مفهوم السعاية ونطـاق تطبيق أحكامها بــيــــن
الفقه المالكي والقضاء المغربي
إنجـاز : الأستاذ عبد اللطيف الأنصاري
مـقــدمـة :
يعتبر الفقه المالكي الإطار المرجعي الأهم لموضوع السعـاية وما يطرحه من قضايا ويثيره من إشكـالات، وعليه فالكلام الذي يقال عنه حلا، ليس بالجديد المبتكر ولا بالحديث المخترع فقد قيل زمانا، ورغم ذلك فإنه ما زال في حاجة ماسة ليس فقط إلى الاجتهاد في أحكامه ومسائله إنشاء وتقريرا، ولكن أيضا قبل ذلك إلى إخراج تلك الأحكام من مطانها، وترتيبها وفق منهجية واضحة المعالم ومحددة الأهداف.
وفي هذا السياق تأتي هذه المحاولة قاصدة تلتمس الأحكام الناظمة لبعض القضايا التي يفرضها بالأصالة الإطار المرجعي الفقهي للموضوع، وتجد صداها بالتبع في الإطار الواقعي القضائي له.
وبالرغم مما قد يبدو ظاهرا بالعنوان من أن الفكرة الأهم في هذه السطور إنما هي أساس تلك المتعلقة بنطاق تطبيق أحكام السعاية، النظر إلى صبغتها الإجرائية وطابعها التنزيلي، فإن الفكرة التي قبلها، والمتصلة بالمفهوم لا تخلو من أهمية وفائدة بل ولا تنفك من إشككالات وجبت ملامستها ومقاربتها بقصد التحقق بالفهم الصحيح لها، والإهتداء بالتالي إلى التطبيق السليم لمتعلقاتها وبذلك تترجح من حيث الأهمية الفكرة المتعلقة بالمفهوم على ما سواها، لأنها الأساس لغيرها، وغيرها إنما هو تأسيس عليها وتجل من تجلياتها لا أكثر، ولله در من قالوا بأن "الفهم قبل الحكم" وأن "الحكم على الشيء فرع عن تصوره".
ومن أجل أن يكون هذا الموضوع جامعا قدر الإمكان لكل ما يدخل فيه من أحكام ومانعا لدخول ما ليس منه فيه والتباسه به فإني سأقتصر على بحث مسألة عمل الزوجة في مال زوجها دون غيرها من المسائل المتعلقة بباقي صور وأنواع العلاقة الممكن تصورها بين الزوجين في المجال المالي.
وبهذا التحديد الدقيق للموضوع فإنه يخرج من إطاره كل من أحكام الزوجة العاملة في بيت زوجها وأحكام الزوجة العاملة مع زوجها في مال غيرهما، وأحكام الزوجة المستقلة بعملها ومالها، وأحكام الزوجة التي يأكل زوجها مالها فكل هذه الأوضاع والصور لها أحكامها الخاصة وقواعدها الضابطة كما هو منصوص عليها بأدلتها وشواهدها في مظانها ومواردها.
كما تخرج أيضا من إطار موضوعنا هذا تلك الأحكام والمقتضيات التي أقرتها مدونة الأسرة في المادة 49* لاعتبارات أهمها :
أ- إن المادة 49 من مدونة الأسرة تشير في فقرتها الأولى إلى حالة الاتفاق بين الزوجين على كيفية استثمار وتوزيع الأموال التي ستكتسب أثناء قيام الزوجية، وهو ما يختلف عن أحكام السعاية كما حددها فقهاء المالكية من أوجه كثيرة.
ب- إن أحكام المادة 49 من المدونة عامة في الزوجة العاملة في مال زوجها وفي غيرها من الزوجات التي يمكن أن تتخذ علاقتهن بأزواجهن صورا أخرى.
ت- ومن جهة أخرى، فإن أحكام المادة 49 من مدونة الأسرة تنطبق على كل واحد من الزوجين حالة تحمله أعباء وتقديمه مجهودات من أجل تنمية أموال الأسرة، في حين أن موضوعنا خاص بالزوجة فقط حالة عملها في مال زوجها وتنميتها له.
تلك كلمات أوجبت الضرورة المنهجية التقديم بها لهذه المحاولة التي سأتطرق لها وفق الخطة الآتية :
المبحث الأول : مفهـوم السعـاية :
أولا : تحديد معنى السعاية من حيث العموم والخصوص وبيان اصطلاحات الفقهاء بشأنها :
1) تحديد معنى السعاية من حيث العموم والخصوص.
2) الاصطلاحات الفقهية المرادفة لمصطلح "السعاية".
ثانيا : تعريف السعاية في اللغة وفي الاصطلاح الفقهي :
1) السعـاية في اللغـة.
2) السعاية في الاصطلاح الفقهي.
المبحث الثاني : نطاق تطبي أحكام السعاية في الفقه المالكي والقضاء المغربي :
أولا : نطاق تطبيق أحكام السعاية من حيث المكان.
1) نطاق تطبيق أحكام السعاية من حيث المكان
أ- المرأة البدوية والحق في مقابل السعاية
ب- المرأة الحضرية والحق في مقابل السعاية
2) نطاق تطبيق أحكام السعاية من حيث الزمان
أ- حالة وفاة الزوج : ( الزوجة الأرملة)
ب- حالة الطلاق (الزوجة المطلقة)
ت- حالة بقاء الزوجة في عصمة الزوج
ثانيا : نطاق تطبيق أحكام السعاية في الإجتهاد القضائي المغربي
1) نطاق تطبيق أحكام السعاية من حيث المكان
أ- الموقف الأول : مقابل السعاية حق للزوجة البدوية دون الحضرية :
ب- الموقف الثاني : مقابل السعاية حق للزوجة البدوية والحضرية على السواء .
2) نطاق تطبيق السعاية من حيث طبيعة العمل المبذول من قبل الزوجة :
ت- الوقف الأول : العمل البدائي (الفلاحي ) السبب الوحيد في استحقاق مقابل السعاية :
ث- الموقف الثاني : عمل الزوجة كيفما كانت طبيعته سبب في استحقاق مقابل السعاية.
المبحـث الأول : مفـهـوم السعــايـة :
ولتجلية هذا المفهوم سنعمل عملى تحديد السعايـة من حيث إن لها معنيين، عام واسع وخاص ضيق، ثم نعرض لأنواع المصطلحات والألفاظ التي قد تقوم مقامها، وأخيرا نأتي إلى التعريف بمفهومها الخاص – الذي هو محل موضوعنا- في اللغة وفي الاصطلاح الفقهي.
