📁 آخر الأخبار

الحبس المؤقت المؤلف : مزيد بن إبراهيم المزيد










العنوان : الحبس المؤقت
المؤلف : مزيد بن إبراهيم المزيد


الحبس المؤقت
بحث مقدم للندوة العدلية
والتي ستعقد في 14 – 15 /11/1427هـ
القصيم _ بريدة




إعداد
الدكتور / مزيد بن إبراهيم المزيد

P
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...وبعد،
        فإن من كمال الشريعة الإسلامية، عنايتها بكل ما يحفظ الأمن ويردع المجرمين، ولذا قررت مجموعة من العقوبات بحسب نوع الجريمة وخطرها على أمن المجتمع، ومن هذه العقوبات ((عقوبة الحبس))، وسنتحدث عن جانب من الأحكام المتعلقة به، وهو موضوع ((الحبس المؤقت)).

        وسينتظم الحديث عن موضوعنا هذا في ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : تعريف الحبس ، ودليل مشروعيته0
المطلب الثاني : أنواع الحبس 0
المطلب الثالث : الحبس المؤقت0











       
المطلب الأول
تعريف الحبس ، ودليل مشروعيته0
وفيه مسألتان
المسألة الأولى : تعريف الحبس في اللغة والاصطلاح.
الحبس في اللغة :-
         " المنع من الحركة (1)، ضد التخلية (2).
الحبس في الاصطلاح الشرعي : -
        عرف شيخ الإسلام ابن تيمية الحبس بأنه " تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه". (3).

وفي معنى الحبس : -
        السّجن، وهو بفتح السين بمعنى الحبس (4)، وبكسرها المكان الذي يحبس فيه الإنسان، وفي التنزيل : " {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } (5)، قرئ بالفتح على المصدر، وبالكسر على الموضع (6).
الحبس في النظام : -
        عرفه النظام بأنه" عقوبة تعزيرية يُحكم بها شرعاً، أو توقعها الجهة المختصة ، ذات الولاية بالفصل في دعاوى جزائية" (7).
المسألة الثانية : مشروعية الحبس
        الحبس مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، وتفصيل ذلك كما يلي :
1 – قول الله تعالى {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ } (8) .
        قال القرطبي " وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه الحق" (9).
ووجه الدلالة : أن الآية دلت على توقيفِ الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما، وهذا نصٌ في جواز الحبس (10).
2 – ما رواه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: " أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حبس رجلاً في تهمة" (11).
ووجه الدلالة : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وقع منه الحبس، وفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – دليل على مشروعيته.
3 – ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث خيلاً قِبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : " ما عندك يا ثمامة؟ فقال : عندي خير يا محمد...الحديث "، وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – تركه مربوطاً مدةً تزيد على يومين، ثم أمر بإطلاقه (12).
        قال النووي : " وفي هذا جواز ربط الأسير وحبسه" (13).
        وترجم له البخاري : " باب الربط والحبس في الحرم" (14).
ووجه الدلالة : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أبقى ثمامة محبوساً مدة تزيد على يومين، وهذا دليل على مشروعية الحبس، ولو كان الحبس غير جائز لأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بإطلاقه (15).
4 – الإجماع، وقد أجمع الصحابة فمن بعدهم على مشروعية الحبس. (16).
        قال الشوكاني : " الحبس وقع في زمن النبوة، وفي أيام الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الآن، في جميع الاعصار والأمصار من دون إنكار" (17).








