القائمة الرئيسية

الصفحات



السياسة الجنائية المغربية في إطار الجريمة المتلبس بها






السياسة الجنائية المغربية في إطار الجريمة المتلبس بها




الاستاذ ابراهيم زعيم
الرئيس الأول المحكمة الاستئناف بمراكش

كرم الله الإنسان بقدر من الحرية، بغية تحقيق حد أدنى من آدميته، ففرض على المجتمع أن يجعل من حقوقه الأساسية التي لا يجوز تفويتها من لدن أي كان أمرين اثنين:

الأمر الأول: 
حق كل فرد من المجتمع في العلم بماهية الأنشطة التي يعتبر إتيانها من طرفه جريمة، وحقه كذلك بالجزاء المقابل لإخلاله بتلك الضوابط.

الأمر الثاني:
 اعتبار كل شخص بريئا إلى أن تثبت إدانته بمحاكمة عادلة أمام جهة قضائية توفر فيها للمتهم أو الظنين كافة الضمانات ابتداء من البحث إلى صدور الحكم النهائي البات الذي يضع حدا للخصومة الجنائية.

فأمام ضرورة تلبية الحقين الآنفي الذكر، كان على المشرع المغربي أن يعمد إسوة منه بغالبية التشريعات الوضعية المعاصرة في البلدان المتقدمة إلى إقرار منظومة جنائية موضوعية "القانون الجنائي" وشكلية "قانون المسطرة الجنائية" هذه الأخيرة تروم أساسا إلى تقوية الضمانات المخولة للمتابعين في مواجهة كل جور ناجم عن تعسف في تأويل النصوص أو تجاوز في تطبيقها كما هو الحال بالنسبة للجريمة المتلبس بها، التي تشكل أداة جد فعالة لسياستنا الجنائية.

لذا، فالسؤال الذي نعتبر طرحه والإجابة عنه باقتضاب مسالة أساسية لتناول موضوعنا هو هل استطاعت النصوص الناظمة للجريمة المتلبس بها أن تعكس لنا سياسة جنائية فاعلة تراعي الحريات الفردية وحقوق الدفاع؟ أم أن فكرة النظام العام أرخت بظلالها وتغلبت على الحريات الفردية؟؟

نستطيع الإجابة عن ذلك من خلال الوقوف عند الإطار العام للسياسة الجنائية (المبحث الأول= وبحث الجريمة المتلبس بها على ضوء السياسة الجنائية المغربية (المبحث الثاني) حتى يتسنى لنا الإدلاء ببعض الملاحظات المستخلصة (المبحث الثالث)

المبحث الأول: الإطار العام للسياسة الجنائية:

إن أي مجتمع يتوفر على هياكل وتنظيمات، إلا وله سياسة جنائية تهدف إلى ضمان الحماية والبقاء داخله. وهو يمكن استنباطه من خلال القواعد القانونية والممارسات الجاري بها العمل (1).

وللإحاطة بالإطار العام للسياسة الجنائية وجب تحديد مضمونها (أولا) والخطوط العريضة التي تحكمها (ثانيا) ليتسنى لنا إبراز توجهاتها في بلدنا العزيز(ثالثا).

أولا: مفهوم السياسة الجنائية
اختلف الفقه في التعريف السياسة الجنائية،و بالتالي في وظيفته داخل المجتمع،و قد عرفها البعض(2) بأنها مجموعة الوسائل التي تحددها الدولة كرد فعل ضد الجرائم المرتكبة، أو رد فعل الدولة ضد الجريمة عن طريق قانون العقوبات. 

هذا التعريف وكما نلاحظ- يقصر على فكرة الجزء الذي يرتبه المشرع عن الجريمة، دون أن يدخل في ذلك أهمية منع الظاهرة الإجرامية مستقبلا(3)الشيء الذي جعل البعض الآخر(4)يعرف السياسة الجنائية بأنها مجموعة الوسائل التي تتبعها الدولة لمقاومة الظاهرة الإجرامية ومنعها،وعليه فإن هذا التعريف لا يشمل مضمون السياسة الجنائية،لأنه غير محدد،فالمنع الحقيقي للظاهرة الإجرامية أكبر بكثير من اختصاص المشرع الجنائي،لان المنع لا بأتي الا باتباع سياسة اجتماعية و اقتصادية وهو ما لا يدخل في اختصاص القانون الجنائي  لأن المنع لا يأتي إلا باتباع سياسة اجتماعية واقتصادية وهو ما لا يدخل في اختصاص القانون الجنائي، حيث يكون تدخله فقط في حالة توافر الخطورة الإجرامية لأحد الأفراد.

وبناء على ذلك يمكن القول: أن السياسة الجنائية تدور حول أفضل السبل التي يمكن إدخالها في التشريع الجنائي لمقاومة الظاهرة الإجرامية(1).

ثانيا: الخطوط العريضة التي تحكم السياسة الجنائية

تحدد معالم السياسة الجنائية من خلال الخطوط العريضة للتشريع الجنائي وتطبيقاته(2)
: والتي يمكن إجمالها فيما يلي

التصاق مرتكز السياسة الجنائية بالأخلاق(3) والعادات وبالأعماق الداخلية لكل ضمير. فالأخلاق تساهم في تكوينها أفكار الناس من الخير والشر بحيث تكون، المثل العليا لما يجب أن يكون عليه سلوك الأفراد في المجتمع، فهي وليدة المعتقدات والتقاليد والعادات المتأصلة في النفوس،ويجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها وفقا لوازع أدبي يحكم تصرفاتهم ويسود علاقاتهم الاجتماعية. وبالتالي فالممنوعات الواردة في الكتب السماوية لازالت تشكل الأسس التي يقوم عليها التجريم كمبدأ المسؤولية الجنائية القائم على الخطأ والأصل هو البراءة..... 

