضح، وأعطت التقييد بُعدا لا يحتمله، وأرى أن في هذا مسايرة للقرار رقم 555، مع أن هذا الأخير اشترط بأن يتم  تقييد الهبة قبل حصول المانع حتى يعتبر بمثابة حوز لها. إلا أن المادة 274 من م ح ع لم تشر لهذا الشرط، ليحق التساؤل عما إذا أن التقييد بالرسم العقاري يغني عن الحوز الفعلي في أي حالة من الحالات، ولو تم ذلك بعد حصول المانع. وما الموقف الذي يمكن أن يتخذه القضاء بشأن ذلك، خاصة وأن العمل القضائي  اللاحق للقرار رقم 555  حصر نطاق هذا القرار[31]، فهل سيستمر هذا الحصر بعد العمل بمقتضيات م ح ع، وهذا ما سيتم تناوله في المبحث التالي.

المبحث الثاني: الحصر القضائي لنطاق القاعدة

إن ثغرة نص المادة 274 قائمة بعدم إشارتها إلى ضرورة حصول التقييد قبل المانع، ولكن القضاء لن يتوانى عن سد هذه الثغرة بتمسكه بضرورة حصول التقييد قبل المانع، وإلا سيعتبر الهبة باطلة، ماعدا  إذا ثبت حصول الحوز الفعلي قبل المانع. بمعنى أن الأمرين معا لم يتما، التقييد قبل المانع، وعدم حصول الحوز الفعلي قبل المانع.

وهذا يعني أن تقييد الهبة بالرسم العقاري بعد حصول المانع، أو عدم تقييدها بالمرة، قد لا يترتب عنه بطلانها، في حالة ما إذا ثبت أن الحوز الفعلي للهبة تم قبل حصول المانع. فهذا جوهر الاجتهاد القضائي اللا حق للقرار رقم 555. وهو اجتهاد ربما قد لا يتبادر لذهن المهتمين آنذاك، بعد أن حسم القرار رقم 555 في نقطة عرفت خلافا حادا. ويرجع الفضل في هذا الاجتهاد لغرفة الأحوال الشخصية والميراث، بحرصها على تطبيق قواعد الفقه المالكي في غير الحالة التي تطرق لها القرار رقم 555.

ربما كان من الأسهل أن يتبادر للذهن، أن التقييد بالرسم العقاري سيصبح العنصر الحاسم، فكلما حصل التقييد بالرسم العقاري قبل المانع اعتبر ذلك حوزا، وإذا لم يتم التقييد قبل المانع بطلت الهبة. وهذا التصور لم يسايره الاجتهاد القضائي لغرفة الأحوال الشخصية والميراث. وأرى أن هذه الأخيرة بصفة خاصة ومحاكم الموضوع بصفة عامة، سوف لن يحيد الاجتهاد القضائي الذي سيصدر عنها من حصر نطاق المادة 274 في الحالة التي يتم فيها تقييد الهبة قبل حصول المانع ليعتبر ذلك استغناء عن الحوز الفعلي وبالتالي عدم ترتيب أثر البطلان.

فكما التزم العمل القضائي بالقرار رقم 555، سيلتزم كذلك بمقتضى القانوني الذي تنص عليه المادة 274 من م ح ع. وستكون الصورة المقبلة لهذا العمل غير مختلفة عما كان من قبل، وهو الاستغناء عن الحوز الفعلي وإخلاء الملك الموهوب من طرف الواهب في حالة تقييد الهبة بالرسم العقاري قبل حصول المانع. أما في غيرها من الحالات فإن الحوز الفعلي وإخلاء الملك الموهوب قبل حصول المانع هو المتطلب، سواء تم التقييد بالرسم العقاري بعد حصول المانع، أو لم يتم.

ولكن ستظل الازدواجية في المنطق القانوني قائمة، مع أنه كان لواضعي م ح ع  فرصة لوقفها. فلا يعقل أنه حين يتم تقييد الهبة بالرسم العقاري تعطل قواعد الفقه بالنسبة لشرط الحوز. وفي غير هذه الحالة تطبق قواعد الفقه دون الاعتداد بالتقييد، تم أو لم يتم، وتصبح العبرة بالحوز الفعلي قبل حصول المانع. وقد ترتب عن هذا ازدواجية أخرى بشأن البُعد الذي يعطى للتقييد، فتارة يكون حاسما لمصير الهبة، وتارة لا تأثير له بالمرة عليها.

