📁 آخر الأخبار

البيع الوارد على عقار في طور التحفيظ محمد الموساوي: باحث في قانون العقود والأعمال

البيع الوارد على عقار في طور التحفيظ   محمد الموساوي: باحث في قانون العقود والأعمال





البيع الوارد على عقار في طور التحفيظ   محمد الموساوي: باحث في قانون العقود والأعمال






البيع الوارد على عقار في طور التحفيظ

محمد الموساوي: باحث في قانون العقود والأعمال

    لم يكن النظام العقاري بالمغرب قبل أن يبتلى بالاستعمار يعرف أي انقسام، أما الآن وبحكم ما فرض علينا غصبا ابتداء ثم تقبلناه واشتغلنا ولازلنا نشتغل به إلى يومنا هذا، فإن كلمة العقار أمام هذا  الواقع لا نذكرها إلا وأضفنا إليها ما إذا كان محفظ أم لا. وإذا كان النظام القانوني للعقار المحفظ وغير المحفظ على علاته واضحا وجليا فيما يتعلق بالتصرفات الواردة عليه، فإن الأمر ليس كذلك إطلاقا بالنسبة للعقار في طور التحفيظ، خاصة إذا كان هذا الأخير محلا لعقد البيع، حيث  خيّر المشرع المغربي المشتري[1] لهذا العقار  سلوك إحدى المسطرتين وهما؛ مسطرة النشر بالجريدة الرسمية المنصوص عليها بمقتضى الفصل 83 ت.ع[2]، أو مسطرة الإيداع المُقرّة بنص الفصل 84 ت.ع[3] ،وإن كان المقام لا يتيح الوقوف على جل المشاكل المُفرزة عن هاتين المسطرتين، بدءا من هذا التخيير ذاته، فإننا سنحاول ملامسة بعض مكامن الخلل فيهما،وعينُنا في ذلك على الحماية المقرّرة للمشتري والتي-كما يبدو-تحضر نسبياً حين يتعلق الأمر بمسطرة النشر وتغيب غالباً لو تم سلوك مسطرة الإيداع.
  هذا المُعطى سيجرّنا بدايةً لبحث طبيعة النشر والإيداع(المحور الأول)، حتى نعيَ بالآثار المترتبة عنهما من وجهين،إحداهما إيجابي /حين تُحترم المسطرتين، والآخر سلبي /حين يُغفل هذا الإجراء، وهذا المنطِق وحده من سيقودنا للإجابة عن أهم تساؤل ربما قد يُطرح في هذا الموضع؛ ألا وهو مدى سريان قاعدة التطهير على الخلف الخاص؟ (المحور الثاني).





 


المحور الأول

الطبيعة القانونية للنشر والإيداع[4]