كل سياسة جنائية لا تهدف سوى إلى الوقاية من الجريمة ومكافحتها بكيفية تكفل علاج دوافعها ومسبباتها الرئيسية والمباشرة(1)لذلك فحينما تتصدى القاعدة الجنائية لتنظيم حق العقاب-وهو أخطر حق تملكه الدولة في مواجهة كل اعتداء يقع على المجتمع أو على أحد أفراده- فإنما تهدف إلى حماية القيم الاجتماعية(2)فالذي يتغير هو المنهاج والوسائل المستعملة لبلوغ ذلك الهدف،وهنا تبرز السياسة الجنائية المرنة ذات الطابع الإنساني،والسياسة الجنائية القاسية ذات الطابع الزجري،حيث يقع الحديث في الأولى عن الوقاية الخاصة والتربية وإعادة التربية وإعادة الإدماج داخل المجتمعون في صفة التجريم أو العقاب،بينما يقع الحديث في الثانية عن الوقاية العامة والعقاب ومحدوديته(3)  

إن أية سياسة جنائية إنما تستقي أسسها من أحد التيارات الإيديولوجية(1)
الثلات:اما التيار الليبرالي الحر،أو تيار المساواة،أو التيارالسلطوي.  

 أ-التيار الليبرالي الحر:

وهو يقوم على أساس حرية الإنسان وهيمنة القانون لضمان هذه الحرية واستبقاء مبدأ المشروعية(2)،والدولة(3)وفقا لهذا النموذج هي التي تتولى عملية الزجر في حين يقوم المجتمع بتقويم الانحراف.

ب-تيار المساواة:
يرتكز هذا التيار على أمرين اثنين:

-المساواة مع الحرية (أي رفض كل قيد على الحرية)
-المساواة مع السلطة: أي أن كل سياسة جنائية يجب أن تنمحي ما دام الظلم الاجتماعي الذي هو سبب الإجرام قد انقضى.

ج-التيار السلطوي:
وهو تيار ضارب في التاريخ، يجسد مفهوم السلطة في شخص رئيس الدولة الذي يصبح رمزا وقيمة تخضع له كل القيم الأخرى كالحرية والمساواة.

ثالثا: توجهات السياسة الجنائية المغربية:

ظلت السياسة الجنائية المغربية موزعة منذ بداية الاستقلال وإلى الآن بين اتجاهين:
-سياسة جنائية وضعية.
-سياسة جنائية دينية.

أ-سياسة جنائية وضعية:
إن السياسة الجنائية المغربية، سياسة جنائية وضعية، وهي في جزء منها مقتبسة من السياسة الجنائية الفرنسية سواء من حيث الشكل (قانون المسطرة الجنائية) أو من حيث المضمون (القانون الجنائي) وهو أمر يبدو طبيعيا، على اعتبار أن القانون الفرنسي -مبدئيا- وبمختلف فروعه يشكل مصدرا ماديا وتاريخيا لقانوننا المغربي(1)
غير أنه وبعد حصول المغرب على الاستقلال، بذلت عدة مجهودات من أجل الوقاية من الإجرام، مع الأخذ بعين الاعتبار حماية الفرد والمجتمع معا.

وهكذا، وإسوة بغالبية التشريعات الوضعية المعاصرة في البلدان المتمدنة، عمد المشرع المغربي إلى إقرار العديد من المؤسسات(1)
التي وجدت ضالتها في المدونة الجنائية لضمان مبدأ حق المجتمع في ضمان الأمن والسلامة والاستقرار، وحق الفرد في التمتع بالحرية التي تتعدد وتتنوع لتكون مجتمعة ما يعرف بحق الإنسان في مجموعة من الحريات في إطار من المسؤولية. هذه الأمنية ليست من أصعب المسائل القانونية تحقيقا فحسب، وإنما هي من قبيل المستحيلات لتعلقها بحل معادلة من متغيرات يصعب ضبطها والتحكم فيها كما يقع عادة في الظواهر الطبيعية البحتة لارتباطها بحكم تصرف الإنسان.

ب-سياسة جنائية دينية:

إن توجه السياسة الجنائية المغربية هو توجه ديني لأنها سياسة متأصلة من الدين ومستقاة من الفلسفة الجنائية الإسلامية.
فالدين الإسلامي له أثر بالغ الأهمية في قوانين البلاد التي عم فيها نور هديه، لكونه يتضمن، فضلا عن القواعد التي تنظم المعتقدات والعبادات، قواعد بالغة السمو تنظم علاقات الناس فيما بينهم. لكن هذا التأثير -في حقيقة الأمر- قد خف الآن إلى درجة كبيرة في أكثر البلاد الإسلامية ومنها المغرب بسبب تغلغل القوانين الأجنبية فيها(1)

فسياسة المشرع الجنائية في الشريعة الإسلامية هي سياسة تدل على الحزم والعزم، حزم تجاه المجرم، وعزم على إقامة مجتمع صالح، سياسة رأفة وشفقة تتناول بها الشريعة المجرم لردعه وزجر غيره، فتارة تستر عليه وتارة أخرى تدعوه للتوبة النصوح عله ينصلح فيتوب ويتوب الله عليه. فالشرع الإسلامي انتهج خطة التدريج في التجريم حتى لا يفاجأ الناس بتحريم المباحات. كما أقتصر على الكليات دون الجزئيات والعموميات دون الخصوصيات. وهو أمر يبدو لنا طبيعيا لدفع المشقة عن الناس أثناء نزول الرسالة، إذ أن مباغتة الناس بالممنوعات والأمر بمطلوبات وهم على سلقيتهم البدوية يكون فيه مشقة بالغة عليهم كما يكون فيه تعويق في نشر الشريعة(2)

وهكذا وفي مجال التجريم، نجد القانون الجنائي المغربي قد نص على الجرائم المتعلقة بالعبادة كالإفطار في رمضان وشرب الخمر وارتياد دور القمار...