أولا : تحديد معنى السعاية من حيث العموم والخصوص وبيان اصطلاحات الفقهاء بشأنها :
1) تحديد معنى السعاية من حيث العموم والخصوص :
للسعاية عند فقهاء المالكية معنيان : معنى عام واسع، واخر خاص ضيق أما المعنى العام الواسع "فيدخل فيه كل من قدر على الاشتغال والتكسب من أفراد الأسرة، ولذلك نجد الفقهاء يميزون فيه بين سعاية اليتيم وسعاية الأخت وسعاية الأخ، وسعاية الولد، وسعاية الزوجة"
وأما المعنى الخاص الضيق، فإنما يأتيه التخصيص والتضييق من إرادة الفقيه تخصيص نوع من آحاد المعنى العام للسعاية بالبحث، فإذا ما تم الحديث عن السعاية بصفة عامة، وبغض النظر عمن متعلقها، أهو الأخ أو الأخت أو الزوجة أو اليتيم ..... فإننا نكون بصدد المعنى العام لها، وأما إذا تم تخصيص الحديث عن السعاية بأن ربط بالأخ أو الأخت أو الزوجة مثلا، فإننا نكون بصدد البحث في المعنى الخاص الضيق لها.
وموضوعنا إنما هو في هذا المعنى الأخير للسعاية، والمتعلق أساس بالزوجة، ولذلك فإننا عندما نطلق لفظ السعاية إطلاقا ودونما تحديد لمتعلقة، فإننا نقصد به سعاية الزوجة.
2) الإصطلاحات الفقهية المرادفة لمصطلح "السعاية" :
يستعمل الفقهاء للتعبي عن معنى السعاية مصطلحات متعددة، فيطلقون عل ىهذا المعنى أحيانا مصطلح "الكد" وممن عبر به من الفقهاء عبد الواحد الآمزوري في قولين ه : الأول منظوم، والثاني منثور.
فأما المنظوم فقوله :
وبين أهل الكد نصف اقسما كلا بقدر كده لتكرما
وأما المنثور فقوله : "وإذا استفاد أهل البيت من ذمنتهم وكدهم فإنهم يقسمونه أنصافا ...."
فالمقصود بمصطلح الكد في قولي عبد الواحد المزوري، النظوم والمنثور، هو السعاية وما في معناها
وقد يعبر عن السعاية أيضا بلفظي "الكد والسعاية" جاء في المجموعة الفقهية في الفتاوي السوسية من قول الفقيه إبراهيم الشهيد الركني، مانصه : "... والمنصوص عن العلماء خلفا وسلفا، ان الزوجين إذا استفادا بسعيهما وكدهما يشتركان بقدر عملهما ... فتختص الزوجة بسعيها وكدها ..."
كما قد يعبر عنها كذلك ب "تامازالت باللغة الأمازيغية" أو الجراية. أو حق الشقا لدى أهالي الجبال
وإلى تلك التعابير كلها دون الأخير منها، يشير الأستاذ الحسين الملكي فيقول : تامازالت، كلمة أمازيغية قد تكون مشتقة من فعل أزل Azzel بمعنى سعا أو جرى ... ويقال إلى الآن في بعض مناطق سوس ألي –د-يوزل Ayelli ed yuzzel أو أيلي د تتوزل : Ayelli ed Tuzzel ويعني مقابل سعيه أو مقابل سعيها ومن هنا ربما جاءت تسمية هذا الحق في الفقه المغربي المكتوب باللغة العربية بحق الكد والسعاية أو بالجراية"
هكذا إذا، فإن كلا من مصطلح "السعاية" أو "الكد" أو الكد والسعاية " أو الشقا" او "تامازلت" أو "الجراية" أسماء لمسمى واحد، ولها نفس الدلالة وتفيد نفس المعنى وسندر في هذا الموضوع على استعمال مصطلح "السعاية" للأسباب الآتية :
1- إن مصطلح "السعاية" هو المصطلح الغالب على استعمال الفقهاء في تقاليدهم ونوازلهم وفتاواهم ولذلك قلما نجدهم يستعملون غيره مما أرنا إليه من مصطلحات أخرى "كالجراية" او "الشقا" مثلا.
2- إن قولها : " الكد والسعاية" ، فيه تكرار معنوى لا داعي له، بحيث قد يكتفى بأحد اللفظين فقط.
3- إن لفظ "تامازالت" هو لفظ خاص من ناحيتين : من حيث المكان : منطقة سوس. ومن حيث اللسان : اللسان الأمازيغي، ولذلك آثرنا عدم استعماله.
ثانيا : تعريف السعاية في اللغة وفي الاصطلاح الفقهي :
1- السعاية في اللغة :
أصل السعاية في اللغة ، فعل سعى جاء في القاموس المحيط "سعى يسعى سعيا .... وسعاية" وفي لسان العرب : " سعى .... إذا عمل .... والسعي : الكسب .... وقال الزجاج : أصل السعي في كلام العرب : التصرف في كل عمل .... "
وفي الرائد : سعى : عمل. سعى للأمر اهتم بتحصليه ..."
مما سبق يتبين أن مصطلح السعاية يدور حول معان منها : العمل والتصرف في الشيء والاهتمام به. وباستحضارنا لهذه المعاني في موضوعنا، يكون معنى السعاية في اللغة، عمل الزوجة في أموال زوجها وتصرفها فيها واهتمامها بها.
2- السعاية في الاصطلاح الفقهي :
لم يعرف فقهاء المالكية – في حدود ما اطلعنا عليه – السعاية من حيث الاصطلاح، إلا ما كان من إشارة طفيفة من الفقيه سيدي محمد بن ابراهيم المزوار عندما سئل عن معناها، فأجاب، " أن معنى السعاية : ما استفادوه من المال بعملهم، وفي الذكر و " أن ليس للإنسان إلا ماسعى" ، أي إلا ما عمل"
والسبب في نظرنا في عدم وجود تعاريف فقهية للسعـاية، راجع أساسا إلى كون الفقهاء في فتاواهم ونوازلهم إنما يهتمون ببيان الأحكام وما يعتريها، لا بوضع التعريفات والحدود وما أشبه.
يبقى إذن، أمام الباحث طريق واحد إذا ما أراد التوصل إلى وضع تعريف اصطلاحي للسعاية، وهو النظر في تلك الفتاوى والنوازل والأجوبة المتعلقة بالموضوع، - ما أمكن- وفهمها، ووضع ما من شأنه أن يكون تعريفا على ضوء ذلك النظر والفهم، وفي ذلك ما فيه من صعوبة.
وفي هذا الإطار ذهب الأستاذ الحسين الميلكي إلى أن السعاية هي "حق المرأة في الثروة أو الثراء المنشأ خلال فترة الحياة الزوجية" أو هي "حق المرأة في الثروة التي ينشئها ويكونها زوجها خلال فترة الحياة الزوجية .
وما دام التعريفان متعاربين، فإننا ننبه بشأنهما معا إلى مايلي :
1- إن تعريفي الأستاذ الميلكي يجعلانا نتساءل وبإلحاح، هل السعاية حق للمرأة أم هي وضع شرعي ومركز قانوني تترتب عنه حقوق ؟
واضح أن الأستاذ يذهب على وصفها بأنها "حق، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك إذ أن السعاية هي وضع شرعي يخول للمتواجد به حق المطالبة بمقابل عمل وكده، وفرق بين السعاية وبين ما يترتب عنها من حق في مقابلها.
