القائمة الرئيسية

الصفحات



قراءة في قرار المجلس الأعلى /الغرف المجتمعة حول : إثبات النسب ودور الخبرة الطبية ذ أحمد زوكاغي

قراءة في قرار المجلس الأعلى /الغرف المجتمعة  حول : إثبات النسب ودور الخبرة الطبية   ذ أحمد زوكاغي 




قراءة في قرار المجلس الأعلى /الغرف المجتمعة  حول : إثبات النسب ودور الخبرة الطبية   ذ أحمد زوكاغي 







قراءة في قرار المجلس الأعلى /الغرف المجتمعة
 حول : إثبات النسب ودور الخبرة الطبية
أحمد زوكاغي (أستاذ جامعي )


     صدر عن الغرف  المجتمعة للمجلس الأعلى  ،قرار  يحمل  رقم 658، بتاريخ 30 دجنبر 2004 [1]، تثير قراءته مجموعة هامة من التساؤلات والاستفسارات  المتعددة  والمختلفة  يتعلق  بعضها بإثبات النسب، بينما يهم  البعض  الآخر  منها قيمة الحكم الأجنبي أمام القضاء الوطني .
ويبدو  أن الأهمية  والشهرة  والعناية  التي  لقيها  القرار  المشار  إليه أعلاه جاءت بوجه خاص، من ناحية  الهيأة التي صدر  عنها، بحيث لم  يقتصر  المجلس على  إصداره  عن طريق  الغرفة  المدينة  أو غرفة   الأحوال  الشخصية، أو هما  معا مجتمعتان، كما  يحدث  عادة  أو عندما تكتسي النازلة  أهمية  خاصة، وإنما  صدر القرار عن جميع  الغرف التي  يتألف  منها  المجلس  الأعلى ، وهي  كما هو معلوم، ست  غرف، يرأس كل  غرفة  رئيسها، ويرأس الجميع  رئيس  الغرفة  المدنية  الأولى، بحيث  تشكلت  الهيأة  الحاكمة  من خمسة وعشرين عضوا ، بالإضافة إلى  المحامية  العامة  وكاتبة الضبط الأمر الذي  يدل  دلالة قاطعة  على أن النازلة ، و الموضوع  ذات أهمية كبرى .
وبالفعل ، كانت  النقطة المحورية التي يدور  حولها حكم الغرف  المجتمعة  بالمجلس الأعلى  تتصل  بجانب  من الجوانب  الجوهرية  والمصيرية  بالنسبة  إلى  قانون الأحوال الشخصية  الإسلامي  المغربي ،  ونعني بها قضية إثبات  النسب  بين  الولد وأبيه، وما إذ كان من  الممكن اللجوء إلى وسائل أخرى مثل الطرق الطبية المخبرية ، لإقامة الدليل على  وجود نسب  بين الأب و الابن .
ومن اللافت للنظر، على وجه الخصوص، أن حكم الغرف  المجتمعة بالمجلس الأعلى ، صدر  بالهيأة  التي  صدر  عنها  وبالدقة  والوضوح اللذين  ميزا  لغته وحيثياته  بعد  نفاذ  القانون رقم 70لسنة 2003 بمثابة  مدونة  الأسرة التي  أجازت، في المادتين  16و153 منها  إثبات  النسب أو نفيه  بجميع  الوسائل  وخاصة  منها الخبرة ، الشيء  الذي  يؤكد بكل  بداهة  وجلاء،  أن  إرادة المجلس  الأعلى  اتجهت  إلى قطع  الطريق في وجه أي  اتجاه  يرغب  في اعتماد أي  وسيلة  أخرى من الوسائل غير الشرعية  لإثبات  النسب وخاصة  منها الخبرة  الطبية، إذ إن  من شأن  الانحراف  عن وسائل الإثبات  الشرعية  واعتماد الخبرة في النسب  نسف الحديث  النبوي الشريف الولد للفراش ومن ثم، حرص المجلس  الأعلى  على  تفسيرا أحكام  مدونة الأسرة، بالنسبة لمجال النسب، بشكل يدم فيه غض الطرف عن الخبرة  واعتبارها  وكأنها  غير  موجودة، ولو صدر بها  حكم قضائي  أجنبي اكتسب قوة الشيء  المقضي  به ، وبالتالي، وعلاوة على ذلك ، حرص  المجلس الأعلى  حرصا  شديدا  على التمسك  والوفاء  للاتجاه  الذي  سبق  أن عبر عنه في قرارين مشهورين ، صدر أحدهما يوم 15  شتنبر 1981  ( مجلة  قضاء  المجلس  الأعلى ، العد30 ،ص 95 )  جاء فيه إن ما قضى به الحكم المطعون فيه يجد  أساسه في الفصل 91 من مدونة  الأحوال الشخصية،  الذي  ينص  على أن  القاضي يعتمد  في حكمه على جميع الوسائل  المقررة  شرعا في  نفي النسب، وليس من بين  هاته الوسائل  وسيلة  التحليل الطبي،  وأن ما نص عليه الفصل  76 من  المدونة خاص بما إذا بقيت الريبة في  الحمل  بعد انقضاء سنة من تاريخ  الطلاق  أو الوفاة، لمعرفة ما في البطن ، هل علة حمل أما الحكم  الثاني، الصادر بتاريخ 9 فبراير  1982 (مجلة  المحاكم  المغربية ، العدد 37 ،ص 90 ) فقد  ورد فيه إن قاعدة  الولد  للفراش  لا يجوز دحضها إلا  بالوسائل المقررة  شرعا  لنفي  النسب،  وأنه إذا كان الشرع  والقانون يعتدان برأي الخبرة من  الأطباء في عدة مسائل فإنهما لم يعتدا برأيهم  فيما يرجع لنفي  النسب، استنادا  إلى عدم قابلية الزوج للاخصاب، مادام في وسع ذلك الزوج نفي النسب عن طريق اللعان ".
وهو نفس الاتجاه  الذي  أكد المجلس الأعلى في القرار الماثل، على التمسك به  والذود عنه ، عندما أعلن  أن المحكمة  المطعون في قرارها قد  بنت قضاءها على أنه إذا ولدت  الزوجة بعد فراق، يثبت نسب الولد، إذا جاءت به  خلال سنة من تاريخ الفراق مع مراعاة ما ورد في الفصل 76 من مدونة الأحوال الشخصية ، المطبقة على النازلة ، والذي يتضمن أن  أقصى أمد الحمل هو سنة  من تاريخ الطلاق أو الوفاة  وإن ثبت أن  الطالب قد طلق زوجته ،  المطلوبة ، بمقتضى رسم الطلاق المؤرخ في 2 فبراير 1996، كما ثبت  من عقد الازدياد ، بتاريخ 17 شتنبر1996، الصادر  عن مكتب  الحالة  المدينة  ميلوز  بفرنسا  أن الطفلة ( ... ) ولدت من أبويها (...) لذلك فإنها قد ولدت داخل  سنة من تاريخ الفراق ،نسبها  ثابت  لأبيها الطالب  طبقا  لمقتضيات الفصل 76 ، مؤيدة الحكم الابتدائي فيما قضى به ، معللا بأن الحكم الأجنبي المحتج به الصادر عن محكمة  المنازعات  الكبرى  بميلوز بفرنسا ، بتاريخ 10 يوليوز 2000 ، حكم بأن المدعى عليه ليس أبا للطفلة  المزدادة بتاريخ 13 شتنبر 1996 بميلوز، اعتمادا على دراسة  الدم وتحليله لنفي نسب البنت المذكورة عن المدعى عليه، إلا أن ذلك مخالف لمقتضيات الفصل 76 المذكور،  كما أنه كان في وسع  الزوج  الطاعن نفي  النسب عن طريق اللعان . وحيث ثبت لقضاة الموضوع أن البنت ولدت داخل أجل السنة من تاريخ طلاق المطلوبة ، واعتبروها بنتا للمدعي عليه ، وهو ملزم بالإنفاق عليها .
وتجدر الإشارة إلى أن الاتجاه الذي عبر عنه المجلس الأعلى، في الحكم الماثل، القاضي يقصر وسائل  إثبات  النسب على طريق الإثبات المقررة شرعا ، المتفرعة عن الحديث النبوي الشريف الولد للفراش هو اتجاه ينتشر على نطاق واسع في العالم العربي، إذ لا تتوانى المحاكم، في أي  دولة من الدول العربية عن التصريح به  والوقوف  بالمرصاد  في وجه  أي  محاولة  للخروج  عنه .
 ومن الواضح أن  الاتجاه  الذي سار فيه المجلس  الأعلى، بمقتضى  القرار  الحالي، هو الذي ينسجم مع أحكام  ومبادئ  وأسس قانون  الأحوال الشخصية الإسلامي، إذ ما دامت  وسائل  إثبات  النسب محددة  انطلاقا من الحديث النبوي  المشار إليه ، فلا  داعي  لإضافة  وسائل  أخرى مستحدثة، بدعوى التقدم  العلمي  أو التطور  التكنولوجي، إذ  لا اجتهاد  مع مورد  النص، بدعوى  التقدم  العلمي  أو التطور  التكنولوجي ، إذ لا اجتهاد  مع مورد  النص، واعتبار لأن  الرسول محمد عليه الصلاة  والسلام، لا ينطق  عن  الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .
وبهذه  المناسبة ، نؤيد ، من جهتنا ، قرار المجلس الأعلى، الماثل، في ما ذهب  إليه، بل  وندعوه  إلى أن يبدي  نفس  الحرص والصرامة والوضوح في أي  حكم من أحكام  مدونة الأسرة  يمكن  احتمالا أن يكون  مخالفا لنص  شرعي ، قطعي الثبوت  والدلالة،  ونعني بذلك ، وعلى وجه  التحديد ، مسألة  وطء  العاقد  في  العدة  ولو بعدها ،  وهي المسألة التي  سكتت عنها  مدونة الأسرة  لسنة 2003 ، بحيث يتعين على القضاء  المغربي كله  أن يسير في النهج  الذي ظل  يسير عليه  منه  أماد بعيدة ، أي  الإعلان  عن حل  الزواج  الذي  يتم  بين رجل  و امرأة  أثناء  حملها منذ  نتيجة  الاتصال  الذي  وقع قبل إبرام  الزواج، وهي  مسالة  يسهل  التأكد  منها  إذا جاءت  المرأة  بولد  في مدة أقل من المدة الدنيا  للحمل  وهي  ستة أشهر  بمعنى أن سكوت مدونة الأسرة عن مسألة وطء العاقد في العدة ولو  بعدها يتعين إلا يفسر بأنه  إجازة  لها أو  للحمل أو الولد  الذي ينتج عنها، إذ أن الآية الكريمة الواردة في سورة البقرة، تقضي بكل جلاء  ووضوح  بأنه ولا  تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ."
وكما  تقدمت  الإشارة  إلى  ذلك  من ذي  قبل، يكتسي القرار  الذي  نحن  بصدد  التعليق عليه، أهمية قصوى من ناحية  علاقته  بقضية  أساسية من قضايا  القانون الدولي الخاص، ونقصد قضية  الاعتراف بالحكم الأجنبي من لدن القضاء الوطني ذلك أن طالب النقض، في النازلة موضوع الحكم الماثل ، ولنفي نسب البنت التي أنجبتها المطلوبة في النقض  يوم 13 شتنبر 1996 بعد طلاقها من الطالب المشهود بوقوعه يوم ثاني فبراير 1996 ، أقول إن طالب النقض أستند إلى حكم صدر عن محكمة الدرجة الكبرى بمدينة ميلوز الفرنسية يوم 10 يوليوز 2000 ، قضى بنفي نسب البنت المذكورة اعتماد  على دراسة الدم وتحليله لنفي نسب  البنت المذكورة عن المدعى عليه ."
ويبدو أن حكم المحكمة الفرنسية  المذكورة ، رغم أنه بات ، بدليل تنفيذه من قبل مصلحة الحالة المدنية  التي عمدت إلى التشطيب على البنت المذكورة  من سجل الحالة  المدنية لأبيها ، بحيث أصبحت  تحمل اسم أمها ، إلا أن المجلس الأعلى تعامل مع الحكم الفرنسي المذكور بنفس المعاملة التي يستقبل بها القضاء الفرنسي الأحكام الصادرة عن المحاكم المغربية ، بحيث تتلكأ المحاكم  الفرنسية  وتجتهد في البحث عن أي سبب ، ولو كان واهيا وتافها ، إلا أنه يؤدي إما إلى استبعاد  القانون المغربي  المختص بموجب الاتفاقية المغربية الفرنسية لسنة 1981 وإما  الامتناع عن منح الصيغة التنفيذية للحكم الصادر عن محكمة مغربية يتصل  بقضية من المغاربة .
ومن ثم ، قرر المجلس الأعلى ، من جهته هو الآخر وعلى غرار الأسلوب الذي تعتمده المحاكم الفرنسية في هذا السبيل والذي  يتمثل في الاستناد لمفهوم النظام العام ، إن يمتنع عن الاعتراف بالحكم الفرنسي الذي احتج به طالب النقض ، معلنا أن الاتفاقية المتعلقة  بحالة الأشخاص والأسرة وبالتعاون القضائي ، بين المملكة المغربية والجمهورية الفرنسية ، الموقعة بالرباط في غشت 1981، والمنشورة بالجريدة الرسمية بمقتضى ظهير 14 نونبر 1986، المستدل  بها  كذلك فإن الفصل الرابع من مقتضياتها العامة  ينص على أنه: يمكن العدول عن تطبيق قانون  إحدى الدولتين المحدد بمقتضى هذه الاتفاقية، من طرف محاكم الدولة الأخرى إلا إذا كانت منافية بصورة  واضحة  للنظام  العام .
