القائمة الرئيسية

الصفحات



شـرط المنفعـة العامـة في مسطـرة نـزع الملكيـة بيـن سلطـة القضـاء وإكراهـات الواقـع





شـرط المنفعـة العامـة في مسطـرة نـزع الملكيـةبيـن سلطـة القضـاء وإكراهـات الواقـع


                                                           ذ رشيد بوسكري 
مستشار بمحكمة الاستئناف بورزازات 




مقدمــة: 
شئ جميل أن يلتف رجال القانون ومؤسسات الدولة وفعاليات المجتمع المدني - رغم تعدد المشارب واختلاف التوجهات -  حول مائدة الاحتفاء بتخليد الذكرى الذهبية لتأسيس أعلي مؤسسة قانونية تحظى بامتياز مراقبة تطبيق ما خطه المشروع من أحكام، وتعمل جاهدة في  شموخ ومثابرة من أجل توحيد وترسيخ منظومة العمل القضائي من خلال الحرص الدؤوب  على تولفة ما يقوم به الممارسون من فهم وتحليل وتشريع وإنطاق لما تحمله الفصول القانونية من معان مستجلية بذلك مقاصد المشرع ومؤطرة لها بشكل يجعلها تتماشى وما يعرفه المجتمع من تطورات مهولة محاولة تضمنيها في اجتهادات متواثرة وقارة أجمع على تسميتها بالاجتهاد القضائي. وما هذه المؤسسة المحتف بها إلا مؤسسة المجلس الأعلى كمحكمة قانون، والشيء الأجمل أن يتخذ المنظمون لهذا الاحتفاء شعارا محوريا يدور حوله إسهامات الفاعلين ألا وهو شعار: "العقود الإدارية ومجال نزع الملكية للمنفعة العامة وتنفيذ الأحكام الإدارية".  نظرا لما يمثله الموضوع في عمقه من اتصال وثيق بين مختلف الشرائح الاجتماعية حاكمين ومحكومين فاعلين مؤثرين، مشرعين ومنفذين، منظرين ومطبقين في سيرورة التنمية الاجتماعية التي يطمح إليها كل مجتمع شعاره العزة والكرامة.
وقد أسعفني الحظ - وإن كنت لست من دوي الاختصاص – أن أساهم في إحياء هذا المنتدى بهذه المداخلة المتواضعة والتي تبين لي – في إطار البحث ومن خلال الغوص في أعماق المحور المقترح أن نزع الملكية وما يتصل به من إشكالات هو موضوع يفرض نفسه بإلحاح ويستلزم التدخل العاجل والفوري من طرف كل من له صلة به لإيجاد الحلول المناسبة والناجعة لما يتخبط فيه من إشكالات ولم يكن بإمكاني أن ألم ولو نسبيا بالخيوط العريضة لهذا الموضوع دون أن أطلع بعجالة على مستجدات نزع الملكية في القوانين الوضعية – فرنسا ومصر نموذجا – فسرح بي الفضول المعرفي ليعمل بي إلى مقتضيات التشريع المغربي في هذا السياق في محطات ثلاث: بدءا بظهير غشت 1914 ومرورا بظهير ابريل 1951 وانتهاء بقانون 81-7 بتاريخ 6 ماي 1982 . وكان بودي أن أتطرق في هذه المساهمة لبعض الإشكالات التي تطرحها مسطرة نزع الملكية في شقيها الإداري و القضائي لكن ما فتئت ألج مضمار البحث حتى شدتني مسالة أساسية تعتبر النواة لمسطرة نزع الملكية ألا وهي مسألة المنفعة العامة التي جعلها المشرع الركن الركين الذي يفرض نفسه على الادارة النازعة للملكية وعلى الملاك المنزوعة ملكيتهم بالدرجة الأولى وعلى القضاء، كجهاز فاصل بين الطرفين بدرجة ثانية، وأمام ما عرفه هذا المفهوم من تطورات هائلة تفرض نفسها على الباحث بإلحاح في القانون المغربي أو في نظيريه الفرنسي والمصري باعتبارهما أصحاب الريادة في هذا المضمار، فإنني وجدت نفسي مضطرا أن أحصر موضوع هذه المداخلة في هذه الإشكالية القانونية، دون أن يمنعني الأمر من إلقاء نظرة عاجلة على مسطرة نزع الملكية في طورها الإداري باختصار شديد، على اعتبار أن إعلان المنفعة العامة يعتبر نقطة البدء في هذه المرحلة محاولا بذلك وضع القارئ في صورة تقريبية يطل من خلالها على جوانب الموضوع، آملا أن يشفع لي عدم تخصصي في المادة الإدارية، في كل قصور أو نقص قد يعتبر هذه المحاولة. وما ابغي من وراء هذا إلا أن أجد لنفسي موطأ قدم في غابة أدغالها شائكة وثمارها جذبة تستهوى الباحث ليتذوق طعمها رغم صعوبة مسالكها وتشعب مدارجها، إنها غابة البحث في مجال القانون الإداري عموما وموضوع نزع الملكية خصوصا. وإليكم المحاولة وكلي أمل أن أتلمس العذر لديكم فيما قد تجدونه غير مشف لغليل اهتمامكم.
إن نزع الملكية للمنفعة العامة يتم بمقرر إداري وهذه العملية في حد ذاتها قد تتم بمرحلتين مرحلة إعلان المنفعة ومرحلة مقرر التخلي، ذلك أن مقرر إعلان المنفعة العامة يكتفي بتعيين المنطقة التي يمكن نزع ملكيتها أما إذا تضمن إضافة إلى ذلك تعيين الأملاك المقرر نزع ملكيتها وأسماء ملاكيها اعتبر في نفس الوقت مقررا للتخلي، على أن أغلب حالات المقررات تصدر بنفس الطريقة، وتتقدم الجهة التي ستقتني العقار بطلب إلى الجهة المكلفة باقتراح نزع الملكية، ما لم تكن هي نفسها، المؤهلة لذلك، ويتضمن المقترح مذكرة تقديم تبين الغرض من المشروع المراد انجازه وأهميته ونتائجه على المنطقة وكذا المعلومات الضرورية ثم مشروع مرسوم يتضمن في نفس الوقت مقرر التخلي يحدد الهدف من مسطرة نزع الملكية وأرقام القطع والرسوم العقارية وأسماء العقارات وأسماء وعناوين الملاكين والمساحة المفروض نزع ملكيتها، صحبة تصميم طوبوغرافي، وتتخذ بشأن المشروع المذكور إجراءات البحث القانوني لمدة شهرين حيث ينشر بالجريدة الرسمية وبجريدة وطنية أو أكثر ويودع مشفوعا بتصميم لدى مكتب الجماعة التي يوجد بها العقار المراد نزع ملكيته، حيث يعلق نصه الكامل ويمكن لكل من يعنيه الأمر الاطلاع عليه وإبداء ملاحظات بشأنه خلال شهرين تبتدئ بتاريخ نشره بالجريدة الرسمية كما تبعث نسخة من المشروع إلى السيد المحافظ على الأملاك العقارية إذا تعلق الأمر بعقارات محفظة أو في طور التحفيظ ولرئيس كتابة الضبط بالمحكمة الإدارية الذي يوجد العقار الغير المحفظ بدائرة نفوذها لتسجيله في السجل المنصوص عليه في الفصل 455 ق.م. م وبعد انتهاء فترة البحث نكون أمام حالتين: حالة وجود ملاحظات تتعلق بالعقار أو بالمساحة أو بالملاكين، حيث تقوم المصلحة المعنية بدارسة هاته الملاحظات والقيام بالتعديلات اللازمة في هذا الباب، أما إذا لم تكن هناك  ملاحظات فتتخذ الإجراءات اللازمة لإصدار المرسوم النهائي ـ إعلان المنفعة ومقرر التخلي- وتقوم الجهة المقترحة بإخبار السيد وزير الداخلية طبقا للفصل 2 من المرسوم التطبيقي كما يمكن إشعار بعض الوزارات المعنية وطلب موافقتهم على تسليم القطع الأرضية المراد نزع ملكيتها في إطار مسطرة التخصيص أو الاقتناء بالتراضي، ثم يبعث المشروع الى السيد الأمين العام للحكومة لعرض المرسوم النهائي على توقيع السيد الوزير الأول ونشره في الجريدة الرسمية، وتتخذ بشأنه باقي إجراءات الإشهار الأخرى، ونظرا لكون الإدارة غالبا ما تقوم بمحاولة الاتفاق الحبي على مبلغ التعويض حتى ولو فشلت في محاولة الاقتناء بالتراضي، فإن المشروع حدد لجنة تقوم بتحديد التعويض المقترح من طرف نازع الملكية، وبعد الانتهاء من كل هذه الإجراءات تكون المرحلة الإدارية قد انتهت لتتبعها بعد ذلك المرحلة القضائية، ويمكن لكل صاحب مصلحة أن يلتجأ إلى مسطرة الطعن في القرار الإداري إلى الحكم بإلغائه.
هذه بإيجاز الأشواط التي تقطعها المرحلة الإدارية في مسطرة نزع الملكية والتي يتبين من خلالها أن إعلان المنفعة العامة هو العنصر الجوهري فيها تبتدئ به بإعلان شكلياته من صياغة ومضمون وإشهار وتنتهي عنده بالطعن فيه أمام القضاء الإداري من طرف كل ذي مصلحة.
ولعل هذا ما يبرر اقتناعنا الصميم بحصر هذه المساهمة في مفهوم المنفعة العامة وما قطعه من مراحل بدءا من المرحلة التقليدية التي عالج فيها القضاء هذه النقطة وانتهاء بالطفرة التي حققها في هذا السياق أو ما يعرف بمرحلة الاتجاه الحديث، دون أن نغفل خصوصية المغرب كبلد إسلامي وماله من تأثير في تحديد مفهوم المنفعة العامة.
وبناء عليه سوف نتناول هذا الموضوع في 3 مباحث، نحدد في المبحث الاول مفهوم المنفعة العامة وتطورها التاريخي لننتقل في المبحث الثاني إلى مناقشة الاتجاه التقليدي لبلورة هذا المفهوم ثم نعرج في فصل ثان للوقوف عند الاتجاه الحديث الذي عرفه القضاء في هذا السياق لينتهي بنا المطاف إلى أوج التطور القضائي في مناقشة المنفعة العامة أو ما يعرف بنظرية الموازنة، متخذين في كل مبحث ثلاث محطات أساسية نرصد من خلالها مواقف القضاء في فرنسا ومصر والمغرب آملين في كل ذلك أن نسلط بصيصا من الضوء على مفهوم كثيرا ما تجاذبت حوله الأقلام واختلفت حوله الآراء عبر العصور وفي كل التشريعات.