المطلب الثاني
أنواع الحبس
        يَذْكر الفقهاءُ للحبس نوعان رئيسيان (18).
النوع الأول : - حبس استظهار، ويسميه بعضهم حبس في التهمة، وذلك لأن سببه التهمة، والغاية منه الاستظهار.
        وقد نص الفقهاء على أن المتهم إذا قويت القرائن على اتهامه ، فإنه يحبس حتى ينكشف حاله ويتبين أمره (19).
        قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " أن يكون المتهم مجهول الحال لا يعرف ببر أو فجور ، فهذا يحبس حتى تنكشف حاله عند عامة علماء الإسلام" (20).
        وقد بيّن الإمام أحمد – رحمه الله – مستند هذا النوع من الحبس فقال : " وقد حبس النبي – صلى الله عليه وسلم – في تهمة، وذلك حتى يتبين للحاكم أمره". (21).
        والإمام أحمد - رحمه الله - يشير إلى حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده : " أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حبس رجلاً في تهمة" (22).
        وهو ما يسمى في الأنظمة المحلية بـ (التوقيف الاحتياطي) أو (الحبس الاحتياطي).
        والتوقيف الاحتياطي يُعد إجراء من إجراءات التحقيق، وهو يسلب حرية المتهم حتى تتضح حالته من الإدانة أو البراءة.
        ويُنَفذ التوقيف الاحتياطي على وجه يختلف عن الحبس كعقوبة، كما أوضحت ذلك اللوائح التنفيذية لنظام السجن والتوقيف في المملكة (23).
        والهدف من التوقيف الاحتياطي يتمثل في : -
1 – بقاء المتهم في متناول سلطة التحقيق حتى يتضح أمره، والحيلولة دون هربه أو اختفائه.
2 – المحافظة على أدلة الجريمة من محاولة المتهم إخفاءها أو طمسها، إذا أطلق سراحه.
3 – منع التواطؤ بالحيلولة بين اتصال المتهم بباقي شركائه في ارتكاب الجريمة، وبغل يده عن تجهيز شهود نفي مزورين، أو من تهديد شهود الإثبات (24).
النوع الثاني : -  حبس تعزير ، ويسميه بعض العلماء حبس عقوبة ، وذلك لأن التعزير نوع عقوبة (25).
والتعزير هو : - عقوبة غير مقدرة، تجب حقاً لله أو لآدمي، في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة.
        فالتعزير هو عقوبة على جرائم ومخالفات شرعية لم تضع لها الشريعة عقوبة محددة، وتبدأ من النصح والإنذار وتنتهي بأشد العقوبات كالحبس والجلد، بل قد تصل للقتل في الجرائم الخطيرة، ويترك للقاضي اختيار العقوبة الملائمة لنوع الجريمة وخطرها على المجتمع، ولحال المجرم وسوابقه.
        ويعاقب بالتعزير على كل الجرائم، فيما عدا جرائم الحدود والقصاص والديات، إذ أن لها عقوباتها الخاصة بها، وقد يعاقب عليها بالتعزير، في حال كون التعزير عقوبة بدلية وليست عقوبة أصلية ، كما لو تعذر إيقاع العقوبة الأصلية، لعدم توفر شروط الحد، أو عدم اكتمال شروط القصاص (26).
أقسام حبس التعزير : -
        ينقسم حبس التعزير (من حيث مدته) إلى قسمين :
القسم الأول : - حبس غير محدد المدة ، وهو ما يعرف بـ (الحبس المؤبد).
القسم الثاني : - حبس محدد المدة ، وهو ما يعرف بـ (الحبس المؤقت).
        ونتحدث في هذا المطلب عن الحبس غير المحدد المدة، أما الحبس المحدد المدة فسيأتي بيانه في المطلب الثالث من هذا البحث.
الحبس المؤيد : -
        هو الحبس حتى الموت (27).
        قال في المغني : " وإذا أمسك رجلاً وقتله آخر، قتل القاتل، وحبس الماسك حتى يموت" (28).
        وجاء في الأحكام السلطانية للماوردي : " يجوز للأمير فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجر عنها بالحدود، أن يستديم حبسه، إذا استضر الناس بجرائمه حتى يموت" (29).
                وجاء في الإقناع : " ومن عرف بأذى الناس ومالهم ، حتى بعينه ، ،ولم يكف، حبس حتى يموت أو يتوب" (30).
        وهذا القسم من الحبس غير المحدد المدة يعاقب به المجرمون الخطرون ومعتادو الإجرام، أو من تكرر منهم ارتكاب الجرائم، ولا تردعهم العقوبات المقدرة.
        ويلحق بهذا النوع من الحبس - الحبس غير المحدد المدة - الحكم ببقاء المجرم محبوساً حتى تظهر توبته وينصلح حاله، فيطلق سراحه ، وإلا بقي محبوساً مكفوفاً شره حتى يموت (31).
        قال ابن الهمام الحنفي في باب قطاع الطريق : " فأما أن يُؤخذوا قبل أن يأخذوا مالاً ويقتلوا نفساً، بل لم يوجد منهم سوى مجرد إخافة الطريق إلى أن أُخِذوا، فحكمهم أن يعزروا ويُحبسوا إلى أن تظهر توبتُهم في الحبس أو يموتوا". (32)
        ووجه مشروعيته : أن بقاء المجرم في تلك الحالة حراً طليقاً، ضرر على المجتمع، والقاعدة الشرعية (أن الضرر يزال)، فإذا لم ينتف ضرر هؤلاء المجرمين عن المجتمع إلا بالحبس، فإن حبسهم يكون مشروعاً.
















