القائمة الرئيسية

الصفحات



أثر قرارات المجلس العالي لتفسير الدستور على تطبيق أسس النظام البرلماني في الأردن


أثر قرارات المجلس العالي لتفسير الدستور على تطبيق أسس النظام البرلماني في الأردن




أثر قرارات المجلس العالي لتفسير الدستور على تطبيق أسس
النظام البرلماني في الأردن

د.أمين العضايلة


المقدمة

يعد خضوع السلطات العامة لمبدأ سيادة الدستور اصلا مقررا وحكما لازما لكل نظام ديمقراطي سليم، وذلك لأن كل السلطات العامة في الدولة هي سلطات مؤسسة أنشأها الدستور، لذلك يكون لزاما على كل سلطة عامة، أيا كان شأنها وايا كانت وظيفتها وطبيعة الإختصاصات المسندة اليها، النزول عند قواعد الدستور ومبادئه والتزام حدوده، وإن هي خالفتها أو تجاوزتها شاب عملها عيب مخالفة الدستور، ويتوجب عندها الرجوع إلى مرجع مختص يحدده الدستور، تكون مهمته تحديد معنى النص الدستوري بدقة بغية الحفاظ على أحكام الدستور وصونها وحمايتها من الخروج عليها وارجاع السلطة المتجاوزة إلى جادة الصواب .

تبنى الدستور الأردني لعام 1952 وبشكل واضح أحكام النظام النيابي البرلماني، ويقوم هذا النظام كأصل على اساس التوازن والتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، لذلك فهو يعمل على جعل السلطتين على قدم المساواة مع إقرار علاقة متبادلة بينهما دون أن تتبع إحداهما الأخرى .

وقد بينت نصوص الدستور الأردني أركان هذا النظام، حيث نصت على أن تناط السلطة التشريعية بمجلس الامة والملك، ويتألف مجلس الامة من مجلسين الأعيان ويتألف من عدد لا يتجاوز نصف عدد أعضاء مجلس النواب، ويتم تعينهم من قبل الملك، ومجلس النواب ويتألف من أعضاء منتخبين إنتخابا عاما ومباشرا وسريا (1). كذلك نص الدستور على أن تناط السلطة التنفيذية بالملك ويتولاها بواسطة وزرائه وفق أحكام الدستور، وان الملك غير مسؤول على أن تتحمل الحكومة المسؤولية أمام مجلس النواب، ولاحداث التوازن والتعادل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية فقد اعطى الدستور السلطة التنفيذية الحق بحل البرلمان كسلاح ترد به على المسؤولية الوزارية (2) .

لم يأخذ الدستور الأردني بمبدأ الفصل المطلق بين السلطات، بل كان هناك نوع من التعاون والتداخل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية تفرضه طبيعة النظام البرلماني ومن مظاهر هذا التدخل ما تملكه السلطة التشريعية من وسائل رقابة على السلطة التنفيذية بواسطة السؤال والاستجواب وغيرهما (3). وفي الجانب الآخر من الصورة تملك السلطة التنفيذية حق دعوة البرلمان إلى الإنعقاد في دورات عادية وغير عادية واستثنائية، كما أن لها الحق في أن ترجئ وتؤجل اجتماعات البرلمان وتأمر بفض دوراته، كما تساهم السلطة التنفيذية في بعض جوانب العملية التشريعية، اذ يحق لها أن تقترح القوانين وتصادق عليها وتصدرها وتضع القوانين المؤقتة في حالة عدم انعقاد البرلمان أو حله وقيام حالة الضرورة (4).

وقد أدخل الدستور الأردني لعام 1952، وعلى خلاف الدساتير الأردنية السابقة، ضوابط تتعلق بتنظيم النشاط القانوني للسلطات العامة في البلاد، فقد نص على تشكيل المجلس العالي لتفسير الدستور، على أن تكون إحدى مهامه الرئيسية تفسير الدستور في حالة وقوع خلاف بين السلطات العامة حول تطبيق نص دستوري معين يتعلق بكيفية ممارسة إحدى السلطات لبعض إختصاصاتها، كما أن للمجلس العالي مهمة قضائية وهي محاكمة الوزراء عن الجرائم الناتجة عن تأدية وظائفهم .

لم يبحث من قبل موضوع تشكيل المجلس العالي لتفسير الدستور وإختصاصاته واثر قراراته في بعض جوانب الحياة الدستورية في الأردن، لذا سنبين في هذا البحث ما يلي :

المبحث الأول :  كيفية تشكيل المجلس العالي لتفسير الدستور وإختصاصاته .

المبحث الثاني :  الاسس العامة للنظام البرلماني في الأردن وقرارات المجلس العالي المتعلقة بها.


المبحث الأول
كيفية تشكيل المجلس العالي لتفسير الدستور وإختصاصاته

يستلزم البحث في كيفية تشكيل المجلس العالي لتفسير الدستور وإختصاصاته أن نعود إلى التجربة الأردنية التي سبقت تشكيل هذا الجهاز في الأردن بموجب دستور 1952، وذلك من خلال استعراض النصوص الدستورية الخاصة بكيفية تفسير الدستور في الدساتير الأردنية السابقة، ونستعرض أيضا وبأيجاز كيفية تشكيل الأجهزة المختصة بتفسير الدستور في بعض الدول الغربية، ونبين اخيرا في هذا المبحث إختصاصات المجلس العالي .






المطلب الأول
كيفية تشكيل المجلس العالي لتفسير الدستور في الأردن والأجهزة المختصة
بتفسير الدستور في بعض الدول العربية

أولا : كيفية تشكيل المجلس العالي لتفسير الدستور في الأردن

لم يرد في كل من القانون الأساسي لعام 1982 ودستور 1946 نصوص دستورية تقرر تشكيل جهاز مختص يتولى تفسير النصوص الدستورية، بل ترك امر تفسير أي نص قانوني إلى الديوان الخاص لتفسير القوانين العادية، ولكن مع إتباع إجراءات خاصة إذا كان التفسير يتعلق بنص دستوري .

فلقد استلزمت النصوص الدستورية مصادقة رئيس الدولة على التفسير المتعلق بنص دستوري، في حين أن تفسير نصوص القوانين العادية لا يحتاج إلى ذلك .

جاء في المادة (55) من القانون الأساسي لعام 1928 أنه :

أولا : إذا طلب رئيس الوزراء تفسير نص قانوني لم تكن المحاكم قد فسرته في خصوص النقطة المطلوب تفسيرها، فينظر فيها الديوان الخاص الذي يلتئم لهذا الغرض بناء على طلب رئيس الوزراء .

ثانيا : يؤلف الديوان الخاص من وزير العدلية وموظفين كبيرين من موظفي الإدارة، ينتخبهما المجلس التنفيذي وموظفين كبيرين من موظفي العدلية ينتخبهما المجلس القضائي العالي ويجتمع هذا الديوان برئاسة وزير العدلية .

ثالثا :  يعطي الديوان الخاص قراره في المسألة المعروضة عليه إذا رأى انها جديرة بأن يصدر قرارا بشأنها .

رابعا : يكون للقرارات التي يصدرها الديوان الخاص وتنشر في الجريدة الرسمية مفعول القانون.

أما ما تعلق منها بأي نص من نصوص القانون الأساسي فلا يعتبر نافذ المفعول ما لم يصدقه الامير .... "

وقد جاء في المادة (68) من دستور 1946 نفس الاحكام والصياغة التي وردت في المادة (55) من القانون الأساسي مع إختلاف يتعلق بصياغة الفقرة الرابعة منها، فقد جاء فيها ما يلي :

" .... أما ما تعلق بأي نص من نصوص الدستور فلا يعتبر نافذ المفعول ما لم يصدقه الملك ".

والذي نراه أن نص المادة 68/4 من دستور 1946 لم يكن موفقا في صياغته لأن الظروف التي ادت إلى اصدار القانون الأساسي لعام 1928 وجاءت به على شكل منحة هي التي اشترطت مصادقة الامير على تفسير القانون الأساسي. أما دستور 1946 فقد بينت ديباجته انه وضع بطريقة العقد كطريقة من طرق وضع الدساتير (5). لذلك فإن اشتراط مصادقة الملك على تفسير النص الدستوري، يعد من مخلفات الماضي ومخالفا لسنة التطور.

أما بالنسبة للدستور الأردني لعام 1952 فقد نصت المادة 57 منه على تشكيل مجلس عال لتفسير الدستور وقد كان تشكيل هذا المجلس لغاية عام 1958 على النحو التالي : " يؤلف المجلس العالي من رئيس أعلى محكمة نظامية رئيسا ومن ثمانية أعضاء اربعة منهم من أعضاء مجلس الأعيان يعينهم المجلس بالإقتراع واربعة من قضاة المحكمة المذكورة بترتيب الأقدمية، وعند الضرورة يكمل العدد من رؤساء المحاكم التي تليها بالأقدمية أيضا " وفي عام 1958 تم تعديل المادة 57 فأصبح تشكيل المجلس العالي لتفسير الدستور على النحو التالي :

" يؤلف المجلس العالي من رئيس مجلس الأعيان رئيسا ومن ثمانية أعضاء، ثلاثة يعينهم مجلس الأعيان من اعضائه بالإقتراع، وخمسة من قضاة أعلى محكمة نظامية بترتيب الأقدمية وعند الضرورة يكمل العدد من رؤساء المحاكم التي تليها الأقدمية أيضا " (5). والحقيقة انه لا فرق بين النص القديم والنص المعدل الا من حيث رئاسة المجلس العالي فبعد أن كانت جلسات المجلس تعقد برئاسة أعلى محكمة نظامية وهو رئيس محكمة التمييز أصبحت تعقد برئاسة رئيس مجلس الأعيان. والذي نراه أن النص اللاحق قد رجح التشكيل السياسي للمجلس العالي بدل التشكيل القضائي وراعى أيضا الجانب البروتوكولي .



ويستدل من منطوق المادة 57 من الدستور أن المجلس العالي يتكون من نوعين من الأعضاء :
أ‌- أعضاء تعينهم السلطة التشريعية وهم : رئيس مجلس الأعيان رئيسا وثلاثة أعضاء من مجلس الأعيان يعينهم المجلس بالإقتراع .
ب‌- أعضاء يعينون بحكم الدستور وهم خمسة قضاة من أعلى محكمة نظامية بترتيب الأقدمية وعند الضرورة يكمل العدد من رؤساء المحاكم التي تليها بترتيب الأقدمية .

بالنسبة للأعضاء في المجلس العالي الذين يتم تعيينهم من قبل السلطة التشريعية وهم : رئيس مجلس الأعيان وثلاثة أعضاء من مجلس الأعيان فإن تعيينهم في مجلس الأعيان يتم بإرادة ملكية استنادا إلى المادة 36 من الدستور التي تنص على أن " الملك يعين أعضاء مجلس الأعيان ويعين من بينهم رئيس مجلس الأعيان، الذي هو بدوره مؤهلا أن يكون عضوا في المجلس العالي. وهذه الشروط هي :

1. لا يكون عضوا في مجلس الأعيان من لم يكن أردنيا .
2. من يدعي بجنسية أو حماية اجنبية .
3. من كان محكوما عليه بالإفلاس ولم يستعد اعتباره قانونا .
4. من كان محجورا عليه ولم يرفع الحجر عنه
5. من كان محكوما عليه بالسجن مدة تزيد على سنة واحدة بجريمة غير سياسية ولم يعف عنه .
6. من كان له منفعة مادية لدى إحدى دوائر الحكومة بسبب عقد غير عقود استئجار الاراضي والاملاك ولا ينطبق ذلك على من كان مساهما في شركة اعضاؤها اكثر من عشرة اشخاص .
7. من كان مجنونا أو معتوها .
8. من كان من اقارب الملك في الدرجة التي يعينها القانون (7).

كذلك يشترط في عضو مجلس الأعيان أن يكون قد أتم اربعين سنة شمسية من عمره وان يكون من إحدى الطبقات إستقالة :

(رؤساء الوزراء، والوزراء والوزراء الحاليون والسابقون ومن اشغل سابقا مناصب السفراء والوزراء المفوضين، ورؤساء مجلس النواب ورؤساء وقضاة محكمة التمييز ومحاكم الاستئناف النظامية والشرعية، والضباط المتقاعدون من رتبة امير لواء فصاعدا والنواب السابقون الذين انتخبوا للنيابة لا اقل من مرتين ومن ماثل هؤلاء من الشخصيات الحائزين على ثقة الشعب واعتماده بأعمالهم وخدماتهم للامة والوطن(8)).

كما أن مدة العضوية في مجلس الأعيان اربع سنوات ويجوز إعادة تعيين من انتهت مدته منهم، ومدة رئيس مجلس الأعيان رئيس المجلس العالي بحكم منصبه سنتان ويجوز إعادة تعيينه، وللملك أن يحل مجلس الأعيان أو يعفي احد اعضائه من العضوية (9). وبالنتيجة فإنه يجوز للملك أن ينهي عضوية أي عضو في المجلس العالي وذلك بمجرد انهاء عضويته في مجلس الأعيان .

النصوص الدستورية السابقة تجيز الجمع بين وظيفة رئيس وزراء أو وزير وعضوية مجلس الأعيان وبذلك يمكن أن يكون رئيس الوزراء العين أو الوزير العين عضوا في المجلس العالي، ولكن لا يجوز لرئيس مجلس الأعيان أن يتولى منصبا وزاريا سواء منصب وزير أو رئيس وزراء، لأنه لا يجوز حسب النظام الداخلي لمجلس الأعيان الجمع بين عضوية المكتب الدائم في مجلس الأعيان والوزارة. وهذا ما اكده أيضا المجلس العالي لتفسير الدستور في قراره رقم 2 لسنة 1956(10).

أما فيما يتعلق بالجمع بين عضوية المجلس العالي والوظائف الأخرى، فقد حظرت النصوص الدستورية الجمع بين عضوية مجلس الأعيان وعضوية مجلس النواب والوظائف العامة التي يتناول صاحبها مرتبه من الأموال العامة ويشمل ذلك دوائر البلديات (11). وفوق ذلك فأنه يجوز لعضو المجلس العالي من الأعيان ممارسة أي مهنة دون قيد أو شرط وهذا برأينا يخالف المنطق، لأن عضو المجلس العالي من الأعيان قد يكون محاميا ممارسا ووكيلا لاحدى الجهات الرسمية في قضية ما، فإذا دخلت تلك الجهة الرسمية في خلاف مع جهة رسمية اخرى حول تفسير نص دستوري، وعرض الامر على المجلس العالي، فإنه لا يمكن التأكد من حياد ذلك العضو في تقسيره للنص الدستوري .

كذلك لم تشترط النصوص الدستورية السابقة أي خبرات قانونية لدى عضو مجلس الأعيان المعين في المجلس العالي، ولم تحدد سن التقاعد للأعضاء، أو سنا معينا إذا بلغه العضو عندها يفقد عضويته .

أما بالنسبة لأعضاء المجلس العالي من القضاة، فقد اشترط المشرع الدستوري أن يكونوا من قضاة أعلى محكمة نظامية بترتيب الأقدمية، وعند الضرورة يكمل العدد من رؤساء المحاكم التي تليها بترتيب الأقدمية أيضا، وقد قسمت المادة 99 من الدستور الأردني محاكم السلطة القضائية إلى ثلاثة انواع :


1. المحاكم النظامية .
2. المحاكم الدينية .
3. المحاكم الخاصة .
ويهمنا هنا من الانواع السابقة المحاكم النظامية فقط، التي حدد تشكيلها قانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 26 لعام 1952 (12). على النحو التالي :

‌أ. محاكم الصلح .
‌ب. محاكم البداية .
‌ج. محاكم الاستئناف .
‌د. محكمة التمييز .

تحتل محكمة التمييز قمة التشكيل القضائي في الأردن، وقد كانت تمارس مهام محكمة العدل العليا بالاضافة لصفتها الجزائية وصفتها الحقوقية، حيث جاء في قانون تشكيل المحاكم النظامية المذكور ما يلي:

تُشكل محكمة التمييز في عمان من رئيسين ................ وتنعقد بصفتها محكمة تمييز ومحكمة عدل عليا من رئيسين واربعة قضاة. إذا اشترك الرئيسان في هيئة واحدة فيرأس الجلسة الرئيس الأول وإذا لم يشترك الرئيسان في الهيئة المنعقدة يترأس المحكمة القاضي الاقدم وعند حدوث خلاف في الرأي تصدر المحكمة قرارها بالاكثرية (13).