فصل تمهيدي


ان المغاربة ومنذ ان شرح الله صدورهم للاسلام في ق 1 هجرية تمسكوا بتعاليم هذا الدين باجتهادات أئمته المبرزين وعلى رأسهم الامام مالك، وبذلك فإنهم لم يعرفوا نظام نزع الملكية إلا وفق الشريعة الإسلامية التي ثبت من خلال سنة الرسول الكريم (ص) وخلفائه من بعده. انهم نزعوا ملكية بعض العقارات لفائدة المصلحة العامة مقابل تعويض عادل . وقد تمت استشارة علماء المغرب بشأن نظام نزع الملكية من أجل المنفعة العامة بمناسبة اتفاقية الجزيرة الخضراء، المبرمة سنة 1906  التي خصصت الفصول من 113 إلى 119 منها مسطرة نزع الملكية لأجل المنفعة العامة . ولقد اشترطت لتطبيقها اثبات علاقة المنفعة العامة وأداء التعويض العادل ( ف113) وميزت بين كون ذوي الحقوق مواطنين مغاربة، حيث يتخذ جلالة الملك الإجراءات اللازمة لتفادي أي تعرض من طرفهم ( ف115) أو غيرهم، حيث نصت على مسطرة خاصة لتحديد التعويض وأدائه لهم ( ف116ـ 117). وقد كان من أهم العيوب التي شابت هذه الاتفاقية وعرقل سيرها هو عدم تعرضها لجميع تفاصيل المسطرة اللازمة . وأمام هذا النقص جاء القانون الدبلوماسي لسنة 1908، إلا أنه نظرا لمعارضة مجلس العلماء لاتساع مفهوم المنفعة العامة لم يطبق هذا النظام  وقد افتى المجلس عقب هذه الاستشارة أن نزع الملكية في الفقه الاسلامي لا يتم إلا في حالتين: حالة احداث طريق وتوسيعه، وحالة بناء مسجد وتوسيعه وأنه لا يمكن أن يتعدى ذلك إلى غيره من الحالات بأي وجه من الوجوه  وعقب فشل القانون الدبلوماسي أعلاه أصدر الصدر الأعظم منشورا بتاريخ 1/11/1912 يفرض للاعتراف بعقود تملك العقارات من طرف المخزن التزام المالك كتابة بتفويت العقار المملوك إلى هذا الأخير كلما اقتضت الظروف ذلك، يتم هذا التفويت مقابل تعويض يتفق عليه وإلا تم اللجوء إلى مسطرة التحكيم. وبهـذه المقتضيات يكون المنشـور قد فرض بطريقـة غير مباشـرة نزع الملكية  إلا أنه يمكن القول أن أول قانون فعلي لنزع الملكية تم صدوره بالمغرب كان بتاريخ 31/8/1914 الذي أقر النظام النهائي لنزع الملكية  مستمدا مبادءه الأساسية من تجارب بعض الدول التي سبقت للميدان  وقد استمر العمل بهذا القانون إلى سنة 1951 حيث صدر ظهير 3/4/51  الذي أضاف المشرع بمقتضاه بعض المقتضيات القانونية كضرورة استصدار الأمر بالحيازة مقابل تعويض مؤقت وتحديد صلاحية مقرر التخلي في سنتين ومسطرة الاحتلال المؤقت ومسطرة التعويض عن زائد القيمة . 
وبعد تطبيق  هذا القانون لمدة تزيد على 30 سنة صدر ظهير شريف رقم 1.81.254 بتاريخ 11 رجب 1402 بتنفيذ القانون رقم 7.81 المتعلق بنزع الملكية للمنفعة العامة والاحتلال المؤقت وكذا المرسوم رقم 2.82.382 الصادر بتاريخ 1 رجب 1403 موافق 16 أبريل 1953 بتطبيق القانون المذكور والمنشورين في الجريدة الرسمية ع 3685 بتاريخ 15/6/83. والساري المفعول منذ ذلك التاريخ  بعد أن ألغى في فصله 70 ظهير 3/4/1951، حيث أظهرت الممارسة العملية اليومية أن مسطرة نزع الملكية من أجل المنفعة العامة قد أصبحت مسطرة كثيرة التعقيد سواء في مرحلتها الادارية أو في مرحلتها القضائية  وسبب هذا التعقيد يعود بالاساس للنصوص القانونية نفسها بالنسبة للظهيرين السابقين الملغيين فخلص تدخل المشرع في هذا القانون الجديد إلى جعل الإجراءات الإدارية والقضائية المذكورة أصبحت تباشر في مواجهة العقارات موضوع نزع الملكية، من حيث المبدأ، وليس في مواجهة اصحاب الحقوق العينية والشخصية الواردة في تلك العقارات .   
ومعلوم أن الملكية الخاصة مصونة بحكم الدستور والمواثيق الدولية وكذا القوانين الخاصة  ولا يجوز نزعها إلا للمنفعة العامة أو التحسين ومقابل تعويض عادل وفق القانون. ويعتبر نزع الملكية من أهم مصادر تملك الدولة ومؤسساتها للعقارات  التي قد تكون في حاجة إليها سواء تعلق الأمر بالملك العام أو الملك الخاص على أن هذا الأخير يمثل استثناء لما ينطوي عليه من مساس بحق الملكية الخاصة مما جعل المشرعون في جميع الدول التي تحمي الملكية الخاصة يجيزونه في حدود معينة وفقا لاجراءات يتولى القانون تحديدها.
وإذا كان القانون قد أجاز نزع الملكية من أجل المنفعة العامة فإنه لابد أن يكون لهذه المنفعة مفهوم يحددها خاصة وأن المشرع لم يعرف المنفعة العامة ولم يحدده بضوابط معينة تاركا للادارة حرية تحديدها ومن تم يكون هذا التحديد بواسطة اعلان المنفعة العامة وهو قرار اداري تترتب عنه اثار قانونية وقد تخضع للطعن الاداري والقضائي بسبب الشطط في استعمال السلطة.
وإذا كانت سلطة الادارة في تحديد المنفعة العامة سلطة تقديرية فإنها ليست مطلقة إذ يرد عليها قيد عدم التعسف في استعمال السلطة ويجب أن تصدر قراراتها في هذا الشأن بصفة مشروعة وإلا تعرضت للالغاء من القضاء الذي يفرض رقابته على تصرفات الادارة المشوبة بعدم المشروعية وقد تطور القضاء في هذا المجال بأن وصل إلى فكرة الموازنة في الرقابة على شرط المنفعة العامة .  
وبذلك تكون فكرة المنفعة العامة ـ مفهومها ونطاق ممارستها، المراقبة المفروضة على هذه الممارسة ـ قد اعتبر محور المناقشات الفقهية والقضائية في ما يتعلق بالمرحلة الادارية في مسطرة نزع الملكية وسنعالج ذلك في 3 مباحث، نحاول في الاول تحديد مفهوم المنفعة العامة الذي عبر مراحل متعددة تبلورت بتطور دواعي استعماله. ونعالج في الثاني مدى الرقابة التي يمارسها القضاء الاداري على الجهة المخول لها استعمال هذا المفهوم في تبرير نزع الملكية في مرحلته التقليدية لنصل إلى المبحث الثالث نتطرق خلاله إلى ما وصلت إليه رقابة القضاء لهذه الممارسة في مرحلتها الحديثة.
المبحث الأول: مفهوم المنفعة العامــــة
************
ان مفهوم المنفعة العامة عرف تغييرا مواكبا لتطور المجتمعات وينبغي بالتالي رصد هذا التغيير انطلاقا من بعض القوانين والاجتهاد القضائي، خاصة موقف القضاء الفرنسي والمصري، باعتبارهما من أصحاب السبق في هذا المجال.
وبصفة المغرب بلدا اسلاميا، عرف تطبيق مبادئ الشريعة الاسلامية، ولكون هذه الأخيرة تعتبر مصدرا من مصادر القانون المغربي ينبغي بادئ ذي بدء التعرض لمفهوم المنفعة العامة على ضوء الشريعة الاسلامية .
وتبعا لما ذكر سوف نتناول هذا المبحث من خلال مطلبين: الأول مفهوم المنفعة العامة في الشريعة الاسلامية، والثاني: مفهوم المنفعة العامة في القانون الوضعي.
المطلب الأول: مفهوم المنفعة العامة في الشريعة الاسلامية
أثيرت بالمغرب قضية نزع الملكية لأجل المنفعة العامة في اطار مدى تطابقها مع احكام الشريعة الاسلامية أثناء مناقشة مشروع اتفاقية الجزيرة الخضراء  وكذا أثناء اعداد ظهير 1914،  ومادام الله هو خالق كل شيء وأن العبد مستخلف فيحق بناء على احكام الشريعة الاسلامية التي تهدف إلى التضامن بين جماعة المسلمين والتعاون وتحث على الانفاق في سبيل الله  ـ ومساعدة المستضعفين ـ أن ننزع الملكية مادام القصد هو اسعاد المسلمين في استعمال ما نزع في القصد المعلن. ومن أبرز الدلائل على جواز نزع الملكية في الشريعة الاسلامية قصد تحقيق اهداف يستفيد منها كل مسلم ما وقع في عهد الرسول (ص) وبعده، فلقد روي أن الرسول (ص) دخل المدينة المنورة، فتزاحم الانصار لاستضافته فامسكوا بزمام ناقته، فقال لهم: "دعوها إنها مأمورة"، حتى توقفت في مكان معين فقال: "هذا منزلنا"، وكان يوجد به مربد لبيع التمر في ملك يتيمين، وبه حديقة ومسيل لمياه الامطار، وقبور للمشركين فتم نزع الملك ودفع المقابل إلى ولي اليتيمين لكونهما محجورين وخصص لبناء مسجد  علما أن المسجد كان يشكل بمثابة المقر الرئيسي للقيام بأمور الدين والدنيا.
وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ضاق المسجد بالمسلمين فاستوجب الامر توسيعه واستدعى اصحاب الدور اللازمة لذلك وطلب منهم الاختيار بين:
- اما البيع فأثمن لكم من بيت المال أو أخط لكم حيث شئتم في المدينة وابني لكم
- واما الهبة فأشكر
- واما الصدقة على المسجد.
استجاب المعنيون بالامر لطلب خليفة المسلمين حسب اختيار كل واحد منهم بين تلك المسائل الثلاثة، إلا أن العباس رفض أي حل فأمره الخليفة بهدم داره فأبى. وإذ ذاك احتكما إلى أبي بن كعب الذي روى لهما حديثا للنبي (ص) " إن انزه البيوت من الظلم بيتي". فتنازل عمر إلا أن العباس قبل مع ذلك الهدم فبنى له عمر دارا .