إن الأستاذ أغفل في تعريفيه عنصرا أساسيا من عناصر استحقاق مقابل السعاية، وهو كد المرأة وعملها مع زوجها في أمواله، فإذا لم يكن لها سعي يترتب عنه نماء وزيادة في أمواله وثروته، فلا حق لها في تلك الأموال والثروة.
أما الأستاذ عبد السلام حسن رحو، فقد عرف السعاية بأنها : " استحقاق كل شخص مقابل كده واجتهاده جزاء عمله" . ويلاح على هذا التعريف أنه تعريف للسعاية بالمفهوم العام وليس بالمفهوم الخاص المقصود في هذا الموضوع.
ويذهب الأستاذ أحمد الزوكاغي إلى أن السعاية تعني " أن المرأة إذا كانت قد شاركت في بناء او في تنمية ثروة زوجها، فإنها تعتبر شريكة له في كل عناصر الثروة التي أصبح يتوفر عليها منذ زواجهما ..." .
وإذا كان هذا تعريف قريبا نوعا ما من المقصود بالسعاية في الاستعمال الفقهي، فإن مما يؤخذ عليه أنه قضى بكون الزوجة شريكة لزوجها، وليس الأمر كذلك في كل الأحوال، كما هو مفصل في مظانه وموارده عند فقهاء المالكية.
بقي أن نشير في آخر هذه التعريفات إلى تعريف آخر يعتبر الأقب مقصود الفقهاء من مصطلح السعاية، وهو تعريف الأستاذ الصديق بلعريبي، الذي يقول فيه : والسعاية اصطلاحا، هي ما يعطيه الساعي مقابل عمله الذي قام به من أجل تكوين أو تنمية رأسمال، أو هي النصيب الذي يستحقه الساعي أو السعاة مقابل المجهود الذي بذلون من أجل تكوين وتنمية مال معين بقدر يناسب مجهوده" وإلى هنا فإن حديث الأستاذ هو حديث عن المفهوم العام للسعاية، وكأني به قد أحس بهذا التعميم فعمد في موضوع آخر إلى تخصيص سعاية الزوجة بالتعريف قائلا : أو هي حق يسمح للمرأة في أخذ جزء من الثروة التي أنشئت أثناء الحياة الزوجية مقابل المجهود الذي بذلته أو ساهمت به في تكوين تلك الثروة " .
ولو أن الأستاذ ابدل كلمة حق بكلمة "وضع" أو "مركز" لاستقام تعريفه أكثر، وفيما دون ذلك فالتعريف أقرب إلى المقصود بالسعاية في الاستعمال الفقهي كما قلنا سابقا.
وإذا كنا لم نعمد إلى تبني أي من تلك التعريفات، فإنه استئناسنا بها وباستحضارنا لما أبديناه من ملاحظات بشأنها، وباسترشادنا بما استطعنا الوقوف عليه مما ود في الموضوع عند الفقهاء، يمكن أن نعرف السعاية بأنها : " وضعية شرعية مقتضاها : عمل الزوجة في أموال زوجها بقصد تنميتها ونتيجتها استحقاق مقابل ذلك العمل فيما زاد عن أصل تلك الأموال".
فقولنا : "وضعية شرعية " فيه إشارة إلى أن الشرع ينظم ويضبط عمل الزوجة في مال زوجها، ويرتب عنه حقوقا لها إما نسا إما اجتهادا، وفيه أيضا تلاف لوصف السعاية بأنها حق وهو ما انتقدناه سابقا.
وقولنا : " مقتضاها : عمل الزوجة في أموال زوجها" فيه إشارة إلى عنصرين من عناصر السعاية. أولها عمل الزوجة وثانيهما نماء أموال الزوج بسبب ذلك العمل.
وقولنا : " ونتيجتها : استحقاق مقابل ذلك العمل فيما زاد عن أصل تلك الأموال فيه إشارة إلى عنصر مقابل السعي باعتباره عنصرا من عناصر تعريف السعاية، وفيه أيضا تفريق بين "السعاية" التي هي العمل والكد، وبين "مقابل السعاية" الذي هو مقابل العمل والكد.
المبحث الثاني : نطاق تطبيق أحكام السعاية في الفقه المالكي والقضاء المغربي
أولا : نطاق تطبيق أحكام السعاية في الفقه المالكي :
ينصب الحديث هنا حول نقطتين رئيستين، تتعلق الأولى بنطاق تطبيق أحكام السعاية من حيث المكان، وتتعلق الثانية بنطاق تطبيق تلك الأحكام من حيث الزمان.
1) نطاق تطبي أحكام السعاية من حيث المكان :
يدور الكلام في هذه النقطة حول ما إذا كان حق الاستفادة من أحكام السعاية مخولا للمرأة البدوية فقط، أو للبدوية والحضرية على حد سواء.
أ- المرأة البدوية والحق في مقابل السعاية :
لقد ذهب بعض فقهاء المالكية إلى أن الاستفادة من مقتضيات وأحكام السعاية هي خاصة من خواص نساء البادية وافتوا بناء على ذلك فتاوى كثيرة تخول لهن الحق في مقابل السعاية.
وعلى ذلك حملت فتوى ابن عرضون المشهورة، في المرأة تخدم زرع زوجها بالبادية أن لها النصيب من ذلك الزرع شركة مع زوجها وهو ما اشار إليه صاحب العمل الفاسي في قوله :
وخدمة النساء في البوادي
قال ابن عرضون لهن قسمة
للزرع بالدراس والحساد
على التساوي بحساب الخدمة
وإذا كان محمد ابن عرضون – ومن قال بقوله – قد أطلق فتواه لتسع عموم نساء البادية ذوات السعاية في أموال أزواجهن،دون تفريق في ذلك بين أهل الجبال منهن وأهل السهول. فإن غيره قد قصر القول بتطبيق أحكام السعاية على نساء الجبال دون غيرهن، وبذلك قال الوزاني في المعيار، واحتج له بعدم لزوم ماثبت من عمل بلد لبلد آخر ، وبه أيضا جرى العمل عند فقهاء جبال غمارة كما نص على ذلك الفقيه سيدي أحمد البعل .
ويبدو أن فتاوى كثيرة وأجوبة متعددة، جاءت على منوال ما ذهب إليه ابن عرضون لتجعل – بالتالي – تطبيق أحكام السعاية عاما في حق نساء البادية، سواء كن في السهل أو كن في الجبل، لكن ذلك مشروط بما إذا لم يقض العرف او الاتفاق بعدم استحقاقهن مقابل سعيهن..