وقد أصبحت محكمة العدل العليا مستقلة عن محكمة التمييز بموجب القانون رقم 12 لسنة 1992 (14). إذا جاء في المادة الثالثة منه ما يلي :

‌أ- تنشأ محكمة تسمى ( محكمة العدل العليا ) يكون مقرها عمان .
‌ب- يتم تشكيها من رئيس وعدد من الأعضاء والقضاة .
‌ج- ..................
‌د- يكون رئيس المحكمة برتبة رئيس محكمة تمييز كما يكون القاضي فيها بمرتبة قاضي تمييز .
يتبين مما سبق أن تعيين القضاة في المجلس العالي يتم من بين قضاه أعلى محكمة نظامية بترتيب الأقدمية وهي محكمة التمييز، وعند الضرورة، أي في حالة الرفض أو الإستقالة أو الوفاة على سبيل المثال يكمل العدد من رؤساء المحاكم التي تليها بترتيب الأقدمية ونحن نرى أن يكمل العدد من رئيس وأعضاء محكمة العدل العليا لأن قضاتها حسب التنظيم الحديث لهذه المحكمة هم من درجة قضاة محكمة التمييز .

والملاحظ أيضا، أن عبارة " وعند الضرورة " قد جاءت غير محددة وعامة ومرد ذلك برأينا إلى أن نصوص الدستور تأتي عادة عامة وفضفاضة لكي تستوعب مستجدات الحياة المستقبلية، وذلك لأن المشرع الدستوري لا يستطيع أن يتنبأ بجميع وقائع المستقبل، فمثلا لو أن النص السابق قد جاء محدد ونص على الإستقالة أو الاعتذار واستجدت امور اخرى كالوفاة أو غيرها عندها تصبح هذه المستجدات بدون مظلة من الدستور، من هنا، جاءت عبارة " وعند الضرورة " لازمة لكي تستوعب احتمالات المستقبل وهي مقيدة بخاتمة المادة التي نصت على أن يكمل العدد من قبل رؤساء المحاكم التي تليها بترتيب الأقدمية، وهذا يمنع التسلط على الجهاز بتعيين قضاة بدون ظوابط .

ثانيا : كيفية تشكيل الأجهزة المختصة بتفسير الدستور في بعض الدول الغربية .

سنعرض في الفقرات الآتيه كيفية تشكيل بعض الأجهزة المختصة بتفسير الدستور في بعض دول اوروبا الغربية وذلك حسب ما نصت عليه دساتيرها :

المحكمة العليا الدستورية في النمسا : نص الدستور النمساوي لعام 1945 على تشكيل " المحكمة العليا الدستورية " وتتكون من 14 عضوا يعينهم رئيس الدولة على النحو التالي : 8 أعضاء يتم تعينيهم بناء على إقتراح من الحكومة، 3 أعضاء بناء على إقتراح المجلس الوطني، 3 أعضاء بناء على إقتراح المجلس الإتحادي. ومدة العضوية في المحكمة العضوية 12 عاما أو بلوغ سن 70 عاما، ولا يجوز اعادة تعيينهم، كذلك يعين رئيس المحكمة ونائبه من بين أعضاء المحكمة ويجب أن يتمتع جميع الأعضاء بالخبرات القانونية (15).
المحكمة الدستورية الإتحادية في ألمانيا : نص الدستور الالماني لعام 1949 على تشكيل " المحكمة الدستورية الإتحادية " وتتكون من 16 قاضيا يعينهم البرلمان على النحو التالي : 8 أعضاء يعينهم المجلس الاتحادي " البندسناق " 8 أعضاء يعينهم مجلس الولايات (البندسترات ). ومدة العضوية في المحكمة 12 عاما أو بلوغ سن 68 عاما. ولا يجوز لعضو المحكمة الدستورية في المانيا أن يجمع بين عضوية المحكمة وعضوية المجلس الاتحادي أو مجلس الولايات والحكومة الإتحادية أو حكومة إحدى الولايات، كذلك لا يجوز الجمع بين وظيفة قاض في المحكمة الدستورية واي وظيفة اخرى ما عدا وظيفة استاذ قانون في الجامعة، ويجب أن يتمتع جميع الأعضاء بالخبرات القانونية (16).

المحكمة الدستورية في ايطاليا " نص الدستور الايطالي لعام 1947 على تشكيل المحكمة الدستورية ". وتتكون من 15 عضوا، يتم تعيينهم على النحو التالي : خمسة أعضاء يعينهم رئيس الدولة، وخمسة أعضاء يعينهم البرلمان، والخمسة الباقون تعينهم المحاكم العليا في إيطاليا: وهي : محكمة النقض، ومجلس الدولة، وديوان المحاسبة. ومدة العضوية في المحكمة 12 سنة، ولا يجوز الجمع بين عضوية المحكمة واي وظيفة اخرى، ويجب أن يتمتع جميع الأعضاء بالخبرات القانونية مثل قاض أو محام أو استاذ قانون  (17).

المحكمة الدستورية في إسبانيا : نص الدستور الأسباني لعام 1978 على تشكيل " المحكمة الدستورية وتتكون من 12 عضوا يعينهم جميعا الملك على النحو التالي :  يعين أربعة أعضاء بناء على إقتراح من مجلس الشيوخ، وعضوين بناء على إقتراح من الحكومة، ويعين العضوين الاخيرين بناء على إقتراح المجلس العام للسلطة القضائية، ويعين الملك رئيسا للمحكمة من بين أعضاء المحكمة بناء على إقتراح المحكمة ولمدة ثلاث سنوات، ومدة العضوية في المحكمة 9 سنوات غير قابلة للتجديد، ويجري تجديد ثلث الأعضاء كل ثلاث سنوات، ويجب أن يتمتع جميع الأعضاء بالخبرات القانونية (18).

المحكمة الدستورية في البرتغال : نص الدستور البرتغالي لعام 1976 والمعدل عام 1982 على تشكيل " المحكمة الدستورية " وتتكون من 13عضو يتم تعيينهم على النحو التالي :  عشرة أعضاء تعينهم جمعية الجمهورية، والثلاثة الباقون يتم اختيارهم من قبل زملائهم العشرة، ومدة العضوية في المحكمة 6 سنوات، ويجب أن يتمتع جميع الأعضاء بالخبرات القانونية وان يكون من بينهم ستة أعضاء سبق أن مارسوا مهنة القضاء قبل تعيينهم في المحكمة (19).

المجلس الدستوري في فرنسا : نص الدستور الفرنسي لعام 1958 على تشكيل " المجلس الدستوري " ويتكون من نوعين من الأعضاء : 1. أعضاء يعينون بحكم القانون ولمدى الحياة، وهم رؤساء الجمهورية السابقون. 2. تسعة أعضاء يتم تعيينهم على النحو التالي : ثلاثة أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية، وثلاثة أعضاء يعينهم رئيس الجمعية الوطنية، والثلاثة الباقون يعينهم رئيس مجلس الشيوخ. يعين رئيس الجمهورية رئيس المجلس الدستوري ويجري تجديد عضوية ثلث الأعضاء كل ثلاث سنوات. ومدة العضوية في المجلس 9 سنوات  غير قابلة للتجديد. ولا يجوز الجمع بين عضوية المجلس الدستوري وعضوية البرلمان أو الوزارة أو أي وظيفة اخرى .

من خلال عرضنا لكيفية اختيار أعضاء المحاكم الدستورية في كل من النمسا والمانيا وايطاليا واسبانيا والبرتغال وأعضاء المجلس الدستوري في فرنسا، نجد أن البرلمان في كل دولة يساهم بشكل واضح في تعيين أعضاء تلك المحاكم، لا بل رأينا كيف يحتكر البرلمان في المانيا عملية تعيين أعضاء المحكمة الدستورية الإتحادية .

كذلك يتبين من خلال عرضنا لكيفية تكوين المجلس العالي لتفسير الدستور في الأردن أن تشكيل المجلس لم يخرج كثيرا من الناحية الشكلية عما هو متبع في النماذج السابقة. فرئيس المجلس العالي هو رئيس مجلس الأعيان، ومجلس الأعيان هو المجلس الاعلى في السلطة التشريعية في الأردن، ورئيسه يترأس الجلسات المشتركة لمجلس الأعيان ومجلس النواب. ويشاركه ثلاثة من زملائه في عضوية المجلس العالي، والفارق بين الآلية المعمول بها في النماذج الموجودة في الدول الغربية وبين ما هو معمول به في الأردن أن البرلمانات في الديمقراطيات الغربية تختار أعضاء المحاكم الدستورية من خارج أعضاء البرلمان، أما في الأردن فإن مجلس الأعيان يختارهم من بين اعضائه .

ومعلوم أن جميع أعضاء مجلس الأعيان تعينهم السلطة التنفيذية، وبالمحصلة فإن أعضاء المجلس العالي من الأعيان تعينهم السلطة التنفيذية .

من جهة اخرى، اكدت النصوص الدستورية في الأردن أن القضاة الخمسة الذين يشغلون بقية المقاعد في المجلس العالي يتم اختيارهم بحكم مناصبهم وليس لاشخاصهم وهذا يذكرنا باختيار بعض أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا الذين يعينون بحكم الدستور وهم رؤساء الجمهورية السابقون، أي أن اقدم خمسة قضاة في أعلى محكمة يعتبرون حكما أعضاء في المجلس العالي .


المطلب الثاني

إختصاصات المجلس العالي لتفسير الدستور يعد المجلس العالي لتفسير الدستور من اهم التجديدات التي جاء بها دستور 1952، فقد اوكل لهذا المجلس بموجب أحكام الدستور إختصاصين محددين : الأول يتعلق بالمنازعات الدستورية، فهو يعد الجهاز الوحيد الذي تلجأ اليه السلطات العامة في حالة إختلاف الرأي حول تفسير نص وارد في الوثيقة الدستورية، والإختصاص الثاني يتعلق بالمسؤولية الوزارية، فقد اوكل للمجلس مهمة محاكمة الوزراء عن الجرائم الناتجة عن تأديتهم وظائفهم. وسنعالج هذين الإختصاصين على التوالي .
أولا :  تفسير الدستور :

يقصد بالتفسير تحديد معنى القاعدة القانونية وبيان مداها، وذلك بعدم الوقوف على المعنى الظاهر للنص، وانما بالكشف عن المعنى الحقيقي للنص الذي به يتم التوصل إلى روح التشريع حتى يتم الوقوف على مختلف العناصر التي صاحبت إرادة المشرع عند وضع التشريع (21).
أعطى الدستور الأردني لعام 1952 للمجلس العالي صلاحية تفسير أحكام الدستور، وقد جاء في المادة 122 منه ما يلي :  " للمجلس العالي المنصوص عليه في المادة 57 حق تفسير أحكام الدستور إذا طلب اليه ذلك بقرار صادر عن مجلس الوزراء أو بقرار يتخذه احد مجلسي الامة بالاكثرية المطلقة ويكون نافذ المفعول بعد نشره في الجريدة الرسمية .

يتضح من النص السابق أن المجلس لا يستطيع القيام بمهمة التفسير من تلقاء نفسه، بل لا بد أن تطلب اليه القيام بهذه المهمة إحدى الجهات الرسمية التي اعطيت حق دعوة المجلس العالي لكي يقوم بتفسير نص دستوري وهي : مجلس الوزراء أو احد مجلسي الأعيان أو النواب، وبقرار تتخذه الاكثرية المطلقة في المجلس .

ولكن لم تبين النصوص الدستورية الأصول والإجراءات التي يجب إتباعها من قبل المجلس عند قيامه بتفسير نص دستوري، فهي ابتداء لم تبين المدة التي يتوجب على المجلس التقيد بها حين يقوم بعملية تفسير النص الدستوري متى طلبت منه ذلك إحدى الجهات الرسمية سالفة الذكر. كما أن الإجراءات المتبعة من قبل المجلس اثناء عملية التفسير غير محددة بنصوص دستورية أو عادية، لا بل فهي غير معروفة، وهي برأينا ذات طابع عرفي، اذ لا نستطيع أن نعرف أي معلومات عن سير المناقشة أثناء عملية التفسير وهل هي شفاهية ام مكتوبة، وليس هناك جلسات علنية ولا اطراف خصومة، ولا يتم استدعاء شخصيات ذات تكوين قانوني، كل ذلك يضفي على عمل المجلس الطابع السياسي البحت. ولكن الشيء الذي تؤكده النصوص الدستورية هو كيفية عملية التصويت، فقد جاء في المادة 59 من الدستور ما يلي : " تصدر الاحكام والقرارات من المجلس العالي بأغلبية ستة اصوات ".

الواضح إذن أن القرارات التي تصدر عن المجلس في مجال إختصاصه بتفسير الدستور تكون بأغلبية ثلثي الأعضاء، ويحق للعضو المخالف أن يسجل مخالفته كتابة، ويرفقها مع القرار وتنشر مع القرار بالجريدة الرسمية، وهذا التقليد الخاص بالعضو المخالف رسخته التجربة العملية وليس النصوص .

من جهة اخرى لا يحق لاي جهة حكومية أو غير حكومية أن تطعن بقرار المجلس أمام جهة اخرى، ولكن السؤال هو: فيما إذا كان باستطاعة المجلس أن يتراجع عن قرار اتخذه في السابق حول تفسير نص معين، وان يتبنى ما يناقضة في مرحلة لاحقه.

ونرى انه حيث لا يوجد نص يحرم ذلك فإن باستطاعة المجلس أن يتراجع عن التفسير الذي تبناه في السابق إذا توصل في تفسير لاحق إلى الوقوف على المعنى الحقيقي للنص .

ثانيا :  محاكمة الوزراء عن الجرائم الناتجة عن تأدية وظائفهم :

نص الدستور الأردني لعام 1952 على أن يقوم المجلس العالي لتفسير الدستور بمحاكمة الوزراء على ما ينسب اليهم من جرائم ناتجة عن تأدية وظائفهم، كما نص على أن يقوم مجلس النواب باتهام الوزراء، وحدد القانون الواجب التطبيق والإجراءات الواجب إتباعها في المحاكمة، جاء في المادة 55 من الدستور ما يلي : " يحاكم الوزراء أمام مجلس عال على ما ينسب اليهم من جرائم ناتجة عن تأدية وظائفه ". وقد جعل الدستور الأردني حق الاتهام من إختصاص مجلس النواب، إذ قررت المادة 56 منه ما يلي:" لمجلس النواب حق اتهام الوزراء ولا يصدر قرار الاتهام الا باكثرية ثلثي اصوات الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب وعلى المجلس أن يعين من اعضائه من يتولى تقديم الاتهام وتأييده أمام المجلس العالي".

يتبين من النصوص السابقة أن الدستور قد حصر حق اتهام الوزراء بمجلس النواب، وسبب ذلك راجع إلى الرابطة التاريخية بين المسؤولية السياسية للحكومة ومسؤوليتها الجنائية (22). إذ تقع مسؤولية الحكومة من الناحية السياسية أمام مجلس النواب فقط (23). أما بالنسبة للمسؤولية الجنائية، فإن آلية عملها تختلف بعض الشيء عن المسؤولية السياسية فبينما يحتكر مجلس النواب جميع أحكام المسؤولية السياسية، فإنه لا يستطيع أن يمارس سلطتي الاتهام والقضاء في أن واحد بالنسبة للمسؤولية الجنائية ؛ لذلك اعطي مجلس النواب سلطة الاتهام وجعل القضاء في موضوع التهمة من إختصاص جهة اخرى هي المجلس العالي الذي لا يشترك أي من أعضاء مجلس النواب في عضويته .