    إن تحديد طبيعة كل من مسطرتيْ النشر والإيداع يقتضي وجوباً بيان مناط اختلافهما بدايةً (أولا)، قبل التصدي لشاكلة ومضمون نزولهما معاً،وما أفرزه هذا النزول من إشكالات متعددة (ثانيا).
أولا: مناط الاختلاف بين مسطرتيْ النشر والإيداع[5]
    إن قراءةً متأنيةً للفصلين 83 و84 من ظهير التحفيظ العقاري تكفي لإجلاء مواضع التباين بينهما،وهي ثلاث؛
1-       إنِ المشتري فضّل سلوك مسطرة النشر اكتسب بذلك صفة طالب التحفيظ خلاف الأمر بالنسبة لطريق الإيداع،حيث تُتابع مسطرة التحفيظ  باسم صاحب المطلب الأصلي/طالب التحفيظ ويكتفي المشتري بإيداع العقد بصفته متدخلا،وإذا حصل وأن اتُّخذ قرار التحفيظ بشأن المطلب فإنه يُتَّخذ باسم طالب التحفيظ/البائع في حالتنا هذه،على أن يتم تقييد ملكية المشتري على الرسم العقاري المُنشأ للعقار المبيع[6].
2-       يترتب عن إتباع مسطرة النشر-وكما تدلُّ على ذلك تسميتها- نشر خلاصة إصلاحية للبيع بالجريدة الرسمية،في حين إذا تم سلوك طريق الإيداع يُكتفى بتقييد البيع بسجل التعرضات، ولا يُشهر بأي وسيلة من وسائل الإشهار.
3-     إنِ المشتري سلك طريق النشر،وتم فعلاً نشر خلاصة إصلاحية بشأن مبيعه بالجريدة الرسمية، يُفتح أجلاً جديداً للتعرضات ما لم يعلنُ بعد عن انتهاء عملية التحديد.                                                                             
ثانيا: إشكالية الضبط التشريعي لمسطرتيْ النشر والإيداع 
     حتى لا نكون تحكُّميين يتعيّن أن نظلّ متحفظين حول القصد من حشر المشرع للفصل 84 ت.ع وخلقِهِ بفعل ذلك مسطرة ثانية إلى جانب مسطرة النشر، ولكن ما هو مؤكّد أن هذا الإقحام إن وُجد لتحقيق غرضٍ ما فهو بالمقابل أثار إشكاليات عدّة، أبرزها ما يلي:
1-إشكالية المفاضلة بين المسطرتين ودور ذلك في حماية المتعرض؛ إن مبدأ الاختيار الذي وضعه المشرع بين يدي مكتسب الحق- المشتري في حالتنا هذه- ليس مبرّراً، إذ كان عليه أن يحسم ويقرر إتباع مسطرة واحدة دون الأخرى، فحتى وإن كانت مسطرة النشر (الفصل 83) تؤدي إلى الإطالة نوعاً ما من مسطرة التحفيظ، خصوصاً إذا تكرر تفويت العقار قيد التحفيظ أكثر من مرة، حيث يجد المحافظ نفسه في كل مرة أمام نقطة الانطلاق[7]، إلا أن ذلك ليس أقل ضرراً من إتباع مسطرة الإيداع التي تفتقر لجميع وسائل الإشهار الممكنة مما قد يؤثر على حقوق المتعرض بشكل سلبي[8].
2-إشكالية غياب أجل محدد للتعرض على الإيداع؛ حين أقرّ المشرع بموجب الفصل 24 من ظ.ت.ع إمكانية التعرض على حق تم إيداعه طبقاً للفصل 84 من ظ.ت.ع، أغفل التنصيص على أجل محدّد لهذا التعرض بخلاف التعرض على حق تم نشر خلاصة إصلاحية بشأنه بالجريدة الرسمية (الفصل 83 من ظ.ت.ع)، ورغم أن ما جرى به العمل هو ترك باب التعرض مفتوحاً إلى غاية تأسيس الرسم العقاري، إلا أن هذا لا ينفي كون هذا الفراغ يعدُّ قصوراً تشريعيا لابد من تداركه في أقرب تعديل ممكن.
3-إشكالية إلغاء مطلب التحفيظ ودور ذلك في حماية المشتري؛ إن من بين الأسباب الدافعة لإلغاء مطلب التحفيظ، حالة عدم تدعيمه بالوثائق والمستندات اللازمة (الفصل 30 ظ.ت.ع)[9]، وكذلك عدم كفاية الإجراءات (الفصلين 23 و50 من ظ.ت.ع )، وإذا ما تم اتخاذ القرار بإلغاء مطلب التحفيظ لأي سبب من الأسباب المذكورة، فإن ذلك يؤدي إلى إلغاء كل ما يتعلق بذلك المطلب بما في ذلك البيوع العقارية، فمصير الإيداع يظل معلقاً على مصير مطلب التحفيظ ذاته[10]، مماّ قد يؤدي إلى تهديد المشتري في حقه وجعل وضعه متذبذباً.













المحور الثاني

 آثار النشر والإيداع

    إن البحث في الآثار المنجرة عن عمليتيْ النشر والإيداع يقودنا بالضرورة إلى المرحلة اللاحقة لتأسيس الرسم العقاري، وإن كناّ سنركز على مسطرة الإيداع وليس النشر فذلك للاعتبارات السابق ذكرها، وهذه الآثار يمكن النظر إليها من زاويتين؛ فأما الأولى فيمكن تسميتها بالوجه السلبي لمسطرة الإيداع، ومعناها السؤال التالي؛ هل يفقد المشتري حقه بمجرد تأسيس الرسم العقاري إن هو أغفل القيام بهذا الإجراء؟ وهذا ما سنحاول الإجابة عنه (أولا)، وأما الثاني فيمكن أن نطلق عليه الوجه الإيجابي لمسطرة الإيداع، ومؤدّاه؛ هل تحظى الحقوق المودعة- بما في ذلك الملكية المُكتسبة عن طريق الشراء طبعاً- أثناء مسطرة التحفيظ بنفس القوة التطهيرية للرسم العقاري بعد تضمينها بهذا الأخير عند تأسيسه؟ وهذا ما سنعمل كذلك على الإجابة عنه (ثانيا).