وتجدر الإشارة في ختام هذه النقطة، إلى أن هناك من الفقهاء من نازع في تطبيق أحكام السعاية على نساء البادية. ففي نوازل الرسموكي من كلام أبي محمد سيدي عبد الله بن يعقوب ما نصه : " ونقل لنا عن المشدالي ما حاصله ألا شي لنساء البادية لدخولهن على الخدمة مجانا، والله أعلم" . وبمثله قال سدي يحيى السراج في نساء البادية اللاتي يحصدن ويدرسن ونحو ذلك، بأن لا شيء لهن في ذلك .
ولئن كان سيدي يحيى السراج لم يبين مستندا لقوله، فإن المشدالي قد استند في القول بعدم استحقاق نساء البادية مقابل سعايتهن في أموال أزواجهن على وجوب الخدمة عليهن ودخولهن على ذلك، وهو قول غير مسلم، وفيه منازعة ونظر.
ب- المرأة الحضرية والحق في مقابل السعاية :
جاء في نوازل البرجي من كلام الفقيه يبورك بن عبد اله بن يعقوب عن أبيه عن ابي إسحاق التونسي أنه أفتى " بأن الزوجة في البادية تشارك زوجها على قدر سعايتها .. ونساء الحاضرة خلاف ذلك لأنهن للفراش"
إن هذا الكلام يحملنا حملا عل ىالقول بعدم استحقاق الزوجة الحضرية مقابل سعايتها بحجة أنها للفراش ولا أثر لها في تنمية أموال زوجها لا من قريب ولا من بعيد.
والحقيقة أنه إذا كان ذلك هو شأن الزوجة الحضرية في زمن صاحب الفتوى، فإنه قليل في زماننا، ذلك أن هذه الزوجة أصبحت كالبدوية تساعد زوجها وتعمل معه في أمواله وتعينه في جل أشغاله، ولسنا نريد أن نصر حكما بهذا الشأن، وإنما غايتنا التنبيه إلى أن المبرر الذي استندت غليه الفتوى لم يعد قائما بالشكل الذي كان عليه زمان صدورها.
وللفقيه الورزازي فتوى مغايرة في هذا الشأن ونصها : وسئل – يقصد نفسه – عن الزوجة إذا كانت تخدم في دار زوجها، هل لها فيما استفاده زوجها من خدمته وخدمتها أم لا ؟ فأجاب : قال الإمام ابن العطار، مذهب مالك وأصحابه، أن المرأة إذا كانت تعمل مثلا الغزل والنسج ونحوهما. فإنها شريكة للزوج فيما استفاده من خدمتها أنصافا بينهما، وكذا الأم مع أولادها، والأخت مع أختها، والبنت مع أبيها، ونساء الحاضرة والبادية في هذا سواء والله اعلم"
يتبين مما سبق، أن مسألة تطبيق أحكام السعاية من حيث المكان يحفها الكثير من الخلاف، وهي محل اجتهادات كثيرة، ولذلك ترك بعضهم أمرها إلى أعراف كل بلد وما جرى به عمل أهله، فحيثما قضى العرف بها أخذ بأحكامها، وحيثما لم تعتبر عرفا وعادة ترك أمرها.
وإلى هذا أشار الإمام ابو الوليد محمد عبد الوهاب الزقاق عندما سئل عما لامرأة بدوية من المستفاد بسعيها في مال زوجها، فأجاب، "العادة هي المحكمة في أفعال الزوجة المذكورة، فما دامت العادة على أن الزوجة إنما تفعله على وجه طيب النفس وحسن العشرة والمعاونة لزوجها في المعيشة، لا شركة لها ف ذلك ولا أجر، وماكان على العكس فحكمها على ذلك" .
ولعل في هذه الفتوى التي تركت أمر تطبيق السعاية إلى أعراف كل مكان على حدا، وفي فتوى الورزازي قبلها، القاضية بتعميم أحكام السعاية على المرأة البدوية والحضرية معا، وإن كانت محمولة – أي فتوى الورزازي – على شركة العمل والصنائع.
أقول، لعل في هذين الفتويين ما قد يحمل على القول بضرورة فتح النقاش في موضوع تعميم أحكام السعاية على الزوجات الساعيات في أموال أزواجهن، سواء كن في البادية او في الحاضرة، لكن بميزان العلم ووفق مبادئ الريعة الإسلامية الرامية إلى جلب المصالح والعدل ودفع المفاسد والظلم عن الزوجة والزوج معا.
2) نطاق تطبيق أحكام السعاية من حيث الزمان :
نقصد في هذا المحور إلى الإجابة على تساؤل إشكالي مهم وهو : متى يقضي للزوجة بمقابل السعاية؟
لقد افضى النظر في بعض فتاوى وتقاييد الفقهاء إلى تحديد ثلاث حالات زمانية يقضى فيهن للزوجة بمقابل سعايتها في أموال زوجها، وهي :
أ- حالة وفاة الزوج.
ب- حالة الطلاق.
ت- حالة بقاء الزوجة في عصمة الزوج.
أ- حالة وفاة الزوج : الزوجة الأرملة
لقد ذهب بعض الفقهاء على الحكم للزوجات الأرامل باستحقاق مقابل سعايتهن في أموال أزواجهن بعد وفاتهم.
ومن هؤلاء الفقهاء، سيدي محمد بن الحسن بن عرضون، الذي أفتى في مسالة الزوجة البدوية تخدم خدمة الرجال من الحصاد والدراس ثم يتوفى زوجها بالشركة لفائدتها مستندا في ذلك إلى ما قال به القوري وابن خجو .
ومنهم ايضا عيسى بن عبد الرحمان السكتاني الذي افتى في شأن امرأة ذات يد وسعاية في مال زوجها المتوفى عنها بأن لها حضها مما حصل من عملها بقدر كل واحد . وحكى مث هذا سيدي أحمد البعل عن فقهاءء غمارة المتقدمين .
ولعل في ما ذهب إليه البعض من تأصيل للسعاية وأحكامها بناء على قضاء عمر بن الخطاب لحبيبة بنت رزق بالشركة في ما تركه زوجها بعد وفاته إشارة واضحة إلى جواز تطبيق أحكام السعاية في حق النساء الأرامل في ما يتركه أزواجهن بعد وفاتهم.
ب- حالة الطلاق : الزوجة المطلقة.
أورد الوزاني فتوى خاصة بهذه الحالة للفقيه العلامة المحقق سيدي محمد بن أبي القاسم السجلماسي، ونصها : " وسئل – يقصد ابا القاسم السجلماسي – أيضا عن رجل من أهل البادية طلق امراته وله مال : غنم وبقر، فقامت تدعي أن لها الحظ في ذلك، وقال هو : المال كله له، فمن القول منهما ؟ وإذا قضي بالمال للرجل، هل تتبعه بأجرة خدمتها أيام كانت في عصمته أم ؟" وكان مما ورد في جواب السجلماسي، " .. وإن كان في خدمتها زيادة على القد الواجب عليها، قضي لها باجرة المثل لا بالشركة .... " .