المطلب الثالث
الحبس المؤقت
        وفيه ثلاث مسائل :
الأولى  : - مدة الحبس المؤقت.
الثانية : - استشكال عدم تحديد مدة الحبس المؤقت.
الثالثة :  - تطبيقات الحبس المؤقت في المملكة العربية السعودية.

المسألة الأولى
مدة الحبس المؤقت
        تقدم أن الحبس المؤقت نوع من أنواع التعزير، يحكم به القاضي في الجرائم والمخالفات التي ليس لها عقوبة مقدرة شرعاً، متى ما رأى مناسبته لحال الجاني ونوع الذنب الذي ارتكبه، وهذا محل اتفاق بين العلماء، كما أنهم اتفقوا على أن التعزير بالحبس ليس له مدة محددة شرعاً، وإلا أصبح نوعاً من الحدود.
         ولذا نبين فيما يلي أقل المدة ، وأكثرها ، للحبس على النحو التالي: -

1 – أقل المدة : -
        لم يرد نصٌ شرعي في تحديد أقل مدةٍ للتعزير بالحبس.
        قال ابن قدامه عن التعزير : " ليس أقله مقداراً، لأنه لو تقدر لكان حداً... فيُرجع فيه إلى اجتهاد الإمام فيما يراه، وما يقتضيه حال الشخص" (33).
        ولذا رأى الحصكفي من الحنفية (34)، وابن فرحون من المالكية (35)، والماوردي من الشافعية (36)، والقاضي ابويعلى من الحنابلة (37) أنه يصدق الحبس تعزيراً ولو ليوم واحد.
        ويعلل ابن عابدين ذلك : " بأن المقصد من الحبس الضجر، وأحوال الناس فيه متفاوتة ، فمن الناس من يتأثر بحبس يوم ، فيغتم ويندم وينزجر بذلك" (38).