المبحث الثاني: الجريمة المتلبس بها على ضوء السياسة الجنائية المغربية

خص المشرع المغربي للجريمة المتلبس بها اثنين وعشرين فصلا في قانون المسطرة الجنائية الحالي (من الفصل 58 إلى الفصل 79) يقودنا هذا إلى الاعتراف بأن الجريمة المتلبس بها تعد من المواضيع الهامة التي أثيرت وما زالت تثير العديد من النقاشات الفقهية والقضائية، وتتباين بخصوصها الآراء والاتجاهات.

والبحث عن السياسة الجنائية في إطار الجريمة المتلبس بها، لن تكتمل المنفعة المرجوة منه إلا بالوقوف على مفهوم التلبس (أولا) وشروط قيامه (ثانيا) وصوره (ثالث) والميكنزمات التي تحكم البحث التلبسي(رابعا).

أولا: مفهوم التلبس
*من الناحية اللغوية:

التلبس(1)
) في اللغة: يعني الاختلاط أو المخالطة، فيقال تلبس بالشيء إذا هو اختلط به، ومن تم يقال مجازا عن الذي يرتكب الجريمة بأنه تلبس بها أي أن الجاني لابس لزي الجريمة ويحمل مظاهرها على جسمه(2)
أما التعبير الفرنسي Flagrance فيقصد به في اللغة الفرنسية: الوضوح الذي لا غبار عليه والذي لا يكون مدعاة للشك. ومن تم فالذي يرتكب جريمة متلبسا بها « Flagrant délit » يكون في وضعية تفيد بكيفية واضحة وصارخة ارتكابها لها(1)

*من الناحية الاصطلاحية:
لم يعرف المشرع المغربي التلبس وقد أحسن صنعا في ذلك لأن التعاريف من اختصاص الفقه والقضاء.
وهكذا يعر الأستاذ أحمد الخمليشي الجريمة المتلبس بها أو المشهودة بأنها الجريمة التي تضبط وقائعها أو فاعلها أثناء تنفيذ الفعل الإجرامي أو تضبط بعد تنفيذها في ظروف خاصة حددها القانون(2)
الظاهر أن هذا التعريف الفقهي ظل حبيس مقتضيات الفصل 58 من قانون المسطرة الجنائية المغربي الذي أورد أحوالا للتلبس من خلال تنصيصه على ما يلي:
يعتبر التلبس بالجناية أو الجنحة في إحدى الأحوال التالية:

أولا: في حالة إنجاز الفعل الجنائي أو على  إثر إنجازه.

ثانيا: في حالة ما إذا كان الفاعل مازال مطاردا بصياح الجمهور.

ثالثا: في حالة ما إذا وجد المجرم بعد مرور زمن قصير على ارتكاب فعلته حاملا لأسلحة أو أشياء يستدل منها على أنه شارك في الفعل الإجرامي أو وجدت عليه آثار أو إمارات تثبت مشاركته. وتتسم بصفة التلبس بالجناية أو الجنحة كل جناية أو جنحة تقع ولو في غير الظروف المنصوص عليها في الفقرات السابقة داخل منزل التمس صاحبه من وكيل الدولة أو أحد ضباط الشرطة القضائية التثبت منها.

ثانيا: شروط قيام التلبس
حتى تقوم حالة التلبس قانونا لا بد من توافر الشروط التالية:

*حصر وصف التلبس على الجنايات والجنح
والتلبس في القانون المغربي يقتصر وصفه على الجنايات والجنح، لأنها تتسم بالخطورة الإجرامية وتتطلب إجراءات مسطرية استثنائية خاصة بوضعية التلبس، بخلاف المخالفات التي غالبا لا تفضي إلى اضطرابات اجتماعية.

*معاينة ضابط الشرطة القضائية بنفسه لواقعة التلبس بالجريمة.
من خلال استقرائنا لمقتضيات الفصل 58 من ق م ج، نلاحظ أن المشرع المغربي لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى هذا الشرط، وليس هذا بسهو منه، وإنما لكونه يندرج في إطار البديهيات ما دام أن ضابط الشرطة القضائية هو المكلف قانونا بالتثبت من الجرائم والملابسات التي حصلت فيها.

لذا ورفعا لشبهة الظلم والتسرع وجب أن يشاهد الضابط بنفسه حالة التلبس دون الاستناد إلى الروايات التي تكون مجرد إشاعات(1)
*معاينة ضابط الشرطة القضائية لواقعة التلبس بطريق مشروع

يجب أن يخضع ضابط الشرطة القضائية أثناء معاينته للوقائع المكونة للتلبس بصفته للمشروعية التي يستند فيها إلى نصوص القانون ومبادئه العامة التي تتخذ المنطق وعدم التعسف أساسا لها(2)
وذلك لضمان حقوق الدفاع وإثبات البراءة.

ثالثا: صور التلبس
يفصح الفصل 58 من ق م ج المغربي عن مجموعة من الصور التي تشكل أوضاعا للتلبس بالجريمة. وقد اعتمد المشرع المغربي في توضيحها على المعيار الحصري بحيث لا يمكن الزيادة فيها أو النقصان(3)
 وهي وإن تنوعت إلى تلبس حقيقي(4)
 وحكمي(5)
 ومفترض(6)
فهي لا تخرج عن الصور الآتية:
 1- حالة إنجاز الفعل الجنائي أو على إثر إنجازه
 2- حالة ما إذا كان الفاعل مازال مطاردا بصياح الجمهور
 3- حالة ضبط شخص بعد ارتكاب الجريمة بوقت قصير حاملا أسلحة أو أشياء أو عليه آثار أو إمارات يستدل منها ارتكابه لها أو مشاركة فيها.
 4- حالة التماس صاحب منزل من وكيل الدولة أو ضابط الشرطة القضائية التثبت من جريمة وقعت في منزله.
 1- حالة إنجاز الفعل الجنائي أو على إثر إنجازه الفقه المغربي إلى اعتبار هذه الحالة هي المعبرة عن وضعية التلبس الحقيقي(1)
 وهي وضعة تنقسم إلى حالتين:
أ-حالة إنجاز الفعل الجنائي
ب-حالة إثر إنجازه

ومؤدى ذلك مشاهدة الفعل الجنائي وهو يرتكب، والحال أن هذا لا يمكن أن يتوفر إلا إذا كان هناك نوع من العلانية في ارتكاب الفعل الجرمي، ونوع من الامتداد الزمني الذي يسمح بالمعاينة.