أولا: مدى إمكانية ضياع العقار المُشترى بفعل التطهير
    يُقصد بمبدأ التطهير، تطهير العقار من كل الحقوق غير المصرح بها أثناء جريان مسطرة التحفيظ خلال الآجال المحدّدة لها، حيث أن هذه الحقوق تتلاشى وتندثر بصفة نهائية لا رجعة فيها[11]. ويُراد بالخلف الخاص من يتلقى من سلفه ملكية شيء معين بالذات أو حقًّا عينياً على هذا الشيء، والشيء الذي يتلقاه الخلف قد يكون هو ذاته حقا عينيا وهو الغالب، وقد يكون حقا شخصياً[12]، ولا شك أن النموذج البارز والأوضح للخلف الخاص، المشتري الذي يخلف سلفه/ البائع في الشيء المبيع. وبعد هذا التحديد المفاهيمي ننتقل الآن لجوهر النقاش المُثار حول هذه النقطة، ونمهِّد لذلك بالتذكير أن لا أحد يشك أو ينكر الأثر التطهيري لعملية التحفيظ العقاري، فيما يخص الحقوق التي لم يُعمل التعرض بشأنها من قبل الغير، وإلا فإن أي قول بعكس ذلك قد يجعلنا نضرب في أهم الأسس والمبادئ التي يقوم عليها نظام التسجيل العيني برمته ألا وهي هذه القاعدة التطهيرية. أمّا حين يتعلق الأمر بمواجهة الخلف الخاص- المشتري في هذه الحالة- بهذه القاعدة آنذاك تثار عدة نقاشات فقهية[13]، غير أنّنا- توخياً للاقتراب من الواقع العملي- سنصب تركيزنا على التضارب القضائي حول هذه النقطة ولا سيما ذلك الحاصل على مستوى محكمة النقض لوحدها.
   وهكذا صدرت عن محكمة النقض- المجلس الأعلى سابقاً- عدة قرارات متضاربة فيما بينها حيث ذهب البعض منها إلى استثناء الخلف الخاص من مبدأ التطهير بينما الأخرى لم تعتد بالتمييز بين هذا الخلف والغير، وسنحاول أن نورد نموذج واحد من كلا العينتين من بين القرارات الحديثة التي تنم عن تردد واضح لمحكمة النقض حول هذه المسألة.
    ففي قرار صادر عنها بتاريخ 18/03/2014 ذهبت إلى أن:" قاعدة التطهير المنصوص عليها في الفصل 62 من ظهير 12/8/1913 قاصرة على الحقوق والاتفاقات المحتج بها من لدن الغير الذي يتعين عليه أن يعلن عنها أثناء مسطرة التحفيظ طبقا لمقتضيات الفصل 84 من نفس القانون ولا يحتج بها على الخلف الخاص الذي انتقل إليه العقار من طالب التحفيظ الذي أصبح مالكا للرسم العقاري الذي لم يزده هذا الرسم إلا تثبيتا لملكيته ولا يسوغ له أن يتحلل من تصرفاته والتزاماته التي أبرمها بشأنه قبل إنشاء الرسم العقاري"[14].
   وفي قرار آخر صادر عن نفس المحكمة بتاريخ 21/07/2015 ذهبت من خلاله عكس القرار الأول حيث جاء فيه ما يلي:" حيث صح ما عابه الطاعنون على القرار ذلك أنه علل قضاءه بالتعليل المنتقد أعلاه، في حين أنه طبقا لمقتضيات الفصلين 1 و62 من ظهير التحفيظ العقاري فإن تحفيظ العقار يترتب عنه تأسيس رسم عقاري وبطلان ما عداه من الرسوم وتطهير الملك من جميع الحقوق السالفة غير المضمَّنة به، وذلك لأن الرسم العقاري نهائي ولا يقبل أي طعن ويعتبر نقطة الانطلاق الوحيدة للحقوق العينية والتحملات العقارية المترتبة على العقار وقت تحفيظه دون ما عداها من الحقوق العينية. وقاعدة تطهير هذه هي قاعدة عامة وآمرة، ولا مجال معها لإعمال الاستثناء الذي اعتمده القرار المطعون فيه، وذلك لعدم وجود نص قانوني يقضي به، الأمر الذي يكون معه القرار خارقا للمقتضيات المعمول بها، وعرضه بالتالي للنقض والإبطال.
وحيث إن حسن سير العدالة ومصلحة الطرفين يقتضيان إحالة الدعوى على نفس المحكمة"[15].
   وإن كان لنا رأي حول هذا الخلاف فإننا سنؤيد به الاجتهاد الذي يقضي باستثناء الخلف الخاص من الأثر التطهيري لقرار التحفيظ، وسندُنا في ذلك[16]مقتضيات ظهير التحفيظ العقاري نفسه، فالمقصود -من وجهة نظرنا- من عبارة "... تطهير الملك من جميع الحقوق السالفة غير المضمنة به؛" الحقوق التي لم يبادر أصحابها- وهم من الغير- بالتعرض على مسطرة التحفيظ بشأنها، وليس الحقوق التي تلقاها الخلف الخاص- وهو طرف- من طالب التحفيظ ذاته أثناء سريان مسطرة التحفيظ وأغفل إيداعها، وما يعضِّد هذا الطرح هو الصيغة التي ورد بها الفصل 84 من ظ.ت.ع، " إذا نشأ على عقار في طور التحفيظ حق خاضع للإشهار أمكن لصاحبه، من أجل ترتيبه والتمسك به في مواجهة الغير،..."، حيث يتضح منها وبجلاء أن الهدف من عملية الإيداع هو التمسك بالحق المكتسب تجاه الغير وليس تجاه البائع. وفضلا عن ذلك وجب أن نميِّز بين الالتزام ومحل هذا الالتزام؛ فالالتزام الملقى على عاتق البائع يتمثل في نقل الملكية للمشترى بصرف النظر عن طبيعة محل هذا الالتزام وبصرف النظر كذلك عن الظروف والإجراءات الواجب سلوكها لنقل هذه الملكية[17]، فإذا كانت ملكية العقار تنتقل بمجرَّد إبرام العقد إن كان غير محفظ أو في طور التحفيظ، فليس من المقبول حرمان المشتري من إجبار البائع على التدخل لينقل له ملكية مبيعه لا لشيء سوى لأنه وقع تحول في طبيعة هذا المبيع أو بالأحرى لأنه أضحى في حاجة إلى إجراء إضافي- وهو التقييد بالرسم العقاري- حتى تنتقل ملكيته.