ولقد وقع في عهد الوليد بن عبد الملك أن تم نزع ملكية منازل بعضها في ملكية أزواج النبي (ص) وورثة فاطمة الزهراء وحفصة إلا أنه تجدر الاشارة في حالات أخرى أنه تم التمييز بين ما إذا كان الملاك قد استقروا قبل اقامة المسجد. وهنا لا يمكن نزع الملكية من أجل توسيعه واذا استقروا بعد بنائه، أمكن نزع الملكية . 
وقد يبدو للبعض أن نزع الملكية غير حائز بناء على عموم بعض الآيات مثل قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بالباطل) وقول الرسول (ص): " لا يحل مآل امرئ إلا بطيب نفسه". فهكذا يرى عبد الواحد ناصر ان هذا التحريم ينطبق على الدولة ايضا وأورد فتوى بمقتضاها فإن العلماء لم يوافقوا على نزع الملكية في عهد حكم الظاهر بيبرس 
ان المنفعة العامة لا يضحى بها حتى من اجل فئة معينة، فطبيعة البشر هي تمني الأحسن. ففي هذا العصر، لا نزاع في ان مصلحة المسلمين تتطلب بناء العديد من المرافق والمشاريع، فكيف يمكن تنمية المجتمع الاسلامي اذا رفض ملاك الأراضي المعينة تفويتها بالمراضاة تعنتا لعدم عمق ايمانهم بمبادئ الشريعة الاسلامية.
وإذا كان العلماء قد ضيقوا نطاق تطبيق مسطرة نزع الملكية اثناء استشارتهم لاعداد قانون نزع الملكية بالمغرب وأن حالات نزع الملكية التي أفتوا فيها تتعلق بالمساجد. فالعلماء لاشك أنهم تخوفوا من سلب ملكيات المسلمين بدون مقابل عادل أكيد ويجب تفهم موقفهم في اطار مرحلة تاريخية لها دلالتها  لأنه لم يكن في الماضي مطروحا انجاز مشاريع من غير الطرق والمساجد هذه الأخيرة كانت تكون على العموم مرفقا عاما بواسطته تسير أمور الناس .  
واذا كان هذا هو حال مفهوم المنفعة في الشريعة الاسلامية  في موضوع نزع الملكية فما هو حال ذلك في القانون الوضعي؟
المطلب الثاني:  مفهوم المنفعة العامة في القانون الوضعي 
ان نزع الملكية من طرف السلطة العامة أو من تفوض له ذلك. وفي اطار النصوص القانونية التي تنظمه يهدف دائما إلى تحقيق مشروع ما يتسم بطابع المنفعة العامة فتكون هذه الأخيرة تبعا لذلك مناطا لنزع الملكية تدور معه وجودا وعدما  وفكرة المنفعة العامة مرادفة لفكرة المصلحة العامة ومناقضة تماما لفكرة المصلحة الخاصة. ويمكن تعريف الأعمال التي تستهدف المنفعة العامة بأنها الاعمال التي ترمي إلى خدمة المجتمع، سواء كان بطريق مباشر أو غير مباشر  
واذا كان المشرع قد علق نزع الملكية على شرط المنفعة العامة إلا أنه لم يعرفها أو يحدد لها ضوابط معينة تاركا للادارة حرية تحديدها، والادارة في تحديدها لشرط المنفعة العامة تتمتع بسلطة تقديرية تتمثل في وجهين أساسيين:
الوجه الأول: حرية الادارة في اختيار العقار المناسب دون تدخل من جانب القضاء الاداري في هذا التقدير.  
الوجه الثاني: حرية الادارة في تقدير المساحة المطلوبة نزع ملكيتها لتنفيذ المشروع. فلا يجوز للافراد مجادلة الادارة في هذا الشأن بالقول انها نزعت ملكية مساحة أكثر من القدر المناسب والملائم للمشروع. وباستقراء معظم القوانين الوضعية تبين ان من أقدم النصوص التي استعملت مفهوم المنفعة العامة هو القانون المدني الفرنسي الصادر سنة 1804 بعد أن كان التصريح العالمي لحقوق الانسان والمواطن قد استعمل مفهوم المنفعة العامة في فصله 17 وكان كلا النصين إذ هما اجازا نزع الملكية لأجل المنفعة العامة قررا وجوب أداء تعويض عادل حتى لا يؤدي الا الاستناد إلى حرمان المواطن من حقه دون مقابل إلا أن التعويض لم يكن كافيا للاستناد الى ذلك المفهوم لانجاز أي نوع من المشاريع. ذلك انه اقترن آنذاك بنزع الملكية من اجل تكوين الملك العمومي وتنفيذ الاشغال العمومية وهو ما كان يساير اكثر الضرورة العامة على اعتبار ان تلك المشاريع تشكل حاجة ملحة بالنسبة للجماعة. ونظرا لعدم دقة مفهوم المنفعة العامة. فلقد عرف تطورا نتيجة تدخل الدولة وتفسير الاجتهاد القضائي، ففي نهاية القرن 19 ابرز الاجتهاد القضائي الفرنسي مفهوم المرفق العمومي خاصة بصدور قرار بلانكو  بعد ان اصبحت الدولة تتدخل لانشاء مرافق عمومية متعددة لم يكن لها شأن بها قبل. 
إذ أصدر المشرع عدة قوانين تنظيم مرافق جديدة يمكن نزع الملكية لتحقيقها . وبالنسبة للمشرع المغربي فمما لاشك فيه أن واضعي ظهير 31/8/1914 حول نزع الملكية لأجل المنفعة العامة والاحتلال المؤقت قد تأثروا بتلك القوانين وبالتفسير القضائي لمفهوم المنفعة العامة ولاسيما ان مشروع قانون في الموضوع كان قد تم عرضه على البرلمان الفرنسي سنة 1911  ولذلك تفادوا تحريف مفهوم المنفعة العامة، وبقي الباب مفتوحا حتى تتمكن السلطة العامة أو من تخوله حق نزع الملكية من انجاز اشغال معينة دون أن تكون بالضرورة تتوفر على خصائص محددة. كما أن ظهير 3/4/1951 احتفظ بجوهر ما جاء به الظهير السابق، في حين أن القانون الجديد رقم 81/07 لم يسر على منوالهما إذ اكتفى بالتصريح فقط ان نزع الملكية لا يتم إلا إذا اعلنت المنفعة العامة بمرسوم يتخذ بناء على اقتراح من الوزير المعني بالامر . كما أشار في فصله 3 بذكر أشغال أو عمليات معلن انها ذات منفعة عامة دون سرد امثلة لها  ولقد أحسن القانون الجديد صنعا عندما تحاشى التعرض حتى لمجرد *** امثلة تفاديا لكل ما من شأنه تقييد مفهوم المنفعة العامة.
لكنه يلاحظ عمليا، أن مفهوم المنفعة العامة لم يعد يعرف قيودا معينة محددة مسبقا أمام تداخل عدة عوامل منها التطور الذي تعرفه مختلف المجتمعات الذي افرز حاجيات جديدة تتطلبها حياة السكان كلا أو جزءا والدور الذي أصبح يلعبه الخواص في التنمية بشكل أو بآخر وسعي المواطنين والقانون إلى مزيد من الرقابة على الاموال العامة وتزايد عمق مراقبة القضاء لأعمال الادارة. كل هذا أصبح يؤدي إلى صعوبة تعريف مفهوم المنفعة العامة تعريفا دقيقا وهو آخذ في الاتساع.
المبحث الثاني:  الاتجاه التقليدي في الرقابة على شرط المنفعة العامة
*******************
إذا كان القضاء عموما والقضاء الاداري على وجه الخصوص مطالب بعدم التضييق على الادارة وبايجاد حلول مرضية للتوفيق بين الرغبة في ممارسة السلطة العامة المخولة لها وضرورة تمكين الافراد من الحرية، فإن الادارة مطالبة بأن تضع نفسها في افضل الظروف والاحوال للقيام بهذا التقدير وأن تجريه بروح موضوعية بعيدا عن البواعث الشخصية ودافع الانتقام. وفي ظل هذا التصور يمكن القول بعدم امكان وضع مقاييس محددة مسبقا لمراقبة حالات انحراف الادارة في استعمال سلطتها التقديرية والأمر موكول أولا وأخيرا للاجتهاد القضائي  وباستقراء احكام القضاء سواء قضاء مجلس الدولة الفرنسي ـ باعتباره الرائد في هذا الميدان ـ وكذلك القضاء الاداري المصري ـ الذي لا يقل أهمية من القضاء الفرنسي ـ ثم قضاء المجلس الأعلى المغربي يمكن القول أن القضاء الاداري في البلدان الثلاث في مراقبته لشرط "المنفعة العامة" الذي تعتمد الادارة عليه في نزع الملكية لم يغير من الشرط الجوهري اللازم لنزع الملكية وهو توافر منفعة عامة تبرر هذا الاجراء، ذلك أن هذه المنفعة تعتبر "المبرر المشروع"  للسماح للادارة بنزع الملكية.
وبذلك سوف نقوم بدراسة هذا الاتجاه من خلال اطلالة سريعة على موقف القضاء الاداري في كل من فرنسا ، مصر والمغرب من خلال الفروع التالية:

الفرع الأول: موقف القضاء الفرنسي:

باستقراء احكام قضاء مجلس الدولة الفرنسي في مراقبته لشرط المنفعة العامة، يمكن القول ان القضاء الفرنسي مر بثلاث مراحل تمسك خلالها بشرط المنفعة العامة باعتباره المبرر الوحيد لنزع الملكية.
 المرحلة 1:  المنفعة العامة لا تتوفر إلا في حالات معينة.
في هذه المرحلة كان القضاء الاداري الفرنسي يقر بقيام المنفعة العامة المبررة لنزع الملكية، مثال ذلك: نزع الملكية للقيام بأشغال عامة كإقامة الطرق أو الميادين العامة. فهذه الأشغال هي التي كانت وحدها ـ من جهة نظر القضاء ـ تبرر نزع الملكية وهي في الوقت ذاته كافية لتبرير هذا النزع ويمكن التأكيد أنه خلال هذه المرحلة التي امتدت من تاريخ انشاء مجلس الدولة الفرنسي حتى أواخر القرن الماضي، كانت حالات نزع الملكية محدودة للغاية، خاصة وأنه في بداية الأمر كان القضاء يشترط أن يكون نزع الملكية للضرورة العامة Necéssitée publique .  ولكن القضاء الفرنسي ـ مجاريا في ذلك المشرع ـ حل فكرة "المنفعة العامة" محل الضرورة العامة حتى تتمكن الادارة من المضي قدما في تنفيذ الأعمال اللازمة لتحقيق النفع العام في شتى المجالات: الاجتماعية والصحية والاقتصادية بل حتى الجمالية .  
