القائمة الرئيسية

الصفحات



المسؤولية المدنية للطبيب الجراح والمصحة ذة. أسماء أحيد دكتورة في الحقوق

 المسؤولية المدنية للطبيب الجراح والمصحة






 المسؤولية المدنية للطبيب الجراح والمصحة

ذة. أسماء أحيد
دكتورة في الحقوق
عالج القرار المنشور أعلاه الصادر عن المجلس الأعلى عدد 1795بتاريخ 20/4/2010 في الملف المدني عدد 129/1/3/2008، موضوع المسؤولية المدنية للطبيب الجراح والمصحة.وتتلخص وقائع النازلة في أن امرأة تم استقبالها بالمصحة في حالة وجع الوضع، وقد تم الوضع فعلا بصفة طبيعية، بإشراف من الطبيب المولد الذي قام بإفراغ الرحم، إلا أنه حدث نزيف دموي حاد لم ينقطع، الشيء الذي جعله يقرر إجراء عملية جراحية لاستئصال الرحم، والذي زاد من حدة النزيف، حيث توفيت السيدة بسبب عدم تغذية شرايينها بالدم في إبانه، علما أن المصحة لم تكن تتوفر على فصيلة الدم المطلوبة لحقن المريضة، ولم تكن تتوفر أيضا على سيارة إسعاف، وأن أقاربها هم الذين اضطروا إلى التنقل على عجل لمركز تحاقن الدم لتوفير كمية الدم المطلوبة، والذي تم بعد فوات الأوان.

وقد كرس المجلس الأعلى في قراره بعض المبادئ معتبرا:

- أن الطبيب ملزم ببذل عناية الرجل المتبصر حي الضمير، وأن يسلك في ذلك مسلك الطبيب اليقظ من نفس مستواه المهني الموجود في نفس الظروف المحيطة به، وأن أي تقصير أو إهمال منه منافي للأصول العلمية الثابتة في علم الطب وللظروف المحيطة به يكون مسؤولا عنه، ويرتب التعويض عن ما سببه من ضرر.

- وأنه على الطبيب الجراح أن يتأكد من جدوى البرنامج العلاجيقبل تنفيذه من خلالالفحوصاتوالتحاليلالمختبرية اللازمة، للتأكد من أن التدخل الجراحي ضروريومناسب لعلاج المريضة،والتحقق من أن حالتها الصحيةتسمح بإجراءالجراحةعليها.

- وأنه على كل مصحة تتقاضى أجرا عن الاستشفاء وإجراء العمليات والتي يقدم لها الطبيب تجربته العلمية أن تقوم بإحضار الوسائل والأدوات التي يحتاجها الطبيب في مهامه باستعجال ودون تأخير، وإلا تحملت كامل المسؤولية مع الطبيب المعالج عن كل تقصير أو إهمال.

هذه المبادئ لها مرجعية فقهية وقضائية، كما سيتبين ذلك بوضوح من هذا التعليق، الذي قسمته إلى فقرتين هما:عنصر الخطأ كأساس للمسؤولية الطبية، وإشكالية إثبات الخطأ الطبي.

أولا: عنصر الخطأ كأساس للمسؤولية الطبية.

إن التزامات الأطباء ليس منشؤها ذلك الواجب القانوني العام بعدم الإضرار بالغير، ولا مناطها ما اتجهت إليه إرادة المريض وقت التعاقد مع الطبيب، بل مرجعها تلك القواعد المهنية المستقرة التي تحددها وتبين مداها الممارسة الطبية.

وإن الالتزام الذي يقع على الطبيب عموما وعلى الطبيب الجراح خصوصا يرتقي من معيار الرجل العادي إلى معيار شخص مسؤول وعلى دراية فنية وخبرة مهنية مميزة، ومناطه ما يقدمه طبيب يقظ من أوسط زملائه علما ودراية في نفس الظروف المحيطة به أثناء ممارسته لعمله،مع مراعاة تقاليد المهنة والأصول العلمية الثابتة.

وقد احتفظ القضاء المغربي والمقارن بالخطأ كأساس جوهري لمسؤولية الطبيب رغم تطور الممارسة الطبية الجراحية ونشوء التزامات عقدية أخرى على عاتق الطبيب الجراح لم تكن متصورة من ذي قبل كالالتزام بسلامة المريض من العدوى داخل المصحة.

وإذا كان القضاء مازال يكرس فكرة الخطأ كأساس لمسؤولية الطبيب الجراح على ضوء المبادئ التقليدية للمسؤولية المدنية، فإن مناط مسؤوليته عن خطئه بصفة عامة، سواء أكان يسيرا أو جسيما، هو إثبات الخروج عن الأصول والمعطيات العلمية المسلم بها في مجال عمله وتخصصه، ولا يتنافى ذلك مع حقه في أن ينفرد بمنهجيته الخاصة في علاج المرضى، وأن يستقل بتقديره للعمل الطبي وممارسته لمهنته طبقا لما يمليه عليه ضميره.