 وبالتالي أمكن القول أن الحق ثابت للمشتري فيما يتعلق باستكمال إجراءات نفاذ البيع من قِبل المشتري بغض النظر عن تحول المبيع من عقار في طور التحفيظ إلى عقار محفظ، بل أبعد من ذلك يمكن القول أن المشتري هو من يستفيد من تحفيظ العقار المبيع ومن أثره التطهيري تجاه الغير.
ثانيا- مدى إمكانية التشطيب على الحق المودع بعد تأسيس الرسم العقاري
   إن أي تشكيك في الحجية المطلقة للرسم العقاري المؤسس للعقار أو الحقوق العينية العقارية التي قُدِّم بشأنها مطلباً للتحفيظ ابتداء يظل بدون أساس[18]، على خلاف الحقوق المُكتسبة أثناء سريان مسطرة التحفيظ- بما في ذلك طبعاً الملكية المكتسبة عن طريق الشراء- ، وخاصة تلك التي تم إيداعها تبعاً لأحكام الفصل 84 من ظهير التحفيظ العقاري، فالقول بالحجية المطلقة لهاته الحقوق عرف انقساما بين اتجاه مؤيدٍ (1)، وآخر معارض(2).
1 – الاتجاه المؤيد: لا يفرق هذا الاتجاه بين الحقوق التي تضمنها مطلب التحفيظ بداية وبين الحقوق الناشئة بعد مباشرة مسطرة التحفيظ، فجميعها تكتسب حجية مطلقة بمجرد أن تظهر على الرسم العقاري، بما في ذلك الحقوق المودعة طبقاً للفصل 84 من ظهير التحفيظ العقاري، لأن من يدعي خلاف صحة تلك الحقوق، كان عليه أن يتعرض على الإيداع قبل اتخاذ قرار التحفيظ[19]. ويجد هذا الاتجاه تأييداً من قبل بعض القرارات القضائية، من بينها قرار صادر عن المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا ) من بين ما ورد في حيثياته ما يلي:"..الحقوق التي يمكن أن يشطب عليها بمقتضى عقد أو حكم يثبت انقضاءها أو عدم صحتها هي التي يقع إشهارها بالرسم العقاري بعد أن يكون العقار قد حُفظ أما الحقوق التي يحفظ بها العقار فهي محمية بمقتضى القانون من عملية التشطيب"[20].
2 – الاتجاه المعارض: يناهض هذا الاتجاه فكرة الحجية المطلقة للتقييدات اللاحقة، ذلك لأنه ليس من العدل تحصين الحقوق المقيدة بناء على الفصل 84  ظ.ت.ع  ضد الطعن خاصة إذا علمنا أنه لا يتم إعلانها للعموم و لا تكون خاضعة للإشهار بأي وسيلة من الوسائل، مما يسمح بالقول أن هذه المسطرة سرية، وبذلك تكون مناقضة حتى لمبدأ التسجيل العيني ذاته، الذي يعدُّ مبدأ العلنية أثناء التحفيظ والتقييد من أبرز المبادئ التي تأسس عليها[21].
   وقد تحمس أحد الباحثين[22] لهذا الموقف حيث دعا إلى تأييده لأن الحجية لا تطال إلاّ قرار التحفيظ فقط دون باقي التقييدات المصاحبة لقرار التحفيظ ما دام أن أصحابها اختاروا المسطرة الأسهل والأسرع وهي مسطرة الإيداع طبقاً للفصل 84 ظ.ت.ع، وليس مسطرة النشر تبعاً للفصل 83 ظ.ت.ع. خاصة وأن المشرع خول لصاحب الحق الذي اكتسب حقا على عقار في طور التحفيظ مطلق الحرية في الاختيار بين المسطرتين، ويرى نفس الباحث أن الحجية المطلقة لها علاقة وطيدة بالشهر والعلانية، وهي الأسس التي لا وجود لها عند سلوك مسطرة الإيداع.
   وإن كان لنا موقف من هذا الاختلاف فإنه سيكون وسطاً بين هذين الاتجاهين، فلا نحن مع التشدُّد في القول بأن جميع الحقوق المضمَّنة بالرسم العقاري تكتسي حجية مطلقة، بما في ذلك الحقوق المودعة أثناء سريان مسطرة التحفيظ (الفصل 84)، ولا نحن أيضاً مع المتحمَّسين لعدم إكساء هذه الحقوق المودعة صبغة الحجية المطلقة، والقول بإمكانية التشطيب عليها بأي موجبٍ كان، لأن الأخذ به سيؤدي لا محالة إلى أوضاع متذبذبة ستؤثر بشكل سلبي على استقرار المعاملات العقارية. وإنما نرى أن هذه الحقوق تتمتع بحجية مطلقة ونسبية حسب الأحوال، شأنها شأن الحقوق المقيدة على الرسم العقاري بعد تأسيسه، وبالتالي فإن وجدت إمكانية للتشطيب عليها فهي نفس الإمكانية المخولة للتشطيب على الحقوق المقيدة بعد تأسيس الرسم العقاري، وفي الحدود الضيقة المرسومة لها[23]. إن الأخذ بهذا التوجه في اعتقادنا لا يبقى معه أساس للتحجج بتأثير هذا التشطيب على استقرار المعاملات، مادام أنه يُعمل به بالنسبة للعقار المحفظ فمن باب أولى أن يعمل به إذا كان العقار في طور التحفيظ.