والواقع أن رجوع المجلس الأعلى إلى اتفاقية 1981 لم يكن في  محله لسبب  بسيط  جدا هو أن الاتفاقية  المذكورة إنما تتعلق  بتطبيق القانون الفرنسي من قبل المحاكم المغربية أو تطبيق القانون المغربي من لدن المحاكم الفرنسية ولا علاقة لها بتنفيذ  الأحكام الصادرة عن قضاء أي دولة من الدولتين المتعاقدتين فوق تراب الدولة الأخرى باستثناء ما أشارت إليه المادة 13 من الاتفاقية المتعلقة برسوم الطلاق المخاطب عليها من لدن  قاض مغربي .
 وبناء على  ذلك في  وسع  المجلس  الأعلى  أن يصرف  النظر  عن الدفع  المستند  إلى الاتفاقية المغربية  الفرنسية لسنة 1981 ، لأنه دفع غير مجدي لاعتبارات  متعددة، منها أن عناصر  النازلة كلها تقتضي الخضوع  للقانون المغربي بمفرده ،ودون أن يزاحمه القانون الفرنسي في ذلك، إذ إن الطرفين معا يحملان الجنسية المغربية، والرابطة  التي تمخض عنها النزاع، أي  رابطة الزواج نشأت ونحلت في المغرب، و الدعوى القضائية الناشئة عن حل الرابطة  الزوجية  رفعت  أمام القضاء  المغربي  ، ومن ثم كان العنصر الأجني الوحيد في النازلة هو الحكم الأجنبي المتعلق بنفي النسب  .
ولسنا في حاجة للإشارة  أن النازلة ، موضوع الحكم محل التعليق الماثل ، تخضع دون شك  أو خلاف لمقتضيات  مدونة الأحوال الشخصية  لسنة 1957 ، لأن عناصر   النازلة كلها ، بما في ذلك الحكم الابتدائي  وقرار محكمة الاستئناف ، قد نشأت وتكونت و أنقضت قبل  صدور مدونة الأسرة لسنة 2003 ، وبالتالي فإن صدور قرار المجلس الأعلى في 9  مارس 2005 لا تأثير  له  مطلقا في هذا الميدان ، إذ  هو ينسجم  تماما مع الأحكام المقررة في مدونة 2003 التي قررت  أن تظل المقررات  الصادرة  قبل تاريخ  دخول هذه المدونة حيز التنفيذ خاضعة ، من حيث الطعون وأجالها  ، للمقتضيات المضمنة في  الظهائر المشار إليها في المادة 397 المكونة لمدونة الأحوال الشخصية لسنة 1957 .
وفي النهاية ، هناك مسألة واقعية ، يمكن التفكير فيها ، لا شأن للقضاء المغربي بها، تتعلق بمصير الحكم الماثل في فرنسا، على أساس أن واقع النازلة  التي صدر بشأنها حكم الغرف المجتمعة بالمجلس الأعلى توحي بأن طرفي النازلة وأحدهما على الأقل وهو الرجل المطلق ، أي الطالب في مرحلة النقض، يعيش في فرنسا، الأمر الذي يعني أن سلطان الحكم الصادر عن المجلس الأعلى محصور بالتراب المغربي، ومن ثم فإن  تسجيل البنت في الحالة المدينة إنما يخص الحالة المدينة المغربية دون الفرنسية ، كما  أن الإنفاق عليها إنما يتم استخلاصه من الأموال العائدة لأبيها والمـوجودة في المغـرب أما القـاضي الفـرنسي. 
 فلن يلتفت إلى  الحكم الصادر عن المجلس الأعلى ، إذا لجأت المرأة المطلقة  إلى فرنسا وطلبت تنفيذه ، لأن القاضي الفرنسي يمتنع  حتما عن تنفيذ أي أجنبي إذا كان يتعارض مع حكم سابق صدر عن إحدى المحاكم الفرنسية.






[1]  القرار نشر بمجلة "الملف" العدد السابع / أكتوبر 2005 ص: 232.

تعليقات