ولا يعتبر فشل علاج المريض قرينة قاطعة على خطأ الطبيب، فقد يفشل العلاج رغم تمسك الطبيب بالأصول والمعطيات العلمية، ورغم التزامه بقواعد الحيطة والحذر، فأحيانا قد ينتج هذا الفشل عن عدم قدرة العلم نفسه على علاج بعض الأمراض كالسرطان في مراحله المتقدمة، وكنقص المناعة المكتسبة.

 ولقد تطورت نظرة القضاء للعمل الطبي في موضوع المساءلة القضائية فلم تعد تقتصر فقط على العمل الجراحي، بل تشمل كذلك الأعمال السابقة والتمهيدية له كالفحوص المختبرية والتحاليل الطبية وتحضير مواد ككمية الدم اللازمة والمطابقة لفصيلة دم المريض لإجراء العملية الجراحية.

 ومن ثمة نصل إلى النازلة موضوع التعليق، التي حصل فيها الضرر المتجلي في وفاة المريضة، ليس بسبب العملية الجراحية بل ما سبقها من خلل في تشخيص المرض، وما واكبها من نقص في مستلزمات المعالجة الطبية، فالمجلس الأعلى أقر ما انتهت إليه محكمة الموضوع من ثبوت مسؤولية الطبيب الجراح عن التقصير في مسلكه الطبي بإساءته قراءة صور الفحص بالأشعة قبل إجرائه العملية الجراحية، والتي ليس من الصعب على طبيب ممارس مثله التوصل بواسطتها لوجود أورام برحم الضحية، خاصة وأنه كان هناك إشراف طبي عليها طيلة مدة حملها، وأنه كان عليه أن يتأكد من وجود الكمية الكافية من الدم قبل إجراء عملية استئصال الرحم، لأن إجراء مثل هذا النوع من العمليات يتطلب وجود كمية احتياطية من الدم تكون في المتناول كإجراء أولي.

وفي نازلة مشابهة، اعتبر المجلس الأعلى في قرار سابق له تحت عدد 3844 بتاريخ 20/12/2006، في الملف المدني عدد 3418/1/3/2005 أن الضرر الحال بالضحية من جراء تكرار العمليات الجراحية على المريضة في فترة قصيرة ودون استعمال تخدير كامل وما سببه ذلك من آلام وضرر جسماني ونفسي، يعتبر دليلا على خطأ الطبيب الجراح والمتجلي في عدم بذله العناية الطبية اليقظة واللازمة لشخص في مستواه العلمي، وتتلخص وقائع النازلة في أن امرأة حامل توقف حملها فعرضت نفسها على أخصائية في أمراض الولادة فنصحتها بتدخل طبي لتنظيف الرحم، والذي خضعت له بعيادتها لإزالة الجنين الميت لكن العملية لم تنجح، وازداد الشعور بالألم والنزيف، وبعد فحوص من أطباء آخرين تبين لهم وجود بقايا الجنين والمشيمة بالرحم مع إصابة هذا الأخير بجروح عميقة لا يمكن شفاؤها.

وتجدر الإشارة إلى أن دفع الطبيب لمسؤوليته يكون بإثبات بذله العناية الواجبة واتخاذه الاحتياطات اللازمة، وأنه اختار في ذلك العلاج المناسب وفقا لمعطيات ثابتة طبيا، وأنه راعى كذلك الشروط الطبية اللازمة لحفظ السلامة الجسدية، واحترم الالتزامات القانونية والتعاقدية تجاه مريضه.

فالتزام الطبيب حسب ما هو مستقر عليه قضاء هو التزام ببذل عناية وليس التزاما بتحقيق نتيجة، كما أن مسؤوليته تقوم على أساس وجود خطأ واجب الإثبات وليس  خطأ مفترضا.

لهذا، يتبين أن محكمة الموضوع في النازلة موضوع التعليق لم تحمل فقط الطبيب الجراح المسؤولية عن الخطأ الطبي، بل حملت أيضا المصحة التي أجريت فيها العملية المسؤولية بسبب تقصيرها وإهمالها في مواكبة العملية الجراحية، علما أنها تتلقى مقابلا عن إجراء العمليات الجراحية والاستشفاء داخلها.