فاشتراط العلانية والامتداد الزمني للقول بتوافر هذه الحالة، يصطدم -في الواقع العملي- ببعض الإشكالات حينما نكون أمام الجرائم الوقتية والمستمرة.

فبالنسبة للجرائم الوقتية أو الآنية أو الفورية، والتي تتطلب لارتكابها فعلا ماديا ووقتا معلوما هي جرائم ترتكب فعل واحد فقط. الشيء الذي يصعب معه معاينة الفعل الجرمي وبالتالي عدم تمكين الغير من مشاهدته.

أما بالنسبة للجرائم المستمرة والتي يمتد ارتكابها زمنا طويلا نسبيا تكون فيها الحالة الجرمية قائمة بفعل إرادة الجاني وتدل على استمرار الفعل المعاقب عليه استمرارا متجددا. فإن الخفاء الفرنسي يدعو إلى ضرورة إخراجها من حيز التلبس(1)
على عكس البعض الآخر الذي يرى بأن المعاينة هنا ليست لازمة، وإنما يكفي توافر قرائن وشبهات تحوم حول الشخص بحيث تفضي إلى تفتيشه مادام التفتيش إجراء يتبع حالة التلبس(2)

 1- حالة ما إذا كان الفاعل مازال مطاردا بصياح الجمهور
هذه الحالة توحي لنا بالملاحظات التالية:
*الاتهام هنا محدد لا يرقى إليه الشكوغالبا ما يكون صادرا عن شهود عاينوا الجريمة.
*استعمال المشرع المغربي عبارة الفاعل لا المجرم وربما يعزي ذلك إلى عدم إضفاء صفة الجرم مباشرة على الشخص.
*تمحور هذه الحالة حول الفاعل لا الجريمة بخلاف الأمر بالنسبة للتلبس الحقيقي المشار إليه في الفقرة الأولى من الفصل 58 من ق م د ج حيث ينصرف إلى الجريمة لا المجرم.
قيامها على حالة الافتراض وكأننا بصدد التجريم الافتراضي الذي يهدف إلى التشدد في العقوبة(1)
 وهو تجريم مصطنع يتعين الابتعاد عنه لما يترتب عنه من تجاوز للحقوق الفردية وإهدار مصالح المجتمع(2)

*يتعين أن تتم هذه المطاردة في زمن قريب من إنجاز الفعل الإجرامي وإلا أضحت سيفا مسلطا على حريات وحقوق الأفراد.
*كلمة "صياح" الواردة في الفقرة الثانية من الفصل 58 من ق م ج  لا تفيد قيدا إلزاميا لقيام حالة التلبس فيستوي أن يكون هناك صياح أو لا يكون.
*ليس من الضروري أن تكون المطاردة من عدد كبير من الأفراد فهي تتحقق و لو كانت من شخصين أو ثلاثة بل ويكفي في نظر البعض أن تكون المطاردة من قبل شخص واحد ولو كان هو الضحية(1)


ومما يجب التنبيه إليه هنا هو التحفظ من حالة صياح الجمهور كدليل لارتكاب المتهم للجريمة حتى لا نمس بقرينة البراءة. فالمنطق السليم يفرض معاملة الشخص معاملة المتهم الظنين وليس كمتهم يحمل دليل إدانته من صياح شعبي ومتهافت والذي غالبا ما يتسم بنوع من العفوية.

3-حالة ضبط شخص بعد ارتكاب الجريمة بوقت قصير حاملا لأسلحة أو أشياء أو عليه أمارات تفيد ارتكابه الجريمة أو مشاركته فيها.

هذه الصورة من صور التلبس المفترض تجعلنا تستنتج ما يلي:
*ارتباطها بالمجرم لا الجريمة، وإن كان يصعب الفصل بينهما لأنهما شيئان متلازمان.
*اعتماد المشرع المغربي على القرائن لوضع المشبوه فيه أمام حالة التلبس هاته، وبالتالي عدم اشتراطه لواقعة معاينة الجريمة والحال أن هذه القرائن قد تتحكم فيها بعض المبادئ الفلسفية التي يصعب تحديدها كمبدأ سوء النية(1)
 زد على ذلك أن الركون إليها بشكل مطلق ولا محدود يؤدي إلى أخطاء قضائية(2)

 وظلم مرير في حق الأشخاص الأبرياء،وبالتالي بروز ثقافة التلبيس. فالأخطاء القضائية الشهيرة إنما تأتي من هذه القرائن(3)
 والاعتماد عليها في الميدان الجنائي.
*عدم تحديد المشرع لعبارة "مرور زمن قصير" الشيء الذي يجعل باب الاعتداء على الحريات الفردية مفتوحا.

وإذا كان البعض يرى أن محتوى ذلك التعبير من المسائل الواقعية التي تبقى خاضعة للسلطة التقديرية لقضاء الموضوع(4)
 تخرج عن رقابة المجلس الأعلى، فإننا نرى أنه حبذا لو نهج المشرع المغربي نهج التشريع السوري الذي حدد هذه المدة الزمنية في 24 ساعة.

 4- حالة التماس صاحب المنزل من النيابة العامة أو الشرطة القضائية التثبت من وقوع جريمة داخل منزله.