[1]  وجب التنبيه إلى أن النص جاء عاما يتعلق بأي حق عيني أُكتسب على عقار في طور التحفيظ، بيد أن واجب التركيز يفرض تخصيص المتن للمشتري دون سواه.
[2]  ينص الفصل 83 من ظهير التحفيظ العقاري على ما يلي:"بغض النظر عن المسطرة المقررة في الفصل 84 من هذا القانون،يمكن لصاحب حق وقع إنشاؤه أو تغييره أو الإقرار به أثناء مسطرة التحفيظ أن يطلب نشره بالجريدة الرسمية بعد إيداع الوثائق المثبتة للحق بالمحافظة العقارية.
   تتابع مسطرة التحفيظ بصفة قانونية مع أخذ الحق المنشأ أو المغير أو المقر به بعين الإعتبار.
   يكتسب صاحب الحق المنشأ أو المغير أو المقر به صفة طالب التحفيظ في حدود الحق المعترف له به.
   إذا كان الإعلان عن إنتهاء التحديد قد تم نشره بالجريدة الرسمية فيجب أن يعاد نشره من جديد ليفتح أجل شهرين للتعرض،يبتدئ من تاريخ الإعلان عن الحق المنشأ أو المغير أو المقر به. وفي هذه الحالة لن تقبل إلا التعرضات المنصبة مباشرة على الحق المذكور.
   يؤخذ بعين الإعتبار عند التحفيظ الحق المنشأ أو المغير أو المقر به خلال المسطرة".
   وعلى سبيل المقارنة نجد هذا الفصل قبل تعديله بمقتضى القانون 07-14 كان يقضي بما يلي:"إذا وقع انتقال ملك بين أحياء أثناء جريان مسطرة التحفيظ فإن الإجراءات التي سبق إنجازها تعتبر عديمة الأثر إذا كان ذلك الانتقال قد شمل كل العقار.
   فإن لم يشمل الإنتقال إلا جزءا منه أمكن متابعة المسطرة أو إعادتها من أولها مع إدراج المالك الجديد. وبالتالي يكمل عند الإقتضاء التحديد والإعلانات.
   ويعمل بكل ذلك ما لم يتفق الأطراف على اتباع طلب التحفيظ كما قدم أولا مع احتفاظ المالك الجديد بحقه في الاستفادة من مقتضيات الفصل 84 من هذا الظهير".
ما يُسجّل على هذا النص السابق أنه كان يقتضي التمييز بين فرضين : فرض انتقال ملكية العقار موضوع مسطرة التحفيظ، ويؤدي ذلك إلى اعتبار الإجراءات السابقة لمسطرة التحفيظ عديمة الأثر، وفرض انتقال غير كلي للعقار، وهنا أمكن متابعة إجراءات التحفيظ مع إدخال المالك الجديد. وكما هو جلي فإن ما كان يقضي به النص القديم في حال الانتقال الكلي للعقار يعد إشكالا يسهم في تعقيد وبطء إجراءات التحفيظ،، تجاوزه المشرع بمقتضى التعديل الأخير.
  وبخصوص هذا المستجد والذي تبرز أهميته أكثر في علاقته بالفصل 37 ت.ع المتعلق بحالة الحكم بصحة التعرض أنظر: إدريس الفاخوري،نظام التحفيظ العقاري وفق مستجدات القانون 07-14،مطبعة المعارف الجديدة،الرباط،منشورات مجلة الحقوق ،طبعة 2013،ص:74