المرحلة 2:  فكرة المرفق العام
في هذه المرحلة توسع المشرع الفرنسي في حالات نزع الملكية من أجل تحقيق المنفعة العامة وذلك بالربط بين فكرة المرفق العام والمنفعة العامة. فقد أجاز المشرع الفرنسي نزع الملكية من أجل حماية الصحة العامة، أو تحقيق اهداف اجتماعية كتوفير السكن لذوي الدخل المحدود أو رعاية الشباب بإقامة ميادين رياضية، بل وأجاز نزع الملكية من أجل تجميل المدن .  
وحتى يتمكن القضاء من مجاراة المشرع في هذا الصدد، فقد اتخذ اتجاها جديدا مؤداه الربط بين "المرفق العام" و"المنفعة العامة" وتفصيل ذلك: "ان الادارة إذ تزاول انشطتها اليومية عن طريق تقديم خدمات للجمهور محققة بذلك "منفعة عامة"، كتوصيل المياه الجارية للمنازل والكهرباء وخدمات النقل العام فإنها تقوم بتقديم هذه الخدمات عن طريق "المرفق العام" لذلك يكون من الطبيعي أن يصبح هذا المرفق المعيار الذي تتحدد به مشروعية أنشطة الادارة بمعناها الواسع الهيئات المركزية (الدولة والوزارات) والهيئات اللامركزية (الجماعات المحلية) لذلك فإن الانشطة التي تقوم بها المرافق العامة كانت تبرر استخدام هذه الوسيلة الاستثنائية المجحفة التي يعرفها القانون العام: نزع الملكية بمعنى أن يكون هناك مبرر لنزع الملكية في كل مرة يتطلب الأمر فيها تنفيذ أنشطة المرفق العام وقيامه بأداء وظيفته .         
ومن تطبيقات ذلك، قضى القضاء الفرنسي بصحة القرار الصادر بنزع الملكية من أجل إقامة معرض دائم أو سوق مغطى أو توسيع أحد المعسكرات الضيقة، أو إقامة قاعة الاحتفالات العامة أو إقامة أحد بيوت الشباب  واعتبر كل ذلك يدخل ضمن أنشطة المرافق العامة وتقام من أجل "منفعة عامة" وتبرر من تم نزع الملكية ويكون القرار الصادر في ذلك الشأن قرارا صريحا لا يمكن النعي عليه ب"الانحراف في السلطة".
لكن مع تطور نظرية "المرفق العام" وما عرفته هذه النظرية في تحديد نطاقها وابعادها  خاصة بعد أن اتسع تدخل الدولة في الحياة اليومية ولجوء الدولة إلى الأخذ بأساليب أخرى غير المرفق العام لتحقيق المنفعة العامة لم يعد معيار المرفق العام صالحا في هذا المجال فاتجه القضاء الفرنسي للبحث عن معيار جديد.
المرحلة 3: فكرة المصلحة العامة
في هذه المرحلة عرف القضاء الاداري الفرنسي، تطورا هائلا  حيث قرر في أحد قراراته أنه: "يتوفر شرط المنفعة العامة المبرر لنزع الملكية حيث يكون هناك مصلحة عامة يستند إليها قرار نزع الملكية . ففي قضية Cambiero كتب مفوض الحكومة يقول: "ليس من الضروري لتبرير نزع الملكية، التمسك بنظرية المرفق العام، يكفي توافر "المصلحة العامة" لذلك فإن القرار الصادر بنزع الملكية في القضية المذكورة، من أجل اقامة أحد دور الشباب، نظرا لما يحققه من مصلحة عامة، يتوافر بالنسبة له شرط المنفعة العامة .
وبذلك لم يعد من الضروري أن يستند قرار نزع الملكية على نص صريح يقرر أن الهدف الذي يسعى القرار إلى تحقيقه شرط "المنفعة العامة"، فهذا الشرط يعتبر متوافرا متى كان القصد من وراء القرار تحقيق "المصلحة العامة". وينبني على ذلك أنه متى توافرت فكرة تحقيق المصلحة العامة لاحد المشروعات فإن هذا يضفي على القرار الصادر بنزع الملكية من اجل اقامة هذا المشروع مشروعية تمتد لتشمل ايضا ملحقات المشروع   بل أكثر من ذلك، فإن مجلس الدولة ذهب في حد اعتماده فكرة "المصلحة العامة غير المباشرة" وكان ذلك بمناسبة قضية "فندق وكازينو مدينة نيس"  وكان من الصعب تصور "المصلحة العامة" التي يحققها القرار حتى يمكن القول بتوافر شرط "المنفعة العامة" إلا اذا استند القرار إلى ما يمكن أن يؤدي إليه المشروع من زيادة الموارد المحلية وانتعاش حركة السياحة في المدينة ولكن مجلس الدولة الفرنسي فضل على هذا التبرير ما قرره" من أن ازالته هذا الفندق القديم سيسمح بتخطيط المنطقة على نحو يتيح، بالاضافة إلى الفندق الجديد والكازينو، اقامة دار بلدية جديدة. وبذلك يتوافر في قرار نزع الملكية شرط المنفعة العامة بطريق غير مباشر  وهذا الاتجاه الذي أخذ به القضاء الفرنسي في هذه المرحلة  يعتبر تمهيدا لتحول هائل سنناقشه في المطلب الموالي بعد الوقوف على موقف كل من القضاء المصري والقضاء المغربي في هذا السياق.
الفرع 2: موقف القضاء المصري
قبل صدور الحكم الخاص بقضية "عزبة خير الله"  كان للقضاء الاداري موقفا تقليديا لا يختلف كثيرا عن موقف القضاء الاداري الفرنسي فيما يتعلق برقابة القضاء على قرارات نزع الملكية فقد كان القاضي الاداري المصري يقف برقابته عند مراقبة "مدى صحة الوقائع المادية" دون الخوض في مدى تقدير ملاءمة القرار  وباستقراء احكام القضاء الاداري في مصر تؤكد هذا الاتجاه. فقد درجت احكامه ـ منذ زمن طويل ـ على التسليم بسلطة الادارة التقديرية في تقرير توافر منفعة لمشروع معين وضرورة نزع عقار بعينه دون غيره لاقامة هذا المشروع.
فمناط نزع الملكية هو ان تتوافر في الواقع المنفعة العامة التي تدعيها الادارة من وراء اقامة هذا المشروع، ورأي الادارة في هذا المجال لا معقب عليه من القضاء. فلا يسمح لأحد ادعاؤه ان ما تراه الادارة محققا للنفع العام لا تتحقق معه هذه المنفعة أو أن العقارات التي اختارت الادارة نزع ملكيتها أو المسار الذي حددته لطريق ليس الاختيار الامثل وأن عقارا أو مسارا آخر كان سيحقق على نحو أفضل المنفعة التي تدعيها الادارة . 
وهكذا جاء في أحد الأحكام أن ما اشترطه القانون لجواز نزع الملكية هو ان تكون ثمة منفعة عامة يراد تحقيقها من وراء نزع الملكية. فكلما كان هناك نفع عام جاز نزع الملكية من أجل تحقيقه، ومادام أن القانون قد اطلق مجال التقدير في هذا الشأن للسلطة التنفيذية فلا محل للقول بوجوب قصر سلطة الحكومة في نزع الملكية على مشروعات النفع العام التي تقوم بها الشركات أو الافراد لأن النص مطلق فكلما كان هناك منفعة عامة يراد تحقيقها جاز نزع الملكية ولو كان القائم بالمشروع فردا أو شركة خاصة .
وفي نفس السياق قررت المحكمة الادارية العليا في حكم آخر أن للجهة نازعة الملكية ان تتصرف في العقارات التي ادخلت في مشروع المنفعة العامة للتحسين على النحو الذي يحقق اهداف المشروع سواء بالاستغلال المباشر أو بطرحها للجمهور وفق ما تراه متفقا مع الصالح العام .
وذهب مجلس الدولة المصري في بسط  سلطة الادارة التقديرية في نزع الملكية إلى حد أن أجاز للادراة نزع ملكية الارض رغم كونها موقوفة على البر: لأن الوقف لا يسمو على اجراءات نزع الملكية كلاهما مقرر ليتحقق النفع العام . 
لكن الاحكام السابق بيانها والاتجاه الذي يستخلص منها يجعلنا نغفل حقيقة هامة مؤداها، أن القاضي الاداري كان برقابته لقرارات نزع الملكية، يراقب كذلك، الغاية التي كانت الادارة تسعى إلى تحقيقها وأن هذه الغاية ـ تحقيق المنفعة العامة ـ اذا تبين للقاضي ان الادارة تسعى إلى تحقيق غاية لا تتوافر فيها صفة المنفعة العامة، انما ستخدم قرار نزع الملكية لتحقيق غايات أخرى تتوافر فيها هذه الصفة ، فإنه ومازال في نطاق الرقابة على صحة الوقائع يقضي ببطلان القرار .
وهكذا يتضح من الاحكام المسردة أعلاه أن القضاء الاداري في مصر، قبل صدور حكم "عزبة خير الله" يقف عند حد التأكد من صحة الوقائع فحسب دون ان يتجاوز ذلك إلى الخوض في دائرة الملاءمة التي جعلها من الاختصاص المطلق للادارة.
الفرع 3: موقف القضاء الاداري المغربي
لم تكن مقررات اعلان المنفعة العامة قابلة للطعن بالشطط  في استعمال السلطة قبل انشاء المجلس الأعلى  تطبيقا للقاعدة التي كانت مقررة في الفصل 8 من ظهير 12/8/1913 المتعلق بالتنظيم القضائي. ولقد فسر القضاء هذا الفصل بأنه يسمح بمراقبة صحة القرارات الادارية دون الغائها عن طريق اسلوب الدفع بعدم المشروعية. وكان هذا الأسلوب يجد سندا قانونيا له في موضوع نزع الملكية. وإذا كان الفصل 2 من ظهير 31/8/1914 ينص على أنه لا يجوز للمحاكم أن تأمر بنزع الملكية إلا إذا وقع التصريح بالمنفعة العامة طبق الكيفية المقررة في الباب الاول والثاني من الظهير .  