لقد كان الموقف السليم المتعين اتخاذه تشريعيا، هو الإبقاء على الحوز الفعلي وفق ما تقتضيه قواعد الفقه بالنسبة للعقار المحفظ، فيتم بذلك توحيد القواعد المتعلقة بحوز الهبة سواء بالنسبة للعقار المحفظ أو العقار غير المحفظ. ولكن المدونة أفرزت ثنائية هذه القواعد لا أرى مبررا لها. بل أضافت تعقيدا جديدا بالنسبة لحوز هبة العقار في طور التحفيظ، وكذلك في حالة تقديم مطلب تحفيظ لعقار كان محل هبة، وهذا ما سيتم تناوله في الفصل التالي.

 الفصل الثاني

      حوز الهبة بين مدونة الحقوق العينية ومسطرة التحفيظ العقاري

رغم أن المادة 274 من م ح ع خصصت فقرة واحدة لحوز الهبة في العقار المحفظ وفي طور التحفيظ، فإن منهجية البحث اقتضت دراسة ما يتعلق بالعقار في طور التحفيظ بصفة مستقلة، نظرا للاختلاف القائم بين العقارين. فالأول له رسم عقاري أنشئ له بعد أن مر بمسطرة التحفيظ، وأصبح يخضع لنظام خاص يطبق على العقارات المحفظة. في حين أن العقار في طور التحفيظ، ينبغي أن يمر بتلك المسطرة، منها الإدارية وأحيانا القضائية في حالة وجود تعرضات على مطلب التحفيظ، يطالب أصحابها بحقوق عينية على العقار المراد تحفيظه.

فبالنسبة لهذا العقار أقرت المدونة كيفية حوز الهبة المنصبة عليه، وكذلك بالنسبة للعقار غير المحفظ حينما يتم تقديم مطلب لتحفيظه. ومن المعلوم أن مسطرة التحفيظ تتسم بإجراءات وتحكمها قواعد، وتتيح لكل من يطالب بحق عيني على العقار المراد تحفيظه إمكانية التعرض، وما يترتب عن هذا من توجيه ملف المطلب إلى المحكمة الابتدائية من أجل الفصل في التعرض.

لذا سأقسم هذا الفصل إلى فرعين، أخصص الأول لبيان كيفية الحوز التي أقرتها م ح ع بشأن هبة العقار في طور التحفيظ، وكذلك المقدم مطلب لتحفيظه. والثاني سأخصصه إلى المنازعات المثارة أثناء مسطرة التحفيظ بشأن حوز الهبة، وإشكالية الفصل في ذلك.

الفرع الأول:  حوز هبة العقار في طور التحفيظ وفق م ح ع

لم تكتف المدونة بتقنين موقف بعض القضاء من حوز الهبة بالنسبة للعقار المحفظ، بالاستغناء عن الحوز الفعلي بالتقييد بالرسم العقاري، وإنما اتجه نظر واضعي المدونة إلى محاولة تعميم نفس الحكم ليطبق على العقار في طور التحفيظ، وحتى على العقارغير المحفظ.

فقد أقرت المدونة الاستغناء عن الحوز الفعلي للملك الموهوب إذا كان في طور التحفيظ بتقييد الهبة بالسجلات العقارية. وأما إذا كان غير محفظ فإن إدراج مطلب لتحفيظه يغني عن الحوز الفعلي. وهذا الموقف يبدو غريبا، فحسب علمي لم يسبق للقضاء أن أصدر اجتهادا على نحوه.

لدراسة هاتين الحالتين المتعلقتين بكيفية حوز الهبة، سأقسم هذا الفرع لمبحثين، أخصص الأول لتقييد عقد هبة العقار في طور التحفيظ، والثاني لتقديم مطلب تحفيظ العقار الموهوب.

المبحث الأول: تقييد عقد هبة العقار في طور التحفيظ

العقار في طور التحفيظ، هو العقار الذي يقدم بشأنه مطلب تحفيظه إلى المحافظة العقارية الموجود بدائرتها، ليصبح عقارا محفظا وله رسم عقاري يكون هو منطلق الحقوق والتكاليف المنصبة على العقار المذكور. ويتم هذا بعد المرور بعدة إجراءات قد تقتصر على المسطرة الإدارية، وقد تتخللها مسطرة قضائية في حالة وجود تعرضات على مطلب التحفيظ.