[3] يقضي الفصل 84 من ظهير التحفيظ العقاري بما يلي:"إذا نشأ على عقار في طور التحفيظ حق خاضع للإشهار أمكن لصاحبه، من أجل ترتيبه والتمسك به في مواجهة الغير، أن يودع بالمحافظة العقارية الوثائق اللازمة لذلك.ويقيد هذا الإيداع بسجل التعرضات.
  يقيد الحق المذكور عند التحفيظ بالرسم العقاري في الرتبة التي عينت له إذا سمحت إجراءات المسطرة بذلك".
[4] بخصوص الإيداع فإننا نفضِّل عدم مناقشته من حيث ماهيته بالمقارنة مع نظام التعرض على مسطرة التحفيظ من جهة ونظام التقييدات الواردة على الرسوم العقارية من جهة ثانية،بل سنناقشه انطلاقا من غايته،ولكن لا ضيْر في محاولة فرزه عمّا قد يتداخل به من آليات قانونية شبيهة له،فأما ما يميِّز الإيداع عن التعرض فهو الطابع النزاعي للثاني دون الأول، فالإيداع إذن يُجرى بموافقة طالب التحفيظ وبمجرّد أن يثار نزاع بشأنه انقلب إلى تعرض، وأما نقطة الالتقاء بين التعرض والإيداع فتتمثل في تقييدهما بنفس السجل ألا وهو سجل التعرضات، هذا فيما يخص فرز الإيداع عن التعرض، أما مسألة فرزه عن التقييد فنعتقد أنها لم تكن لتثار لو أن المشرع تجنّب تنظيم الإيداع في الموضع المخصص للتقييدات وهو القسم الثاني من ظهير العقاري المتعلق بإشهار الحقوق العينية العقارية المترتبة على العقارات المحفظة وتقييدها في السجل العقاري،ولكن ورغم هذه الهفوة التشريعية فإننا نرى أن نقطة التباين بين الإيداع والتقييد تكمن في المجال الزمني لإعمالهما،والقصد من وراء كليهما، فالأول يرد على عقار لا زال في طور التحفيظ ويضمَّنُ بسجل التعرضات والغاية  منه-مبدئياً- حفظ الحق وتفادي ضياعه بفعل التطهير،أما الثاني فيردُ على عقار محفظٍ ويضمّن بالرسم العقاري والغاية منه إشهار الحق المكتسب على ذلك العقار وبالتالي الاحتجاج به تجاه الغير،وهذا كله دون إغفال قاعدة كل ما يمكن تقييده يمكن إيداعه، والتي مؤداها أن الحقوق المكتسبة على عقار في طور التحفيظ مصيرها في نهاية المطاف التقييد بالرسم العقاري المُنشأ لهذا العقار بشكل عام.
[5] سنقتصر في الموضع على أوجه الاختلاف بينهما من الأثر المترتب عن كل منهما،في حد ذاتهما أما مسألة اختلافهما من حيث الغرض نرجئ الكلام عنه في المحور الثاني المتعلق بالأثر الناتج عنهما أثناء تفعيلهما.
[6] وهذا ما تبناه المجلس الأعلى(محكمة النقض حاليا)في أحد قراراته، حيث ورد ضمن حيثياته:"يتجلى من العرض أعلاه أن مسطرة تحفيظ العقار محل النزاع أصبحت تُتابع باسم [....] بصفتهما طالب التحفيظ أخيراً حلاّ محل طالب التحفيظ الأصلي موروث الطاعنين بالشراء منه المؤرخ في 15-06-1993،لكل العقار موضوع مطلب التحفيظ، وبالتالي فإن صفة الطاعن ورثة البائع المذكور أصبحت منعدمة في النزاع".
-قرار عدد 1494 مؤرخ في 15-2-2006،ملف مدني،عدد 2982-1-1-2005- أشار إليه عمر أزوكار:مستجدات التحفيظ العقاري في ضوء القانون 14/07 ومدونة الحقوق العينية،مطبعة النجاح الدار البيضاء،الطبعة الأولى 2012،ص 201-202.
[7] : هشام المراكشي، دور مسطرة إشهار العقار في طور التحفيظ والتصرفات الواردة عليه في حماية حقوق الأغيار، مجلة القانون المغربي، عدد 25 نونبر 2014، ص:128.
[8] حتى وإن كان المشرع قد جاء بمستجد غاية في الأهمية في هذا الخصوص بمقتضى القانون 14.07 والذي يتمثل في الفصل 24 من ظ.ت.ع حيث أقرّ من خلاله إمكانية التعرض على حق وقع الإعلان عنه طبقا للفصل 84 من ظ.ت.ع.