ففي هذا السياق قضت محكمة الاستئناف بالرباط في قرار لها بتاريخ 28/05/1951 بأنه إذا لم يكن في وسع السلطة القضائية تقدير شرعية جوهر القرارات الادارية فإنها ملزمة تطبيقا للفصل 2 من ظ 31/08/1914 قبل النطق بنزع الملكية بمراقبة القيام بجميع الاجراءات المبينة في الباب الاول والثاني، وكانت نتيجة ذلك القرار أن النطق بنزع الملكية لم يتم، الشيء الذي أدى عمليا الى الغاء التصريح بالمنفعة العامة والاجراءات اللاحقة به . واستطرادا في نفس المعنى قضت المحكمة بأن مقرر اعلان المنفعة العامة لا يخضع من حيث شرعيته الجوهرية لتقدير السلطة القضائية . 
وعند صدور ظهير 8/4/1951 نص في فصله الثاني  على انه لا يجوز للمحاكم أن تأذن في نزع الملكية إلا إذا تم التصريح بالمنفعة طبق الكيفيات المقررة في القانون. أما القانون الجديد رقم 81/7 فتضمن في فصله الاول أن نزع الملكية لا يجوز الحكم به إلا إذا اعلنت المنفعة العامة ولا يمكن اجراؤه إلا طبق الكيفيات المقررة في هذا القانون.
 وهكذا يتضح أن المشرع المغربي لازال يمنح المحاكم حق مراقبة الاجراءات الادارية لنزع الملكية إلا أنها تبقى مراقبة ناقصة لا تمس الشرط الاساسي وهو المنفعة العامة.
وإذا كان القضاء عموما والقضاء الاداري على وجه الخصوص مطالبا بعدم التضييق على الادارة وبايجاد حلول مرضية للتوفيق بين الرغبة في ممارسة السلطة العامة المخولة لها وضرورة تمكين الأفراد من الحرية  فإن الادارة مطالبة من جهتها بأن تضع نفسها في أفضل الظروف والاحوال للقيام بهذا التقدير. وأن تجريه بروح موضوعية بعيدا عن البواعث الشخصية وتبعا لذلك فإنه لا يوجد قرار تقديري في جميع عناصره بل توجد بعض النواحي التقديرية بدرجات مختلفة في جميع القرارات . 
وفي ظل هذا التصور يمكن القول بعدم امكانية وضع مقاييس محددة مسبقا لمراقبة حالات انحراف الادارة في استعمال سلطتها التقديرية والأمر موكول اولا وأخيرا للاجتهاد القضائي.
ومن خلال استقراء بعض نماذج الغرفة الادارية بالمجلس الاعلى  يتضح أن القضاء لا يتعرض لتقدير الادارة في حد ذاته لكن للظروف والملابسات التي أحاطت به وكلما تبين أن تلك الظروف لا يمكن معها اجراء تقدير سليم. تكون الادارة قد خرجت عن الالتزام القانوني مما يعرض قراراتها للالغاء. ومن هنا تعددت الطعون المقدمة من الاطراف في مجال نزع الملكية للمنفعة العامة ـ على شكل دعوى الالغاء المرفوعة ضد مراسيم السيد الوزير الاول أمام الغرفة الادارية.
وإذا كان دور المحاكم الادارية منحصرا على الخصوص في مراقبة الاجراءات التي تقوم بها الادارة في مجال نزع الملكية وامكان الغائها وحمل الادارة ـ أحيانا ـ على تصحيح هذه الاجراءات والاقتصار على تحديد التعويضات المناسبة دون امكان مراقبة دواعي واسباب نقل الملكية من أجل المنفعة العامة أي دون امكانية مراقبة نوعية هذه المنفعة ومدى ثبوتها أو عدم ثبوتها فإن دور الغرفة الادارية بالمجلس الاعلى، وان كانت تعتبر جهة استئنافية في هذه المادة، فإنها تنفرد بالبث في طلبات الغاء القرارات الصادرة بنزع الملكية للمنفعة العامة إذا تبين انحراف الادارة في استعمال سلطتها التقديرية . 
وإذا كان المشرع عندما علق نزع الملكية على تحقيق المنفعة العامة قد ترك تحديد تلك المنفعة للادارة فلم يقيدها في هذا الصدد بقيود محددة ذلك أن المرسوم الصادر بنزع الملكية هو الذي يقرر المنفعة، ولم يحدد القانون أركان هذه المنفعة لأنها تختلف باختلاف الظروف والأحوال، فإنه قصد من ذلك تخويل الادارة صلاحيات واسعة في هذا المجال الحيوي .
وبناء  على ما سبق يمكن استخلاص الاتجاه الذي سلكه القضاء المغربي في رقابته على قرارات نزع الملكية. هذه الرقابة التي لم تتجاوز مراقبة الادارة في قيامها باجراءات باعلان نزع الملكية للمنفعة العامة ولم تنصب على شرط المنفعة العامة حتى يتسنى له التأكد من مدى توافره من عدمه .  
خلاصة المبحث: يستخلص من هذا المبحث أن القضاء الاداري في كل من فرنسا ومصر عرف تطورا مهما في الرقابة على شرط المنفعة العامة سواء كانت مباشرة ـ مواكبا في ذلك الاتجاه الذي سيسير عليه التشريع كما أن هذه الرقابة استمرت في التوسع، فبعد ان كان القضاء يقف عند حد التأكد من وجود "منفعة عامة" في الرقابة على قرارات نزع الملكية. خطى خطوة جبارة وتجاوز ذلك الحد وبدأ ينظر الى مدى ما يحققه القرار من فائدة "ـ تحقق أكبر قدر من المصلحة العامة" وذلك عن طريق الموازنة بين الفائدة التي يحققها المشروع والمصالح التي يمسها، أي ينظر الى فكرة "المنفعة العامة" بشكل أعم وأوسع، نظرة موضوعية بتقسيم كافة المصالح الموضوعة في الميزان والتي يمسها قرار نزع الملكية. 
هذا الاتجاه الحديث سوف نعالجه في المبحث الموالي.





المبحث الثالث:   الاتجاه الحديث في الرقابة


***************
ـ نظرية الموازنة ـ 
مفهوم نظرية الموازنة:
تعني نظرية الموازنة أنه لتقدير شرعية مشروع أو عملية ما واعتبارها من المنفعة العامة يتعين معرفة ما تحققه من مزايا وفوائد، والوقوف على ما ترتبه من أضرار واعتداءات على الملكية الخاصة، وما تستلزمه من نفقات وتكاليف مالية ـ مع الأخذ في الاعتبار الاضرار الاقتصادية والاجتماعية للمشروع وإقامة موازنة بين هذه العناصر بحيث لا يمكن اقرار المشروع إذا جاءت الاضرار والاعباء المترتبة عنه مفرطة للمزايا والمصلحة التي يحققها .
وتبعا لذلك يتطلب مبدأ الموازنة بين الاضرار والمنافع أن يضع القاضي الاداري الآثار الناجمة عن القرار الاداري في ميزان العدالة: مزاياه في كفة وأضراره في أخرى قبل أن يقرر أيها أولى بالرعاية. 
والميدان الذي ولد فيه مبدأ الموازنة ـ ويمثل مجاله الرئيسي في التطبيق يتمثل في مسألة نزع الملكية من أجل المنفعة العامة وعلى الأخص قرارات اعلان المنفعة العامة فيها ـ فقبل سنة 1971 لم يكن للقاضي الاداري أن يفحص الظروف المحيطة بنزع الملكية في كل حالة على حدة ـ وإنما كان يعتمد على التأكد فقط من هدف هذه العملية وهو بالطبع تحقيق المنفعة العامة .  
هذا القضاء انتهت مرحلته بسبب حكم بالغ التطور اصدره مجلس الدولة الفرنسي بتاريخ 28/05/71 وبمقتضاه فإن المنفعة العامة في مشروع نزع الملكية لن تقدر بصورة منعزلة عن الظروف المحيطة به أي بالمشروع، حيث أصبح للقضاء الاداري أن يقدر مدى تحقق هذه المنفعة في ضوء الاضرار التي تلحق بالملكية الخاصة، علاوة على التكلفة المالية للمشروع، إضافة الى المضار ذات الطابع الاجتماعي المحتمل وقوعها . 
وتأسيسا على ما ذكر عندما يتم الطعن في قرار اعلان المنفعة العامة، يقوم قضاء الالغاء بالتأكد أولا من توفر المنفعة العامة المبررة لنزع الملكية. وإذا توافرت عليه أن يقدرها إذا كان من شأن تنفيذ مشروع نزع الملكية ان يترتب من الاضرار المالية أو الاقتصادية أو الاجتماعية ما يفوق كثيرا المنفعة العامة ـ المستهدفة بصورة مشرطة أم لا؟ ليخلص بعد ذلك إلى تقدير توافر عنصر المنفعة العامة من عدمه . أي انتقل بذلك القضاء من نطاق بحث مدى "مشروعية القرار" أي فحص القرار للتأكد من سلامته من الناحية القانونية إلى مكان فحص مدى "ملاءمة القرار" وهو ما يعتبر تطورا هاما أقره القضاء الاداري الفرنسي وتبعه القضاء الاداري المصري في ذلك.  
    ويتعين لإيضاح هذا الاتجاه، أن نستعرض على التوالي موقف القضاء الاداري الفرنسي وموقف القضاء الاداري المصري ثم نحاول بيان موقف القضاء المغربي في هذا المجال.
المطلب الأول:    الاتجاه الحديث في القضاء الفرنسي.
يبتدئ الاتجاه الحديث للقضاء الاداري الفرنسي، ابتداء من صدور قرار مجلس الدولة الشهير المتعلق بقضية "المدنية الشرقية الجديدة" والتي كان من المقرر إقامتها شرق مدينة 'ليل' الفرنسية ، ومن التمعن في القرار الصادر عن مجلس الدولة والتعليقات الفقهية بشأنه يتضح أن مجلس الدولة الفرنسي سار في اتجاه جديد يوسع من سلطات القاضي في الرقابة على قرارات نزع الملكية، بحيث لا يكتفي القاضي بالنظر الى المنفعة العامة التي يحققها قرار نزع الملكية نظرة مجردة، بل يجب عليه أن يتجاوز هذا الحد وأن ينظر الى مدى ما يحققه القرار الصادر بنزع الملكية من "فائدة" تحقق أكبر قدر من "المصلحة العامة "وذلك عن طريق "الموازنة" بين "الفائدة" التي يحققها المشروع و"المصالح" التي يمسها أي أن ينظر الى فكرة "المنفعة العامة" بشكل أعم وأوسع، نظرة موضوعية تسمح بتقييم كافة المصالح الموضوعية في الميزان والتي يمسها القرار القاضي بنزع الملكية  وتطبيقا لهذا الاتجاه، سار مجلس الدولة الفرنسي في هذا المنحى الجديد وهو تقييم قرار نزع الملكية في ضوء مزاياه وعيوبه أخذا بعين الاعتبار ما ابداه مفوض الحكومة BRAIBANT  من ملاحظات في تقديره الخاص في قضية "المدنية الشرقية الجديدة" .