تنعت هذه الحالة بالتلبس الحكمي بسبب أن القانون هو موجدها وباستقلال تام عن توافر الشروط المتطلبة في الفقرات الأولى والثانية والثالثة من الفصل 58 من ق م ج.

والظاهر أن هذه الصورة تتسم بنوع من الخطورة، لأنها تفرض انطلاقا من إرادة مدعي الجريمة في منزله الذي أغدق المشرع في حمايته إلى أقصى الحدود فتوسع بإفراط في قياس هذه الحالة بحالات التلبس الواردة في باقي فقرات الفصل 58 من ق م ج والحال أنها ليست تلبسا حقيقيا ولا مفترضا(1)

وجدير بلفت النظر أن صاحب المنزل الذي يوجه التماسا للتثبت من وقوع الجريمة داخل منزله، يستوي أن يكون مالكا له أو مكتريا أو له الحيازة القانونية عليه. ولا مانع من توجيهه من طرف من يقوم مقامه كزوجته أو أبنائه أو حارسه أو خادمه، كما أن هذا الالتماس يمكن أن يصدر ليلا أو نهارا، وأن مضمون المنزل يحدد من خلال مقتضيات الفصل 511 من القانون الجنائي الذي ينص "يعد منزلا كل مبنى أو بيت أو مسكن أو خيمة أو مأوى ثابت ومتنقل سواء كان مسكونا فعلا أو معدا للسكنى

وجدير بلفت النظر أن صاحب المنزل الذي يوجه التماسا للتثبت من وقوع الجريمة داخل منزلهيستوي أن يكون مالكا له أو مكتريا أو له الحيازة القانونية عليه. ولا مانع من توجيهه من طرف من يقوم مقامه كزوجته أو أبنائه أو حارسه أو خادمه كما أن هذا الالتماس يمكن أن يصدر ليلا أو نهاراوأن مضمون المنزل يحدد من خلال مقتضيات الفصل 511 من القانون الجنائي الذي ينص "يعد منزلا كل مبنى أو بيت أو مسكن أو خيمة أو مأوى ثابت ومتنقل سواء كان مسكونا فعلا أو معدا للسكنى وكذلك جميع ملحقاته كالساحات وحظائر الدواجن والخزين والإسطبل أو أي بناية داخلة في نطاقه مهما كان استعمالها حتى ولو كان لها سياج خاص بها داخل السياج أو الحائط العام".

رابعا: الميكانزمات التي تحكم البحث التلبسي

عندما يتعلق الأمر بالبحث التلبسي بالجرائم، فإن ثمة سلطات مؤهلة للقيام به. والتي تتمتع بصلاحيات واختصاصات واسعة بمقتضاها يمكنها اتخاذ تدابير متنوعة منها ما يتعلق بالأشخاص كالوضع تحت الحراسة ومنها ما ينصرف إلى الأشياء كتفتيش المنازل. 

 1- السلطات المؤهلة للقيام بالبحث التلبسي
من خلال استقرائنا لمقتضيات الفصول 59 و73 و 77 من ق م ج المغربي، والفصل 2 من ظهير الإجراءات الانتقالية لسنة 1974 يتضح لنا أن المشرع المغربي عدد السلطات المؤهلة للقيام بالبحث التلبسي وهي: ضابط الشرطة القضائية والنيابة العامة وقاضي التحقيق، هذا التعدد لا يعني من جهة تكليف هؤلاء جميعا في حالة اجتماعهم في مكان الجريمة بإنجاز البحث كل على حدة، وإنما الغاية من ذلك بأساس هي التمكين من إجرائه على وجه السرعة في كل الأحوال حتى ولو غاب أحد منهم.

ومن الناحية العلمية، يبقى ضابط الشرطة القضائية أو المطلعين على الجريمة وأقربهم إلى مكانها وأسرعهم تحركا في إطار ما سمي بالبحث التمهيدي الذي يطغى عليه الطابع السري بغية عدم التشهير بالمشبوه فيه قبل عرضه على القضاء لإعطاء الفعالية للحريات التي تقوم بها الضابطة القضائية ولعدم تمكين من يتم البحث معهم من طمس معالم الجريمة أو فرارهم.

أما مؤسسة النيابة العامةفإن وظائفها المتعددة لا تسمح لها عمليا بالتواجد في عين مكان الجريمةبينما يبقى انتقال قاضي التحقيق إلى مسرح الجريمة جد نادر.

 2- الوضع تحت الحراسة النظرية.
لم يبين القانون الطريقة التي يلزم بها المشتبه به على التصريح بما عنده من معلومات. إلا أن التجربة العملية أبانت أنه لكي يحمل الشخص على ذلك، يكفي أن يسمح للشرطة القضائية بأن تحتفظ به مدة معينة، وأن تمعنه من حرية الذهاب والإياب، وهو ما يعرف في أدبيات قانون المسطرة الجنائية بالوضع تحت الحراسة التي حظيت باهتمام المواطن وحقوقه (الفصول 68- 69- 70- 71- 82 من ق م ج)

والغاية من إحداث نظام الحراسة النظرية يعزي إلى تمكين الضابطة القضائية من إجراء البحث في ظروف جدية يمكن التوصل معها إلى الحقيقة المجردة، وفي نفس الوقت ممارسة ضغط نفساني على الفاعل قصد الاعتراف بما إذا كان فعلا له ضلع بالجريمة.
وقد حدد المشرع المغربي شروط الوضع تحت الحراسة فيما يلي:

*أن تدعو الضرورة إلى ذلك، وإن كانت هذه الأخيرة تخضع للسلطة التقديرية لضابط الشرطة القضائية.
*أن يتعلق الأمر بجريمة على جانب من الخطورة بحيث تكون جناية أو جنحة على الأقل معاقبا عليها بالحبس، وبالتالي لا يمكن الحديث عن الحراسة النظرية متى كانت الجريمة مخالفة أو جنحة ضبطية معاقبة بالغرامة فقط.
*ألا تتعدى المدة المعنية التي حددها المشرع المغربي في الفصل 68 من ق م ج المعدل بالقانون رقم 90- 67 لسنة 1991 حيث جعلها في الجرائم العادية ب 48 ساعة قابلة للتمديد ب 24 ساعة بإذن كتابي يصدره وكيل الملك، وفي جرائم أمن الدولة الداخلي أو الخارجي ب 96 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة بإذن كتابي يصدره وكيل الملك أو الوكيل العام للملك كل ما فيما يخصه. هذه المدد فرض المشرع المغربي عليها شكليات ينبغي اتباعها من طرف ضابط الشرطة القضائية باعتبارها تندرج في إطار مبدأ حق الدفاع وهكذا يتعين تضمين محضر استجواب كل شخص موضوع تحت الحراسة: اليوم والساعة التي ابتدأ فيها وضعه تحتها واليوم والساعة الذي وضع فيها حد لها مع وجوب تضمين المحضر المتعلق بما سبق توقيع الموضوع تحت الحراسة في طرة المحضر أو امتناعه عن التوقيع، كما يجب على كل ضابط للشرطة القضائية توجيه لائحة بالأشخاص الذين تم وضعهم تحت الحراسة خلال الأربع وعشرين ساعة السابقة يوميا إلى وكيل الملك أو الوكيل العام للملك دون إغفال إشعار عائلة المعتقل فور الاعتقال.

إن مثل هذه الضمانات تبقى شيئا إيجابيا للحد من كل تعسف ممقوت في هذا الميدان، وتدعيم رقابة القضاء للمحافظة على الحريات الفردية(1)

وبناء على ما سبق، يظهر أن المحضر المحرر بمناسبة الوضع تحت الحراسة التي لم تحترم فيها المدة القانونية معيب شكلا لخرقه الفاضح للقانون وبالتالي تطبيق الفصل 765 من ق م ج الذي يصرح أن كل إجراء يأمر به القانون(2)
 ولم يثبت إنجازه على الوجه القانوني يعد كأن لم ينجز أي باطلا بلغة القانون، ويتعين على المحكمة إثارته من تلقاء نفسها ولو لم يتمسك به ذو المصلحة(3).

 لكن ما تجب الإشارة إليه هو أن المجلس الأعلى يرى في عدة قرارات صادرة عنه بأن الأحكام المتعلقة بالوضع تحت الحراسة لم يقررها القانون تحت طائلة البطلان، مما لا يمكن معه أن يترتب عنها البطلان إلا إذا ثبت أن عدم مراعاتها جعل البحث عن الحقيقة وإثباتها مشوبين بعيب في الجوهر.

فمنحى المجلس الأعلى في هذه الخصوصية التي نحن بصددها يبقى محل وجهة نظر انطلاقا من كون النصوص القانونية تكمل بعضها البعض، فالفصل 765 من ق م ج يكمل مقتضيات الفصل 64 من ق م ج - الذي لم يشر إلى جزاء البطلان، أضف إلى ذلك أن الأحكام المتعلقة بالحراسة النظرية تندرج في إطار حقوق الدفاع والتي تعتبر من صميم النظام العام، وكل إخلال بها يؤدي إلى البطلان حثما.

 3- التفتيش كأداة من أدوات البحث التلبسي

يتمتع المنزل بحرمة لا يمكن لأحد التنكر إليها وإلا تعرض للعقاب كجزاء توقعه الدولة بواسطة محاكمتها. هذه الحرة تتضح من خلال الفصل 10 من الدستور المغربي، والقانون الجنائي (الفصلان 230 و 441

غير أنه ولاعتبارات معينة، بل وتحقيقا للعدالة الجنائية فإن هذه الحرمة ليست مطلقةإذ كثيرا ما يقتضي البحث التفتيش في منزل من المنازل يضم داخله علامة على جريمة من الجرائم.

وتفتيش المنازل كأداة من أدوات البحث التلبسي يتسم بخصوصيات معينة حيث يسمح القيام به ولو دون رضا صاحبه، بل وباستعمال القوة العمومية إذا اقتضى الأمر ذلك. 

لذا حينما سمح المشرع الجنائي المغربي للجهات المؤهلة لممارسة البحث التلبسي باللجوء إلى التفتيش لإثبات الجريمة(1)
 أحاط استعمال هذا التدبير بمجموعة من الضوابط والإجراءات والشكليات مرتبا البطلان صراحة على عدم احترامها(1)
 لارتباطها الوثيق بحريات الأفراد(2)هذه الضوابط هي على التوالي

*احترام الوقت القانوني للتفتيش
ينص الفصل 64 من ق م ج على ما يلي: "لا يمكن الشروع في تفتيش المنازل أو معاينتها قبل الساعة الخامسة صباحا وبعد الساعة التاسعة ليلا اللهم إلا إذا طلب ذلك رب المنزل أو وجهت نداءات من داخله أو كانت هناك أحوال استثنائية قررها القانون".

من خلال استقرائنا لهذا المقتضى القانوني نستنتج ما يلي:
*فترة الشروع في التفتيش محددة ولا يجوز مخالفتها وإلا ترتب عن ذلك البطلان مع إمكانية المساءلة عن جنحة انتهاك حرمة المسكن.
*هناك استتناءات ترد على الوقت القانوني للتفتيش والتي تأخذ صورتين: فإما أن يتم طلب ذلك من طرف صاحب المنزل عن طريق النداء من داخله أو لظروف مادية قاهرة تقاس على ما سبق، ومفهوم المنزل هنا يختلف عن المفهوم القانوني للمنزل الوارد في مقتضيات الفصل 511 من ق ج الشيء الذي يوجب إعطاء مفهوم المنزل في قانون المسطرة الجنائية مفهوما واسعا، وسندنا في ذلك أن الألف واللام (المنزل) في مادة أصول الفقه تفيد العموم.