[9] : بغض النظر عن النقاش المثار حول هذه الوثائق والمستندات، ورغم التضارب الذي قد يبدو حاصلا بين الفصل 14 والفصل 37 مكرر من ظهير التحفيظ العقاري.
 [10] : عبد العالي الدقوقي، التقييدات الواردة على مطلب التحفيظ في إطار الفصل 84 من ظهير التحفيظ العقاري، المنازعات العقارية، سلسلة دراسات وأبحاث، منشورات مجلة القضاء المدني،مطبعة المعارف الجديدة، دار الآفاق المغربية- الدار البيضاء، 2014، ص: 130/131.
[11] : محمد الكشبور، التطهير الناتج عن تحفيظ العقار- تطور القضاء المغربي، قرار المجلس الأعلى بتاريخ 29 دجنبر 1999، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2005، ص: 16.
  وتجد هذه القاعدة أساسها التشريعي في الفصل 1 و62 من ظهير التحفيظ العقاري. هذا ويأتي مبدأ التطهير على رأس المبادئ التي يقوم عليها نظام التسجيل العيني، إلى جانب مبادئ أخرى وهي: مبدأ التنظيم العيني، مبدأ العلنية أثناء التحفيظ والتقييد، مبدأ مشروعية التسجيل، مبدأ حجية التسجيل، ومبدأ عدم سريان التقادم على الحقوق المسجلة.
-للمزيد من التفصيل هذا المبدأ، يُراجع: بوشعيب الإدريسي، التطهير في نظام التحفيظ العقاري وفق القانون رقم 14.07، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع- الرباط، 2014.
[12] عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، المجلد الأول، نظرية الالتزام بوجه عام، مصار الالتزام، الطبعة الثالثة، منشورات حلبي الحقوقية، بيروت، 2011، ص: 605.
[13] أنظر بخصوص هذا الاختلاف، محمد ابن الحاج السلمي، سياسة التحفيظ العقاري في المغرب: بين الإشهار العقاري والتخطيط الاجتماعي- الاقتصادي، منشورات عكاظ –الرباط، 2011، ص: 119 وما بعدها.
[14] قرار الغرفة المدنية القسم السابع بمحكمة النقض، عدد 153-7، ملف مدني عدد 2729/1/7/2013، غير منشور.
-           أنظر في نفس التوجه: "ينتج عن عقد البيع التزام يقع على كاهل البائع بنقل ملكية المبيع إلى خلفه الخاص المشتري بغض النظر عن مقتضيات الفصلين 83 و84 من ظهير التحفيظ العقاري، وبذلك فهو غير مشمول بقاعدة التطهير التي لا تتعلق الحقوق الشخصية بتحفيظه تجاه المشتري باعتباره خلفا خاصاً له، إذ يبقى ملزما بنقل ملكية العقار المذكور إليه حتى بعد التحفيظ". قرار صادر عن محكمة النقض بتاريخ 3/1/12 تحت عدد 40 في الملف عدد 3870/10 منشور بالمجلة المغربية للدراسات القانونية والقضائية، عدد 8، ص: 289 وما يليها. أورده محمد بفقير، ظهير التحفيظ العقاري الجديد والعمل القضائي المغربي، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2014، ص: 217-218.
-          أنظر قرارات أخرى:
-           قرار محكمة النقض عدد 3778 صادر بتاريخ 04-09-2012 ملف مدني عدد 4099-1-7-2010. مجلة القضاء والقانون عدد 164 ص: 251.
-          قرار محكمة النقض عدد 1576 صادر بتاريخ 05-04-2011 ملف مدني عدد 2301-1-7-2009، مجلة قضاء محكمة النقض عدد 74، ص: 82.
-          قرار محكمة النقض عدد 5925 صادر بتاريخ 29-12-1999، ملف مدني عدد 1151/94. منشور بمجلة الأملاك عدد 1 سنة 2006.
[15] قرار عدد 08/447، ملف مدني عدد 2015-1-8-846، غير منشور.