فالسجلماسي في هذه الفتوى، يقول بتطبيق أحكام السعاية في حق الزوجات المطلقات. وهو ما قال به العباسي أيضا في نوازله التي ورد فيها "ومن زوجت ووجدت عند زوجها بهائم، ومكثت عنده أربعة أعوام ثم فارقها، فإنها تأخذ سعايتها فيما زادت من البهائم بقول أهل المعرفة" .
يتبين مما سبق أن هناك من الفقهاء من أفتى للزوجة باستحقاق مقابل السعاية ف حالة الطلاق، وهناك من أفتى لها باستحقاقه في حالة وفاة زوجها عنها وترملها منه.
على أن منهم من أفتى بجواز استحقاقها لمقابل سعايتها في حالتي الطلاق والوفاة معا، بل إن بعض الباحثين أشار إلى أن القول بالمقابل في حالة الطلاق والوفاة على حد سواء هو ماجرى به العمل واعتاده الناس في بعض البوادي المغربية .
ويعزو البعض القول بإعطاء مقابل السعاية للزوجة في حالة وفاة الزوج وحالة الطلاق إلى الفقيه أبي العباس أحمد بن عرضون في فتواه التي اعتبرها أحد الباحثين فتوى ثورية ، واعتبر آخ الرأي الوارد فيها رأيا رائدا عظيما .
ولئن كان الباحثون لم يتحققوا من نسبة الفتوى إلى هذا الفقيه التحقق اللازم، فإن منهم من حاول مقاربة مضامينها بنا على ما جرى به عرف بلد من نسبت إليه، فخلص إلى أن : " مؤداها أن المرأة لها الحق في أخذ النصف فيما عملته لزوجها ، وذلك في حالتين :
1- إذا توفى عنها زوجها.
2- إذا حدث ما يوجب الطلاق، وطلقت بالفعل"
ج – حالة بقاء الزوجة في عصمة الزوج :
إذا ثبت للزوجة الحق في المتحصل أثناء الحياة الزوجية بسبب عملها في مال زوجها في حالتي الطلاق ووفاة الزوج، فهل هناك ما يمنع من القول باستحقاقها هذا المقابل وهي مازالت في عصمة زوجها ؟
إن الأصل في الحقوق أن تخول لصاحبها الاستفادة منها على كل حال وفي كل حال إذا كان أهلا لذلك، ولم توجد موانع تحول لصاحبها الاستفادة منها على كل حال وفي كل حال إذا كان أهلا لدلك، ولم توجد موانع تحول دون تلك الاستفادة، فهل ينطبق هذا الأمر على الحق في ماقبل السعاية فيما يتعلق بالزوجة التي لا زالت في عصمة زوجها ؟
لقد ذهب الفقهاء في بيان ذلك إلى رأيين :
أما الرأي الأول : فيذهب القائلون به إلى جواز استحقاق الزوجة المقابل عما بذلته من جهود وخدمات في أموال زوجها، وممن قال بذلك أبو عبد الله القوري وعمران المشدالي . وقد أثبت العلمي في النوازل أن الأول "سئل عما يعمله نساء البوادي وغيرهن لأزواجهن من أنواع اللباس وسائر الخدمة إذا تشاحوا في ذلك وتشاجروا فيه. هل تجبر على ذلك أولا ؟ وهل لها نصيب حق أم لا ؟
وهل يجب عليها الاشتراط على الزوج أو البينة أنها عملت لك لنفسها أو لا ؟
فأجاب : .... لكن المشهور الذي به الفتوى عدم جبرهن عمل ىذلك وأن لا شيء عليهن من غزل ونسج وغيره . فإذا فعلت شيئا من ذلك متطوعة به وطيبة النفس بذلك، رشيدة قبل العمل وبعده، فلا خلاف في حلية ذلك للزوج وفي جواز انتفاعه به أو بثمنه، ولا يضر رجوعها بعد ذلك فيه أو قولها : لا جعلتك في حل في كل ماخدمته لك. وإن صرحت بالامتناع من الخدمة إلا عل ىوجه الشركة في الغزل والنسج أو فيهما وأباح لها زوجها ذلك فلا إشكال في اشتراكهما في ذلك المعمول. فإن سكتت وعملت ولم تصرح بوجه من الوجهين ثم طلبت حظها من العمل وأنها لم تعمل إلا على وجه الشركة أو الرجوع بقيمة العمل وأنكر الزوج ذلك استحلفت أنها ما غزلت ولا نسجت ولا عملت إلا لتكون على حظها في المعمول. وإذا حلفت قوم عملها في الكتان والصوف، وقوم الكتان والصوف، فيكون الثوب بينهما عل ىقدر ذلك. وكذلك الغزل هكذا روي عن مالك وابن القاسم وبهذا أفتى أبو الوليد بن رشد وأبو عبد الله بن الحاج"
يستفاد من هذه الفتوى وغيرها مما هو في موضوعها. أمور كثيرة على درجة كبيرة من الأهمية بخصوص ما نحن بصدد تحرير أحكامه الفقهية. ومن تلك الامور :
أ- إن الزوجة تكون شريكة لزوجها في المصنوع بعملها من صوفه وما فيحكمه، وذلك في حالة ما إذا صرحت بالامتناع من الخدمة غلا على وجه الشركة في الغزل أو النسيج أو فيهما معا ورضي الزوج بشرطها هذا .
ب- إذا عملت الزوجة دون تصريح لا بالتطوع ولا بالشركة، ثم طلبت حظها من المعمول بناء على أنها لم تعمل إلا على أن ترجع على زوجها بالنصيب فيه وأنكر ذلك الزوج، استحلفت، فإن فعلت قضي بينهما بالشركة في المعمول هي بقيمة عملها وهو بقيمة أمواله.
ت- وإذا كان يتحصل من هذه الفتوى أن الأصل في عمل الزوجة في مال زوجها صوفا كان أو ثوبا أو ما في حكمهما أن تصير شريكة له في المال المصنع حتى وهي في عصمته، سيرا مع الشهور الذي وقعت به الفتوى من الفقهاء المحققين فإن القول بخلاف ذلك الأصل موجود قائم. إلا أنه يمكن حمله محملا حسنا. وقصدنا هنا ما أورده الوزاني في النوازل الصغرى من أن سيد عيسى السجستتاني : " سئل في مسألة رجل نكح امرأة ومكثت عنده نحوا من ست عشرة سنة وهما على المحبة والمودة والمعروف ويحسن بها غاية الإحسان والآن طلبته بالغزل والنسج الذي كانت تفعله مع أن ذلك لم يكلفها به ولا أذن فيه. هل لها شيء أو لا ؟ فأجاب بأنه لا شيء لها والسلام " .
والمحمل الحسن الذي يمكن حمل كلام السجستاني عليه مبني عل ى:
- طول المدة على المصنوع دون تكلم الزوجة في ذلك.