فبين تقديم مطلب التحفيظ وإصدار المحافظ قرارا بتحفيظ العقار، يكون هذا الأخير في وضعية طور التحفيظ. وهذه المرحلة لا تمنع من أن يكون هذا العقار محل تفويت بعوض أو بدون عوض، بما في ذلك هبته.  فالفصل 84[32] من الظهير المتعلق بالتحفيظ العقاري[33]نص على حالة نشوء حق خاضع للإشهار على عقار في طور التحفيظ. لذا يمكن القول إن هبة هذا العقار تدخل في هذا الإطار باعتبارها حقا يخضع للإشهار. وقد خول الفصل المذكور لصاحب هذا الحق من أجل التمسك به في مواجهة الغير، إمكانية إيداع الوثائق اللازمة لذلك بالمحافظة العقارية، ليقيد هذا الإيداع بسجل التعرضات.

كما نص الفصل 83 من نفس الظهير، على إمكانية إنشاء أو تغيير أو الإقرار بحق أثناء مسطرة التحفيظ، وعلى قيام صاحب هذا الحق بإيداع الوثائق المثبتة لذلك بالمحافظة العقارية[34]. وبالتالي يمكن القول بأن هذا الإيداع كتقييد إذا ما تعلق بهبة، يغني عن الحوز الفعلي وإخلاء العقار الموهوب من طرف الواهب وفق ما أقرته المادة 274 من م ح ع.

وهذا يعني أن الموهوب له يستفيد من مقتضى قانوني يعفيه من إثبات حوز الهبة كشرط لتمامها، بإحلال إجراء التقييد محل عنصر من عناصر العقد وهو وضع اليد الفعلي للموهوب على محل الهبة. لذا يحق التساؤل هل يتعلق الأمر بقرينة قانونية لا يمكن إثبات عكسها وفق ما ينص عليه الفصل 453 من ق ع ل[35].

يبدو الأمر كذلك مادام أن القانون هو الذي نص على هذه القرينة، وبالتالي فهي عكس القرينةالتي لم يقررها القانون، والتي يسوغ إثبات عكسها. فيترتب على التطبيق الآلي لما ذكر الحسم المسبق للنزاع الذي يمكن أن يثار بشأن ثبوت حوز الهبة، والذي سيستفيد منه الموهوب له. وتتفق هذه الحالة مع الحالة التالية المتعلقة بتقديم مطلب تحفيظ للعقار الموهوب، التي سأتناولها في المبحث التالي.

المبحث الثاني: تقديم مطلب تحفيظ العقار الموهوب

حوز هبةالعقار غير المحفظ تنظمها قواعد الفقه المالكي. فمدونة الحقوق العينية لم تلغ تلك القواعد بالنسبة للعقار غير المحفظ، وقررت  الإحالة عليها فيما لم ينص عليه في المدونة. وهذا يعني أن الحوز الفعلي متطلب في هبة العقار غير المحفظ. إلا أن المدونة نصت على حالة أو كيفية يستغنى فيها عن الحوز الفعلي، وذلك بتقديم مطلب تحفيظ العقار الموهوب.

وهكذا استبدلت المدونة عنصرا من عناصر العقد، بإجراء إداري ومسطري لا علاقة له بمكونات العقد. فقد اتجه نظر واضعي المدونة إلى تعميم إجراء إداري ليحل محل الحوز الفعلي للهبة، في تجاهل تام لما تقتضيه المقتضيات القانونية المتعلقة بذلك الإجراء، وما يترتب عنه من آثار، من بينها إتاحة الفرصة للأغيار، ممن يدعون حقا على العقار المطالب بتحفيظه، التعرض على مسطرة التحفيظ، الذي يفتح باب المنازعة في طلب التحفيظ، وإمكانية إحالته على القضاء للفصل في التعرض، وهذا ما سأتناوله في الفرع التالي.