*أما الصورة الثانية فمصدر الاستثناء فيها نابع عن نصوص قانونية صريحة و بالتالي فهي واردة على سبيل الحصر ومن ذلك: الفصل 103 من ق م ج (الفقر الثانية) التي تجيز لقاضي التحقيق وحدة أن يباشر في القضايا الجنائية تفتيشا في ذلك المسكن خارج الساعات المعينة في الفصل 64 بشرط أن يباشر بنفسه التفتيش وأن يكون هذا الإجراء بمحضر وكيل الدولة "والفصل 4 من ظهير 26 يوليوز 1971 المعدل لقانون العدل العسكري الذي نص على ما يلي: "في الحالات المنصوص عليها في الفصل 58 إلى 83 من قانون المسطرة الجنائية، وبقطع النظر عن مقتضيات الفصل 64 من نفس القانون يمكن لمندوب الحكومة (المقصود وكيل الملك) أن يقوم أو يكلف من يقوم حتى بالليل وفي أي مكان بكل تفتيش منزلي أن حجز.

*ضرورة حضور صاحب المنزل أو نائبه أو شاهدين أجنبيين لعملية التفتيش إلى جانب ضابط الشرطة القضائية.
ينص الفصل 62 من ق م ج على ما يلي:
تجري العمليات المأمور بها في هذا الفصل حسب الطريقة الآتية مع مراعاة مقتضيات الفصل السابق.
أولا: إذا وقع التفتيش في منزل شخص يظن أنه شارك في الجناية فإنه يجب أن يكون بمحضره وإذا تعذر عليه الحضور فإن من واجب ضابط الشرطة القضائية أن يدعو لتعيين نائب عنه، وإذا امتنع الشخص من ذلك أو كان فارا فإن ضابط الشرطة القضائية يستدعي لحضور ما ذكر شاهدين أجنبيين عن الموظفين الخاضعين لسلطته.

ثانيا: إذا كان التفتيش في منزل شخص قد يكون ممسكا لأوراق أو أشياء لها علاقة بالأعمال الإجرامية فإنه يجب أن يكون هذا الشخص حاضرا في التفتيش، وعند الاقتضاء يباشر الإجراء طبقا لما جاء في الفقرة السابقة.

هذا المقتضى القانوني يثير لدينا بعض الملاحظات:
إنه يشير إلى الأشخاص الواجب حضورهم لعملية التفتيش.
إنه يقتصر على الجانية فقط -من خلال الفقرة الأولى- لإجراء التفتيش، وبالتالي لا يتطرق إلى الجنح، ونحن نرى أن نفس الحكم ينطبق أيضا على هذه الأخيرة باستثناء الجنح الضبطية التي تكون العقوبة فيها مقتصرة على الغرامة والمخالفات.

إنه يستحضر الضمانات الهامة لعملية التفتيش حتى تتم هذه العملية بصورة سليمة وبعيدة كل البعد عن أية شائبة تشوبها.
*المحافظة على المحجوزات
لما كانت مهمة ضابط الشرطة القضائية في مرحلة البحث التمهيدي هي جمع الأدلة لاثبات الجريمة المرتكبة فإن ثمة واجب آخر يلقى على عاتقه، يكمن في المحافظة على المحجوزات التي استعملت في ارتكاب الفعل الجرمي.

ولهذا السبب حدد الفصل 61/4 من ق م ج الكيفية التي يتم بها ذلك الحفظ، حيث أوجب عليه لف الأشياء والمستندات المحجوزة والختم عليها إن أمكن ذلك، وإذا كان من المستحيل الكتابة عليها فإنه يضعها في آنية أو في كيس يجعل عليه ورقا يختم عليه بطابعه.
*اتخاذ التدابير اللازمة للمحافظة على السر المهني
ينص الفصل 61/2 من ق م ج على ما يلي غير أنه إذا وقع التفتيش في أماكن يشغلها شخص يلزمه القانون بكتمان السر المهني، فعلى ضابط الشرطة القضائية أن يتخذ جميع التدابير اللازمة لضمان احترام ذلك الشر"

من خلال هذا الفصل نلاحظ ما يلي:
إنه يحث الضابط الذي يقوم بعملية التفتيش على كتمان السر مهني وعلى عدم اطلاع الغير عليه حينما يتعلق الأمر بأماكن الأشخاص الذين يلزمهم القانون بكتمان السر المهني.

إنه يستحضر مبدأها وراسخا تنص عليه مجموعة من القوانين الخاصة كما هو الحال بالنسبة لنظام الوظيفة العمومية والقانون البنكي (الفصلان 107 و 108 من قانون 6 يوليوز 1993) والقانون الجنائي (الفصل 446) نظرا لارتباط السر الوثيق بالحرية الشخصية حتى قيل بحق أن من تدلي إليه بسرك يعتبر سيدا لحريتك، بل إنه أكثر مشقة من إمساك جمرة متوهجة داخل الفم كما عبر عن ذلك سقراط.

*تحرير محضر بالتفتيش
حينما ينهي ضابط الشرطة القضائية عملية التفتيش، وطبق ما ينص على ذلك الفصل 61/1 من قانون م ج تحرير محضر بهذا التفتيش يسجل فيه تاريخه ووقته وما عاينه وما ضبطه من محجوزات إلى غير ذلك من معلومات وبيانات والكل بنوع من الدقة والفعالية حتى يتم التأكد من سلامة إجراءات التفتيش لكون المحضر هو التفتيش المعين لذلك.

المبحث الثالث: الملاحظات المستخلصة
بحثنا على امتداد هذه الصفحات موضوع السياسة الجنائية المغربية في إطار الجريمة المتلبس بها. وإذا ما حاولنا استعراض بعض الخلاصات التي خرجنا بها من هذا البحث، فسنجد أنفسنا أمام لائحة طويلة من الملاحظات إلا أننا سنكتفي بالأهم منها الذي يتعلق جانب منه بالميدان التشريعي، وجانب آخر بالمضمار القضائي، والجانب الثالث بالمضمار الفقهي.