2 – أكثر المدة : -
        اختلف العلماء في أكثر مدة الحبس على قولين :
القول الأول : أنه لا حد لأكثره، فهو راجع إلى اجتهاد الحاكم حسب تقديره.
 وبه قال الجمهور من الحنفية (39) والمالكية (40) والحنابلة (41) والظاهرية (42) وبعض الشافعية (43).
أدلة هذا القول : -
1 – أن تحديد مدة الحبس تعزيراً لم يرد فيه نص شرعي ، فيبقى على إطلاقه ، لانتفاء تقديره شرعاً (44).
2 – أن الحبس تعزيراً تقرر للتأديب والزجر، وهو يختلف باختلاف موجباته ، وباختلاف الأزمنة والأمكنة ، وباختلاف أحوال الجناة ، فمنهم من ينزجر بالمدة القصيرة ، ومنهم من لا تصلحه إلا المدة الطويلة ، فناسب ترك تقدير مدة الحبس للقاضي حسب ما يراه الأصلح لنوع الجناية وحال الجاني (45).
القول الثاني :
        أن حد أكثره يقدر بما دون الحول ولو بيوم واحد.
                   وهو ظاهر مذهب الشافعية(46).
دليل القول الثاني : -
        قياس الحبس على التغريب في حد الزنا، والتغريب لا يزيد على عام ، فوجب أن يقل الحبس عن عام ، كي لا يساوي التغريب في الزنا، فيكون ايقاعة اعتداء ؛ لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – " من بلغ حداً في غير حدٍ فهو من المعتدين" (47).
ونوقش دليلهم في ما يلي : -
1 – قياس السجن على التغريب قياس مع الفارق؛ لأن التغريب بعض الحد لا كله.
2 – أن هذا الحديث مرسل ، والشافعي – رحمه الله – لا يحتج بالمرسل إلا إذا عضده عاضد وهنا لم يعتضد (48).
3 – أن الحديث ضعيف، ضعفه السيوطي، والمناوي، فلا يصلح للاحتجاج به (49).


الترجيح : -
        الراجح هو القول بأن التعزير بالحبس لا حد لأكثره، وإنما هو راجع إلى اجتهاد القاضي في تقدير المدة المناسبة لزجر وتأديب المحكوم عليه به، وذلك لعدم قيام الدليل المعتبر على تقييده بمدة معينة ، فيبقى على الأصل وهو عدم التقييد.

المسألة الثانية
استشكال عدم تحديد مدة الحبس المؤقت
        يثير بعض المختصين والكتاب استشكال التفاوت في تقدير العقوبات التعزيرية، كالحبس المؤقت ، ويذكرون وقائع من التفاوت في تقدير مدة الحبس من محكوم عليه  إلى آخر مع تماثلهم في الفعل والظروف ، ويرون أن هذا يتنافى مع مبدأ العدل المأمور به شرعاً في قول الله تعالى {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } (50) ويقررون أن حكمة التشريع حين اقتضت تفويض هذه العقوبات للحكام ، فإنما ذلك مراعاة للظروف الزمانية والمكانية ، ولأن الأفعال التي يجرم عليها الشخص شرعا لا تقع تحت حصر ، ويرون أن هذا لا يمنع الولاة في كل عصر أن يُحددوا مدد الحبس، بما يحقق الغرض من العقوبة، ويستندون في رأيهم إلى ما يلي : -
1 – لا يوجد نص في القرآن والسنة يمنع التحديد، فيبقى الحكم على الأصل وهو الإباحة.
2 – أن القرآن والسنة أقرا مبدأ الحبس المؤبد ، وبه عمل الصحابة، وهو في الحقيقة تحديد نسبي لمدة السجن.
3 – يجوز للإمام أن يوكل إلى غيره ما أوكله الشرع إليه، إذا ما رأى مصلحة في ذلك من مثل تقدير مدة الحبس تعزيراً (51).
        والذي أراه أن تحديد مدة الحبس مسبقاً، وإن كان جائزا، إلا أن عدم التحديد له إيجابيات منها : -
1 – أن الغرض من الحبس هو إصلاح الجاني وتأديبه، والمدة المناسبة لهذا الغرض تختلف من شخص إلى آخر، فبعض الناس يضجر ويتأدب بالأيام القليلة، والبعض الآخر لا يرتدع إلا بمدة طويلة، وأيضاً فإن نوع الجريمة، والظروف الملابسة لها وتكرارها من عدمه، كل ذلك له أثر في تحديد مدة الحبس ، فترك تقديرها للقاضي يعطيه مرونة في تقدير المدة المناسبة له.
2 – أن إبهام العقوبة أنفع وأجدى، لأن في ذلك زجرا للفساق عن اقتراف ما يوجب الحبس، خشية أن توقع عليهم مدد طويلة يضجرون فيها.
3 – أن الحبس في الشريعة الإسلامية ليس عقوبة أساسية، كعقوبات الحدود والقصاص، بل هو عقوبة اختيارية للقاضي أن يعاقب بها أو يتركها إلى غيرها، ولا يعاقب به إلا إذا غلب على ظنه فائدتها، فناسب ترك تقدير مدته لاجتهاد القاضي، وذلك بخلاف الأنظمة الوضعية فإن الحبس عندهم هو العقوبة الأساسية التي يعاقب بها في كل الجرائم تقريباً سواء كانت الجرائم خطيرة أو بسيطة (52).