- كون الزوجة إنما عملت ذلك دون تكليف ولا إذن من زوجها.
- احتمال جريان العرف بالتطوع ولزومه للزوجة.
وبهذا ينتفي ما يظهر انه تعارض بين ما اورده العلمي في النوازل وما اثبته الوزاني في النوازل الصغرى. وينبني على الجمع بينهما أنه لكي يقضي للزوجة الباقية في عصمة زوجها بالشركة في المصنوع من عملها وماله يلزم :
- ألا تصرح بالتطوع أو يقضي به العرف.
- ألا تطول المدة على المصنوع دون مطالبة منها بحقها فيه.
- ألا ينازع الزوج في الشركة، فإن فعل استحلفت على أنها لم تعمل إلا لترجع عليه. فإن حلفت قضي لها بالشركة معه.
يتبين مما تم عرضه بخصوص الحالات الثلاث المتعلقة بنطاق تطبيق أحكام السعاية من حيث الزمان، أن القول باستحقاق الزوجة مقابل السعاية أو عدمه في كل حالة، أمر في غاية الأهمية والخطورة، ولذلك اختلف بشأنه كثيرا، وكانت للفقهاء فيه آراء وأقوال وردود واعتراضات ولعل خطورته تلك هي ما جعلت بعض الفقهاء يتركون أمره للعرف والعادة، فقد سئل الفقيه العلامة أبو الوليد محمد عبد الوهاب الزقاق في شأن امرأة ذت سعاية هل لها الحق مع زوجها بسبب خدمتها فأجاب بأن " العادة هي المحكمة في أفعال ازوجة المذكورة، فما دامت العادة على أن الزوجة إنما تفعله على وجه طيب النفس وحسن العشرة والمعاونة لزوجها في المعيشة لا شركة لها ولا أجر، وما كان على العكس فحكمها على ذلك. وبالله التوفيق
ثانيا : نطاق تطبيق أحكام السعاية في الاجتهاد القضائي المغربي :
تثير أحكام السعاية من حيث نطاق تطبيقها أمام القضاء المغربي العديد من الإشكالات والقضايا، وسنكتفي في هذه الدراسة بالتطرق إلى اثنتين منهما :
أما الأولى : فتتعلق بنطاق تطبيق أحكام السعاية من حيث المكان.
وأما الثانية : فتتعلق بنطاق تطبيق تلك الأحكام من حيث طبيقعة الأعمال التي يخول للزوجة العمل يها مقابل السعاية.
وأود قبل ذلك الإشارة إلى أن البعض قد يتساءل عن عدم إفرادنا مسألة تطبيق أحكام السعاية من حيث الزمان بالدرس والتحليل على غرار ما قمنا به حينما تعرضنا لنطاق تطبيق تلك الأحكام في الفقه المالكي. والسبب في ذلك راجع بالأساس إلى أن هذه المسألة، ليس فيها من الإشكال ما يجعلها تفرد بالبحث المستقل. ذلك أننا من جهة أولى لم نقف في حدود ما قدر لنا الإطلاع عليه على حكم أو قرار يميز بهذا الشأن بين المرأة المطلة والمرأة المتوفى عنها زوجها، قضي لها بحقها في مقابل تلك السعاية، وماكان على العكس من ذلك فحكمه على خلاف ذلك.
ومن جهة ثانية، فإن المجلس الأعلى قد قضى في قراره رقم 177 الصادر بتاريخ 12/05/1980 في الملف الاجتماعي عدد 74469 بنقض قرار استئنافي، واعتمد من جملة ما اعتمده في ذلك النقض – على حيثية مفادها أن الحكم الابتدائي الذي تبناه وصححه القرار الاستئنافي، لم يجر على السنن المتبعة في القطر السوسي في شأن الكد والسعاية للزوجات المتوفى عنهن أو المطلقات، والتي نص عليها الفقهاء في فتاواهم وأحكامهم . وهو ما يفهم منه بجلاء أن المجلس الأعلى يسوي بخصوص تطبيق أحكام السعاية من حيث الزمان بين الزوجة المطلقة والزوجة الأرملة.
وفيما يتعلق بمسألة استحقاق الزوجة الباقية في عصمة زوجها لمقابل السعاية، فلم يقدر لنا الوقوف على قضية تعالج هذه المسألة.
والسبب في نظري راجع إلى أن الزوجات يحجمن عن المطالبة بحقوقهن في مقابل السعاية وهن مازلن في عصمة أزواجهن لأمور كثيرة، لعل أهمها الرغبة في المحافظة على وحدة الأسرة واستمرارها واستقرارها.
1) نطاق تطبيق أحكام السعاية من حيث المكان :
للقضاء المغربي بخصوص هذه المسالة موقفان. أما الموقف الأول فيجعل مقابل السعاية حقا خالصا للزوجة البدوية من دون الحضرية. وأما الموقف الثاني فيوسع من مجال تطبيق ذلك المقابل ليشمل الزوجة البدوية والحضرية على السواء. وهنا يثور التساؤل حول الأسس والمعايير المعتبرة في توسيع أو تضييق نطاق تطبيق تلك الأحكام من حيث المكان.
أ- الموقف الأول : مقابل السعاية حق للزوجة البدوية دون الحضرية :
تذهب بعض الاجتهادات القضائية إلى قصر نطاق تطبيق أحكام السعاية على نساء البادية فقط وحرمان غيرهن صراحة أو ضمنا من الاستفادة مما تخوله تلك الأحكام من حقوق مالية.
وقد ذهبت هذا المطهب محكمة الشرع بتزنيت، عندما قضت في مجموعة من أحكامها بأحقية الزوجات في أخذ مقابل سعايتهن من أزواجهن بعلة " أن العمل قد جرى بثبوت السعاية للنساء في البوادي كما بين في شرح العمليات ....." وأن نفس العمل أيضا " جى باستسعاء الزوجات في البوادي " ولئن كان هذا الحكمان لم يقصرا صرحة نطاق تطبي أحكام السعاية من حيث المكان عل ىالزوجة البدوي، فإن فيهما ما يحمل على القول من باب المفهوم المخالف بأنهما جعلا من استحقاق مقابل السعاية حالة عين – كما يقول أهل الأصول- خاصة بالزوجة البدوية دون غيرها.