الفرع الثاني: منازعات مسطرة التحفيظ وآلية الفصل فيها

مسطرةالتحفيظ قد يترتب عنها حصول منازعات بين طالب التحفيظ من جهة والمتعرض من جهة أخرى، مما يمكن معه إحالة النزاع على القضاء للبت فيه. وليس من المستبعد أن يكون جوهرالنزاع ينحصر في حوز الهبة. واعتبارا لما قررته م ح ع بشأن حوز الهبة بالنسبة للعقار في طورالتحفيظ والعقار غير المحفظ المقدم مطلب لتحفيظه، يتعين البحث في إشكالية الفصل في النزاع. لذا سأقسم هذا الفرع إلى مبحثين، أخصص الأول لمنازعات مسطرة التحفيظ بشأن حوز الهبة، والثاني لإشكالية الفصل في المنازاعات.

المبحث الأول: منازعات مسطرة التحفيظ بشأن حوز الهبة

يتيح الفصل 83 من ظ ت ع التعرض على الحق المنشأ أو المغير أو المقر به على عقار في طور التحفيظ. وبما أن الصيغة تتسم بالعموم، فمن الممكن أن يكون الحق المذكور يتعلق بعقد الهبة.

لذا يمكن تصور ما يمكن أن يكون عليه النزاع المتعلق بما ذكر، انطلاقا من حالتين، الأولى حالة هبة عقار في طور التحفيظ، والثانية حالة تقديم مطلب تحفيظ لعقار غير محفظ موهوب. وهو النزاع الذي غالبا ما ينصب على حوز الهبة، ويقوم بين ورثة الواهب والموهوب له.

فبالنسبة للحالة الأولى، المتعلقة بهبة عقار في طور التحفيظ، يتبين أن الفصل 83 من ظ ت ع[36]أعطى للموهوب له صفة طالب التحفيظ. ويعني هذا أن الموهوب له يحل محل الواهب كطالب تحفيظ في حدود الحق موضوع الهبة. فقد تكون هذه الأخيرة شاملة لعقار المطلب بأكمله، وقد تكون منحصرة في جزء منه فقط، وعلى أساس هذا الاختلاف يتحدد نطاق حق الموهوب له.

كما أوجب نفس الفصل نشر الإعلان عن انتهاء التحديد بالجريدة الرسمية بهدف فتح التعرض على الحق محل الهبة. ويكون المنطق القانوني لهذا الفصل يجعل ممن ينازع في صحة الهبة متعرضا، وهذا الطرف لن يكون في غالب الأحوال سوى ورثة الواهب. وهذه النتيجة المترتبة عن الصيغة الجديدة للفصل 83 من ظ ت ع تختلف عما كانت عليه في ظل النص القديم[37].

فهذا الأخير لم يكن ينص بكيفية صريحة على اكتساب من ينتقل إليه الحق أثناء مسطرة التحفيظ، صفة طالب التحفيظ، ذلك أنه إذا اتفق الطرفان على استمرار مسطرة التحفيظ كما بدأت، فإنه يتم الاقتصار على إيداع صاحب الحق الوثائق المثبتة لذلك بالمحافظة العقارية، ويطلب تسجيل إيداعه بسجل التعرضات بهدف الاستفادة من مقتضيات الفصل 84. ولا يعتبر هذا الاجراء تعرضا يتسم بصفة النزاع، إلا إذا قام المحافظ على الأملاك العقارية تلقائيا بتحويل صفة المودع إلى متعرض[38]، مما يقوم معه بإحالة ملف المطلب على القضاء للبت في التعرض.

ويمكن تصور هذه الحالة، عندما يتبين للمحافظ على الأملاك العقارية ما يفيد قيام منازعة بين طرفي العلاقة، أي طالب التحفيظ وطالب الإيداع، بشأن الحق موضوع الإيداع، وذلك من خلال المكاتبات الموجهة إلى المحافظ من الطرفين أو أحدهما. كأن ينازع مثلا طالب التحفيظ بصفته مفوتا للحق، في العقد أساس ذلك التفويت بأسباب جوهرية ليس لغير القضاء صلاحية البت في ذلك النزاع.

أما إذا لم يتفق طرفا العلاقة على الاستمرار في مسطرة التحفيظ، وكان التفويت قد شمل العقار بأكمله، فإن مسطرة التحفيظ تعاد من أولها، بما في ذلك عمليات الإشهار والتحديد قصد إدراج إسم المالك الجديد.