اقتراح للحد من التفاوت في تقدير مدد الحبس المؤقت: -
        ما ذكرته سابقاً لا يمنع من قيام مجلس القضاء الأعلى (بحكم صلاحياته المنصوص عليها في المادتين (7  ، 8) من نظام القضاء) بتقرير مبادىء وقواعد استرشادية لتقدير مدد الحبس المؤقت ، وذلك بوضع حد أدنى وحد أعلى لعقوبة كل جريمة تعزيرية، يستأنس بها القضاة عند إيقاعهم عقوبة الحبس على المحكوم عليه.
        ومن إيجابيات هذا المقترح ما يلي : -
1 – أن صدور تلك المبادىء والقواعد من مجلس القضاء الأعلى، يعطيها مرونة للمراجعة والتعديل بين فترة وأخرى ، بما يستجد من قضايا، وبما يظهر من تطبيقات تلك المبادىء، وهذا بخلاف ما لو صدرت بنظام، لان طبيعة الأنظمة الثبات والاستقرار، ولا تعدل إلا بمراسيم ملكية.
2- أن وضع حد أدنى وحد أعلى لعقوبة كل جريمة يُمَكن القاضي من تحديد مدة تتناسب مع نوع كل الجريمة، والفاعل، والظروف التي ارتكبت فيها الجريمة.
3 – أن كونها استرشادية وليست إلزامية، تسمح للقاضي في بعض الأحوال بالخروج عما هو مقرر من تلك المبادى، إما لظروف مخففة للعقوبة، أو ظروف مشددة للعقوبة، تقتضيها حال الفاعل أو الظروف والملابسات المحيطة بالفعل، مما يتيح له الحكم بما هو أدنى أو أعلى مما هو مقرر في مثلها.
4 – أن تقرير هذه المبادىء يحد ويقلل من التفاوت الحاصل في الأحكام التعزيرية الصادرة في القضايا المتشابهة.