أولا: الجانب التشريعي
 1- فأول ما يسترعي اهتمامنا، أن النصوص القانونية المنظمة للجريمة المتلبس بها، تعتريها مصطلحات ومفاهيم مطاطة كعبارة: بعد وقت قصير "صياح الجمهور وغامضة تفتح الباب للتأويل الذي ينعكس سلبا على سياستنا الجنائية وبالتالي المس بالحريات الفردية، وربما يعزي الأمر في ذلك إلى الترجمة الحرفية المعيبة لنصوص قانون المسطرة الجنائية المغربي والتي أخذت من ربيبتها الفرنسية، الشيء الذي يجعلنا أمام نظام غير نابع تماما من واقعنا الاجتماعي، فقد أخذنا من هنا واستعرنا من هناك لبناء الهيكل القانوني الزجري الموضوعي "القانون الجنائي" والشكلي "قانون المسطرة الجنائية" دون عمق تفكير رائد يتحسس الداء فيضع الدواء.

فالقانون الفرنسي مدرسة لا ينازع أحد في عبقريتها، فمند قرن من الزمن والفقه العربي الحديث في احتكاك معها والتشريع يسير في ركبها، ومن الصعب اليوم تجاهل هذه العوامل لكن العيب لا يكمن في الأخذ من القانون الفرنسي وإنما في كيفية هذا الأخذ الذي يتم عن طريق النقل والتقليد اللذين ينعدم معهما العمل الفكري الفاحص.

 2- إن السياسة الجنائية المغربية وفي إطار الجريمة المتلبس بها قد همشت كثيرا قرينة  البراءة -كمبدأ يجب التنصيص عليه وتفعيله على أرض الواقع- حيث تجعل من المشبوه فيه متهما، بل ومعتقلا يقدم للمحاكمة بناء على محضر البحث التلبسي حتى في الجرائم الخطيرة.

 3- إن الصلاحيات والسلطات المخولة لضباط الشرطة القضائية في مسطرة البحث التلبسي هي صلاحيات واسعة تجعل الحريات الفردية تتأرجح في ميزان قد ينعكس سلبا أو إيجابا على حقوق المشتبه فيه.

 4- ضرورة تفسير نصوص الجريمة المتلبس بها تفسيرا واسعا، لما فيه مصلحة المشبوه فيه أو الظنين أو المتهم، بخلاف الأمر بالنسبة لنصوص القانون الجنائي التي يتعين تفسيرها تفسيرا ضيقا لدرجة قيل معها بحق أن قانون المسطرة الجنائية هو قانون الشرفاء، وأن القانون الجنائي هو قانون الأشرار.

 5- غياب نظرية البطلان في حقل قانون المسطرة الجنائية كنظرية مستقلة بذاتها، مما ينبغي معه العمل على إقرارها إسوة بما هو سائد في حقل القانون المدني.

 6- إن قانون المسطرة الجنائية لا يتضمن أي مقتضى يخول رجل الدفاع مساندة المشبوه فيه أثناء بحث الشرطة القضائية، بخلاف ما عليه الأمر في فرنسا، التي أثار فيها الإصلاح الجديد لنظام الحراسة النظرية غضب رجال الشرطة الفرنسية الذين اعتبروه هدية من السماء للمنحرفين والمجرمين على السواء باعتباره ينص على ضرورة التسجيل الصوتي لاستنطاق وحضور رجل الدفاع لهذا الاستنطاق وإلا اعتبر استنطاق غير قانوني، وحبذا لو عانق تشريعنا الزجري هذا الإصلاح.

ثانيا: الجانب القضائي
 1- يلاحظ أن القضاء المغربي- لازال يسير في الاتجاه الذي يقضي بعدم الحكم بالبطلان - من حيث المبدأ- في حالة الإخلال بالأحكام المتعلقة بالحراسة النظرية، وهو ما من شأنه أن يمس لحقوق الدفاع، ولهذا نأمل منه أن يعدل عن هذا الاتجاه.

 2- تنادي أيضا بتقوية مراقبة القضاء لأعمال الضابطة القضائية أثناء مزاولتها لمهامها في إطار البحث التمهيدي اتقاء لكل تجاوز محتمل في هذا الباب.

 3- وكذا بمساهمته في إبراز معالم السياسة الجنائية المتبعة في بلدان من خلال تطبيقاته لأنه ضمان تنفيذ عقوبة بسيطة بإجراءات ناجعة -كما يقال- خير من التنصيص على عقوبة قاسية مشكوك في تطبيقها نظرا لعدم اصطحابها بإجراءات فعالة. 

 4- ننتظر منه كذلك استحضاره لمدارس علم الإجرام أثناء بته في القضايا الزجرية حتى يتأتى له أن يمزج الجانب القانوني بالجانب السكولوجي والسوسيولوجي. 

ثالثا: الجانب الفقهي
بعد موضوع الحرية المتلبس بها في سياستنا الجنائية المغربية من المواضيع الهامة التي تحتاج إلى رفع الغبار عنها وتحديد معالمها من خلال دراسات وبحوث تساهم في خلق ثروة فكرية منشودة.

وأخيرا فإن إتياننا لهذه الملاحظات، لا يعني بالضرورة ختما للموضوع بل هو مجرد طرح أسئلة تبتغي رسم الطريق أمام سياسة جنائية، يوحي التوجه الحالي والمستقبلي لها بأنها ستستجيب لا محالة لفضاء الخطاب الراهن حول الديموقراطية ودولة الحق والقانون وحقوق الإنسان وبالتالي تحقيق عدالة جنائية تتماشى وثقافتنا وتقاليدنا وعاداتنا، والسلام.

"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"                       (مجلة المحامي عدد 41 صفحة 15)

تعليقات