أنظر في نفس المعنى: - قرار محكمة النقض عدد 3245 صادر بتاريخ 24/09/2008 ملف مدني عدد 1527/1/3/2007، مجلة الإجتهاد القضائي، عدد2.
-          قرار محكمة النقض عدد 476 صادر بتاريخ 20/06/1996 في الملف الإداري عدد 2826/ 89. أورده عبد العزيز توفيق، التشريع العقاري والضمانات، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2012، ص: 142.
-          قرار محكمة النقض رقم 61 صادر بتاريخ 04-01-2006 ملف عدد 4229/1/1/2004، منشور بمجلة محاكمة عدد 1-2006 ص: 119.
-          حكم ابتدائية الناظور، صادر بتاريخ 07/10/2013، ملف عدد: 331/2005، غير منشور.
[16] بقطع النظر عن قواعد العدالة والإنصاف، وبقطع النظر كذلك عن كون البائع والحالة هذه في الغالب سيئ النية.
[17] والمفارقة المثيرة للاستغراب التي يمكن الإشارة إليها في هذا الصدد أن الأمر إذا تعلق بحق لا يستوجب التقييد فإنه لا يضيع بسبب التطهير، بمعنى إذا كان الحق المكتسب على العقار أثناء سريان مسطرة تحفيظه مثلا يتجلى في مجرد وعد بالبيع فإن هذا الحق الشخصي للموعود له تجاه طالب التحفيظ/ الواعد لا يُهدر باتخاذ المحافظ القرار بتحفيظ العقار، أماّ إذا تعلق الأمر ببيع تام فإنه يكون معرضاً للضياع بمجرد اتخاذ قرار التحفيظ بعلة غير منطقية مؤدّاها أن الحق الأول لا يخضع للتقييد بينما الثاني ليس كذلك. وهذا الرأي في اعتقادنا قد يؤدي إلى تحوير الوظيفة التي ما وجدت مسطرة الإيداع إلا أن تؤديها والمتمثلة في التمسك بالحق والحفاظ على رتبته، وليس العكس-حسب الرأي أعلاه- حيث يُفهم منه أن هذه المسطرة لها دور جزائي يؤدي إغفالها إلى ضياع الحق بشكل نهائي لا رجعة فيه.
-          أنظر بخصوص التوجه السابق: خير الدين الطاوس، إشهار الحقوق المكتسبة خلال مسطرة التحفيظ وآثارها في ضوء مستجدات القانون 14.07، الطبعة الأولى، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع- الرباط، 2015، ص: 34 وما بعدها.
[18] ما عدا الإستثناءات النادرة المتعلقة بإمكانية إلغاء قرار التحفيظ على مستوى القضاء الإداري. بخصوص هذا الموضوع، يُراجع: نورا الحجاجي، الطعن في قرار التحفيظ بين النص القانوني واجتهاد القضاء الإداري، الطبعة الأولى، مطبعة الأمنية- الرباط، 2015.
[19] ومن بين القائلين بهذا الرأي:
-          المختار عطار، المخاطر المهددة لمشتري العقار عند عدم تقديم حقه بالرسم العقاري، مجلة الأملاك، عدد 2006.1.
-          شكيب حيمود، وسائل حماية الحقوق الناشئة خلال مساطر التحفيظ العقاري، الندوة الوطنية في موضوع: الأمن العقاري، مجلة دفاتر محكمة النقض، عدد، 26، ص: 536.
[20] قرار صادر بتاريخ 17/06/87، تحت عدد 1401، الملف المدني عدد 99219، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 41 سنة 1988 ص: 23 وما يليها.
[21] ومن بين القائلين بهذا الرأي:
-          محمد شنان، عبثية الإبقاء على الأثر المطلق لقرار التحفيظ بعد الاستقلال، الندوة المشتركة حول نظام التحفيظ العقاري بالمغرب، بين كلية الحقوق/ أكدال والمحافظة العقارية، الرباط، 1992، ص: 91 وما بعدها.
-          محمد فلجي، قرار التحفيظ بين صحة السندات وسلامة الإجراءات، مجلة جمعية المحافظين، عدد 6 أبريل 1997.
[22] هشام المراكشي، مقالة مذكورة، ص: 133.

تعليقات