المسـألة الثالثة
تطبيقات الحبس المؤقت في المملكة العربية السعودية : -
        الحبس المؤقت نوع من العقوبات التعزيرية في كل فعل لا يوجب الحد أو القصاص، ويدخل في ذلك كل فعل حرمته الشريعة الإسلامية، دون أن تحدد عقوبته ، تاركة لولاة الأمر ومن ينوب عنهم تقدير العقوبة المناسبة ؛ لدفع الشر وتأديب المفسدين ، وتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية.
        وقواعد التعزير في الفقه الإسلامي تقوم على أساس تفويض القاضي بتقدير العقوبة التعزيرية المناسبة للفعل المحظور، مع مراعاة الظروف المحيطة بالجاني، وهذا المبدأ يعطى القضاء سلطة واسعة في معاقبة المجرمين، وكف شرهم عن المجتمع.
        وفي المملكة العربية السعودية التي يقوم نظامها على أحكام الشريعة الإسلامية، حدد ولي الأمر عقوبات تعزيرية لبعض الأفعال الموجبة للتعزير ؛ لاعتبارات المصلحة العامة ، تستمد شرعيتها من سلطة ولي الأمر في هذا الشأن ، والتي يطلق عليها " الجرائم التعزيرية المنظمة"، وفيما عدا تلك الأنظمة الصادرة بتحديد العقوبات التعزيرية لبعض الجرائم، تظل القاعدة العامة في التعزير على كل فعل يعد معصية ، سواء كان في حق لله أو في حق لآدمي ، لا توجد له عقوبة مقدرة ، يرجع في تقدير العقوبة إلى اجتهاد القاضي فيما يراه مناسباً (53).
        وتنص المادة ( 26 ) من نظام القضاء على أن المحاكم تختص بالفصل في كافة المنازعات والجرائم إلا ما يستثنى بنظام.
        وهذا النص يقرر أن المحاكم – أي المحاكم الشرعية – هي الجهة ذات الولاية العامة بالفصل في المنازعات والجرائم، وأن أي جهة أخرى قد يعهد إليها النظام بالفصل في نوع معين من القضايا، تعتبر جهة قضاء استثنائي، ويترتب على ذلك أن أي نوع من القضايا، لم يعهد النظام بالفصل فيها إلى جهة أخرى ، يكون الحكم فيها من اختصاص المحاكم، باعتبارها الجهة القضائية الأصلية، ذات الولاية العامة (54).
        والعمل جاري في المملكة على أساس أن المنازعات والجرائم التي تنظر فيها المحاكم العامة أو المحاكم الجزئية ، ينظر فيها القضاة وفق ما هو مقرر في الفقه الإسلامي، من تفويض إيقاع العقوبة التعزيرية إلى القاضي المختص بنظر القضية، وما يراه مناسباً وفق تقديره لفداحة الجرم والظروف والملابسات المحيطة به.
        أما الجهات الأخرى ذات الاختصاص القضائي والتي تستمد أصولها من ولاية المظالم التي بين أحكامها فقهاء المسلمين ، مثل ديوان المظالم وغيره من الجهات التي أنيط بها النظر في بعض القضايا والمنازعات الاستثنائية، فإن ولي الأمر يسن العقوبة أو العقوبات التعزيرية المحددة، ويترك للقاضي الاجتهاد بين حدين أو نوعين من العقوبات.
        ونعرض بعضاً منها على سبيل التمثيل:
1 - عقوبة الحبس المؤقت في نظام مكافحة الرشوة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/36 وتاريخ 29/12/1412هـ، نصت المادة الأولى على أن المرتشي " يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز عشر سنوات، وبغرامة لا تزيد عن مليون ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين...".