يتعين على مجلس النواب إذا ما قرر اتهام احد الوزراء، أن يعين شخصا أو لجنة من بين اعضائة لتقوم بمهمة الاتهام والاثبات أمام المجلس العالي، ويتولى الشخص أو اللجنة مهمة النيابة العامة في اثبات التهمة الموجهة للوزير، ولا يحق لأي جهة قضائية اخرى في الدولة أن تقوم بدلا من مجلس النواب أو تشترك معه في هذه المهمة. وهذا ما اكده المجلس العالي لتفسير الدستور في قراره رقم 1 يتاريخ 29/2/1992 (24).

فيما يتعلق بالجرائم التي يمكن أن يحاكم الوزير من اجلها أمام المجلس العالي فقد نصت المادة 58 من الدستور على ما يلي :

" يطبق المجلس العالي قانون العقوبات المعمول به في الجرائم المنصوص عليها فيه، وتعين بقانون خاص الجرائم التي تترتب عليها مسؤولية الوزراء في الاحوال التي لا يتناولها قانون العقوبات ".

وفي عام 1952 صدر قانون محاكمة الوزراء رقم 35، وقد جاء في المادة الثالثة منه ما يلي :

" يحاكم الوزراء أمام المجلس العالي إذا ارتكبوا الجرائم إستقالة الناتجة عن تأدية وظائفهم "

الخيانة العظمى : وتتضمن الجرائم التي تقع على أمن الدولة أو الأمن  الخارجي كما هي محددة في قانون العقوبات، مخالفة أحكام الفقرة الثانية من المادة 33 من الدستور التي تنص على ما يلي:

" المعاهدات والإتفاقيات التي يترتب عليها تحميل خزانة الدولة شيئا من النفقات أو مساس في حقوق الأردنيين العامة أو الخاصة لا تكون نافذة الا إذا وافق عليها مجلس الأمة ولا يجوز في أي حال أن تكون الشروط السرية في معاهدة أو إتفاق ما مناقضة للشروط العلنية (25).

إساءة استعمال السلطة :  وهي جرائم الرشوة المنصوص عليها في قانون العقوبات، وجرائم الاختلاس وإستثمار الوظيفة المنصوص عليها في قانون العقوبات، ومخالفة أي حكم من أحكام الدستور المنصوص عليها في المواد 9، 12، 13، 15، 111 من الدستور وتعرض سلامة الدلة أو امنها لخطر ناشىء عن إهمال أو خطأ جسيمين، والموافقة على صرف أموال غير داخلة في موازنة الدولة (26).

والاخلال بواجب الوظيفة :  ويعد كذلك إذا اشترى احد الوزراء اثناء توليه الحكم أو استأجر شيئا من املاك الدولة ولو بالمزاد العلني، وإذا دخل في تعهدات أو مناقصات تعقدها أي إدارة عامة أو أية مؤسسة تابعة لإدارة عامة أو خاضعة لمراقبتها، إذا كان عضوا في مجلس إدارة شركة أو وكيلا عنها أو تعاطي التجارة (27).

أما فيما يتعلق بالعقوبات التي يمكن أن تطبق في هذه الحالات فقد أحال قانون محاكمة الوزراء على قانون العقوبات في بعض الجرائم، واضاف بعض العقوبات في جرائم اخرى (28).
وقد بينت المادتان (59،60) من الدستور الأصول التي يمكن أن تتبع في سير محاكمة الوزراء، إذا تركت للمجلس العالي الحرية بتنظيم سير المحاكمة ؛ وذلك إلى أن يصدر قانون خاص لهذه الغاية،(لم يصدر لغاية الآن )، ويصدر المجلس احكامه باغلبية ستة اصوات أي ثلثي الأعضاء .

قرر الدستور في المادة 61 منه ما يلي : " الوزير الذي يتهمه مجلس النواب يوقف عن العمل إلى أن يفصل المجلس العالي في قضيته، ولا تمنع استقالته من اقامة الدعوى عليه أو الاستمرار في محاكمته ".
يتبين أن إختصاص المجلس العالي بمحاكمة الوزراء يجعل منه جهة قضائية، وذلك لأن المجلس اثناء ممارسته لهذا الإختصاص يفصل في مسألة قانونية، بناء على خصومة وما يصدر منه من أحكام يتمتع بالحجية (29).

ولكن، لم نعثر من الناحية العملية على سابقة واحدة تبين كيفية اتهام ومحاكمة الوزراء أمام المجلس العالي، مما يجعل البحث في هذا الموضوع ذا طابع وصفي ليس إلا.

المبحث الثاني
الأسس العامة للنظام البرلماني في الأردن وقرارات المجلس العالي المتعلقة بها

يقوم الدستور في أي دولة بتسجيل الأسس العامة، التي يقوم عليها التنظيم السياسي في تلك الدولة، ثم تتولى السلطات العامة في البلاد مهمة وضع تلك الاسس موضع التنفيذ، ولكن قد يظهر اثناء التنفيذ خلاف حول تفسير بعض النصوص الدستورية، مما يستوجب اللجوء إلى جهة تقوم بمهمة التفسير، أن تحديد الجهة التي يتم اللجوء اليها في حالة إختلاف الراي حول تفسير نص وارد في الوثيقة الدستورية من المسائل الهامة التي يجب أن توليها السلطة التأسيسية اهتمامها عند وضع الوثيقة الدستورية .

وقد قام المجلس العالي لتفسير الدستور بمهمة تفسير النصوص الدستورية التي كانت محل خلاف حول تفسيرها، وحتى نستشف الد ور الذي قام به المجلس العالي في الحياة الدستورية في الأردن فإنه يتوجب علينا أن نفهم طبيعة العلاقة القائمة بين السلطات العامة في الأردن، أو بعبارة اخرى، يتوجب علينا معرفة المعنى القانوني الذي اعطاه المشرع الدستوري لمبدأ الفصل بين السلطات في الأردن، وهذا يقتضي دراسة الاساس التاريخي لمبدأ الفصل بين السلطات، وتحديد مفهوم مبدأ الفصل بين السلطات في النظام الدستوري الأردني وقرارات المجلس العالي التي صدرت بهذا الخصوص .

المطلب الأول
الاساس التاريخي لمبدأ الفصل بين السلطات

من المسلم به فقها أن السلطة في الدولة واحدة، وإذا كانت ممارستها تتم من قبل هيئة أو هيئات متعدد فإنها في جوهرها سلطة واحدة تمثل مصالح الفئة أو الفئات الاجتماعية التي تقبض على السلطة .

اعتمدت الانظمة الدستورية التي انبثقت في القرن التاسع عشر في اوروبا الغربية مبدأ الفصل بين السلطات، ذلك المبدأ الذي شكل اساس النظام الدستوري الليبرالي بما قدمه من مؤسسات وما طرحه من صيغ وافكار ما تزال شاخصة في بلدان اوروبا الغربية حتى وقتنا الحاضر .

وإذا كان ظهور مبدأ الفصل بين السلطات ينسب لمونتسكيو، لأنه اول من صاغه صياغه واضحة وعلمية، فإن الاساس التاريخي لمبدأ الفصل بين السلطات يرجع لاعلام وفلاسفة العهد السياسي في اليونان، امثال افلاطون وارسطو، ثم تلاهما في اواخر القرن السابع عشر الفقيه جون لوك. وستتولى ايضاح ذلك بإيجاز على النحو التالي :

‌أ- أوضح الفيلسوف افلاطون وظائف الدولة، وطالب توزيعها على هيئات مختلفة مع وجوب قيام التوازن بينها. وحكمة توزيع الوظائف بشكل متوازن بين هيئات الدولة تتمثل في منع إنفراد إحداها بسلطة الحكم كاملة، لأن هذا الانفراد يؤدي عادة إلى حدوث الإضطرابات والثورات (30).

‌ب- ويرى الفيلسوف أرسطو من جهته أن للدولة ثلاث وظائف وهي : سلطة المداولة وتختص باصدار القوانين وتولي امور الحرب والسلم وعقد المعاهدات والاشراف على حسن سير الاعمال في الدولة، ويقابلها في الوقت الحاضر السلطة التشريعية، وسلطة الامر وتختص في تنفيذ القوانين ويقابلها في الوقت الحاضر السلطة التنفيذية وسلطة العدالة وتختص في الفصل في الخصومات ويقابلها في الوقت الحاضر السلطة القضائية .

يتضح مما سبق أن أرسطو قد وسع من مهام السلطة التشريعية، كما أن دعوته إلى تقسيم وظائف الدولة طبقا لطبيعتها القانونية لم تكن دعوة إلى الفصل بين السلطات بمفهومها الحالي، ولكنها مهدت لها، لأن الفصل بين السلطات لا يتم بدون تقسيم وظائف الدولة القانونية (31).

‌ج- يعد الفقيه جون لوك رائدا من رواد مبدأ الفصل بين السلطات، وذلك لأنه اول من دعا إلى تقسيم وظائف الدولة والفصل بين الهيئات التي تمارسها .

ذهب لوك في أفكاره إلى أن أي نظام من أنظمة الحكم لا بد وأن تقوم فيه سلطتان : سلطة تضع القوانين وسلطة تتولى تنفيذها، مع ضرورة قيام سلطة ثالثة تتولى إدارة الشؤون الخارجية وأمور الحرب والسلم، ويرى لوك، نتيجة لذلك، ضرورة قيام ثلاث سلطات في الدولة : السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، والسلطة الثالثة يسميها لوك     " السلطة الإتحادية أو التعاهدية "، واكد على ضرورة الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية .

وكان تبرير لوك في ضرورة فصل السلطات على هذا النحو يقوم على أساس أن طبيعة عمل السلطة التنفيذية يتطلب وجودها بصفة دائمة في حين أن الحاجة ليست دائمة إلى وجود السلطة التشريعية. كما أن تركيز السلطتين في يد فرد واحد أو هيئة واحدة يؤدي إلى قيام شكل من أشكال الاستبداد والطغيان. ولتوخي ذلك يرى لوك ضرورة توزيع السلطتين المذكورتين على هيئتين مختلفتين مع تحديد إختصاص كل منهما (32).

‌د- يعود الفضل في إبراز الفصل بين السلطات وتحديد معالمه الواضحة إلى المفكر مونتسكيو في كتابة روح القوانين . يرى مونتسكيو أن الغاية الأساسية لاي نظام من أنظمة الحكم ينبغي أن تكون تحقيق الحرية. لكن لا يمكن تحقيق الحرية في نظام حكم تكون السلطات فيه متركزه في يد فرد واحد أو هيئة واحدة، حتى وإن كانت الهيئة منتخبة من قبل الشعب، بل يمكن تحقيق الحرية إذا وزعت وظائف الدولة على هيئات مختلفة بحيث تحول كل منها دون استبداد الأخرى وتكون رقيبة عليها .

ولقد وزع مونتسكيو وظائف الدولة على السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية :

فالسلطة التشريعية لديه تتكون من مجلسين : مجلس يتكون من النواب الممثلين للشعب ويتم اختيارهم بطريق الإقتراع العام، ومجلس اخر أرستقراطي يتكون من النبلاء، اضافة إلى كونه مجلسا وراثيا. وتختص هذه السلطة بإصدار القوانين المنظمة للانشطة المختلفة في المجتمع وتعديها والغائها. أما السلطة التنفيذية التي يسميها السلطة المنفذة للقانون العام، فيدخل في إختصاصها إعلان الحرب والسلام والشؤون الخارجية، ثم إقامة الامن العام ومنع الغزو الخارجي، ويدعو مونتسكيو إلى وضع هذه السلطة بين يدي رئيس الدولة لتحقيق الحرية، والسلطة القضائية وقد سماها السلطة المنفذة للقانون الخاص وحصر إختصاصها في فض المنازعات ثم توقيع العقوبات على المجرمين . ويبرر مونتسكيو مبدأ الفصل بين السلطات بحجتين :
 الأولى : مستمدة من التجارب التاريخية التي اثبتت بصورة مستمرة ومطردة أن تركيز السلطات في يد فرد واحد أو هيئة واحدة يؤدي دائما إلى إساءة استعمالها، ذلك أن ايا منهما سوف لا يجد من يقف في وجهة فيجنح نحو الاستبداد. ومن اجل الحيلولة دون هذا الإستبداد يجب أن توزع الوظائف في الدولة بين هيئات مختلفة، بحيث تختص كل هيئة بواحدة منها، وبحيث تكون كل هيئة رقيبة على الأخرى، وذلك حفاظا على حقوق الافراد وحرياتهم،
 أما الحجة الثانية : فمستمدة من الاختلاف بين وظائف الدولة من حيث طبيعتها، فالجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يعني أن يصبح المشرع هو المنفذ، مما قد يؤدي إلى اصدار قوانين جائرة وتطبيقها بطريقة ظالمة، أما الجمع بين الوظيفتين التنفيذية والقضائية، فإنه يؤدي إلى أن يصبح القاضي هو المنفذ، ويترتب عليه صدور أحكام غير عادلة، أما الجمع بين الوظيفتين التشريعية والقضائية، فإنه يؤدي إلى أن يصبح المشرع هو القاضي مما يترتب عليه صدور القوانين وفقا للحالات الفردية مما ينقل القوانين من العمومية والتجريد إلى الخصوصية والتحديد (33). لقد كانت المحصلة لافكار الفلاسفة حول مبدأ الفصل بين السلطات أن اطلق تعبير مبدأ الفصل بين السلطات على معنيين متباينين، إحداهما سياسي والاخر قانوني .

المعنى السياسي : فالمقصود به هو عدم تركيز السلطات في يد فرد واحد أو هيئة واحدة، ذلك لأن تركيز السلطة يؤدي إلى إساءة استخدام السلطة، وإلى إستبداد الفرد أو الهيئة القائمة على مباشرتها، وللحيلولة دون ذلك من المتعين عدم الجمع بين السلطات أو عدم تركيزها في يد فرد أو هيئة واحدة .

ولذلك قيل في الديمقراطيات الغربية أن مبدأ الفصل بين السلطات، الذي أصبح في تفسيره السليم ملازما للديموقراطية، هو قاعدة من قواعد فن سياسه الحكم واصل تمليه الحكمة السياسية لكفالة حسن سير مصالح الدولة وضمان الحريات الفردية، وعلى ضوء ما تقدم فإنه يتوجب توزيع وظائف الدولة على سلطات ثلاث : تشريعية وتنفيذية وقضائية .

أما المعنى القانوني :  فهو يستند إلى أن الدولة هي القانون، حيث يقوم القانون بتنظيم العلاقات بين الهيئات الحاكمة  أو ما بينها وما بين الافراد أو بين الافراد انفسهم، ويحتاج القانون إلى اعداد ثم تنفيذ وتطبيق، وإذا ترك امر ممارسة تلك المهام إلى جهة واحدة نكون في مواجهة ما يسمى بتركيز السلطة وما يترتب عليه من سلبيات، أو أن توزع تلك المهام على هيئات متعددة بشكل افقي بحيث تعطى كل وظيفة أو مهمة إلى هيئة مختلفة أو أن تجعل التوزيع عموديا، بحيث يكون التوزيع بشكل هرمي . وقد اختلف هذا المعنى من دولة إلى اخرى تبعا للاختلاف في تفسير هذا المبدأ، الذي ترتب عليه إختلاف تطبيق الدساتير له، وبالتالي في توزيعها لوظائف الدولة بين السلطات تبعا لاختلاف واضعي هذه الدساتير في تفسيرهم لمبدأ الفصل بين السلطات، وعليه اتجه الفقه الدستوري إلى تقسيم انظمة الحكم إلى ثلاث صور بالنظر من زاوية علاقة الهيئات بعضها ببعض وهذه الصور هي : تأخذ بعض الدول بنظام التعاون بين الهيئات، وذلك بقيام علاقة متبادله من التعاون والرقابة بين هذه الهيئات وهو ما يظهر في النظام البرلماني، وقد تفضل بعض الدول مبدأ عدم التعاون بين هيئاتها المختلفة مع ترجيح كفة السلطة التنفيذية وهو ما يظهر في النظام الرئاسي. وقد تعطي بعض الدول الأخرى مكان الصدارة للسلطة التشريعية وهو ما يظهر في حكومة الجمعية (34).
المطلب الثاني
مفهوم مبدأ الفصل بين السلطات في النظام الدستوري الأردني وقرارات المجلس
العالي المتعلقة به

بدأت الحياة الدستورية في الأردن في عام 1928، حيث صدر في ذلك العام القانون الأساسي لشرق الأردن، ولم تجسد نصوص هذا القانون ممارسة مظاهر السيادة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما انها لم تنطلق من مبدأ الفصل بين السلطات، وإنما اكتفت بوصف السلطات وبيان مسارها. وبقي هذا القانون معمولا به حتى صدور دستور 1946(35).  انطلق دستور 1946، وعلى خلاف القانون الأساسي لعام 1982، من مبدأ الفصل بين السلطات، ولكن من ترجيح كفة السلطة التنفيذية، وقد بقي هذا الدستور معمولا به لفترة ليست طويلة، حيث انتهى العمل به بصدور دستور 1952.