وأصرح مما قررته هذه المحكمة من قواعد ومبادئ بهذا الشأن، ما ذهبت إليه ابتدائية الرباط عندما قضت برفض طلب الإشهاد للزوجة بأحقيتها في نصف العقارات المشتراة من طرف المدعى عليه (زوجها) خلال الحياة الزوجية عن طريق الكد والسعاية، معتمدة في ذلك الرفض على مجموعة حيثيات من بينها أن القواعد الفقهية المنظمة لحق الكد والسعاية تجعل هذا الأخير عرفا مقصور التطبيق على نساء البوادي، وأن المدعية من مدينة الرباط، وهي منطقة حضرية لا يجري عرفها على الأخذ بمبدأ الكد والسعاية الذي اسست عليه الدعوى . وهو نفس الموقف الذي كرسته استئنافية أكادير في قراارها رقم 1060 الصادر بتاريخ 02/04/1996 بخصوص الملف رقم 200/95 والذي جاء فيه أن "الاجتهادات (يقصد الاجتهادات المتعلقة بأحكام السعاية) المدلى بها من طرف المستأنفة تخص الزوجة العاملة مع زوجها في البوادي، ولا تنطب على الزوجة القاطنة بالمدينة، سواء كانت عاملة أم محتجبة ... "
إن الاجتهادات القضائية السالفة الذكر تقر لنا قاعدة هامة مفادها أن تطبيق مقتضيات السعاية يتعلق فقط بالمرأة العامةل مع زوجها في البادية، وعليها يتأسس القول بكون مقابل السعاية إنما هو حق للمرأة البدوية دون غيرها، ونقصد هنا المرأة الحضرية التي تبقى في منطق هذه الاجتهادات محرومة منن مقابل السعاية.
والملاحظ أن معتمد هذا الرأي في القول بما قال به، هو أن السعاية خاضعة في تطبيق أحكامها للعرف والعم، وهو ما يؤدي بالتبع إلى القول بأن استحقاق مقابل السعاية أو عدم استحقاقه يدور وجودا وعدما مع ما تقرر عرفا وعملا في كل منطقة على حده وهو معتمد فيه من النظر ما يجعل إعادة النظر فيه واجبة وضرورية لأن الأعراف أولا، لا يعرف لها ثبات أو استقرار، وسمتها البارزة هي التغير والتبدل مع تغير الزمان وتبدل المكان، ولأن هناك ثانيا من الناحية الفقهية ما هو أصح في التأسيس، وأقوى في التأصيل للمسألة من أصل العرف والعمل.
ب- الموقف الثاني : مقابل السعاية حق للزوجة البدوية والحضرية على السواء.
يذهب الأستاذ عبد السلام حسن رحو، في معرض تعليقه على الاجتهاد القضائي القاضي بحصر نطاق تطبيق مقتضيات السعاية على نساء البادية العاملات في : أموال أزواجهن إلى أنه اجتهاد " تصح مسايرته لولا التقدم الحاصل في المجال الاجتماعي والاقتصادي للمرأة" اما وأن الأمر ليس كذلك، "حيث لم يعد يلاحظ حاليا أي فرق بين المرأة في البادية والمرأة في الحاضرة في مجال العمل "فإن تمديد" هذا الجتهاد إلى المرأة الحضرية أصبح أمرا ضروريا في الوقت الحاضر إذا ما توفرت وسائل الإثبات المتطلبة شرعا وقانونا" .
ويبدو أن هذا الرأي قد وجد طريقه إلى التطبيق من طرف بعض الجهات القضائية، فقد ذهبت محكمة الاستئناف بالرباط في قرارها رقم 244 الصادر بتاريخ 04/04/2000 بشأن الملف العقاري عدد 6323/1999 إلى أن "الكد والسعاية من لدن المرأة سواء في البادية أاو الحاضرة المعتبر للتعويض عنه، هو المترتب من عمل مكتسب وافر على الحاجيات الشخصية. يصب في ثروة مادية أنشئت اثناء الحياة الزوجية. وهو نفس ماتم تأكيده من طرف المجلس الأعلى بصراحة ووضوح كبيرين حيث جاء في أحد قرارته وهو يناقش الحجج المعتمدة من قبل القرار المطعون فيه مايلي : " كما أن قولها (يقصد المحكمة المصدرة للقرار) بان السند الفقهي والقضائي للكد والسعاية يخص الزوجة العاملة في البوادي ولا ينطبق عمل ىالزوجة القاطنة بالمدينة رغم كدها وسعايتها في تكوني الثروة مع زوجها هو حكم مخالف لمقاصد الشريعة الغسلامية، لأن الفقهاء لا يفرقون بين المرأة البدوية والحضرية في استحقاق ذلك، بل يضعون "العمل والكد والسعاية" هو المعيار لاستحقاق الزوجة لبدل الكد والسعاية"
إن هذين القرارين يقران لنا بوادر توجه قضائي مفاده أن مقابل السعاية هو حق لكل امرأة ليس بوصفها بدوية أو حضرية، وغنما بوصفهها تعمل وتبذل الجهد في مال زوجها، وتسهم في تنمية ثروته وتقيم الدليل عملى ذلك، فالمعيار إذا في تقرير استحقاق مقابل السعاية أو عدمه هو "الكد والاجتهاد" ليس إلا. وهذا مذهب حسن.
2) نطاق تطبيق احكام السعاية من حيث طبيعة العمل المبذول من قبل الزوجة :
لم تعد جهود الزوجات تقتصر كما كان في الماضي على مساعدة أزواجهن في العمل البدائي المتمثل أساسا في العمل الفلاحي وما يتصل به من حرث ودرس للحبوب، وحل وربط للبهائم، ونسج وغزل للأصواف، وإنما تعدته بحكم التطور الحاصل في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية إلى مجالات أخرى ذات صبغة صناعية ومهنية وتجارية.
والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح، يتمثل في تحديد طبيعة العمل الذي يخول للزوجة حق المطالبة بمقابل السعاية، هل هو العمل البدائي المنحصر في العمل الفلاحي وما في حكمه ؟ أم يمكن أن تدخل فيه أيضا أنواع الأعمال العصرية التي أصبحت تشتغل فيها الزوجة إلى جانب زوجها، بالشكل الذي يترتب عنه نما في ثرواته، وزيادة في أمواله ؟
عن لكلا الطرحين / الموقفين وجوده في الاجتهاد القضائي. فما هي مبررات ومستندات كل موقف. وإلى أي حد أخذت بعين الاعتبار طبيعة الأدوار الاجتماعية والاقتصادية التي أصبحت تضطلع بها الزوجة إلى جانب زوجها في هذين الموقفين.
أ- الموقف الأول : العمل البدائي (الفلاحي) السبب الوحيد ف استحقاق مقابل السعاية :
يذهب بع العمل القضائي على أن العمل الذي يخول للزوجة استحقاق مقابل السعاية هو العمل البدائي المنحصر في دائرة الرث والدرس وتربية الماشية، وغي ذلك مما يعتبر من مظاهر العمل الفلاحي.
وممن ذهب هذا المذهب ابتدائية أكادير في حكمها الصادر في الملف رقم 148/91 بتاريخ 02/04/1991، حيث أقرت "أن سعاية الكد المشترك تنحصر في العمل البدائي" . وقد أيد هذا الحكم بالقرار الاستئنافي رقم 1520 الصادر بتاريخ 05/03/1998 في القضية العقارية عدد 2276/97 ومن جملة ما علل به هذا القرار قضاءه بعدم القبول، ان حق مقابل السعاية "لا يثبت إلا للمرأة العاملة في المجال الفلاحي بالبادية" .