إن ما كان يقوم به المحافظ على الأملاك العقارية بمبادرة منه بتحويل المودع إلى متعرض، دون أن يستند إلى نص قانوني صريح، وإنما إلى ما فرضه الواقع العملي، قد أصبح متجاوزا بحكم التغيير الذي أدخل على الفصل 24 من ظ ت ع المتعلق بالتعرضات، وذلك بإضافة حالة ثالثة جديدة تخول التعرض على طلب التحفيظ، وهي "حالة المنازعة في حق وقع الإعلان عنه طبقا للفصل84".

فالنص على هذه الحالة ينسجم مع ما قرره الفصل 83 في صيغته الجديدة، من اكتساب المفوت له عقارا في طور التحفيظ صفة طالب التحفيظ. ويترتب على هذا إمكانية التعرض وفق الشروط المقررة في الفصل 24 من ظ ت ع، بما في ذلك ما يتعلق بالمنازعة في حوز الهبة، مما يحق معه التساؤل حول إشكالية الفصل في مثل هذا النزاع، وهذا ما سأتناوله في المبحث الأخير.

المبحث الثاني: إشكالية الفصل في المنازعات

إن المحور الأساسي لهذا المبحث المرتبط بالفصل في التعرضات، أعتبره عن اقتناع تام بإشكالية. وتترتب هذه الأخيرة من صعوبة التوفيق، إن لم أقل استحالته بين ما تقرره مقتضيات ظ ت ع من جهة، ومقتضيات م ح ع من جهة أخرى. وقد يصعب التنبؤ بالموقف الذي سيتخذه القضاء إزاء  قانونين اتحد وقت صدورهما[39] وانعدم انسجامهما.

فالفصل 24 من ظ ت ع يجيز لكل شخص يدعي حقا على عقار تم طلب تحفيظه أن يتدخل عن طريق التعرض فيمسطرة التحفيظ. وأن هذا التعرض إذا لم يتم رفعه أو التصريح بقبوله، فإن ملف المطلب يحال على المحكمة الابتدائية للفصل في التعرض المذكور، التي يكون حكمها قابلا للطعن بالاستئناف.

فهذه الآلية تعتبر من أسس نظام التحفيظ العقاري، بما تفرضه من وسيلة لحماية الحقوق والدفاع عنها، نظرا لخطورة ما تنتهي به مسطرة التحفيظ بصدور رسم عقاري للملك المطلوب تحفيظه، بمقتضى قرار للمحافظ غير قابل لأي وجه من أوجه الطعن. فكان من المنطقي استعمال وسائل الإعلان والشهر لإجراءات مسطرة التحفيظ حتى تتاح الفرصة لمن له الحق التعرض على تلك المسطرة.

إن إحالة ملف المطلب على القضاء من طرف المحافظ، تقتضي لزوما أن يبت القضاء في موضوع المنازعة، استنادا إلى قواعد الموضوع الواجبة التطبيق، وهي في حالة ما إذا تعلق الأمر بحوز هبة، تتمثل في قواعد الفقه المالكي. فهل هذا من الممكن إزاء ما قررته مقتضيات م ح ع؟

إن هذه الأخيرة أقرت في المادة 274 أن التقييد يغني عن الحوز بالنسبة للعقار في طور التحفيظ، وأن إدارج مطلب تحفيظ عقار غير محفظ يغني كذلك عن حوزه.فتكون بذلك قد حسمت في جوهر النزاع الذي من المفروض أن يحسم فيه القضاء بعد تخويل الطرفين، طبقا لمسطرة التقاضي، الفرصة لعرض أوجه دفاعهما بشأن حوز الهبة.

فالصورة النمودجية لمثل هذا النزاع تنحصر في الغالب في موقفين مختلفين. ذلك أن الموهوب له يدعي حصول الحوز قبل المانع، في حين أن الطرف الآخر المتمثل في الغالب في ورثة الواهب ينفون حصول الحوز قبل المانع. وقد يدلي كل طرف بما يفيده من إثبات لموقفه، ولكي يفصل القضاء يعمد إلى قواعد الترجيح بين الحجج المعتمدة من طرف الفقه المالكي.

إلا أنه يبدو أن مقتضيات المادة 247 من م ح ع قد تغل يد القضاء في حالة ما إذا تم تطبيقها من طرفه حرفيا وبشكل آلي. وستكون النتيجة عدم قبول أو رفض التعرض الذي يستند إلى المنازعة في حوز الهبة، بعلة أن المادة المذكورة حسمت في الأمر، باعتبارها التقييد أو تقديم مطلب تحفيظ يغني عن الحوز.