استطاع المشرع الدستوري الأردني في دستور 1952 أن يتلافى كثيرا من السلبيات التي كانت تشوه نصوص القانون الأساسي ودستور 1946. ففي البدء بينت الفقرة الاولى من المادة 24 من دستور 1952 من هو مصدر السلطات حيث نصت على أن " الامة مصدر السلطات " ونصت الفقرة الثانية من نفس المادة على أن تمارس الامة سلطاتها على الوجه المبين في الدستور " وأصبحت السلطات الثلاث منفصلة بشكل واضح عن بعضها البعض .

اناطت المادة 25 من الدستور السلطة التشريعية بمجلس الامة والملك وتم تحديد تلك السلطة بالمواد (62 – 92) من الدستور. اناطت المادة 26 من الدستور السلطة التنفيذية بالملك على أن يتولاها بواسطة وزرائه، وتم تحديد هذه السلطة بالمواد 28-61 من الدستور. واخيرا اناطت المادة 27 من الدستور السلطة القضائية بالمحاكم على إختلاف انواعها ودرجاتها، وقد تم تحديد هذه السلطة بالمواد (97 – 110) من الدستور. ولم ينص دستور 1952 صراحة على مبدأ الفصل بين السلطات. (37) وإنما انطلقت احكامه من هذا المبدأ، كما أن الفصل الذي تبنته نصوص الدستور لم يكن فصلا مطلقا بل فصلا مع التعاون والتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية و هكذا نجد أن أركان النظام النيابي البرلماني ومظاهره قد تقررت في النصوص الدستورية. وبذلك يتضح بجلاء نوع النظام الذي اعتنقه هذا الدستور وقام على اساسه .

يقوم النظام البرلماني على أسس ومبادئ اهمها عدم استطاعة البرلمان أو الحكومة أن يتمتع أي منهما بتفوق مستمر تجاه الآخر، وأن التوازن بينهما يجب أن تضمنه رقابة متبادلة ومستمرة من السلطات لبعضها البعض. وإذا كان التوازن يمكن التأكد منه بشكل نظري، فانه يصعب تحقيقه من الناحية العملية ؛ لأنه ينصب على ثلاثة عناصر : البرلمان ورئيس الدولة والحكومة .
سنعالج في هذا المطلب ومن وجهة نظر الدستور الأردني، بعض الأسس التي يقوم عليها النظام النيابي البرلماني واهمها : المساواة والتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ووسائل التأثير  المتبادلة بين هاتين السلطتين، ويبرر مساهمة المجلس العالي لتفسير الدستور في تأكيد تلك المبادئ والأسس وتدعيمها من خلال ايراد بعض قراراته بهذا الشأن .

أولا : المساواة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية :

يتطلب تحقيق المساواة بين البرلمان والسلطة التنفيذية أن تكون السلطة مستقلة وليست مجرد تابع في مواجهة البرلمان، وبالمقابل أن يتم اختيار أعضاء البرلمان عن طريق الإنتخابات لانهم ممثلو الشعب، ويمكن التوصل إلى تحقيق ذلك بواسطة الالية المتبعة في تشكيل كل سلطة من السلطات.

فالسلطة التنفيذية يقف على رأسها رئيس الدولة الذي يجب أن يكون غير مرتبط بالبرلمان بأي رابطة من روابط التبعية حتى لو كان تعيينه يتم من قبل البرلمان، وان لا يكون مسؤولا امامه لأنه يجسد هيبة الدولة ويمثلها، وتقف إلى جانبه الحكومة التي تكون مسؤولة عن جميع امور الدولة أمام البرلمان .

من جهة ثانية : ومن اجل تحقيق المساواة بين السلطتين، فإنه يفضل أن يكون البرلمان مكون من مجلسين، لأن هذا التقسيم من جهة نظر البعض يخفف من سيطرة البرلمان، من هنا، فإن فكرة الثنائية جاءت لكي تشكل مانعا لحدوث ديكتاتورية السلطة التنفيذية كما أن تقسيم البرلمان قد جاء لكي يمنع، رجحان كفة السلطة الأخرى وهذا يحقق فكرة ( الثقل والثقل المقابل ) Poids et Contrepoids   (39).

يقوم النظام البرلماني في الأردن على اساس المساواة بين السلطات، حيث يقوم من جهة على اساس ثنائية السلطة التنفيذية. إذ تنهض هذه السلطة على طرفين، الملك وهو غير مسؤول عن اعماله وقد جاء في المادة 30 من الدستور ما يلي : الملك هو راس الدولة وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية " وجاء في المادة 40 ما يلي " يمارس الملك صلاحياته بارادة ملكية وتكون الارادة موقعة من رئيس الوزراء والوزير أو الوزراء المختصين، يبدي الملك موافقته بتثبيت توقيعه فوق التواقيع المذكورة ". كما جاء في المادة 49 من الدستور ما يلي : " اوامر الملك الشفوية أو الخطية لا تخلي الوزراء من مسؤوليتهم ".

يوجد إلى جانب الملك مجلس وزراء، مكون من رئيس ووزراء مسؤولون عن اعمالهم أمام مجلس النواب، وقد جاء في المادة 41 من الدستور ما يلي : " يؤلف مجلس الوزراء من رئيس الوزراء رئيسا ومن عدد من الوزراء حسب الحاجة والمصلحة العامة ".
وجاء في المادة 45 من الدستور ما يلي : " يتولى الوزراء مسؤولية إدارة جميع شؤون الدولة الداخلية والخارجية باستثناء ما قد عهد أو يعهد به من تلك الشؤون بموجب هذا الدستور أو أي تشريع اخر إلى أي شخص أو هيئة اخرى " كما جاء في المادة 51 من الدستور أن " رئيس الوزراء والورزاء مسؤولون أمام مجلس النواب مسؤولية مشتركة عن السياسة العامة للدولة كما أن كل وزير مسؤول أمام مجلس النواب عن اعمال وزارته "

من جهة ثانية، ذكرنا في مقدمة هذا المطلب أن الدستور الأردني قد نص على أن يتألف مجلس من مجلسين هما : مجلس الأعيان ومجلس النواب. وجاء في المادة 63 من الدستور ما يلي : " يتالف مجلس الأعيان بما فيه الرئيس من عدد لا يتجاوز نصف عدد مجلس النواب " وجاء في المادة 67 من الدستور ما يلي : " يتألف مجلس النواب من أعضاء منتخبين إنتخابا عاما سريا ومباشرا وفقا لقانون الإنتخاب ... .... الخ ".

ومن هنا نرى أن المشرع الدستوري في الأردن قد جعل السلطتين التشريعية والتنفيذية على قدم المساواة، وزيادة على تأكيد التوازن والاعتدال جعل كل سلطة مكونة من جهازين، فأدخل في اطار مبدأ الفصل بين السلطات مبدأ اخر هو مبدأ الفصل في الإختصاصات داخل كل سلطة .

لقد حقق الدستور الأردني ما نادى بها المفكرون والفلاسفه بضرورة الفصل بين الهيئات الحاكمة فصلا عضويا يجعل كل هيئة تمارس عملها بشكل مستقل عن الهيئة الأخرى، وذلك منعا للاستبداد وضمانا لمبدأ الشرعية، وقد تطلب الفصل العضوي بين الهيئات الحاكمة فصلا اخر، وهو تحول دنون طغيانها، وبذلك يقوم التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وتحقق حماية حقوق وحريات الافراد .

على الصعيد العملي كان للمجلس العالي لتفسير الدستور مساهمة واضحة في الحفاظ على مبدأ الفصل بين السلطات بشقيه الفصل العضوي والفصل الوظيفي، وتحقيق التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية .

أ‌- ففي مجال الفصل العضوي، جاء في قرار المجلس رقم (2) لعام 1954 (38).
" بناء على قرار مجلس النواب الصادر بتاريخ 26/1/1954 بمقتضى المادة 122 من الدستور اجتمع المجلس العالي للنظر في تفسير أحكام الدستور فيما يتعلق بالنقطتين التاليتين :

1. هل يجوز لاي من رئيس مجلس الأعيان والنواب أو لاي عضو في المجلسين أن يكون عضوا في هيئة النيابة على العرش .
2. إذا جاز ذلك هل يجوز له وهو عضو في هيئة النيابة أن يرأس الجلسات ويمارس صلاحياته كعضو في احد المجلسين .

وبعد الاطلاع على قرار مجلس النواب المشار اليه وتقصي نصوص الدستور نجد فيما يتعلق بالنقطة الاولى :

أ‌- أن الفقرة (ط) من المادة 28 من الدستور تنص على انه " إذا اعتزم الملك مغادرة البلاد فيعين قبل مغادرته بارادة ملكية نائبا أو هيئة نيابة لممارسة صلاحياته مدة غيابه ".
ب‌- أن الفقرة (ل) من هذه المادة تنص على أنه " يشترط أن لا تكون سن الوصي أو نائب الملك أو احد أعضاء مجلس الوصاية أو هيئة النيابة اقل من ثلاثين سنة قمرية، غير انه يجوز تعيين احد الذكور من اقرباء الملك إذا كان قد اكمل ثماني عشر سنة قمرية من عمره .

ومن هذا يتضح أن نص الفقرة (ط) المشار اليها الباحثة عن تعيين نائب الملك وهيئة النيابة قد جاء مطلقا وليس فيه أو في غيره من مواد هذا الدستور ما يقيد هذا التعيين بقيود أو شروط معينة خلال ما اشترطته الفقرة (ل) الانفة الذكر من حيث السن فقط .

وحيث أن القواعد القانونية توجب أن يجري المطلق على اطلاقه، فإننا نرى انه ليس ثمة ما يمنع من تعيين رئيس مجلس الأعيان ورئيس مجلس النواب أو احد أعضاء هذين المجلسين عضوا في هيئة النيابة استنادا إلى الاطلاق الوارد في نص الفقرة (ط) المشار اليها .

‌أ- أن المواد (24 – 27) من الدستور قسمت السلطات إلى ثلاث : تشريعية وتنفيذية وقضائية وان المادة (25) الباحثة عن السلطة التشريعية نصت على أنه " تناط السلطة التشريعية بمجلس الامة والملك .... ".
‌ب- أن المادة (31) منه تنص على أن " الملك يصدق على القوانين ويصدرها ....."
‌ج- أن المادة (91) منه تنص على أنه " يعرض رئيس الورزاء مشروع كل قانون على مجلس النواب الذي له حق قبول المشروع أو تعديله أو رفضه وفي جميع الحالات يرفع المشروع إلى مجلس الأعيان ولا يصدر قانون الا إذا اقره المجلسان وصدق عليه الملك ".

ومن هذه النصوص يظهر جليا أن واضع الدستور أخذ بمبدأ الفصل بين السلطات وجعل السلطة التشريعية مؤلفة من ركنين اساسيين : مجلس الامة والملك، وحدد لكل سلطة من تلك السلطات ولكل ركن من أركانها حقوقه المتصلة بالتشريع، بحيث جعل التشريع في هذه المملكة ثمرة ثلاث عمليات اساسية وهي :

1. عرض مشروع القانون على مجلس الامة من قبل السلطة التنفيذية .
2. موافقة مجلس الامة على المشروع .
3. تصديق الملك .

وبما أن كل عملية من هذه العمليات تؤلف بحد ذاتها وحدة مستقلة وتدخل ضمن إختصاص ركن معين ذي كيان مستقل . وبما أن كل ركن من ركني السلطة التشريعية يعتبر مكملا للاخر ويراجع عمله، فاننا نرى انه لا يجوز لايهما أو لاي عضو فيهما أن يمارس صلاحياته وصلاحيات الركن الآخر في أن واحد، اذ بذلك تفوت مزية هذه المراجعة فيما يتعلق به .

هذا فضلا عن أن الازدواجية في العمل يتعارض مع مبدأ تحديد الإختصاصات المشار اليه ويتنافى مع طبيعة مركز رئيس الدولة المصون من كل تبعة ومسؤولية وما ينبغي أن يتصف به من حياد تام في ممارسة صلاحياته . ونخرج من هذا بأنه عندما يعين رئيس أو احد أعضاء مجلس الامة نائبا للملك أو عضوا في هيئة النيابة، فانه ينبغي أن ينحصر عمله في ممارسة صلاحيات الملك فقط، وان ينقطع عن الاشتراك في اعمال مجلس الامة طيلة مدة قيامة بتلك النيابة .


هذا ما تقرر بالإجماع في تفسير النقطتين المطلوب تفسيرهما .
صدر 22/2/1954
ونحن نؤيد ما جاء في قرار المجلس العالي لتفسير الدستور، لأنه وضع المسألة الدستورية محل الخلاف في موضعها السليم من الناحية العملية. فقد سبق أن نوهنا إلى أن الدستور الأردني لعام 1952 لم ينص صراحة على مبدأ الفصل بين السلطات وانما انطلقت نصوصه من هذا المبدأ، وبينا أيضا أن نصوص الدستور قررت ثنائية السلطة التنفيذية واناطت هذه السلطة بالملك على أن يتولاها بواسطة وزرائه، لذا فإنه لا يحق لاي شخص بخلاف الجالس على العرش أو من يحل محله حسب منطوق المادة 28/ط من الدستور أن تناط به تلك السلطة، وبمفهوم المخالفة لا يجوز الجمع بين ذلك المنصب واي وظيفة اخرى. لقد جاء قرار المجلس العالي بتفسير منطقي يؤكد الفصل العضوي بين السلطات ويحول دون دمج السلطة التنفيذية مع أي سلطة اخرى ويحافظ على التوازن والمساواة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهذا التوازن الذي يشكل جوهر مبدأ الفصل بين السلطات الذي اخذ به الدستور الأردني .

ب‌- في مجال الفصل الوظيفي بين السلطات، جاء في قرار المجلس العالي لتفسير الدستور رقم (1) لعام 1965 (39) ما يلي :
"بناء على قرار مجلس الوزراء الصادر في جلسته المنعقدة بتاريخ 3/4/1965 اجتمع المجلس العالي في مكتب دولة رئيس مجلس الأعيان لاجل تفسير المادة 120 من الدستور وبيان :

1. ما إذا كان من الجائز اصدار قانون بالتنظيمات الادارية وتنظيم شؤون الموظفين ام أن ذلك يجب أن يكون بنظام .
2. ويفرض أن تنظيم شؤون الموظفين يجب أن يتم بنظام، ما هو مصير قانون الخدمة المدنية رقم 48 لسنة 1963 .

وبعد التدقيق والمذاكرة تبين لنا أن الدستور في المواد (24-27)، أقر مبدأ الفصل بين سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية فأناط السلطة التشريعية بمجلس الامة والملك، والسلطة التنفيذية بالملك الذي يتولاها بواسطة وزرائه، السلطة القضائية بالمحاكم على إختلاف انواعها ودرجاتها وتصدر جميع الاحكام وفق القانون بإسم الملك .

فبالنسبة للسلطة التشريعية، فإنها تملك حق التشريع في كل الموضوعات باستثناء المسائل التي انيط حق التشريع فيها لسلطة اخرى بمقتضى نص خاص في الدستور .

وقد اناطت المادة 120 من الدستور بالسلطة التنفيذية حق التشريع في مسائل عينتها بطريق الحصر اذ نصت على ما يأتي :
" التقسيمات الادارية في المملكة الأردنية الهاشمية، وتشكيلات دوائر الحكومة ودرجاتها وإسماؤها ومنهاج ادارتها وكيفية تعيين الموظفين وعزلهم والإشراف عليهم وحدود صلاحياتهم وإختصاصاتهم تعين بأنظمة يصدرها مجلس الوزراء بموافقة الملك .