غير أن ما أقر من طرف هاتين الجهتين القضائيين من مبادئ وقواعد، تقصر نطاق تطبيق أحكام السعاية على العمل ذي الطبيعة البدائية، لم يسلم من النقد والمعارضة.
وبهذا الخصوص يرى الأستاذ عبد السلام حسن رحو أن القول بقصر استحقاق مقابل السعاية على النساء المباشرات لأعمال بدائية كالفلاحة مثلا، هو قول يمكن أن توجه إليه عدة مآخذ " لعدم مسايرته تطور المرأة ومشاركتها في الميادين الأخرى غير الفلاحية، فكما أن المرأة في البادية تساعد زوجها في الفلاحة فإن المرأة في الحاضرة أيضا تساعد زوجها في المهنة التي يزاولها كما هو مشاهد حاليا في كل المدن المغربية، حيث تساعد زوجها في التجارة والصناعة وغيرهما من المهن التي لم تعد مقتصرة على الرجال .
وفي نظري فإن مساعدة الزوجة لزوجها في غير العمل الفلاحي، ليست خاصة بنساء الحواضر فقط، بل إنه أمر مشاهد في البوادي نفسها، حيث أصبح للنساء دور كبير إلى جانب أزواجهن في أعمال التجارة والصناعة وما في حكمهما.
ب- الموقف الثاني : عمل المرأة كيفما كانت طبيعته يخولها حق الاستفادة من مقابل السعاية :
يذهب هذا الموقف إلى أن حق مقابل السعاية ليس قصرا على الزوجة التي تسعى وتكد مع زوجها في العمل البدائي فقط، وإنما يتعداها إلى الزوجة التي تساعد زوجها في أشغاله الصناعية والتجارية والمهنية وغيرها، الشيء الذي يحمل على القول بأن المعيار الذي ينبغي أن يعتمد لتطبيق أحكام السعاية بهذا الخصوص، ليس معيارا نابعا من طبيعة العمل، وإنما هو معيار موضوعي مبني على أساس كد المرأة وسعيها وبذلها الجهد في مال زوجها، سواء كان ذلك الجهد المبذول من قبلها متمظهرا في شكل عمل بدائي أو غيره من الأعمال.
ونورد للتدليل على هذا الموقف، الحكم الصاد عن محكمة الشرع بتزنيت منذ 1959 والذي قضى "بقسم قيمة الجميع نصفين : نصف للدمنة كما هو الجاري به العمل بهذه البلاد، والنصف الباقي يقسم بين المدعية (ر بنت م) وبين المدعى عليه (م بن ع) لكونهما وحدهما في الدار والسعاية لهما فقط ..." وقد علل هذا الحكم قضاءه ذلك بكون "العمل جرى بثبوت السعاية للنساء في البوادي كما بين في شرح العمليات، خصوصا ما كانت عليه نساء الأزواج المسافرين إلى فرنسا ويتركون أزواجهم يقمن مقامهم في تربية البهائم والأولاد وفي الحرث والحصد ومقابلة أملاكهم، بل ويحضرون في المحاكم يدافعن عن أملاك أزواجهن..." .
إن هذا الحكم كما هو واضح يوسع من دائرة الأعمال التي يخول الاشتغال بها للزوجة الحق في مقابل السعاية، ويجعلها على ثلاثة ضروب، أولها العمل الفلاحي المتمثل في الحرث والحصاد وتربية الماشية وغير ذلك. وثانيها العمل البيتي المعبر عنه بتربية الأولاد، وثالثها ما يمكن أن نسميه بالعمل "القانوني الإداري"، والمتمثل في الدفاع عن أملاك الأزواج في المحاكم، والتقاضي بشأنها صونا لها من التعدي والتضييع.
وبالرغم مما قد يلاحظ على هذا الحكم، خاصة في مدى انضباطه للمرجعية الفقهية التي صدر عنها (شرح العمليات). فإنه يعتبر بخصوص ما نحن بصدد دراسته حكما جريئا ومتميزا، ليس بالنظر لزمانه فقط، وإنما بالنظر أيضا لزماننا وللأحكام والقرارات الصادرة فيه.
خـاتـمـــــة :
وفي الأخير نود الإشارة إلى ما يلي :
1- إن الكثير من المعايير المرجعية المعتمدة فقها وقضاء في تقرير وإنشاء بعض الأحكام والقواعد المتعلقة بهذا الموضوع، لم يعد لها التأثير الكبير الذي يبقيها قاعدة لتقرير تلك الأحكام والقواعد، الشيء الذي يجعل من إعادة النظر فيما بني وأسس عليها فرضا لازما.
ومن تلك المعايير نذكر : معيار التفرقة بين الزوجة الحضرية والزوجة البدوية ومعيار التمييز بين العمل الفلاحي وغيره من الأعمال، ومعيار العرف والعمل ...
2- إن الإختلاف الذي قد يطبع أحيانا الاجتهادات القضائية في القضايا والنماذج التي مثلنا بها لما يتعلق بنطاق تطبيق أحكام السعاية في القضاء المغربي، إنما هو نتاج في كثير من حالاته للاختلاف الموجود حول تلك القضايا في الفقه، إذ ما من اجتهاد في القضاء، إلا وله سلف وسند في الفقه، إلا ما ندر وشذ.
3- وهذا يسلتزم فيما يستلزم، " توحيد وتدوين" أحكام السعاية الواجبة التطبيق أمام القضاء، حتى يتيسر الرجوع إليها بالنسبة للقضاة أولا، وحتى نضع حدا لتباين اجتهاداتهم وما ينتج عنه من ضياع للأوقات والطاقات، بسبب تعلق هذه الجهة القضائية بما لم تتعلق به الجهة الأخرى. وتعلق الثالثة بما لم تتعلق به لا الثانية ولا الأولى، فنقع حينئذ في سلسلة من "الإلغاء" و "النقض" نحن في غنى عنها بخطوة التوحيد والتدوين هذه.
4- وقبل خطوة التوحيد تلك، ومعها وبعدها، لا بد من التكوين الفقهي للقضاة، بما يجعلهم أقدر على التعامل مع مدونات التراث الفقهي، وأجد بالاستنباط الصحيح منها.
وهكذا فإننا أمام خطوتين هامتين مترابطتين : خطوة توحيد أحكام السعاية وتدوينها. وخطوة التكوين الفقهي المتميز للقضاة.
وإن لم تكن هاتان الخطوتان واجبتي الإنجاز والتنفيذ، فإنهما الطريق إلى إقامة الواجب، المتمثل في حسن تطبيق أحكام الفقه أمام القضاء تحصيلا للعدل وتحصينا للحقوق. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
شكرا جزيلا
للاستفادة من موقعنا ابحثوا على الموضوع الذين تريدون، بمربع البحث. نسعى دائما لتطوير موقعنا، شكرا لكم