2 - عقوبة الحبس المؤقت في نظام الأحوال المدنية الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/7) وتاريخ 20/4/1407هـ نصت المادة ( 79 ) : أن من أدلى ببيان غير صحيح من البيانات التي يوجبها تنفيذ هذا النظام " يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز ستة أشهر، وبغرامة لا تزيد على عشرة آلاف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين".
3 – عقوبة الحبس المؤقت في نظام عقوبات انتحال صفة رجل السلطة العامة الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/46) وتاريخ 8/9/1408هـ ، نصت المادة الثانية على أن " كل من انتحل صفة رجل السلطة العامة يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات أو بغرامة لا تزيد على خمسين ألف ريال أو بهما معاً، فإن كان ارتكاب الجريمة مصحوباً بالإرهاب، أو الاستغلال، أو كان من انتحلت صفته من رجال المباحث،  أو الاستخبارات، أو أحد العسكريين، أو من في حكمهم فيعاقب الفاعل بالسجن مدة لا تتجاوز عشر سنوات أو بغرامة لا تزيد عن مائة وخمسين ألف ريال، أو بهما معاً.
4 – عقوبة الحبس المؤقت في النظام الجزائي الخاص بتزييف وتقليد النقود الصادر بالمرسوم الملكي رقم ( 2 ) وتاريخ 20/7/137هـ، والمعدل بالمرسوم الملكي رقم (م/38) وتاريخ 23/1؟/1421هـ، نصت المادة الثانية من النظام أنه " يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات، ولا تزيد على خمس وعشرين سنة، وبغرامة لا تقل عن ثلاثين ألف ريال، ولا تزيد على خمسمائة ألف ريال".
5 – عقوبة الحبس المؤقت في نظام مكافحة التزوير الصادر بالمرسوم الملكي رقم (114) وتاريخ 26/11/1380هـ ، والمعدل بالمرسوم الملكي رقم (م/53) وتاريخ 5/11/1382هـ، نصت المادة الرابعة (المعدلة) على أن المزور يعاقب " بالسجن من ثلاث إلى عشر سنوات وبغرامة تتراوح من ثلاثة إلى عشرة ألاف ريال".
6 – عقوبة الحبس المؤقت في نظام محاكمة الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي رقم ( 88 ) وتاريخ 22/9"/1380هـ، أوردت المادة (2) من النظام أربع جرائم يعاقب المحكوم عليهم وفقاً لهذا النظام بالسجن 25 عاماً، أو بالقتل ، كما أوردت المادة (4) من النظام أربع جرائم يعاقب بالسجن من 5 – 10 سنوات ، كما أوردت المادة (5) من النظام ست جرائم يعاقب بالسجن لمدة تتراوح من 3 – 10 سنوات.
7 – عقوبة الحبس المؤقت في نظام الأوراق التجارية الصادر بالمرسوم الملكي رقم ( 37 ) وتاريخ 11/10/1383هـ والمعدل بالمرسوم الملكي رقم (م/45) وتاريخ 12/9/1409هـ، في المادة (118) : ...يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة لا تزيد على خمسين ألف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين ، كل من أقدم بسوء نية على ارتكاب أحد الأفعال الآتية :
أ – إذا سحب شيكاً لا يكون له مقابل وفاء قائم وقابل للسحب ، أو يكون له مقابل وفاء أقل من قيمة الشيك...".