وعلى ذلك فإن السلطة التشريعية لا تملك حق التشريع في المسائل المنصوص عليها في هذه المادة لأن الدستور قد أناط هذا الحق بالسلطة التنفيذية على إعتبار أنه من الضمانات الدستورية اللازمة لإستقلال السلطة التنفيذية، فإذا خرجت السلطة التشريعة على هذا المبدأ وتناولت تلك المسائل بالتشريع فان القانون الذي تصدره بهذا الشأن يكون مخالفا للدستور .

وتأسيسا على هذا نخرج بالتفسير التالي :

1. أن أي تشريع يتعلق بالتنظيمات الادارية وشؤون الموظفين يجب أن يصدر عن السلطة التنفيذية بنظام إذا كانت الموضوعات التي يتناولها ذلك التشريع من المسائل المنصوص عليها في المادة 120 من الدستور .
2. بما أن الامور المنصوص عليها في قانون الخدمة المدنية رقم 48 لسنة 1963 تدخل في نطاق المسائل الواردة في المادة 120 سالفة الذكر، فإن تنظيمها يجب أن يتم بنظام تصدره السلطة التنفيذية استنادا لهذه المادة، وبذلك يعتبر القانون المشار اليه مخالفا لاحكام الدستور وهذا لا يجعله غير قائم بل لا بد من الغائه بقانون جديد .

هذا ما نقرره في تفسير النص المطلوب تفسيره.

صدر  في 1/5/1965

مخالفة عضو المجلس العالي
العين بهجت التلهوني

" لقد نصت المادة 22 من الدستور ما يلي : لكل أردني حق في تولي المناصب العامة بالشروط المعينة بالقوانين أو الانظمة ".

ونصت المادة 120 من الدستور ما يلي " التقسيمات الادارية في المملكة الأردنية الهاشمية وتشكيلات دوائر الحكمة ودرجاتها وإسماؤها ومنهاج ادارتها وكيفية تعيين الموظفين وعزلهم وكيفية الاشراف عليهم وحدود صلاحياتهم وإختصاصاتهم تعين بأنظمة يصدرها مجلس الوزراء بموافقة الملك .

من هاتين المادتين اخرج بالراي، انه لو حددت السلطة التنفذية شؤون الموظفين تعيينا وعزلا واشرافا لتمشي ذلك مع النص ولو تحدد ذلك بقانون، فليس هناك مخالفة دستورية وخاصة إذا ما اخذنا بعين الاعتبار أن التطبيق العملي سواء ورد ذلك بقانون أو نظام يترك للسلطة التنفيذية امور التنفيذ بتعيين وعزل ونقل الموظفين .
إذا فالمسألة ليست منازعة وظيفة أو صلاحية أو إختصاص، لأن السلطة التشريعية لا تنازع السلطة التنفيذية صلاحياتها العملية كالتعيين أو العزل أو الاحالة على التقاعد أو غير ذلك من الامور التي نصت عليها مواد الدستور.

أخرج من هذا إلى أن الدستور الأردني وضع عام 1952، وديوان الموظفين استحدث عام 1954، فالدستور الأردني نظم اوضاع الدوائر الموجودة بقوانين كديوان المحاسبة والجيش والامن العام والبلديات والقضاة ولو كان ديوان الموظفين موجودا انذاك لما فرق الدستور بين موظفي الدولة ومؤسساتها حتى أنني أميل لو جاء نص المادة 127 المتعلقة بالجيش والشرطة قد جاء محددا بنظام وليس بقانون .

لقد أقرت دول كثيرة تنظيم شؤون الموظفين بقوانين، كالعراق وسوريا ولبنان ومصر والكويت واعتقادي أن ما سرنا عليه منذ عام 1954 صحيح، ويتمشى مع الدستور معنى ومفهوما وروحا، فالقانون المخالف للدستور هو القانون الذي يتعارض مع المبادئ العامة للدستوركأن يسن قانون يتعارض مع حرية الاديان أو حرية الفرد أو يخالف المواد الواردة في الفصل الثاني من الدستور المتعلقة بحقوق الأردنيين وواجباتهم.

ويؤيد ما ذهبت إليه، ما جاء في أصول القانون للدكتور السنهوري حيث جاء في الصفحة 169 – 181 ما نصه " أما إذا إستوفى التشريع الرئيسي الشكل، ولكنه خالف الدستور من حيث الموضوع بأن جاء ماسا بأحد مظاهر الحرية الشخصية التي كفلها الدستور أو مفرقا في المعاملة بين الناس أمام القانون، وقد حددت القوانين المخالفة للدستور حصرا بأنها القوانين المخالفة للنظام العام أو الاداب العامة .

وقد جاء في كتاب نظرية القانون للدكتور عبد الفتاح عبد الباقي استاذ القانون المدني في كلية الحقوق بجامعة القاهرة ما نصه " ينظر إلى القانون عادة من ناحيتين : ناحية الشكل وناحية الموضوع . فناحية الشكل تعني أن تراعى الإجراءات التي يحتمها الدستور لِسنه أو لنفاذه وهي مروره في مراحله الدستورية.

أما من ناحية الموضوع فهي أن لا يخالف قواعد الدستور، وقد ضرب على ذلك مثلا صدور قانون يعاقب الذين يؤدون الصلاة في معابدهم فهذا القانون مخالف للدستور الذي يقرر حرية العقيدة .

وانني بعد أن بينت ما سلف، أعتقد على ضوء ما تقدم بأن قانون الخدمة المدنية لا يخالف الدستور ولا يتعارض مع احكامه . وإذا نظرنا نظرة فاحصة إلى نص المادة 120 من الدستور لا نرى انها تمنع أو لا تجيز تحديد شؤون الموظفين بقانون بل جاءت مطلقة، وإذا اخذنا التشريع بمعناه وروحه ومدلوله لا أرى رأي الاكثرية المحترمة 1/5/1965.

بعد أن وضعنا رأي الاكثرية ومخالفة احد أعضاء المجلس حول تفسير نص المادة 120 من الدستور، فإننا نؤيد الاكثرية فيما ذهبت اليه، فلقد حددت نصوص الدستور الأردني مجال كل من القانون والنظام، وبالتالي وظيفة كل من السلطة التشريعية والتنفيذية، كما جاء مجال النظام محددا على سبيل الحصر كما ورد في المواد 45، 114، 120، وترك المشرع الدستوري امر تنظيم بقية المواضيع إلى القانون. وسبب ذلك انه يقع على عاتق السلطة التنفيذية اتخاذ القرارات اللازمة لتحقيق التنظيم الاداري في الدولة، والمواضيع محل الخلاف تعد من صميم عملها، لذا فقد اقتضت الحكمة أن يترك تنظيم تلك الامور للسلطة التنفيذية، فهي تجيد التشريع في تلك الامور وتخفف عن كاهل السلطة التشريعية كثيرا من الاعباء التي تتطلب دراية وخبرة فنية في مجال التشريع وما قامت به السلطة التشريعية في تشريعها محل التفسير بعد تجاوزا على المساواة التي اقرها الدستور بصريح العبارة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبذلك جاء قرار المجلس العالي مانعا لهذا التجاوز .



ثانيا :  التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية .

بينا فيما سبق أن ثنائية السلطة التنفيذية تعد من اهم سمات النظام النيابي البرلماني، وتشكل الحكومة المحرك الرئيس لهذا النظام، اذ تعمل كوسيط بين رئيس الدولة غير المسؤول والبرلمان. وتشكل الحكومة في هذا النظام بناء على تكليف من رئيس الدولة، وتتكون من الاغلبية في البرلمان، وتحدد هي بنفسها سياستها العامة التي تدافع عنها أمام البرلمان، وغالبا ما تكون هذه السياسة هي سياسة الحزب الذي حاز على اغلبية المقاعد في البرلمان، ولكن إذا كان التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كما بيناه سالفا، يؤدي إلى المساواة بين هاتين السلطتين من الناحية النظرية، ويؤكد من جهة ثانية استقلال كل منهما من الناحية القانونية، فإنه يمكن أن يؤدي على الصعيد العملي إلى أن تتجاهل إحدى السلطتين الأخرى أو تعمل على تحييدها، لذلك وحسب مقولة مونتسيكو " يجب أن تعملا كفريق واحد " ILS DOIVENT ALLER DE CONCERT(41). ويمكن أن يتحقق التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من الناحية العملية بمساهمة السلطة التنفيذية في الوظيفة التشريعية وذلك بإجراءات شكلية كإقتراح القوانين والتصديق والاصدار، وبإجراءات مادية كممارسة وظيفة اصدار الانظمة، وبابلاغ البرلمان بالمشاكل التي تواجهها، أو بطرح الحلول لبعض المشاكل التي نراها ملائمة من وجهة نظرها (42). من جهة اخرى، يستطيع البرلمان أن يتعاون مع السلطة التنفيذية في مجال إختصاصها، وذلك بالسماح له بممارسة بعض إختصاصاتها، سواء على الصعيد المالي باجازة الموازنة أو على الصعيد الدبلوماسي باجازة المعاهدات التي تعقدها الحكومة (43). ولكن التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يمكن أن يؤدي إلى بروز مشكلة تتمثل بزوال ازدواجية السلطتين بحيث تصبح السلطتين عنصرين في جهاز واحد، ولكن انصار النظام النيابي البرلماني يدحضون هذا الزعم بحجة أن التوازن بين السلطتين قادر على منع ذلك الذوبان والإندماج (44).

الدستور الأردني لعام 1952 نص على تلك المبادئ، حيث سمح للسلطة التنفيذية بان تشارك في العملية التشريعية عن طريق الإقتراح التشريعي وعن طريق وضع الانظمة المستقلة في الظروف العادية والاستثنائية (45).  وبالمقابل اعطي للبرلمان صلاحية التصديق على المعاهدات التي يترتب عليها تحميل خزينة الدولة شيئا من النفقات أو مساس في حقوق الأردنيين العامة أو الخاصة، وصلاحية إقرار الموازنة والقوانين المالية ومراقبة تنفيذها (46).

ولقد ساهم المجلس العالي لتفسير الدستور في تأكيد تلك المبادئ اذ صدرت عنه عدة قرارات في مجالات التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وسنكتفي هنا بذكر بعض تلك القرارات التي اصدرها المجلس في بعض مجالات التعاون بين السلطتين .


أ‌- مساهمة السلطة التنفيذية في الوظيفة التشريعية :

صدر عن المجلس العالي في هذا المجال القرار رقم (1) لسنة 1955 (47) وجاء فيه ما يلي :

بناء على قرار مجلس الوزراء الصادر بتاريخ 14/12/1954 رقم 2-3-2-8926 اجتمع المجلس المنصوص عليه في المادة 57 من الدستور لأجل تفسير أحكام المادتين 91 و 95 منه وبيان مدى حق مجلس النواب في تعديل مشاريع القوانين التي تعرض عليه من رئيس الوزراء بمقتضى المادة المذكورة .

وبعد الاطلاع على المخابرات الجارية بهذا الشأن وتدقيق نصوص الدستور والمداولة تبين :

1. أن المادة 91 من الدستور تنص على انه ( يعرض رئيس الوزراء مشروع كل قانون على مجلس النواب الذي له حق قبول المشروع أو تعديله أو رفضه، وفي جميع الحالات يرفع المشروع إلى مجلس الأعيان ولا يصدر قانون الا إذا اقره المجلسان وصدق عليه الملك).
2. أن المادة 95 من الدستور تنص على أن ( لكل عضو أو اكثر من أعضاء مجلسي الأعيان والنواب أن يقترح وضع مشروع قانون على أن تحال هذه الإقتراحات على اللجنة المختصة في المجلس للتدقيق وابداء الراي فيها فإذا رأى المجلس قبول الإقتراح احاله على الحكومة لوضعه في صيغة مشروع قانون وتقديمه للمجلس أما في الدورة نفسها أو في الدورة التي تليها ).

ومن هذين النصين يتضح جليا أن الدستور جعل القانون في هذه المملكة ثمرة عمليات ثلاث مجتمعة ومتكاملة وهي :

‌أ- تقديم المشروع من رئيس الوزراء إلى مجلس الامة .
‌ب- موافقة مجلس الامة على هذا المشروع .
‌ج- تصديق جلالة الملك عليه .

ولا يمكن أن يعتبر أي عمل من هذه الاعمال الثلاثة بمفرده هو التشريع وانما التشريع هو ثلاثتها معا ومجتمعة، اذ أن المادة 91 المذكورة جعلت مشروع الحكومة خاضعا لموافقة السلطة مفتقرا لوضعه في صيغة مشروع من الحكومة، وقد هدف واضع الدستور من تقرر هذا المبدأ المختلط إلى تأمين الناحية التشريعية الفنية من جهة، وايجاد التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من جهة اخرى، اذ انه باناطته حق وضع مشروع كل قانون بالحكومة من موظفين فنيين قادرين على صياغة القوانين صياغة متقنة وفق ما يتطلبه الصالح العام كما انه يمنحه أعضاء مجلس الامة حق إقتراح وضع مشاريع القوانين يكون قد ساعد السلطة التنفيذية على القيام بواجباتها العامة على الوجه الاكمل .

وعلى ضوء هذه القاعدة نرى أن المقصود من (التعديل ) الذي نصت عليه المادة 91 هو التعديل الذي ينحصر في حدود أحكام مشروع القانون وفي نطاق اهدافه ومراميه سواء اكان ذلك بالزيادة أو بالنقصان، ولهذا فلا يجوز أن يتناول التعديل احكاما جديدة لا صلة لها بالنواحي والغايات التي وضع المشروع من اجلها، والا فإننا إذا اجزنا لمجلس النواب وضع مثل هذه الاحكام عن طريق استعمال حقه في تعديل المشروع نكون قد افقدنا القانون إحدى مراحله الدستورية وتجاوزنا على حق السلطة التنفيذية في وضع مشروع قانون بهذه الاحكام الجديدة وتقديمه للمجلس طبق نص المادتين 91 – 95 المذكورتين، ونكون أيضا قد أعطينا المجلس اكثر من الحق الذي خوله اياه الدستور في المادة 95 منه، اذ أن هذه المادة لا تعطي النواب في حالة رغبتهم بوضع أحكام قانونية جديدة سوى تقديم إقتراح بهذا الشأن واحالته إلى الحكومة من قبل المجلس لوضعه في صيغة مشروع قانون كما اسلفنا.

و تطبيقا لهذا المفهوم نرى انه إذا تقدمت الحكومة بمشروع قانون لتعديل حكم واحد من أحكام قانون ما كتعديل المادة 18 من قانون تشكيل المحاكم الباحثة عن كيفية تشكيل المجلس القضائي مثلا فان حق مجلس النواب ينحصر في تعديل المشروع من هذه الناحية فقط وليس له أن يدخل تعديلا على المواد الأخرى من القانون ذاته الباحثة عن انتداب القضاة وقوانين المحاكم، اذ أن الاجراء يخرج عن نطاق المشروع ولا يعد تعديلا له بالمعنى المبحوث عنه .

هذا ما تقرره في تفسير المادتين (91 و 95) المطلوب تفسيرهما

صدر في 4/1/1955



والذي نراه أن المجلس العالي لم يفسر في قراره السالف النصوص الدستورية المطلوب تفسيرها بشكل واضح، حيث جاء في قراره أن القانون ثمرة عمليات ثلاث مجتمعة ومتكافلة وهي : تقديم مشروع القانون من قبل رئيس الوزراء إلى مجلس الامة، وموافقة مجلس الامة على المشروع وتصديق الملك عليه، وان الحكومة اعطيت المرحلة الاولى من اجل تأمين الناحية التشريعية الفنية من جهة، وايجاد التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من ناحية اخرى، والحقيقة أن ما تقوم به الحكومة، عندما تضع كل إقتراح بقانون بصيغة مشروع قانون وتقديمة للبرلمان، ما هو الا اجراء شكلي، كما أن كلمة "يعرض" لا تعني أن الحكومة تملك صلاحية الإقتراح التشريعي لأن نص المادة (91) من الدستور لم يقرر ذلك صراحة كما نصت عليه الدساتير الأخرى (48). انما الذي اعطى الحكومة صلاحية الإقتراح التشريعي هو العرف الدستوري، حيث سارت الحكومة على هذا النهج ولم تواجه أي معارضة من قبل سلطة سياسية اخرى، وذلك من اجل ارساء مبدا التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية .

وحول مساهمة السلطة التنفيذية في العملية التشريعية من الناحية الموضوعية، فقد سبق أن عرضنا قرارا للمجلس العالي يتعلق بمبدأ التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وقد اكد المجلس العالي في قراره المذكور على حق السلطة التنفيذية في اصدار الانظمة المستقلة، ولم يسمح للبرلمان بأن يتخطى الحاجز الذي يفصل بين مجال القانون ومجال النظام رغم انه العضو التشريعي الاصيل، وفي هذا تأكيد ودعم لمبدأي التوازن والتعاون الذي يقوم عليهما النظام البرلماني في الأردن .

ب‌- صلاحية البرلمان في الأردن بإجازة بعض اعمال السلطة التنفيذية :

صدر عن المجلس العالي لتفسير الدستور القرار رقم (1) لسنة 1954 حول بعض الامور المالية (49) جاء فيه ما يلي :

" بناء على قرار مجلس الوزراء الصادر بتاريخ 16/11/1953 بمقتضى المادة 122 من الدستور اجتمع المجلس العالي للنظر في تفسير أحكام المادة 115 من الدستور وبيان ما إذا كانت هذه المادة تجيز لمجلس الوزراء دون الحصول على قانون – اتخاذ الاجراءين التاليين في الموازنة :

1. تصحيح عنوان المادة الرابعة من الفصل (49 – مشاريع الاعمار) بحيث يصبح ( قروض لمدينة القدس )
2. اضافة مادة جديدة في الفصل (34 – الاشغال فوق العادة ) بإسم تعبيد وتزفيت الطريق المؤدي إلى ضريح المغفور له جلالة الملك عبد الله ) ورصد مبلغ 3000 دينار لهذه المادة تؤمن بنقله من وفور المادتين 23 فقره (ب) و 53 في الفصل ذاته .

وبعد الاطلاع على المخابرات الجارية بين رئاسة الوزراء وديوان المحاسبة وتدقيق نصوص الدستور واحكام النظام المالي نجد :

1. أن الفقرة الاخيرة من المادة 115 من الدستور تنص على انه لا يخصص أي جزء من أموال الخزانة العامة ولا ينفق لاي غرض مهما كان نوعه الا بقانون .
2. أن الفقرة (3) من المادة 112 من الدستور تنص على انه ( لا يجوز نقل أي مبلغ من قسم النفقات من الموازنة من فصل إلى فصل الا بقانون ) .
3. أن المادة 13 من النظام المالي لسنة 1951 تنص على انه ( لا يجوز صرف أية نفقات من الأموال الاميرية ما لم يجز بقانون )
4. أن الفقرة (أ) من المادة 16 من هذا النظام تنص على انه ( لا يجوز نقل مخصصات أي مادة إلى أي مادة في النفقات الأخرى الا بموافقة وزير المالية وصدور امر مالي خاص).

كما أن الفقرة (ب) منها تنص على انه ( لا يجوز نقل مخصصات الرواتب من مادة لاخرى أو إلى النفقات الأخرى وبالعكس الا بموافقة مجلس الوزراء وتنسيب وزير المالية ) .

ومن هذه النصوص يتضح جليا أن القاعدة التي قررتها المادتان 112 و 115 من الدستور لا تجيز فتح اعتمادات اضافية أو نقل اعتماد وارد فيها من فصل إلى فصل الا بقانون .

وهذه القاعدة تعد من القواعد الرئيسية التي تقتضيها طبيعة السلطات المقررة لمجلس الامة فيما يتعلق بالرقابة على الانفاق، اذ انه إذا لم تمتد رقابة المجلس إلى هذا العمل كانت رقابته على الموازنة لغوا في الواقع .

وبالاستناد إلى هذه القاعدة لا يجوز للسلطة التنفيذية أن تنشئ مواد جديدة في الموازنة ولا أن تدخل على موادها أي تعديل من شأنه أن يبدل الاغراض التي رصد الاعتماد من اجلها، إذ أن مثل هذا الاجراء يعتبر من قبيل فتح اعتمادات اضافية لانفاقها على وجوه لم تقرر في الموازنة وهو امر يحتاج إلى تشريع خاص.

وبما أن عنوان المادة الرابعة من فصل مشاريع الاعمار المشار اليه يدل دلالة واضحة على أن الاعتماد الذي رصد في هذه المادة انما خصص لانفاقه قروض صناعية لمدينة القدس فان تصحيح هذا العنوان بحيث يصبح ( قروض لمدينة القدس ) يجب أن لا يتم الا بقانون لأن هذا التصحيح قد استبدل التخصيص بالتعميم وهو من شأنه أن يجيز الانفاق على وجوه اخرى غير القروض الصناعية، وكذلك الحال فيما يتعلق باضافة مادة جديدة في فصل الاشغال فوق العادة فان الاضافة يجب أن تتم أيضا بقانون طبقا لاحكام المادة 115 من الدستور .

أما كون المادة 16 من النظام المالي تجيز للسلطة التنفيذية النقل من مادة إلى مادة، فإن ذلك لا يخول هذه السلطة اضافة اعتمادات جديدة، اذ أن النقل من مادة إلى مادة يشترط فيه أن تكون المادتان في الاصل مقررتين في الموازنة فيؤخذ من فيض احدهما للإتفاق على الاغراض المعينة في المادة الثانية هذا ما نقرره بالاجماع في تفسير أحكام الدستور من هذه الجهة .                                          
                                                            صدر في 22/2/1954 م

لقد اكد المجلس العالي في قراره السالف على مبدأ التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وذلك بتأكيده على حق البرلمان في اجازة بعض اعمال السلطة التنفيذية المالية .

يتم اعداد الموازنة من قبل الحكومة، وتشكل التنفيذ العملي لبعض جوانب برنامج الحكومة ورفضها من قبل البرلمان يعد رفضا لبرنامج الحكومة من جهة ثانية، تقوم الحكومة بعقد المعاهدات، ولا يوجد عمل يمكن أن تعرض الحكومة بموجبه المصالح العامة للبلاد للخطر اكثر من المعاهدات التي تعقدها، وذلك بسبب تعلق المعاهدات دائما بتلك المصالح (50). لذا يتوجب عرض بعضها بموجب الدستور الأردني على البرلمان للمصادقة عليها، من هنا فإن تلك الإختصاصات ما هي الا اعمال سلطة تنفيذية بحاجة إلى موافقة مسبقة من قبل البرلمان .

ولكن اهمية قرار المجلس العالي السالف لا تكمن في إقراره صلاحية البرلمان في الموافقة على تلك الاعمال، لأن البرلمان لا يملك حق تعديل تلك الاعمال الا في بعض جوانبها البسيطة كإنقاص النفقات، ولكن اهمية القرار تكمن في إقرار المجلس العالي لحق البرلمان بمراقبة تنفيذ تلك الاعمال مقابل اجازته لها، فإذا سمح للسلطة التنفيذية بتجاوز هذا القيد أصبح إختصاص البرلمان في هذا المجال ذا طابع استشاري ليس الا .

ثالثا : وسائل التأثير بين السلطتين التشريعية والتنفيذية :

يتطلب تحقيق مبدأي التوازن والتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في النظام البرلماني، أن تقف كل سلطة من هاتين السلطتين على قدم المساواة مع الأخرى ويتم ذلك أيضا إذا حصل الإتفاق والتوافق بين هاتين السلطتين، ولكن قد لا تستجيب السلطة التنفيذية لرغبات البرلمان، وقد يحاول البرلمان من جانبه أن يتخلص من توجيهات الحكومة، لذلك وحتى يتم تحقيق التوازن والتعاون بين السلطتين وبشكل فعال يتوجب إعطاء كل سلطة وسائل تأثير منتظمة تجاه الأخرى، وهناك من يؤكد انه داخل الاطار الذي تنظم فيه وسائل التأثير المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يكمن العنصر الجوهري للنظام النيابي البرلماني(51).

تضمنت دساتير النظم البرلمانية التقليدية وسائل تأثير متعددة للسلطة التشريعية تجاه السلطة التنفيذية ووسائل اخرى للسلطة التنفيذية تجاه السلطة التشريعية (52). الدستور الأردني لعام 1952 تضمنت احكامه وسائل تأثير متبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. اذ يملك البرلمان تحريك مسؤلية الحكومة والوزراء السياسة ومسؤولية الوزراء الجنائية، ويملك أعضاء البرلمان توجيه الاستجوابات والاسئلة للوزراء والحكومة ويملك البرلمان صلاحية تشكيل لجان التحقيق الخاصة ببعض القضايا، كما تملك السلطة التنفيذية صلاحية حل البرلمان وتعيين أعضاء مجلس الأعيان ودعوة البرلمان للانعقاد وفض دوراته ومشاركة الوزراء في جلسات البرلمان واعماله، وفي اطار هذا البحث سنتعرض إلى تحريك المسؤولية الوزارية السياسية كإحدى وسائل التأثير من قبل السلطة التشريعية تجاه السلطة التنفيذية والى حق حل البرلمان كإحدى وسائل التأثير من قبل السلطة التنفيذية تجاه السلطة التشريعية، ونستعرض بعض قرارات المجلس العالي في هذه الامور .

أ-  المسألة الوزارية السياسية :

ظهرت نظرية المسؤلية الوزارية في بريطانيا في القرن التاسع عشر، وزادت اهميتها عندما بدا لفقهاء ذلك القرن أن نظرية التوازن بين السلطات في النظام البرلماني لا تصلح أن تكون معيارا للدلالة على وجود هذا النظام في بلد ما، ويؤكد انصار هذه النظرية انه يشترط لوجود نظام نيابي برلماني أن تكون الحكومة فيه مسؤولة أمام البرلمان. ونقطة البدء عند انصار هذه النظرية انه عندما تجري الإنتخابات التشريعية في النظام البرلماني، فإن الشعب هو الذي يحدد السياسة العامة في البلاد ويعبر عن ذلك باختيار الاغلبية التي تتبنى هذه السياسة، وتشكل الاغلبية في البرلمان الحكومة، وعندها تتحقق وظيفة البرلمان السياسية بمراقبة نشاط السلطة التنفيذية. ودون شك فإن البرلمان  لا يستطيع أن يحل محل الحكومة، ولكن يتوجب عليه مراقبتها من حيث مدى التزامها بتنفيذ السياسة التي تبناها الشعب وعبر عنها بالإنتخابات التشريعية. وإذا لم تتمتع الحكومة بثقة الاغلبية في البرلمان، فإنها تفقد مبرر وجودها من الناحية القانونية ويتوجب عليها أن تستقيل (53).

وقد تبنى الدستور الأردني لعام 1952 مبدأ المسؤولية الوزارية كأحد أركان النظام البرلماني في الأردن، حيث جاء في المواد في 51 – 54 من الدستور أن الحكومة مسؤولة أمام مجلس النواب مسؤولية مشتركة عن سياستها العامة وكل وزير مسؤول عن وزارته مسؤولية فردية، ويتوجب على الحكومة إذا فقدت ثقة المجلس بالأغلبية المطلقة أن تستقيل، كما يتوجب على الوزير الذي يفقد ثقة المجلس بالاغلبية المطلقة أن يستقيل ويترتب على كل حكومة تتشكل في الأردن أن تقدم بيانها الوزاري إلى مجلس النواب خلال شهر من تشكيلها إذا كان المجلس منعقدا وتطلب الثقة على هذا البيان، وإذا كان البرلمان غير منعقد أو منحلا فلها أن تعتبر خطاب العرش بافتتاح المجلس بمثابة بيان وزاري وان تطلب الثقة عليه ولرئيس الوزراء ولعشرة نواب فأكثر أن يطلبوا طرح الثقة في الحكومة ويحق للحكومة أن تطلب تأجيل مناقشة هذا الطلب لمدة عشرة ايام، على أن لا يحل البرلمان فترة التأجيل .

وقد وضعت هذه النصوص موضع التطبيق منذ أن وضع دستور 1952. ففي كل مرة كانت تتشكل فيها حكومة في الأردن كانت الحكومة تطلب الثقة من مجلس النواب خلال شهر من تشكيلها، وفي الحالات التي كانت تتشكل فيها حكومة وكان البرلمان غير منعقد أو منحلا، كان خطاب العرش لافتتاح البرلمان يعد بمثابة بيان وزاري ويناقش مجلس النواب كبيان وزاري وليس كخطاب ملكي .

وقد كان للمجلس العالي لتفسير الدستور دورا في ترسيخ تلك المفاهيم الدستورية، ففي بداية الدورة العادية للبرلمان العام 1991، تم ارجاء انعقاد البرلمان لمدة شهرين، أي لغاية 1/12/1991 بدلا من 1/10/1991. و شكلت حكومة في 21/11/1991. وقبل انعقاد البرلمان في دورته العادية طلب عدد من النواب من الحكومة أن تتقدم ببيانها الوزراي، ولكن الحكومات قررت أن يكون خطاب العرش بافتتاح المجلس بمثابة بيان وزاري وتطلب الثقة عليه بعد أن تكتمل إجراءات الرد على خطاب العرش. وقد تم عرض الخلاف على المجلس العالي فأصدر القرار رقم 3 لعام 1991(54)، وجاء به :

" بناء على طلب مجلس الوزراء بقراره الصادر بتاريخ 23/11/1991، اجتمع المجلس العالي من اجل تفسير الفقرة 3 من المادة 54 من الدستور وبيان ما يلي :

1. ما إذا كان يتوجب اعتبار خطاب العرش الذي سيلقيه جلالة الملك  عند افتتاح الدورة العادية لمجلس الامة بتاريخ 1/12/1991 بيانا وزاريا للوزارة الحالية لغايات الفقرة 3 من المادة 54 من الدستور .
2. ام أن على الوزارة التقدم إلى مجلس النواب ببيان وزاري طالبة الثقة منه على اساسه .
3. وإذا كان على الوزارة التي تتألف ومجلس النواب غير منعقد أو منحل أن تتقدم ببيان وزاري لمجلس النواب عند افتتاح دورته العادية، فما هي المدة التي يجب عليها تقديم البيان خلالها في هذه الحالة لمجلس النواب، وبخاصة إذا كان افتتاح الدورة العادية للمجلس سيتم بعد اكثر من شهر من تأليف الوزارة .

وبعد الاطلاع على كتاب سيادة رئيس الوزراء رقم د 1/12930 تاريخ 26/11/1991 وتدقيق نص الفقرة 3 من المادة 54 من الدستور موضوع طلب التفسير يتبين أن نصها :

المادة 54/3 : " يترتب على كل وزارة تؤلف أن تقدم بيانها الوزاري إلى مجلس النواب خلال شهر واحد من تاريخ تأليفها إذا كان المجلس منعقدا وان تطلب الثقة على ذلك البيان وإذا كان المجلس غير منعقد أو منحلا فيعتبر خطاب العرش بيانا وزاريا لاغراض هذه المادة."

يتضح من هذا النص انه يتوجب على الوزارة التي تؤلف اثناء انعقاد مجلس النواب أن تتقدم ببيانها الوزاري خلال شهر من تأليفها، وان تطلب الثقة على ذلك البيان واما إذا تألفت الوزارة في غيبة المجلس بسبب كونه غير منعقد أو منحلا، فإن خطاب العرش يعتبر حكما هو البيان الوزاري الذي يتوجب على الوزارة أن تطلب الثقة على اساسه .

وعلى ذلك يكون الجواب على السؤال الأول، بأن خطاب العرش الذي سيلقيه جلالة الملك عند افتتاح الدورة العادية لمجلس الامة بتاريخ 1/12/1991، يجب اعتباره البيان الوزاري للوزارة الحالية التي تم تأليفها بتاريخ 21/11/1991، عندما كان المجلس غير منعقد وان تطلب الثقة على اساس هذا الخطاب .