فإذا أصبحت الصورة على الشكل المذكور، فمن العبث تفعيل مساطر لا جدوى منها، مسطرة التعرض وما يترتب عنها من إجراءات أمام المحافظة العقارية، والمسطرة القضائية التي تنطلق بعد توجيه الملف إلى المحكمة، في حين أن النتيجة محسوم فيها مسبقا بمقتضى نص قانوني صريح.

فهل يستطيع العمل القضائي تجاوز صراحة نص تجاهل نصا قانونيا آخر، قصد الحفاظ على إحدى دعائم نظام التحفيظ العقاري، ومؤسسة تضمن الدود والدفاع عن الحقوق، وهي مؤسسة التعرض، التي أفرغت من محتواها حينما يستند التعرض إلى المنازعة في حوز الهبة.

[1]ظهير شريف رقم 1.11.178 صادر في 25 من ذي الحجة (22 نوفمبر 2011) بتنفيذ القانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية. منشور بالجريدة الرسمية عدد 5998 بتاريخ 27 ذو الحجة 1423(24 نوفمبر 2011 ).

[2]المقصود بذلك الفقه المالكي.

[3]محمد الكشبور. بيع العقار بين الرضائية والشكل. الطبعة الأولى 1997. مطبعة النجاح الجديدة. صفحة 44.

[4]استعمل المشرع مصطلح الحيازة، مع أن مصطلح الحوز هو الأكثر استعمالا من طرف فقهاء المالكية، وأرى أنه الأنسب استعمالا حتى لا يقع خلط مع مصطلح الحيازة حينما يكون لها مفهوم آخر المرتبط بوضع اليد كسبب من أسباب الملكية، والذي نظمت مدونة الحقوق العينية أحكامها في الفصل الثالث تحت عنوان "الحيازة" ابتداء من المادة 239. وما تجدر الإشارة إليه أن المشرع استعمل مصطلح الحوز في معرض تنظيمه حق العمرى في الفقرة الأخيرة من المادة 106 حين نص على أنه "لا تشترط معاينة الحوز لصحة عقد العمرى"، فكان من الأدق استعمال هذا المصطلح بالنسبة للهبة أو مصلطح القبض الذي يستعمل أحيانا من طرف الفقه المالكي، وهو المعتمد من طرف باقي المذاهب الفقهية.

[5]أعني بذلك مدونة الحقوق العينية

[6]عبد الوهاب البغدادي، المعونة، ج 3 ص 1607 و 1608.

[7]أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن محمد بن عبد البر، الاستذكار، م 22 ص 302.

[8]سورة المائدة الآية 1.

[9] الإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار،دار الحديث القاهرة، الطبعة الأولى 1421-2000، ج 6 ص 389، حيث أورد أنه حديث متفق عليه وزاد أحمد والبخاري "ليس لنا مثل السوء" ولأحمد في رواية: قال قتادة: و لا أعلم القيء إلا حراما.

 [10]عبد الوهاب البغدادي، المعونة، ج 3 ص 1607 و 1608.

[11] هذا بخلاف المذهب الشافعي إذ "لا تملك الهبة إلا بالقبض بإذن الواهب، فإذا قبض بغير إذنه بأن وضع يده على الموهوب كان عليه ضمانه ولو أذن له ورجع عن الإذن قبل أن يقبض بطل الإذن ومثل ذلك ما إذا مات أحدهما قبل القبض. ولا يكفي في القبض أن يضع الموهوب بين يدي الموهوب له بل لابد من الإذن".

عبد الرحمان الجزيري، كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، ضبطه وصححه محمود عمر الدمياطي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1424-2003 ص 682.

[12] حاشية الخرشي. ج 7 ص 411.

[13]عبد الرحمان الجزيري، كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، ضبطه وصححه محمود عمر الدمياطي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1424-2003 ص 681.

[14] الخرشي، المرجع السابق.

[15] عبد الرحمان الجزيري، المرجع السابق ص 681.

[16]عبد الوهاب البغدادي، المعونة، ج 3 ص 1607.

أبو عبد الله سيدي محمد المهدي الوزاني الشريف العمراني الحسيني، المرجع السابق.

[17] أبو محمد عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن القيرواني، متن الرسالة في الفقه المالكي، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.  الطبعة الرابعة 1422_2001.