انتهى
و الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين




الهوامش

(1)                جمهرة اللغة لابن دريد 1/277.
(2)             مختار الصحاح للرازي ص:51
(3)             مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/398
(4)مختار الصحاح للرازي ص 121.
(5)سورة يوسف، الآية 33
(6)لسان العرب لابن منظور 2/103
(7)نظام السجن والتوقيف الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/31) وتاريخ 21/6/1398هـ.
(8)سورة المائدة، الآية 106
(9) تفسير الإمام القرطبي ، سورة المائدة ، الآية  106
(10)  فتح القدير للشوكاني 2/87
(11) أخرجه أبو داوود (3630) والترمذي ( 1417) والنسائي  ( 8/67) 0
(12) أخرجه البخاري (2422)،، ومسلم (1764)
(13) شرح النووي على صحيح الإمام مسلم 12/87
(14) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/75 .
(15) قال شيخ الإسلام ابن تيمية (35/398) : " ولم يكن على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر حبساً معداً لسجن الناس، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة داراً، وجعلها سجناً، وحبس فيها".،
        وقال ابن الهمام في شرح فتح القدير ( 4/277) : " ولم يكن في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر سجن، وإنما كان يحبس في المسجد أو الدهليز، حتى اشترى عمر – رضي الله عنه – داراً بمكة بأربعة آلاف درهم، واتخذه محبساً" أ.هـ. وذكر البخاري قصة شراء نافع لدار صفوان بن أمية بمكة للسجن0 انظر الجامع الصحيح 5/75 مع شرحه فتح الباري.
(16) انظر      : أدب القاضي لابن القاصي 2/418
(17) نيل الاوطار 9/218
(18) قال الإمام الخطابي في معالم السنن (5/237) : " الحبس على ضربين : حبس عقوبة، وحبس استظهار،". وقال الشوكاني في نيل الاوطار (7/330) : " الحبس كما يكون حبس عقوبة يكون حبس استظهار".
(19) ينظر : تبصرة الحكام لابن فرحون ص2/ 308، تحفة الاحوذي 4/77، الأحكام السلطانية للماوردي ص 274، الأحكام السلطانية لأبي لعلي ص 258، بدائعه الصنائع 7/65.
(20) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (35/397).
(21) الأحكام السلطانية لابن يعلي ص 258
(22)سبق تخريجه في ص 3
(23) ينظر : النظام الإجرائي في المملكة العربية السعودية ص 208
(24) الحبس الاحتياطي – تقرير من  إعداد المحامي إيهاب سلام– ص 3
 (25)ينظر : فتح القدير 7/475، الشرح الكبير للدرديري 4/354 مع حاشية الدسوقي.
(26) مغني المحتاج 4/191 ،شرح منتهى الإيرادات 7/225، التعزير في الشريعة الإسلامية د. عبد العزيز عامر ص 78 ، التشريع الجنائي الإسلامي د.عبد القادر عودة 1/685
(27)الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 259، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/401
(28)المغني 11/596
(29)الأحكام السلطانية للماوردي ص 274
(30)ألإقناع للحجاوي 4/272
(31)تبصرة الحكام 2/302 – 303، التشريع الجنائي الإسلامي 1/697
(32)فتح القدير 5/423
(33)المغني 12/525
(34)الدر المختار، شرح تنوير الأبصار 5/384 مع حاشية ابن عابدين.
(35)تبصرة الحكام 2/313
(36)الأحكام السلطانية للماوردي ص 293
(37)الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى ص 279
(38)حاشية ابن عابدين 5/384
(39)الفتاوى الهندية 2/168
(40)جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 2/196
(41)الإنصاف للمرداوي 11/218
(42)المحلى لابن حزم 10/428
(43)نهاية المحتاج للرملي 8/22
(44)المحلى لابن حزم 10/428، نهاية المحتاج 8/22
(45)نهاية المحتاج 8/22، شرح الزرقاني على مختصر خليل 8/115، الشرح الكبير على المقنع 28/374، الأحكام السلطانية للماوردي ص 294
(46) الأحكام السلطانية الماوردي 294
(47)السنن الكبرى للبيهقي 8/327، حاشية الرشيدي على نهاية المحتاج 8/22 0
(48) حاشية الرشيدي على نهاية المحتاج 8/
(49) فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/95
 (50) سورة النساء – الآية 58
 (51) أحكام السجن ومعاملة السجناء في الإسلام.
(52) التشريع الجنائي الإسلامي – د. عبد القادر عوده 1/695    
(53) ينظر : التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية – حسن عبد الله آل الشيخ ص 23، جرائم التعزير المنظمة في المملكة العربية السعودية – د. فتوح عبد الله الشاذلي ص 18، القضاء ونظام الإثبات – د. محمود محمد هاشم ص 43
 (54) التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية – حسن عبد الله آل الشيخ ص 43




















الفهرس

المطلب الأول0
تعريف الحبس، ودليل مشروعيته0
المسألة الأولى : تعريف الحبس في اللغة والاصطلاح0                            3
المسألة الثانية : مشروعية الحبس  0                                              3
المطلب الثاني
أنواع الحبس
النوع الأول : حبس استظهار0                                                  5
النوع الثاني : حبس تعزير0                                                               6
أقسام حبس التعزير
الحبس غير محدد المدة والحبس المحدد المدة                                       6
المطلب الثالث
الحبس المؤقت
المسألة الأولى : مدة الحبس المؤقت                                                       8
المسألة الثانية : استشكال عدم تحديد مدة الحبس المؤقت                 10
      اقتراح للحد من التفاوت في تقدير مدد الحبس المؤقت                      11
المسألة الثالثة : تطبيقات الحبس المؤقت في المملكة العربية السعودية       12
الهوامش                                                                          15

الفهرس                                                                          18
تعليقات