وأما عن السوؤال الثاني والثالث فإن ما جاء بردنا على السوؤال الأول، يتضمن الاجابة عليهما اذ لا يتوجب على الوزارة التقدم ببيان وزاري من جهة كما لا حاجة للبحث في المهلة المشار اليها في السؤال الثالث من طلب التفسير. وهذا ما نقرره بالاكثرية بشأن التفسير المطلوب .
صدر في يوم الخميس  الموافق 28/11/1991

قرار المخالفة المقدم من الأعضاء احمد عبيدات، خليف السحيمات، عبد الكريم خريس ،

تنص الفقرة (3) من المادة (54)  من الدستور المطلوب تفسيرها على ما يلي :

" يترتب على كل وزارة تؤلف أن تتقدم ببيانها الوزاري إلى مجلس النواب خلال شهر واحد من تاريخ تأليفها إذا كان المجلس غير منعقد أو منحلا فيعتبر خطاب العرش بيانا وزاريا لاغراض هذه المادة ".

أولا :  القاعدة العامة التي تستفاد من نص القسم الأول من الفقرة الثالثة المشار اليها توجب على الحكومة أن تتقدم ببيانها الوزاري إلى مجلس النواب وان تطلب الثقة على اساسه إذا كان المجلس منعقدا، ذلك خلال شهر واحد من تاريخ تأليفها .

وقد جاء القسم الثاني من نص الفقرة المشار اليها ليقرر استثناء من القاعدة اعتبار خطاب العرش بيانا لاغراض هذه المادة إذا كان المجلس غير منعقد أو منحلا فالاصل أن تقدم الحكومة بيانها الوزاري إلى مجلس النواب خلال شهر واحد من تاريخ تأليفها إذا كان المجلس منعقدا، وإذا تعذر ذلك فيعتبر خطاب العرش بيانا وزاريا. وتتحقق حالة التعذر في رأينا عندما يكون المجلس معطلا أو منحلا طيلة الفترة التي نصت عليها الفقرة (3) من المادة (54) وهي مدة شهر واحد من تاريخ تأليف الوزارة، ففي هذه الحالة يعتبر خطاب العرش يرسم سياسة الحكومة التي يتوجب عليها السير بمقتضاه، ولا مجال عندئذ لمناقشة ما جاء في هذا الخطاب لتعذر انعقاد المجلس أو كونه منحلا، وبغير ذلك يترتب على الحكومة أن تتقدم ببيانها الوزاري إلى مجلس النواب وان تطلب الثقة على هذا البيان .

ثانيا : وفي ضوء الحالة المطلوب تفسير النص الدستوري للفقرة (3) من المادة (54) من اجلها، وبما أن الحكومة الحالية قد تألفت بتاريخ 21/11/1991، فإن ما ينبني على ذلك انه يترتب على الحكومة أن تتقدم ببيانها الوزاري إلى مجلس النواب خلال شهر واحد من تاريخ تأليفها ينتهي بتاريخ 21/12/1991، لنيل الثقة على ذلك البيان، اعمالا لنصوص الدستور وانسجاما مع الحكومة التي توخاها المشرع في تحديد الحقوق والواجبات وتنظيم العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعة بما يؤكد مسؤولية الوزارة، لتنفيذ برنامجها أمام البرلمان . هذا ما نراه بشأن التفسير المطلوب، خلافا لرأي الاكثرية المحترمة ".


بعد أن عرضنا رأي الأغلبية في المجلس العالي حول الموضوع ورأي الأقلية المخالف، فإننا نقف بدورنا إلى جانب راي الاغلبية، لأن صياغة النص والواقع العملي يؤيد ذلك. فخطاب العرش لافتتاح المجلس يتم اعداده من قبل الحكومة، كما أن حرف الفاء في كلمة " فيعتبر " في نص المادة 54/36 جاءت بمثابة الأمر وليس التخيير، وصيغة خطاب العرش في افتتاح اعمال المجلس تأتي بصيغة مختلفة عن صيغة بقية الخطابات الملكية خلال العام، اذ تأتي بصيغة " قامت حكومتي .... " " وستقوم حكومتي .... " ومنعا للتكرار فإن الخطاب يقوم مقام البيان الوزاري .

من جهة ثانية، فقد إعتمد رأي الاقلية في المجلس العالي على عنصر الزمن وهو مدة الشهر المعطاه للحكومة لاعداد بيانها الوزاري، فإذا كان المجلس غير منعقد أو منحلا خلال هذه الفترة، فإن خطاب العرش بعد مضي مدة الشهر يعد بمثابة بيان وزاري وتطلب الثقة على اساسه، أما إذا كان البرلمان غير منعقد أو منحلا ويبدأ اجتماعاته خلال فترة الشهر، فان على الحكومة أن تتقدم ببيان وزاري رغم القاء خطاب العرش، من هنا نلاحظ أن راي الاقلية لا يمثل رفضا للمبدأ، اذ يصلح من وجهة نظرهم أن تطلب الثقة على اساس خطاب العرش في بعض الحالات وعدم طلبها في حالات اخرى، لذلك فإنهم يتمسكون بالشكل وليس بالجوهر، وهذا لا ينسجم مع قابلية نصوص الدستور للتكيف مع معطيات التطور الإنساني.




ب-  حق حل البرلمان :

تعد بريطانيا الموطن الأصلي لنشأة حق حل البرلمان، ولم يظهر هذا الحق من الناحية التاريخية بشكل مفاجئ وانما تشكل ببطء لمواجهة التهديد الذي تشكله المسؤولية الوزارية للحكومة وذلك كثقل مقابل لها (55).

وقد دار جدل كثير بين فقهاء القانون حول شرعية هذا الحق إذ يرى البعض أن حق الحل يمثل اعتداءا على السلطات القانونية لممثلي الامة ويصطدم بمدأ سيادة الامة، كما انه لا يحترم مبدأ الفصل بين السلطات، كذلك يستطيع رئيس الدولة بواسطة حق الحل أن يتخلص من أي برلمان يحوي عناصر مزعجة وان يضمن وصول اغلبية برلمانية تتفق مع رغباته (56).

ويرى فريق اخر أن حق حل البرلمان يشكل عنصرا اساسيا لاقامة التوازن في النظام البرلماني (57). إذ إنه من طبيعة الامور إذا وقع خلاف بين الحكومة والبرلمان فإن الحكومة أمام خيارين : أما أن تخضع لرغبة البرلمان أو أن تستقيل، ولكن قد تكون السياسة التي تتبناها الحكومة متفقة وبشكل فعلي مع رغبة الشعب وتتطابق مع المصلحة العامة للبلاد رغم عدم حصولها على موافقة الاغلبية في البرلمان، في هذه الحالة فإن للحكومة الحق بأن تطلب من رئيس الدولة الذي يعد حكما بين السلطات أن يحل البرلمان ويترك الامر لهيئة الناخبين القول الفصل لفض النزاع بين الحكومة والبرلمان، من هنا يعد حق الحل عملا ديموقراطيا، والضمانة الاكيدة لعدم انحراف البرلمان وتحول النظام البرلماني إلى حكومة جمعية وتحقق ديكتاتورية البرلمان، ويؤكد بعض الفقهاء انه بمجرد التلويح بحق الحل وما يترتب على الحل من نفقات وعدم امكانية نجاح عضو البرلمان مرة ثانية، كل ذلك يدفع أعضاء البرلمان إلى السلوك المعتدل وعدم الإساءة إلى السلطة التنفيذية بدون سند قانوني (58). ولكن الصعوبة الحقيقية في تحليل حق حل البرلمان تكمن في معالجة مشكلة الاختلاف الحاصل دائما بين النص الدستوري وتطبيقه، أي بين القانون والواقع، فحق الحل ما هو إلا آلية قانونية موجهة لتنظيم العلاقات بين السلطات العامة المؤسسة من قبل الدستور، ولكنه أيضا على تماس مع معطيات اجتماعية سياسية لا ينظمها الدستور (59).

الدستور الأردني لعام 1952م جعل حق حل البرلمان من إختصاص الملك حيث جاء في المادة (34) منه ما يلي : " 1.... 2...... 3. للملك أن يحل مجلس النواب. 4. للملك أن يحل مجلس الأعيان أو يعفي احد أعضاءه " ويمارس هذا الإختصاص بموجب إرادة ملكية موقعة من قبله ومن قبل رئيس الوزراء والوزير المختص. وقد نصت على ذلك المادة 40 من الدستور حيث جاء فيها ما يلي : " يمارس الملك صلاحياته بإرادة ملكية. وتكون الارداة الملكية موقعة من رئيس الوزراء والوزراء المختصين، يبدي الملك موافقته بتثبيت توقيعه فوق التواقيع المذكورة".
على الصعيد العملي كان للمجلس العالي لتفسير الدستور مساهمة واضحة في ترسيخ تلك المبادء الدستورية، فقد اصدر الملك في عام 1955 إرادة ملكية موقعة من قبله ومن قبل رئيس الوزراء فقط بحل مجلس النواب، وقد اعترض بعض النواب بعريضة للملك بأن الحل لم يكن دستوريا لأن الإرادة الملكية الصادرة بحل المجلس كانت موقعة من الملك ومن رئيس الوزراء فقط، ولم تتضمن توقيع الوزير المختص وهو وزير الداخلية في هذه الحالة. وقد أحيلت المسألة إلى المجلس العالي لتفسيرها، فأصدر المجلس القرار رقم (1) لسنة 1956 م (60)، الذي جاء فيه ما يلي : " بناء على طلب مجلس الوزراء ، إجتمع المجلس العالي من أجل تفسير حكم الفقرة الثالثة من المادة 34 من الدستور و بيان ما إذا كانت هذه  المادة تجيز حل مجلس النواب بإدارة ملكية موقعة من رئيس الوزراء وحده أم لا بد من أن يوقع – مع الملك – الوزير أو الوزراء المختصون علاوة على توقيع رئيس الوزراء وهل أن الإرادة الملكية الصادرة بتاريخ 19 كانون أول سنة 1955 بحل مجلس النواب التي لم توقع إلا من رئيس الوزراء مستوفية الشروط الدستورية أم لا ؟



وبعد الإطلاع على قرار مجلس الوزراء المشار اليه وبتدقيق نصوص الدستور تبين لنا :

1. أن الفقرة الثالثة من المادة (34) المطلوب تفسيرها تنص على أنه " للملك أن يحل مجلس النواب".
2. وأن المادة (40) من الدستور تنص على أن " الملك يمارس صلاحياته بإرادة ملكية وتكون الإرادة الملكية موقعة من رئيس الوزراء والوزير أو الوزراء المختصين. ويبدي الملك موافقته بتثبيت توقيعه فوق التواقيع المذكورة "
3. وأن المادة (30) منه تنص على أن " الملك هو رأس الدولة وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية ".
4. وأن المادة (51) منه تنص على أن " رئيس الوزراء والوزراء مسؤولون أمام مجلس النواب مسؤولية مشتركة عن السياسة العامة للدولة كما أن كل وزير مسؤول أمام مجلس النواب عن أعمال وزارته" .
5. وأن المادة (49) منه تنص على أن " اوامر الملك الشفوية أو الخطية لا تخلى الوزراء من مسؤوليتهم ".

ومن هذه النصوص يتضح أن الفقرة الثالثة من المادة 34 المطلوب تفسيرها وإن كانت أناطت حق حل مجلس النواب بجلالة الملك إلا أن المادة 40 منه قد رسمت الطريقة التي يمارس جلالته بواسطتها هذا الحق أو أيا من حقوقه الأخرى المتصلة بالشؤون العامة، فنصت على أن الملك يمارس صلاحياته بإرادة ملكية موقعة من رئيس الوزراء والوزير أو الوزراء المختصين .

وهذه القاعدة مستمدة من المبدأ الأساسي الذي يرفع المسؤولية عن الملك ويقصرها على الوزراء طبقا لحكم المواد ( 30 و 49 و 51) المدرجة أعلاه، إذا ما دام أن الوزارة في قيامها بالسلطة التنفيذية هي المسؤولة عن السياسة العامة فيجب أن تشترك في التوقيع على الإرادات التي يمارس فيها جلالة الملك صلاحياته حتى  تتحمل المسؤولية وفقا لقواعد المسؤولية الوزارية المنصوص عليها في الدستور . ولهذا فإن أي إرادة ملكية يباشر فيها جلالة الملك إحدى صلاحياته المتصلة بحياة الدولة العامة لا تكون مستوفية شروطها الدستورية بموجب المادة 40 إلا إذا وقعها مع الملك كل من :

1. رئيس الوزراء .
2. الوزير أو الوزراء المختصين .
وهذا واضح من الصيغة التي استعملها واضع الدستور في المادة 40، إذ أن عبارة " الوزير أو الوزراء المختصين " الواردة في هذه المادة قد عطفت على عبارة " رئيس الوزراء " ( بواو ) العطف التي هي لمطلق الجمع لا ( بأو ) التي هي للتخيير بين الأمرين .

أما حق الملك في تعيين رئيس الوزراء وإقالته وقبول إستقالته بإرادة ملكية موقعة من جلالته فحسب فأمر استثنائي لاستحالة اشتراك أي من الوزراء معه بسبب عدم وجود وزاره قائمة أنذاك.

ونخرح من هذا أن الإرادة الملكية بحل مجلس النواب لا تكون مستوفية شروطها الدستورية إلا إذا وقعها الوزير أو الوزراء المختصون علاوة على توقيع رئيس الوزراء .

هذا ما نقرره في تفسير المادة المطلوب تفسيرها .

صدر في 4/1/1956م


يتبين مما سبق أن حق حل البرلمان في الدستور الأردني ليس حقا مطلقا للملك يمارسه بمفرده وإنما يخضع لقاعدة التوقيع الوزاري المجاور، بحيث يتوجب أن يوقع بجانب توقيع الملك كل من رئيس الوزراء والوزير المختص أو الوزراء المختصون. ولهذا إذا صدرت الإرادة الملكية بحل المجلس خالية من أحد التواقيع المذكورة، فإنها تكون غير مستوفية شروطها الدستورية، وبالتالي لا يفقد المجلس صفة الشرعية ويبقى مستمرا في ممارسة أعماله وهذا ما حصل من الناحية العملية مع مجلس النواب محل الحل غير الدستوري .

الخاتمة

تبنى الدستور الأردني لعام 1952 م مبدأ الفصل بين السلطات القائم على التوازن والتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية مع إقرار بعض وسائل التأثير المتبادل بينهما. وحيث أن الدستور هو القانون الاعلى في البلاد الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، فإنه يتعين على الدولة الالتزام بتلك القواعد في جميع أنشطة سلطاتها دون أي تفرقة في مجال الالتزام بها بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وذلك لأن هذه السلطات هي سلطات مؤسسة أنشأها الدستور وتستمد منه وجودها ووظائفها وتقف جميعها على قدم المساواة قائمة بوظائفها الدستورية متعاونة فيما بينها في الحدود التي يقررها لذلك. من هنا برزت الحاجة إلى وجود جهاز توكل اليه مهمة السهر على بيان حسن تطبيق نصوص الدستور كلما لزم الامر .

وقد نص الدستور الأردني الحالي على تشكيل المجلس العالي لتفسير الدستور على أن تكون له مهمتان:
الاولى :  محاكمة الوزارء عن الجرائم الناتجة عن تأدية وظائفهم .
الثانية : التدخل عند إختلاف السلطات العامة في البلاد حول تفسير نص دستوري معين. وإذا أردنا أن نحدد مكانة المجلس العالي بين السلطات المؤسسة في الدولة، ومعرفة الطبيعة القانونية لقراراته، فإن هذا يتطلب منا العودة إلى مفردات هذا البحث حول تكوين المجلس العالي وإختصاصاته .