وتماشيا مع ما جاء في تلك الملاحظات صدر في القضية المشار اليها مقررا مفاده : (أن أي مشروع لا يمكن أن تتوافر فيه صفة المنفعة العامة إلا إذا كانت الاضرار التي يلحقها بالملكية الخاصة والتكلفة المالية التي يقتضيها والآثار الاجتماعية الناجمة عنه متوازنة مع ما ينشأ عنه من منفعة) .   
ولقد لقي هذا الحكم ترحيبا وتأييدا من جانب الفقه الفرنسي فقرر البعض أنه لا يملك إلا التأييد التام لهذا الاتجاه القضائي الجديد وتمنى لو استمر القضاء في هذا الاتجاه ووسع من رقابته على قرارات نزع الملكية، ووصف البعض الحكم المذكور بأنه "قرار" جريء وسعيد"، وأن "العبارات تعجز عن الاشادة به" .    
والحقيقة التي يمكن استخلاصها من تعليقات الفقه الفرنسي على الحكم المذكور، أن مسلك القضاء الفرنسي في موضوع نزع الملكية عدا استثناءات قليلة، لم يكن كافيا لحماية الحريات الفردية في مواجهة الادارة، بحيث كان الغاء قرارات نزع الملكية امرا ناذرا، لأن توقف القاضي عند النظر في "صحة الوقائع" كان سيجعل من الصعب عليه أن يقرر تخلف شرط المنفعة العامة. لذلك كان الفقه يتطلع إلى رقابة أكثر فعالية من جانب القاضي، خاصة في وقت تطورت فيه المفاهيم الاجتماعية وتعددت فيه المصالح الاقتصادية وصارت بعض المصالح الخاصة تختلط بالمصلحة العامة لما لها من تأثير على خلق فرص العمل وانعاش المناطق التي تعمل فيها أو الاقتصاد القومي بوجه عام .   
وانطلاقا من الحكم الصادر في قضية "المدينة الجديدة الشرقية" أخذ القضاء في التوسع في الرقابة على مدى "المنفعة العامة" التي تعود من وراء القرار. موازنا في ذلك بين "مزايا وعيوب المشروع" وتوالت بعد ذلك عدة أحكام في نفس السياق . 
 ومن خلال ما ذكر يتبين أن نظرية الموازنة حضيت بتطبيقات مهمة في قضاء مجلس الدولة الفرنسي، لكن رغم المكاسب التي أتت بها في مجال تعميق الرقابة على القرارات الادارية فإنها قوبلت بنوع من الحيطة والحذر بل ومن النقد أحيانا من طرف الفقه وهو ما يدفعنا الى التطرق لتقييم هذه النظرية.
تقييم نظرية الموازنة:
لاشك أن موقف القضاء في قضية "المدينة الشرقية الجديدة" يعتبر مسلكا جديدا في قضاء الدولة الفرنسي مقارنة مع الرقابة التقليدية على قرارات اعلان المنفعة العامة التي كانت تقف عند الرقابة المجردة. غير أن هذا الاستحداث في مجال الرقابة على الرغم من أهميته على مستوى حماية حقوق الافراد من تعسفات الادارة المحتملة، وإن كان قد قوبل بإشادة وترحيب من طرف غالبية الفقه فإن جانبا آخر من الفقه لاحظ أن من شأن هذا الاتجاه توسيع سلطات رقابة القاضي لتمتد إلى جانب الملاءمة وفي ذلك مساس بمبدأ الفصل بين السلطات، ذلك أن تطبيق نظرية الموازنة قد يؤدي بالقاضي الاداري إلى القيام بتقديرات فنية صعبة يستحيل عليه أحيانا القيام بها بالنظر إلى وسائل التحقيق التي توجد بين يديه.
ورغم هذا النقد الموجه لنظرية الموازنة فإن الجانب الأكبر من الفقه يذهب الى أن الرقابة التي استحدثها مجلس الدولة الفرنسي في قضية "المدينة الشرقية الجديدة". رغم ما يحمله في طياته من تدخل القاضي لبحث الملاءمة في محل القرار فإنها لا تخرج عن إطار رقابة الشرعية. لأن هذا البحث ليس سوى وسيلة للتأكد من مشروعية قرار اعلان المنفعة العامة بمطابقته لمبدأ الموازنة باعتباره من المبادئ القانونية العامة التي تلتزم الادارة باحترامها وإلا بات قرارها المخالف لهذه المبادئ غير مشروع. والقاضي الاداري هنا لا يلغي القرار لعدم الملاءمة وإنما لعدم المشروعية وهو لا ليحل محل الادارة في اتخاذ القرار الملائم في هذا الشأن وانما يعيد الامر اليها لاعادة التقدير بصورة أخرى.   
ويبقى مؤكدا بعد ذلك، أن هذا المبدأ يزود القضاء بسلاح فعال لحماية المشروعية ضد تعسف الادارة ليس فقط على مستوى حق الملكية الخاصة، وانما ايضا على مستوى المصالح الاقتصادية، ومن تم فإن نظرية الموازنة بما تضعه من ضوابط على ممارسة السلطة التقديرية للادارة في مجال نزع الملكية على نحو يجعلها سلطة مقيدة تخضع في ممارستها لشروط واضحة، فإنه يقدم ضمانا للافراد ضد تجاوزات السلطة التقديرية للادارة.
المطلب الثاني:  موقف القضاء المصري
باستقراء احكام القضاء الاداري المصري نجد الحكم الصادر في القضية المعروفة باسم "عزبة خير الله" والذي يمكن اعتباره بداية الاتجاه الحديث لهذا القضاء ولفهم هذا الاتجاه يتعين بسط وقائع القضية والمبادئ التي قررها هذا الحكم . 
الوقائع:
تتلخص وقائع القضية في ان محافظ القاهرة اصدر قرارا لصالح شركة "المعادي للتنمية والتعمير"، يقضي بتسليم الأرض المملوكة للدولة المعروفة "بعزبة خير الله" بمنطقة دار السلام وازالة التعديلات على هذه الارض وهدم ما عليها من منشآت ومباني عددها ما يقارب 20 الف مسكن ويقطن بها ما يقرب من 50 ألف نسمة وقد طعن اثنان من هؤلاء السكان  في قرار محافظ القاهرة وطلبا من القضاء الاداري بصفة مستعجلة بوقف التنفيذ للقرار المطعون فيه وفي الموضوع بالغاء هذا القرار واعتباره عديم الاثر وكأن لم يكن وذلك اعتمادا على المبررات التالية:
-1- ان القرار يمس آلاف الكادحين الذين اقاموا مساكنهم من اموالهم الخاصة من عشرات السنين ويقيمون فيها بما يحفظ كرامتهم. 
-2- ان المحافظة التي تقوم بالهدم والتشريد سبق لها ان اصدرت قرارا يحمي حيازة هذه المجموعة لمبانيهم التي شيدوها على ارض الدولة. وهو القرار رقم 982 باريخ 23/05/70 الذي قرر عدم ازالة اية تعديلات على ارض الدولة اكتفاء بالحصر وتحصل رسم انتفاع من الشاغلين ونسب 5°/° من المدد السابقة.
-3- سبق للمحافظة ان اصدرت القرار رقم 53 بتاريخ 28/5/73 بالموافقة على بيع مثل تلك الاراضي للافراد طالما أقيمت عليها مبان تشغلها ارواح وذلك بثمن قدره 7 جنيهات للمتر وقد تم تنفيذ هذا القرار في مناطق أخرى "بعزبة دسوقي" المجاورة لعزبة المدعين.
-4- إن قرار الازالة والتشريد المطعون فيه ولد معدوما لافتقاده شرط المصلحة العامة اللازم لاصدار مثل هذا القرار، اذ لا يعقل ان يتم تشريد عشرات الآلاف من الارواح وهدم عشرات الالاف من المنازل بما يتناقض وسياسة الدولة في التعمير وذلك في سبيل ارضاء شركة لتقسيم الاراضي أو مشروع استثماري.
ونظرا لهذه الاعتبارات،  استجابت المحكمة لطلب الطاعنين فأوقفت تنفيذ القرار المطعون فيه وهو ما لم يلق قبولا من جانب محافظة القاهرة والشركة المستفيدة من القرار المطعون فيه فطعن كل واحد منهما في قرار القضاء الاداري امام المحكمة العليا فأصدرت حكمها بتاريخ 9/3/91 الذي قضى برفض الطعن.
المبادئ: أهم المبادئ التي استحدثها حكم "عزبة خير الله"، سواء الصادر عن محكمة القضاء الاداري أو المحكمة الادارية العليا، تبين ان القضاء الاداري المصري اقترب في هذا الصدد من نظيره الفرنسي:
فالحكم الصادر من محكمة القضاء المصري خالف المبادئ المستقرة في شأن قرارات نزع الملكية، انه لم يقف عند التأكد من توافر المنفعة العامة، بل يلاحظ ان الادراة تسعى الى تحقيق مصلحة" الحفاظ على املاك الدولة"، لكن القاضي الاداري يبحث عن الاضرار التي قد تصيب مصالح عامة أخرى، ويقرر ان القرار المطعون فيه يكون قد ضحى بوجه مصلحة عامة أخرى "تتمثل فيما سيلقاه عدد كبير من المواطنين من هدم لمنازلهم وتشريدهم. وانتهى الحكم الى الموازنة بين وجهي المصلحة: الحفاظ على املاك الدولة وحماية العدد الهائل من المواطنين من التشريد. فرجح الثانية على الاولى مقدرا انها أولى بالعناية وأحق بالتغليب . 
فهكذا كان واضحا امام القضاء المصري بجلاء: حماية الملكية العامة والتعمير وفقا للاسس العلمية السليمة، وهي تعتبر مصالح عامة ولاشك فيها وتحقق بذاتها "فائدة عامة" لا تنكر وكان لابد ان يستجيب القاضي الى تلك الاعتبارات، إذا هو أخذ بفكرة "المنفعة المجردة". لكن القضاء فضل الاخذ بقكرة النظر الى "المنفعة العامة" نظرة موضوعية تحليلية، فالحكم المذكور، وبما أتى به من مبادئ، وما تضمنه من احكام، يعد "فريدا من نوعه" لكن لا يمكن الاعتماد عليه بمفرده للقول انه يمثل اتجاها جديدا للقضاء الاداري المصري، لأن ما جرى عليه العمل، الا يعتبر الحكم الواحد دليلا كافيا على اتجاه جديد بل يستلزم الامر صدور عدة احكام حتى يتسنى القول ان المبادئ المستقرة فيها اضحت "مبادئ مستقرة" . 