[18] يعتبرالمذهب الحنفي أن من الشروط التي تتعلق بالموهوب أن يكون مقبوضا، "وهذا الشرط للزوم الهبة وثبوت الملك للموهوب له فلا يثبت له الملك إلا بالقبض".

    عبد الرحمان الجزيري، المرجع السابق ص 680.

[19]عبد الوهاب البغدادي، المعونة، ص 179. و أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن محمد بن عبد البر، الاستذكار، م 22 ص 302.

[20]جلال الدين عبد الله بن نجم بن شاش، عقد الجواهر، ج 3 ص 979 . و حاشية العدوي ج 2 ص 332.

  [21]الشريعة في الاصطلاح هي ما جاء به شرع الله لعباده في مجال العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات لتنظم بها حياتهم ويتحقق بها سعادتهم في الدنيا والآخرة. وبذلك تكون الشريعة الإسلامية هي الدين الذي أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم قرآنا يتلى فهو الوحي وغير متلو أي السنة وهي ما صدر على رسوله صلى الله عليه من أقوال وأفعال أو تقرير.

عبد اللطيف خالعي، المدخل لدراسة  الشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى 98-99 ص 14.

عبد الكريم زيدان، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، الطبعة السادسة سنة 1402-1982، مكتبة القدس مؤسسة لرسالة بغداد العراق ص 38.

محمد حجي، المرجع السابق ص 7.

[22]الأدلة جمع دليل، ومعناه في اللغة الهادي إلى شيء حسي أو معنوي. وفي الإصطلاح هو ما يتوصل بتصحيح النظر فيه إلى حكم شرعي عملي. (انظر كتاب أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي الجزء الأول الطبعة الثانية سنة 1322-2001 ص 417) والأدلة نوعان : أدلة متفق عليها بين جمهور العلماء وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وأدلة مختلف فيها لم يتفق جمهور الفقهاء على الإستدلال بها وهي الاستحسان والمصالح المرسلة والعرف والعادة وشرع ما قبلنا ومذهب الصحابي والاستصحاب والذرائع.

وهبة الزحيلي، المرجع السابق ص 417.

[23] الموطأ ص 656. جاء في نيل الأوطار المجلد الثالث ص 372 ما يلي "قوله: (جاد عشرين وسقا) بجيم وبعد الألف دال مهملة مشددة: أي أعطاها مالا يجدّ عشرين وسقاً، والمراد أنه يحصل من ثمرته ذلك، والجد: صرام النخل".

[24]الموطأ ص 657.

[25]أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن محمد بن عبد البر، الاستذكار، مجلد 22 ص 370.

[26]شهاب الدين أحمد بن ادريس القرافي، الذخيرة، ج 6 ص 245.

[27]أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن محمد بن عبد البر، الاستذكار، م 22 ص 302 و 303.

[28] أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الكتب العلمية بيروت الطبعة العاشرة 1408-1988، م 2 ص 329.

[29]القرار صدر بتاريخ 28/12/2003 في الملف العقاري عدد 596/2/2/95. منشور بمجلة القضاء والقانون العدد 149 سنة 31.

[30]للمزيد من التفصيل بشأن موقف المؤيدين والمعارضين لهذا التوجه انظر:

عمر الأبيض. شرط الحوز في التبرعات. الطبعة الأولى سنة 2011 مطبعة الأمنية الرباط. ص 256.

[31]للمزيد من التفصيل والإيضاح انظر:

عمر الأبيض "موقف المجلس الأعلى من شرط الحوز في التبرعات بعد القرار رقم 555" منشور في "المنازعات العقارية من خلال اجتهادات المجلس الأعلى" موضوع الندوة الجهوية الخامسة المنعقدة بسطات يومي 26 و27 أبريل 2007 في إطار الاحتفاء بالذكرى الخمسينية لتأسيس المجلس الأعلى.

[32]ينص الفصل 84 على أنه "إذا نشا على عقار في طور التحفيظ حق خاضع للإشهار أمكن لصاحبه، من أجل ترتيبه والتمسك به في مواجهة الغير، أن يودع بالمحافظة العقارية الوثائق اللازمة لذلك. ويقيد هذا الإيداع بسجل التعرضات.

يقيد الحق المذكور عند التحفيظ بالرسم العقاري في االرتبة التي عينت له إذا سمحت إجاءات المسطرة بذلك."