بين العرض الخاص بتشكيل المجلس العالي أن جميع أعضاء هذا المجلس هم من السلطتين التشريعية والقضائية، كما أن الأعضاء المعينين من قبل السلطة التشريعية هم في الأصل معينون من قبل السلطة التنفيذية في مجلس الأعيان. لذلك يمكن القول أن أعضاء المجلس هم جزء لا يتجزأ من السلطات العامة، وأن الحديث عن استقلالية الأعضاء وحيادهم يعد أمرا غير وارد. من جهة ثانية أن اغلبية أعضاء المجلس هم من المتقاعدين أو ممن بلغوا سن التقاعد. فأعضاء المجلس من الأعيان غالبا ما يكونوا من رؤساء الحكومات والوزراء السابقون والحاليون أو من رجالات الدولة السابقون، أما أعضاء المجلس من القضاة فهم من اقدم القضاة في الأردن وممن بلغوا سن التقاعد. إذن هل يمكن تسمية المجلس العالي " بمجلس المتقاعدين " ؟. إلا انه يمكن التخفيف من حدة هذا المآخذ، إذا اخذنا بعين الاعتبار أن كبر السن يعد ميزة تخفف من سلبية خلو الدستور من نص قانوني يُحرم الجمع بين عضوية المجلس وأي نشاط خاص أو عام، لأن التقدم في السن لا يسمح للعضو بأن يمارس انشطة اخرى غير عمل المجلس .

فيما يتعلق بالطبيعة القانونية لقرارات المجلس العالي، فقد جاء في المادة 59 من الدستور ما يلي : " تصدر الاحكام والقرارات من المجلس العالي بأغلبية ستة اصوات " .

يتبين من هذا النص أن المجلس العالي يصدر نوعين من القرارات : بعضها أحكام قضائية والبعض الآخر قرارات تفسيرية .

بالنسبة للإختصاص الأول : أوضحنا في هذا البحث بأنه يوجد في الأردن بجانب القضاء العادي على إختلاف فئاته، قضاء سياسي يتجسد بالمجلس العالي، أنشيء من اجل محاكمة الوزراء عن الجرائم الناتجة عن تأدية وظائفهم، وقد اتبع الدستور الأردني في كيفية تأليف هذا القضاء طريقة تبدو أقل تأثرا بتقلبات السياسة واشد ضمانة لتحقيق العدالة، وذلك بإشراك القضاء في تأليفه، وقد نص الدستور على وجوب إصدار قانون خاص تعين بموجبه اصول المحاكمات التي يجري عليها المجلس العالي، وهذا القانون لم يصدر لغاية الآن مع انه تبدو الحاجة اليه ماسة، هذا ولم يصدر عن المجلس العالي منذ تشكيله حكما قضائيا يضع تلك النصوص الدستورية موضع التطبيق.

أما بشأن إختصاص المجلس العالي بتفسير الدستور، فقد صدر عن المجلس منذ تشكيله في عام 1952م عدة قرارات تفسيرية، وتبين من خلال استعراض تلك القرارات من الناحية التاريخية انها قد شهدت حالة من التذبذب، إذ كان زخمها يظهر أما في فترات الاحتقانات السياسية في الأردن أو على أثر حدوث تحولات ديموقراطية في البلاد (61). كما أن تدخل المجلس غالبا ما كان لإزالة الغموض وبيان حقيقة معنى النص، أي لإبراز إرادة المشرع الدستوري حول نشاط إحدى السلطات العامة، لذلك يمكن القول أن نشاط المجلس قد اقتصر على بيان الكيفية التي تطبق بها النصوص العامة. لذلك يمكن القول أن نشاط المجلس قد اقتصر على بيان الكيفية التي تطبق بها النصوص الدستورية، مما يجعل قراراته في مرتبة النصوص الدستورية المفسرة وتأخذ حكمها، وتخضع لها جميع السلطات العامة. وقد جاءت قرارات المجلس في مجملها متواضعة من الناحية الفقهية ولم تظهر المجلس بالجهاز " الحامي للدستور "، إلا أن هذه القرارات قد ساعدت إلى حد ما على ترسيخ الأسس العامة للنظام النيابي البرلماني في الأردن وحالت دون تركيز السلطات في يد جهة سياسية واحدة .

أن النظم القانونية في البلدان العريقة بالتطبيقات الديمقراطية تتطور في محاولة منها للوصول إلى افضل شكل من اشكال الديمقراطية، لهذا فإن على نظامنا الدستوري أن يطور نفسه وان يتحول عن تجربة القضاء السياسي إلى انشاء قضاء دستوري مستقل. والذي نراه أنه يمكن أن يتم ذلك من خلال تطوير تجربتنا في مجال تفسير الدستور بواسطة المجلس العالي، وذلك بتحويل هذا المجلس إلى محكمة دستورية تتشكل من كبار القضاة في الأردن ومن أعضاء يعينهم الملك بناءا على قوائم تقدم له من قبل كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وان تستهدي هذه المحكمة في عملها بتجارب الدول الأخرى الرائدة في هذا المضمار .

الهوامــش

1. راجع المادة : 62، 63، 67 من الدستور الأردني لعام 1952 م.
2. راجع المادة : 25، 30، 34، 51، 53 من الدستور الأردني لعام 1952م .
3. راجع المادة : 96 من الدستور الأردني لعام 1952 م .
4. راجع المادة : 31، 72، 78، 81، 82، 91، 94 من الدستور الأردني لعام 1952م.
5. راجع د. عادل الحياري القانون الدستوري والنظام الدستوري الأردني، عمان – 1972م. صفحات 517، 548.
6. راجع الجريدة الرسمية عدد 1380 تاريخ 4/5/1958م .
7. راجع المادة : 75 من الدستور الأردني لعام 1952 م .
8. راجع المادة : 64 من الدستور الاردني لعام 1952 م .
9. راجع المادتين : 34، 65 من الدستور الأردني لعام 1952 م .
10. راجع المادة  : الثامنة من النظام الداخلي لمجلس الأعيان، وقرار المجلس العالي لتفسير الدستور رقم 2 لسنة 1965 م المنشور في الجريدة الرسمية عدد 1309 الصادر بتاريخ 1/12/1956 م.
11. راجع المادة : 76 من الدستور الأردني لعام 1952 م .
12. راجع الجريدة الرسمية عدد 1105 الصادر بتاريخ 16/4/1952 م .
13. راجع المادتين 9، 10 من قانون تشكيل المحاكم النظامية لعام 1952م .
14. راجع الجريدة الرسمية عدد 3813 بتاريخ 25/3/1992م.
15. راجع د. عبد الحميد متولي، د- سعد عصفور، د – محسن خليل : القانون الدستوري والنظم السياسية الاسكندرية ص 67، وراجع أيضا :
Turpin – D: Contentieux constitutionnel- Paris 1986. p. 63
Favoreau- L –Le contr’ole juridictionnel des Lois en Europe occidentale R.D.P. 1948. II93.
Turpin. D: op. cit. p. 37. Favoreau. L. op. cit. p. 1193.

16. Turpin. D: op. cit. p. 37. Favoreau. L. op. cit. p. 1193
17. Ibid
18. : Turpin. D: op. cit. p. 42. ey, Bon. p, Moderne, F                          
19. Bon. P. ET. Autres: la justice constitutionnelle au Portugal. Paris. 1989. p. 36 ET p 410. Favoreau. 1 op. cit. p 1193 et s                                
20. راجع : د. عبد الحميد متولي وآخرون المرجع السابق – ص 47.
Turpin. D. op. cit. p 207 et s                                                                            
21. راجع : د. رمزي الشاعر : النظرية العامة للقانون الدستوري – 1972 م – ص 269.
22. راجع د. محمد الغزوي : الوجيز في التنظيم السياسي والدستوري للمملكة الأردنية الهاشمية عمان – 1985 م – ص 110 وما بعدها .
23. راجع المادة 53 من الدستور الأردني لعام 1952 م .
24. جاء في قرار المجلس المذكور ما يلي :  " أن حق مجلس النواب في اتهام الوزراء وتقديم الاتهام إلى المجلس العالي وتأييده أمامه يخول مجلس النواب صلاحية تحريك الدعوى ضد الوزير الذي يقترف جريمة ناتجة عن تأدية وظيفته وملاحقته أمام المجلس العالي. وإن هذه الصلاحية تشمل التحقيق و جمع الادلة نظرا لأنهما لازمان للإتهام وهو ينبني عليها ولا سيما أن هذه الدستور قد توخى في هذا النص أن يتولى مجلس النواب جميع إجراءات إقامة هذه الدعوى ضد  الوزير وتأييدها بأدلة الإثبات القانونية لأن معنى الإتهام في هذا النص هو معناه لغة الذي مفاده أن يسند إلى المتهم الجرم المنسوب اليه يضاف إلى ما تقدم بيانه أنه إذا أناط التشريع أمر لسلطة معينة فيكون قد منع باقي السلطات من ممارسته لذا فيكون النص الدستوري المتضمن تخويل مجلس النواب صلاحية إتهام الوزراء على الوجه المبين آنفا قد منع القضاء من القيام ببعض إجراءات هذه الدعوى الا ما نصت عليه المادة 57 من الدستور المتعلقة بتأليف المجلس العالي "
25. راجع المادة الرابعة من قانون محاكمة الوزراء رقم 35 لسنة 1952 م.
26. راجع المادة الخامسة من قانون  محاكمة الوزراء رقم 35 لسنة 1952 م.
27. راجع المادة السادسة من قانون محاكمة الوزراء رقم 35 لسنة 1952 م.
28. راجع المادتين السابعة والثامنة من قانون محاكمة الوزراء رقم 35 لسنة 1952 م.
29. راجع : Luchaire. F: Le Conseil Constitutionnel est – il une Juridiction? R.D.P, 1979, p 36 ET s.                                                                              
30. راجع : د. عبد المنعم محفوظ و د. نعمان الخطيب مبادئ في النظم السياسية دار الفرقان. عمان 1987 م ص 234
31. Cadart – J: Institutions politiques ET droit constitutionnel paris, 1990, P, 299.                                                                                              
32. راجع : د. عبد المنعم محفوظ و د. نعمان الخطيب – المرجع السابق – ص 532.
33. راجع : د. محمود حافظ : الوجيز في النظم السياسية والدستور اللبناني – دار النهضة العربية – القاهرة – 1976 – ص 172.
34. راجع : د. محسن خليل : النظم السياسية والدستور اللبناني – دار النهضة العربية بيروت – 1975 م – ص 280 – وراجع – صالح خلف الزواهرة : مبدأ الفصل بين السلطات بين الواقع النظري و التطبيق العملي – دراسة مقارنة – رسالة ماجستير – الجامعة الأردنية – 1993 م ص 1320
Burdeau – G: Droit constitutionnel, Paris, 1988. P.132          

35. راجع : د. محمد الغزوي – المرجع السابق، ص 40.
36. راجع : د. محمد الغزوي – المرجع السابق، ص 40.
37. اتفق الدستور الأردني لعام 1952م في ذلك مع الدستور الفرنسي لعام 1958م و على خلاف بعض الدساتير التي نصت على هذا الموضوع مثل الدستور الايطالي لعام 1947م والدستور الالماني لعام 1949م، والدستور الأسباني لعام 1978م، كما أن نصوص المواد من (24-27) من الدستور الأردني مستوحاه و بشكل واضح من نصوص المواد (26– 30) من الدستور البلجيكي لعام 1831 م وتعديلاته اللاحقة .
 Fusilier. R: Les Monarchies Parlementaires, Paris- 1960. P350 et.s.                                                                                                          

38. Burdeau. G : op. cit, 137        
39. راجع الجريدة الرسمية عدد 1173 تاريخ 1/3/1954 م.
40. راجع الجريدة الرسمية عدد رقم 1853 تاريخ 26/6/1965م
41. Burdeau. G: op. cit, p. 137                                                              
42. : Ibid                                                                                                  
43. راجع : Lalumiere, P, et, Demichel – A : Les regimes Parlementaires Europeens, Paris, 1978. P. 38                                                                    
44. : Ibid                                                                                                  
45. راجع المواد : 31، 91، 114، 120 من الدستور الأردني لعام 1952 م .
46. راجع المواد : 33، 111، 118، من الدستور الأردني لعام 1952 م.
47. راجع الجريدة الرسمية عدد رقم 1211 تاريخ 1/2/1955م
48. راجع المادة 39 من الدستور الفرنسي لعام 1958 التي نصت صراحة على أن " الإقتراح التشريعي عمل مشترك بين رئيس الوزراء وأعضاء البرلمان ..."
49. راجع الجريدة الرسمية عدد رقم 1173 تاريخ 1/3/1954 م.
50. Electoral ET Parlementaire Eugene _ P: Traite de droit Politique Paris, 1924, p- 547.                                                                                  
51. راجع : Burdeau, G : Op cit , P, 138                                                            
52. راجع : د. محفوظ الخطيب. المرجع السابق. ص 285 – 286.
53. يجب التنويه هنا أن المسؤولية السياسية لا تمتد بأي شكل من الأشكال إلى رئيس الدولة، الذي يتمتع دائما بعدم المسؤولية، حيث أن جميع اعماله تبرز للوجود بتوقيع مجاور من قبل الوزراء المختصين الذين يتحملون المسؤولية نيابة عنه .

من جهة ثانية، أصبحت المسؤولية السياسية للحكومة العنصر الأساسي في الدساتير الأوروبية التي تم وضعها في أوروبا بعد الحرب العالمية الاولى ونصت عليها صراحة، وعلى الصعيد العملي فقد اخذت سلطات الملك في الملكيات الأوروبية التقليدية تتراجع فضعفت بذلك فكرة ثنائية السلطةالتنفيذية وفقدت فكرة التوازن بين السلطات جزاء من قيمتها، وأصبحت هيمنة البرلمان في النظم البرلمانية الأوروبية واضحة .

54. Lalumiere, P. ET Demichel. A: OP. Cit pp – 14 – 42.
Burdeau G: OP. Cit P. 38                                                                                
55. راجع الجريدة الرسمية عدد رقم 3790 لسنة 1991م.
56. لقد كان حق حل مجلس العموم في بريطانيا من إختصاص الملك. إذا كان الملك يملك إعفاء أعضاء مجلس النواب من مهامهم في الظروف التي يجد نفسه فيها بمركز قوة وباستطاعته أن يحكم بدونهم، في مرحلة لاحقة أصبحت الهيئات النيابية أكثر تماسكا فكان الملك يمارس حق الحل لمقاومة البرلمان والوزراء الذين يناصرون البرلمان، مما تطلب تغيير الحكومة بعد كل حل. بعد ذلك أشرك الملك الحكومة معه في عملية حل البرلمان، فأصبح حق حل البرلمان مشتركا بين الملك ورئيس الوزراء، ولكن هذا الحق المشترك لم يستمر طويلا حيث اخذت تتأكد سلطة الحكومة مع تراجع في صلاحيات الملك، حتى وصل الامر إلى أن أصبح حق إقتراح الحل من صلاحيات رئيس الوزراء وللملك حق الرفض، الا أن هذا الرفض أصبح شكليا في مرحلة لاحقة، وأصبحت موافقة الملك قاعدة.

وقد كان لهذا التطور الذي حصل في بريطانيا ما يشابهه في فرنسا، حيث كان حق الحل للملك ثم حقا مشتركا بين الملك والحكومة في دستور 1875، ثم حقا خالصا للحكومة في ظل دستور 1946، إلى أن أصبح حقا خالصا لرئيس الجمهورية حسب دستور 1958.

Burdeau G: op – Cit – pp – 139 – 140, Lauvaux- Ph: la, dissolution des assemblees Parlementaire, Sparis, 1983, P, 76 et s.
57. Esmein – a: Elements de droits Constitutionnel Francais ET compare Paris, 1927. P. 181.                                                                    
58. Hauriou. A = Precis de droit Constitutionnel, Paris, 1965, P.455.
59. Esmein.A = op. cit pp. 182 – 183                                                  
60. Laferriere. J: Manuel de droit Constitutionnel, Paris, 1947, p.760
61. راجع الجريدة الرسمية عدد رقم 1255 تاريخ 5/1/1956.
62. أصدر المجلس العالي لتفسير الدستور، منذ أن أنشئ في عام 1952 ولغاية عام 1995 (21) قرارا كانت موزعة على النحو التالي : قرارين عام 1954، واربعة قرارات عام 1955، وقرارين عام 1990، وثلاثة قرارات عام 1991، واصدار المجلس قرارا واحدا في كل سنة من السنوات التالية : 1962، 1963، 1965، 1975، 1992، 1993، 1994، 1995 ولم يصدر عن المجلس أي قرار في السنوات الباقية .

تعليقات