المطلب 3:  موقف القضاء المغربي
اذا كان يمنع على القاضي الاداري المغربي البحث فيما اذا كانت المنفعة العامة المدعى بها تبرر الإلتجاء الى نزع الملكية أم لا، والفصل فيما إذا كان القدر المطلوب نزع ملكيته أكثر مما ينبغي لتحقيق الغاية التي تسعى اليها الادارة، فإنه على العكس من ذلك، له ان يبسط رقابته اذ ادعى المنزوعة ملكيته ان وجه المنفعة العامة المدعى به غير قائم اطلاقا وان اجراء نزع الملكية يهدف بالدرجة الاولى الى حرمان المالك من ملكه مقابل تعويضات زهيدة لأن تلك الرقابة تدخل في اختصاص القضاء الاداري على اساس ان المصلحة العامة هي القيد الخارجي لكل سلطة تقديرية . 
وذهب البعض  الى القول: ان القاضي الاداري في المغرب كانت سلطته في هذ المجال مقيدة الى حد كبير ومحدودة وأن سبب قرار المنفعة العامة هو حالة واقعية تتمثل في حاجة المواطنين الى انشاء مرفق عام او تحسين او اقامة مشروع عام. وعليه فإنه لكي تقول الادارة بتوافر المنفعة العامة التي تبيح نزع الملكية الفردية يتعين ان توجد هذه الحالة الواقعية فعلا وللقضاء كامل الحق في ان يراقب وجود هذه الحالة الواقعية فإن له ان يلغي قرار المنفعة العامة ولا تتمتع الادارة بأي سلطة تقديرية في خصوص القول بوجود الحالة الواقعية، فمتى ادعت وجودها فقد اصبح الامر تحت انظار القضاء ليتثبت من حقيقته.
وتطبيقا لهذا المبدأ، يمكن القول انه لا يجوز للادارة أن تلجأ الى نزع الملكية لمجرد تحقيق الكسب المادي. وفي هذا البيان تعددت الطعون التي قدمت ضد قرارات نزع الملكية من اجل المنفعة العامة امام الغرفة الادارية، ويبقى القاسم المشترك لهذه الدعاوى، هو تمسك اصحابها بأن الادارة قد خرجت عن دورها المتمثل في تحقيق المنفعة العامة المنشودة من خلال قرار نزع الملكية.
والجدير بالذكر انه منذ انشاء الوكالة الوطنية لمحاربة مدن القصدير والصفيح صدرت عدة قرارات بنزع الملكية للمنفعة العامة وقع الطعن فيها امام الغرفة الادارية بالمجلس الاعلى وباستقراء لهذه القرارات نحاول الوقوف على بعض ما يعكس الى حد بعيد ـ دور القاضي الاداري في مراقبة السلطة التقديرية للادارة.
(1) القرار الاداري الصادر بتاريخ 10/12/1992 في الملف الاداري عدد 10023/92، بين الشركة العقارية "ميموزا" والسيد الوزير الاول: ذلك ان الشركة المذكورة سبق لها ان طلبت رخصة لانجاز تجزئة على ارض محفظة تملكها مساهمة منها في مشروع التنمية السكنية والقضاء على مدن الصفيح وحصلت بالفعل على هذه الرخصة وحققت التجزئة على القطعة الاولى بنفقة مبالغ مالية هائلة، وما كادت تشرع في تجهيز القطعة الثانية حتى صدر مشروع مرسوم بنزع الملكية عن السيد الوزير الاول نشر بالجريدة الرسمية عدد 5913 بتاريخ 28/10/87 يتعلق بالارض المشار اليها، فطعنت في القرار المذكور الذي ألغاه المجلس الاعلى بتاريخ 14/2/91 في الملف دد 10316/89 بعلة أن دفوع الادارة بخصوص كون القرار المذكور لا يتعدى كونه مشروع مرسوم لم يحدث بعد اي أثر قانوني، ولم يمس بمركز الطاعنة ، لا ترتكز على  اساس مادام ان مشروع المرسوم المذكور قد صدر بالجريدة الرسمية الامر الذي يضفي عليه طابع الرسمية ويعطيه اجلا ثابتا. كما انه نص في فصله 3 على الجهة التي عهد اليها بنزع الملكية، اضافة الى انه قد نشر في نفس الجريدة اعلان ورد فيه انه خلال اجل شهرين، ابتداء من نشر المرسوم المبين نصه، مما يعني ـ يقول المجلس الاعلى ـ ان الادارة نفسها رغم ما تدرعت به، قد اعطت المشروع المذكور، الذي نشر بالجريدة الرسميةـ اثرا قانونيا ـ والمشار اليه في ف 11 ورتب عليه حقوقا واسقطت اخرى، خصوصا عندما قررت أن اجل شهرين المنصوص عليه في ف 10 من قانون نزع الملكية، يلزم المعنيين بالامر خلال الأجل المذكور ان يعرفوا مستأجري الاراضي الزراعية والمكترين وغيرهم وإلا بقوا وحدهم مدينين لهؤلاء بالتعويضات التي يطالبون بها".




وقد استنتج المجلس الاعلى من كل هذه البيانات ان مشروع المرسوم المشار اليه اعلاه شأنه المساس بحقوق الافراد. مما يجعل طلب الالغاء مقبولا.
وبالنسبة للجوهر ارتكزت الغرفة الادارية في قرارها بالغاء المسوم المذكور على الاخلال بمقتضيات ف 6 من قانون 81/7، الذي ينص على انه تعلن المنفعة العامة بمرسوم ينفذ باقتراح من الوزير المعني بالامر معتبرة ان هذا الاجراء يعتبر جوهريا لاشراك المصالح المعنية بالامر في العملية المقصودة ولما يكتسبه كذلك من ضمانات.
وفي الوقت الذي كانت فيه الشركة الطاعنة تنتظر مصير الاتصالات الجارية بين الوزارة الاولى وبعض الادارات خاصة وزارة المالية في شأن اجراء مبادلة عقارية بينها وبين الدولة المغربية في شأن الارض التي يملكها، فوجئت بمرسوم جديد بنزع ملكية للمنفعة العامة، ويتعلق بأرضها المذكورة، نشر بالجريدة الرسمية عدد 4114 بتايخ 4/9/1991 فسارعت الى الطعن في القرار المذكور عن طريق دعوى الالغاء معيبة على المرسوم المذكور من جهة، خرق القانون والشطط في استعمال السلطة، لأن الادارة لم تسلك المسطرة المنصوص عليها في قانون نزع الملكية للمنفعة العامة وخصوصا في فصوله 6/9/10، مكتفية بالاعتماد على ما سبق اتخاذه من تدابير واجراءات في نطاق المرسوم الاول الذي يرجع الى تاريخ 12/05/1980 والذي انتهى مفعوله بعد تخلي الادارة عنه وفي نطاق مشروع المرسوم المشار اليه الذي الغاه المجلس الاعلى، معيبة على الادراة من جهة أخرى انها وضعت يدها على العقار الذي اصبح مجهزا في جزء كبير منه وعمدت الى تفويت قطع أرضية الى الخواص . وبرجوعنا الى قرار المجلس الاعلى  المشار اليه الذي الغى المرسوم الجديد القاضي بنزع الملكية للمنفعة العامة يتبين انه ركز قضاءه على " المنفعة العامة" التي تدرعت بها الادارة لاصدار المرسوم المطعون فيه قد تحققت بالفعل عبر المشروع الذي انجزت الطاعنة جزءا هاما منه باعتراف الادارة نفسها وموافقتها الواضحة والصريحة على ذلك، مما تكون معه الادارة قد تمسكت بوجوب نزع الملكية المذكورة للمنفعة العامة متدرعة بسلطتها التقديرية ـ قد انحرفت في استعمال هذه السلطة". وقد استدل المجلس الاعلى على ذلك بسلوك الادارة الذي تمثل في استغلال ظروف الطاعنة، ووضعية سيطرة الادارة على عقارها ـ حيث قامت ببيع قطع جهزتها الطاعنة بوسائلها الخاصة وبأموالها وبموافقة الادارة المسبقة، مما يكون معه الهدف الذي توخته الادارة اولا وأخيرا من هذه العملية هي تحقيق كسب مادي على حساب مصالح الشركة الطاعنة" . 
ولقد علق بعض الممارسين  على هذا القرار بالقول انه يجسد الى حد بعيد حرص القضاء الاداري على مراقبة الاهداف والأغراض الحقيقية التي تتوخاها الادارة في حالة نزع الملكية للمنفعة العامة، رغم الموقف وصعوبته، مستعينا ببعض الظروف والملابسات القائمة ونوعية سلوك الادارة وتعاملها والنوايا الحقيقية المتوخاة من قرار نزع الملكية للمنفعة العامة.
(2) لقد جاء قرار المجلس الاعلى الصادر تحت عدد 500 بتايخ 7/5/97 ملف اداري 63/95 منشور بمجلة ق م أ عدد 51 ص 238: ان الاتجاه الحديث في القضاء الاداري لا يكتفي بالنظر الى المنفعة العامة المتوخاة من نزع الملكية نظرة مجردة، بل يتجاوز ذلك الى النظر فيما يعود به القرار من فائدة تحقق اكبر قدر من المصلحة العامة. ويمكن للقاضي الاداري في هذا المجال ان يوازن بين الفوائد التي سيحققها المشروع المزمع انشاؤه والمصالح الخاصة التي سيمس بها. وبذلك يمكن تقييم قرار نزع الملكية على ضوء مزاياه وسلبياته والمقارنة بين المصالح المتعارضة للادارة او الخواص. في نطاق المشروعية المخولة لقاضي الالغاء عن طريق اجراء من اجراءات التحقيق كالخبرة مثلا . ولقد جاء في حيثيات القرار: إن أرضية هذه المقارنة متوفرة في النازلة باعتراف الادارة نفسها التي أكدت ان الطاعنين اعدوا بدورهم مشروعا سموه "تجزئة البيضاء" بتاريخ 30/7/1992. 
وحيث ان الامر يتطلب قبل البث في الموضوع اجراء خبرة تمهيدية لتحديد طبيعة مشروع الادارة واثاره على المصلحة العامة بالمقارنة مع مصلحة مالكي الارض.