[33]ظهير شريف رقم 1.11.77 صادر في 25 ذي الحجة 1432 (22 نوفنبر 2011) بتنفيذ القانون رقم 14.07 المغير والمتمم بمقتضاه الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 (12 أغسطس 1913) المتعلق بالتحفيظ العقاري.

[34]أصبحت صيغة الفصل 83 بعد التغيير كما يلي: "بغض النظر عن المسطرة المقررة في الفصل 84 من هذا القانون، يمكن لصاحب حق وقع إنشاؤه أو تغييره أو الإقرار به أثناء مسطرة التحفيظ أن يطلب نشره بالجريدة الرسمية بعد إيداع الوثائق المثبتة للحق بالمافظة العقارية.

تتابع مسطرة التحفيظ بصفة قانونية مع أخذ الحق المنشأ أو المغير أو المقر به بعين الاعتبار.

يكتسب صاحب الحق المنشأ أو المغير أو المقر به صفة طالب التحفيظ في حدود الحق المعترف له به.

إذا كان الإعلان عن انتهاء التحديد قد تم نشره بالجريدة الرسمية فيجب أن يعاد نشره من جديد ليفتح أجل شهرين للتعرض، يبتدئ من تاريخ الإعلان عن الحق المنشأ أو المغير أو المقر به. وفي هذه الحالة لن تقبل إلا التعرضات المنصبة مباشرة على الحق المذكور.

 يؤخذ بعين الاعتبار عند التحفيظ الحق المنشأ أو المغير أو المقر به خلال المسطرة."

[35]قانون الالتزامات والعقود.

[36]ظهير التحفيظ العقاري.

[37]كان الفصل83 من ظ ت ع ينص على أنه "وإذا وقع انتقال ملك بين أحياء أثناء جريان مسطرة التحفيظ، فإن الإجراءات التي سبق إنجازها تعتبر عديمة الأثر، إذا كان ذلك الانتقال قد شمل كل العقار.

فإن لم يشمل الانتقال إلا جزءا منه، أمكن متابعة المسطرة أو إعادتها من أولها مع إدراج الماك الجديد. وبالتالي يكمل عند الاقتضاء، التحديد والإعلانات.

ويعمل بكل ذلك ما لم يتفق الأطراف على اتباع طلب التحفيظ كما قدم أولا مع احتفاظ الماك الجديد بحقه في الاستفادة من مقتضيات الفصل 84 من هذا الظهير."

فهذا الفصل كان ينص على إحتمالين يمكن أن يترتبا عن انتقال العقار في طور التحفيظ. الاحتمال الأول يتعلق بالحالة التي يشمل فيها الانتقال كل العقار، وفيها تعتبر إجراءات مسطرة التحفيظ السابقة للانتقال عديمة الأثر. أما الاحتمال الثاني فيتعلق بالحالة التي يقتصر فيها الانتقال على جرء من العقار، وفيها يمكن متابعة مسطرة التحفيظ أو إعادة إجراءاتها من البداية ليشمل ذلك اسم المالك الجديد.

إلا أنه لا يعمل بالاحتمالين السابقين إذا ما اتفق طرفا العلاقة على أن تتبع مسطرة التحفيظ كما بدأت، على أن يحتفظ المالك الجديد بحقه في الاستفادة من مقتضيات الفصل 84 من نفس الظهير الذي ينص على أنه "إذا نشأ على عقار في طور التحفيظ حق خاضع للإشهار أمكن لصاحبه، من أجل ترتيبه والتمسك به في مواجهة الغير، أن يودع بالمحافظة العقارية الوثائق الازمة لذلك. ويقيد هذا الإيداع بسجل التعرضات.

يقيد الحق المذكور عند التحفيظ بالرسم العقاري في الرتبة التي عينت له إذا سمحت إجراءات المسطرة بذلك".

[38]محمد مهدي الجم. التحفيظ العقاري في المغرب. الصفحة 63 . دار الثقافة للنشر والتوزيع. الطبعة الثالثة سنة 1405ـ1986.

[39]للإشارة فإن القانون المتمم والمغير لظهير التحفيظ العقاري ومدونة الحقوق العينية صدرا في نفس الجريدة الرسمية عدد 5998 بتاريخ 27 ذو الحجة 1432 (24 نوفنبر 2011).

تعليقات