 ونشير أنه في غياب تنظيم تشريعي يحدد مسؤولية الطبيب الجراح داخل المصحة، وكذا مسؤولية المصحة الطبية تجاه المريض المتضرر، فإن بعض الفقه يرى أن المسؤولية المشتركة بين الجراح والمصحة تقوم على أساس عقدي، وفي حالة عدم وجوده يتعين على محكمة الموضوع أن تميز بين العمل الطبي الفني المقدم منقبل الجراح وبين الرعاية العادية المقدمة من قبل المصحة والتي تقتضي إثارة مسؤولية هذه الأخيرة. وهذا ما أشار إليه قرار صادر عن المجلس الأعلى عدد 1081/9، بتاريخ 4/7/2001، في الملف الجنحي عدد 4186/98 اعتبر فيه أن العلاقة التي تربط الأطباء الزائرين بالمصحة، ولو بصفة مؤقتة، لا تنتهي بانتهاء العملية الطبية التي أجريت للمريض وإنما تبقى المصحة مسؤولة مدنيا عما يرتكبه الأطباء من أخطاء أثناء ممارستهم لعملهم تحت عهدتها، وبحكم التبعية بمقتضى العقدة الخاصة المبرمة بينهما.

ونرى أنه إذا كانت العقدة المبرمة بين المصحة والطبيب تتعلق بالممارسة الحرة، فإن هذا الأخير يكون مسؤولا شخصيا عن الأخطاء التي يقترفها ماعدا ما يتعلق بأخطاء العاملين بالمصحة بشكل رسمي أو ما يتعلق بتجهيزاتها المعيبة أو المعطلة، أما إذا كان الضرر الذي أصاب المريض سببه خطأ الطبيب وخطأ المصحة فإنهما يصبحان معا مسؤولين مدنيا، ومتضامنين في التعويض.

يتبين أن مسؤولية الطبيب الجراح تختلف عن مسؤولية المصحة، وتتحدد أخطاء كل طرف منهما استنادا لنوع الالتزامات العقدية التي يتحملها والخدمات الطبية التي يقدمها للمريض، ويعتبر القضاء أن عقد الاستشفاءالعلاج الذي يربط المريض بالمصحة الخاصة يجعل من حق هذه الأخيرة أن تبسط سلطتها في المراقبة والتتبع على الأطباء ومساعديهم للحفاظ على سلامة المرضى.

ثانيا: إشكالية إثبات الخطأ الطبي

إن دراسة واقع الخطأ الطبي يفيد بشكل جلي أنه ذو طبيعة خاصة، وما يكرس ذلك هو أن العقد الطبي عقد محله صحة وسلامة الإنسان، وهو يقوم على الاعتبار الشخصي، وله خصائص تميزه عن باقي العقود المشابهة له.

ولتقدير مسلك الطبيب فيما إذا كان الفعل الذي قام به يشكل خطأ أم لا، فإن محكمة الموضوع تستعين بأهل الخبرة من الأطباء، كما يمكنها أن تعتمد على الملف الطبي للمريض فالمهم في إثبات الخطأ الطبي أن يثبت أمام القاضي  ثبوتا صحيحا أن الطبيب الجراح قد خالف الأصول الفنية الثابتة لتخصصه الطبي، أما إذا كانت المسألة الفنية تتصل بمسائل علمية محل خلاف، فليس للقاضي أن يرجح بين وجهات النظر، أو اتخاذ موقف معين منها.

وبخصوص الخبرة الطبية كوسيلة إثبات فإنه يتوجب اتباع الإجراءات القانونية الواردة في الفصول من 59 إلى 66 من قانون المسطرة المدنية، وخاصة الفصل 63 منه الذي يوجب على الخبير تحت طائلة البطلان أن يستدعي الأطراف ووكلاءهم لحضور إنجاز الخبرة، مع إمكانية استعانة الأطراف بأي شخص يرون فائدة في حضوره، وقد أكد المجلس الأعلى على ضرورة التقيد بمبدأ الحضورية في قراره عدد 871 الصادر بتاريخ 1/3/2011 في الملف المدني عدد 05/1/3/2009 -غير منشور- الذي نقض القرار الاستئنافي لكونه اعتمد في ما قضى به على خبرة طبية تمت في غيبة الأطراف، وكانت النازلة تتعلق بامرأة  حامل وضعت جنينها في مصحة، وعند اشتداد المخاض أخذ الطبيب المولد في الضغط على بطنها لإنزال الجنين،  الذي لم يكن في وضعية سليمة،  مما أدى إلى تمزق المهبل والرحم، وتسبب في إعاقة جسدية للمولود.

وإلى جانب الخبرة الطبية يمكن للمحكمة أن تعتمد على الملف الطبي للمريض الذي يعد وثيقة حاسمة وكافية أحيانا في إثبات الخطأ الطبي، وتكمن أهميته في أنه يعد أداة تواصل بين الطبيب المعالج والمصحة بخصوص تطور الحالة الصحية للمريض، وبين الطبيب الجراح وباقي المتدخلين في الفريق الطبي،  علما أنه يتضمن كل المعلومات الأساسية التي تسجل من الطاقم الطبي لتتبع تطور الحالة الصحية للمريض بدءا من التشخيص ومرورا بالعلاج وانتهاء بالإستشفاء.

تعليقات