ولئن كان المجلس الاعلى يكتفي في اجتهاده السابق بمراقبة بعض عناصر النزاع المتعلقة بالنصوص والمسطرة، يعني المشروعية الخارجية لفعل نزع الملكية  فإنه في هذا القرار قد تجاوز ذلك للنظر في المضمون الحقيقي للمشروع الذي يستلزم نزع الملكية  ومما لاشك فيه، فقد أحدث القاضي بهذا التعليل منعطفا ذا أهمية قصوى في مجال نزع الملكية وتبدو العبارة بمثابة قطيعة مع الاجتهاد التقليدي فكونها تحيل على اتجاه جديد وحديث في مجال القضاء الاداري، فلقد خلص بدون شك الى ان الوقت قد حان لكي لا يقتصر على مراقبة ما إذا كانت الشكليات البسيطة قد احترمت، وأن يتبرأ من دوره الحقيقي كقاضي ينظر في الطعون ضد الشطط في استعمال السلطة، خاصة وانه في هذا المجال لا يجب النظر الى الشطط كمجرد خرق للنصوص بل كانحراف للفلسفة التي يستمد منها مفهوم نزع الملكية وهنا تكمن أهمية هذا القرار  وخلافا للطرق الكلاسيكية والتقليدية، المتعلقة بدراسة نزع الملكية تأتي نظرية الحصيلة  التي تبناها المجلس الاعلى لتدقيق وسائل استقصاء المراقبة القضائية ولتساعد القاضي على فحص البواعث الظاهرة التي غالبا ما تقدمها الادارة موازاة مع الاسباب الغير الظاهرة أو العميقة والتي غالبا ما تعمل على اخفائها لكونها لا تتماشى في بعض الاحيان ومتطلبات المصلحة العامة. والأهم في السلطات التي اكتسبها القاضي المغربي في هذا المجال هو تقديره لما لم يمكن ان ينتج عن نزع الملكية المزمع اجراؤه من سلبيات يتعين تقييمها بالمقارنة مع المصلحة العامة التي هي المحدد الرئيسي لنزع الملكية. فعلى هذا المستوى بالضبط تندرج نظرية الحصيلة في صلب التحليل ذلك فإن تقدير نزع الملكية يتم باعتبار الضرر الذي يحدثه للمصلحة الخاصة. وهذا ما يفهم من قرار "الابيض" أعلاه وبالنظر الى كلفته المالية وكلفته الاجتماعية ـ عندما يقوم القاضي برقابة شبيهة برقابة "الملاءمة" وهذا له أثر احتياطي لكون شبح الالغاء يحث الادارة على أن تدرس بدقة مشاريعها المتعلقة بنزع لملكية لكي تتوفر شروط المشروعية الخارجية، كذلك الشروط المتعلقة بالدوافع الكامنة وراء نزع الملكية واثارها على المنفعة العامة .
لقد فتح "قرار الابيض" الصادر عن المجلس الاعلى المجال نحو مراقبة عملية نزع الملكية من اجل المصلحة العامة لا فيما يتعلق بالجوانب المسطرية فحسب، كما كان عليه الحال منذ ما يزيد عن 30 سنة، بل فيما يتعلق كذلك بمراقبة مشروعية المنفعة العامة. ثم ان المفاهيم التي استعملها المجلس الاعلى في قراره لم تأت بصفة تلقائية فهي تدل على القصد الصارم للقاضي في ان يستبدل اتجاهه التقليدي بآخر جديد وحديث. ولم يكن من باب الصدفة كونه وظف هذه الفكرة في تعليل قراره. وإذا اعتبرنا بأن هذه الاشارة لم تكن متداولة في اجتهاده: فيمكن القول بعزمه على احداث تحول لن يحول دون ان يميز ولو من بعيد ميدان نزع الملكية بحيث ستكون حالات الالغاء أقل مما كانت عليه في الماضي.
مما لاشك فيه أن المجلس الاعلى لم يشر في قراره الى السلبيات ذات الطابع الاجتماعي او الى المس بالمصالح العامة الأخرى إلا انه أصر على فكرة التوازن بين انجاز لمشروع والمصالح الخاصة التي سيمس بها نزع الملكية. وهذا يفترض ان يكون مدعوا ـ حسب الحالة التي سينظر فيها ـ الى اعتماد تعليل شامل لكل المظاهر المرتبطة وبحث لجميع النقاط التي من شأنها تسليط الضوء على طرق استدلاله، بيد ان هذا البحث، ليكون تاما، يلزمه ان يشمل جانب السلبيات التي يشير اليها في هذه النازلة.
ان قرار "الابيض" ليس على اية حال هو الاخير في مجال نزع الملكية، ونأمل ان يكون بداية لفتح آفاق واسعة صوب تكريس سلطات الرقابة الممنوحة للقاضي والتي لن تعرف قيودا إلا بوجود نص قانوني غير قابل للتأويل.
خلاصة المبحث:
من غير شك أن الحرص على الحقوق والحريات العامة للافراد وهو من أنبل وأسمى ما يهدف اليه كل مهتم بمجال القانون، يدفع الى المطالبة بالمزيد من الرقابة الفعالة لضمان حقوق الافراد اتجاه النشاط الاداري، لكن مع الحرص في الوقت ذاته على ألا يتجاوز القضاء الاداري المخول له اداء هذه الرقابة، حدود سلطاته فيغوص بعيدا في مجال الملاءمة .    
ان نظرية الموازنة ـ رغم النقد الموجه اليها من طرف الفقه ـ لا تعني ان القضاء الاداري الفرنسي (93) قد تخطى حاجز الملاءمة في القرار الاداري، خارقا بذلك المبادئ المتعارف عليها، وانما حاول فقط توسيع رقابته لتمتد للعناصر الواقعية في القرار، لأنه من غير المعقول تقدير شرط المنفعة العامة بمعزل عن الظروف الواقعية المتحكمة فيه.
صحيح ان خطوط التمييز بين الملاءمة والشرعية دقيقة جدا وتتداخل احيانا، لذلك ينبغي أن يكون القاضي على جانب كبير من الحيطة والحدر في تطبيقه لهذه النظرية، وأن يقف بها عند حدود الملاءمة المقيدة للشرعية ـ انظر هامش . ـ وأكثر من ذلك كان على مجلس الدولة الفرنسي مثلا في سياق تطبيقه لهذه النظرية ـ أن يبث في قضايا اثارت جدلا في الرأي العام وأدت الى وقوف الادارات العمومية ضد بعضها  بل ان هذا القضاء كان له اثر هام من الناحية العملية، فتمت اذاعته على نطاق واسع على المرافق المليئة بمنشورات وزارية .
ولقد تدخل المشرع الفرنسي اخيرا، ففرض التزاما بتقديم دراسة عملية تأييدا لمشروعات الاشغال التي تنفذها الادارة او ترخص بها .  
 وخلاصة القول، لا نملك إلا أن نؤيد هذا المسلك الجديد بمعزل عن الظروف الواقعية المنتجة له اذ القول بخلاف ذلك قد يجعل من رقابة الشرعية، رقابة صورية أو على الأقل محدودة وضيقة، لكن هذا التأييد يجد حده الطبيعي في عدم تخطي الملاءمة الخالصة في القرار الاداري.
خاتمــة:
إن الاتجاه الحديث الذي خلص اليه القضاء الاداري في مراقبة شرط المنفعة العامة قد لقي تقديرا كبيرا من طرف أساتذة الفقه الاداري   انه إذا لم يمارس تلك الرقابة بحيطة وحذر، فإن القضاء الاداري قد يجد نفسه مضطرا لاتخاذ مواقف سياسية. وبذلك أصبح بالامكان طرح مجموعة من التساؤلات حول هذا المنحى الذي اتخذه القضاء بشأن هذه الرقابة ويبقى السؤال الأساسي:
- هل تدخل الرقابة التي يمارسها القاضي، ضمن ما له من حق تكييف الوقائع فيما يمارسه من رقابة المشروعية على قرارات الادارة الصادرة بموجب ما لها من سلطة تقديرية أم أن القاضي الاداري بموجب هذا الاتجاه الجديد انتقل الى آفاق جديدة أي ممارسة قضاء الملاءمة؟           



المراجع المعتمدة:
1) الكتب:
- "نزع الملكية بين الشريعة والقانون"                         د محمد خليل
- "نزع الملكية من أجل المنفعة العامة"                         د كشبور
- "شرح قانون نزع الملكية من أجل المنفعة العامة في ضوء ق المغربي والقضاء والفقه والتطبيـق"   ذ البشير باجي، - "المرحلة القضائية في نزع الملكية (بالفرنسية)
      في المغرب". رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا               علي موساعد بالمدرسة الوطنية للادارة العمومية: 1989
   - "نزع الملكية في أحكام الشريعة ونصوص القانون"             جمال الدين أحمد
   - "المختصر في القانون الاداري المغربي" طبعة 1985          عبد القادر باينة
   - "حقوق الافراد إزاء المرافق العامة"                            محمد فؤاد مهنا
   - "نزع الملكية للمنفعة العامة ـ دراسة مقارنة-"                عزت صديق طنيوس، دكتوراه دولة 1988 
   - "مجلس الدولة قاضي الوقائع: دراسة مقارنة مصرـ فرنسا"   علي سمير صفوت
   - "رقابة القضاء على قرارات الادارة العامة في انجلترا": عمر محمد مرشد الشريكي، (رسالة دكتوراه جامعة القاهرة 1988)
   - "رقابة القضاء الاداري على قرارات نزع الملكية"              نبيلة عبد الحكيم كامل
2) المقالات:
- "نزع الملكية للمنفعة العامة كأحد مصادر تملك الدولة ومؤسساتها للعقارات"               ذ محمد نجاري
      (الندوة الاولى للقضاء الاداري 18 ـ 19/5/1995)
- "دور القضاء الاداري في الرقابة على شرط المنفعة العامة"          د حميدو أكري (المرجع السابق)
- التأمين ونزع الملكية في الشرع الاسلامي            مجلة دعوة الحق ع 6 ص 30
- المسجد في في الاسلام، مقال محمد توفيق بليغ:     مجلة عالم الفكر ص 289
- مقال عيبالانحراف في السلطة في مجال نزع الملكية للمنفعة العامة: منتصر الداودي (ندوة القضاء الاداري) 
- فتاوي الجمعية العمومية المصرية:قسم القانون والتشريع ـ قسم الرأي بمجلس الدولة 
- تطور الرقابة على شرط المنفعة العامة في حالة نزع الملكية.   ذ اليعكوبي عبد العزيز.    من خلال نظرة الموازنة (ندوة القضاء الاداري) 

تعليقات