القائمة الرئيسية

الصفحات



جمود التشريع العقاري وانعكاساته على الاستثمار والعمل القضائي ذ.إدريس بلمحجوب رئيس غرفة بالمجلس الأعلى




جمود التشريع العقاري
وانعكاساته على الاستثمار والعمل القضائي

ذ.إدريس بلمحجوب
رئيس غرفة بالمجلس الأعلى







من الأكيد، أن الرصيد العقاري الخالي من النزاعات يعتبر من أهم الثروات التي تلعب دورا فاعلا في اقتصاد البلد، والمحرك الأساسي لدواليب التنمية الاقتصادية والاجتماعية به، لذلك تسعى كل الدول إلى تطوير منظومتها القانونية والقضائية في هذا المجال، قصد إعطاء الملكية العقارية الضمان والاستقرار، وتضفي على الوعاء العقاري الحماية والنجاعة، وتجعل الجهاز القضائي مواكبا للمستجدات الاقتصادية والاجتماعية، ومسايرا لتطلعات المستثمرين، ومانحا الثقة للمؤسسات المالية لتمويل المشاريع الفلاحية والصناعية والتجارية والسياحية والسكنية ...
لذا، سنحاول من خلال هذا العرض أن نتطرق إلى محورين أساسيين : المحور الأول  نعالج فيه دور التشريع العقاري في تنمية الاستثمار، وفي المحور الثاني نحاول ملامسة آثار جمود التشريع العقاري على العمل القضائي .

المحور الأول : دور التشريع العقاري في تنمية الاستثمار

 يجدر بنا بادئ ذي بدء أن نتساءل، هل أن منظومتنا القانونية العقارية سليمة وقادرة على تحقيق التكامل والانسجام السالف ذكره ؟
لقد أجاب عن هذا السؤال بوضوح تقرير الخمسينية "المغرب الممكن" بقوله : "وفي موضوع شديد الارتباط بالضغط على الأراضي، فإن مسألة القوانين العقارية بالمغرب تعكس واقعا ظل جامدا منذ أمد طويل، مما يزيد من عرقلته للتنمية الفلاحية على وجه الخصوص. وفعلا، فإن هذه المسألة الأساسية لم تعرف أي تغيير يذكر منذ الاستقلال، حيث ظل التعايش قائما بين أنواع من الملكية، لا تتناسب مع ضرورة القيام باستغلال عصري مكثف للأراضي، إلى جانب ضعف التسجيل والحماية القانونية لها1". وأضاف : "... ويجدر التأكيد أيضا على أن مسألة العقار، التي سبق تحليلها بإسهاب، توجد في قلب الإشكالية الحضرية بالمغرب؛ إذ تعد مكونا ورهانا أساسيين ضمن هذه الإشكالية. ويمثل العقار الحضري بدوره رمزا للسلطة والوجاهة ومصدر إثراء لا ينضب، وموردا يشهد إقبالا متزايدا. غير أن وظائفه المعتادة خضعت لتحريف تمثل في دوائر تبييض الأموال والأشكال المتعددة للمضاربة. وبذلك فليس من الغريب ملاحظة أنه ما من مشروع حضري – استثماري أو مشروع سكن أو تهيئة، في أغلب مدن المملكة، إلا ويستدعي البداية بالمشكلة العقارية، إن لم تعترض هذه المشكلة تحقيقه بشكل نهائي...2"
ويبدو من خلال هذا الجواب، أن التقرير وضع تصورا شموليا للمشكلة العقارية بالمغرب بكل تجرد وموضوعية، وحدد المعيقات التي تتطلب اقتراح بعض مسالك التفكير لاستشراف مغرب الغد خلال العقود القادمة تنفيذا للتعليمات الملكية السامية الواردة في خطاب 20 غشت 2003 التي أعلن فيها عن انطلاق هذا العمل والالتزام بكل ما تضمنه هذا التقرير من حصيلة معرفية مدعمة بالدلائل والحجج لتغذية النقاش العمومي .
وهي لعمري، مبادرة جليلة، وفرصة سانحة للمتخصصين والباحثين للمساهمة في إغناء هذا النقاش بروح من الموضوعية الصادقة والغيرة الوطنية الملتزمة . لكنه من جانب آخر، رهان يقتضي من المسؤولين تجاوز جمود التشريع العقاري وإضفاء الحماية القانونية عليه . .
إكراهات مختلفة للوعاء العقاري ؟ 
وغير خاف، أن مساهمة القطاع الفلاحي في الناتج الخام الوطني تصل في المواسم العادية إلى نسبة 30 % وبذلك يحضر الثقل الاقتصادي للعقار الفلاحي وبعده التنموي على الصعيد الوطني، على الرغم مما تعانيه العقارات الفلاحية الخاصة -في مجملها- من وضعية مادية نتيجة انقسامها على شكل قطع أرضية صغيرة ومتناثرة، كما أن الأهداف التنموية التي اضطلع بها قانون ضم الأراضي بمقتضى ظهير 30/6/1962 لتحقيق الأمن الغذائي والتوازن البيئي والرفع من مستوى الدخل الفردي وتنويع دوائر الري وفرض التسوية القانونية لهذه العقارات واجهتها عدة صعوبات بحيث أن المساحة التي أضحت مضمومة لا تتجاوز 900 ألف هكتار في الوقت الذي لازال هناك ما يزيد على ثمانية مليون وحدة فلاحية غير مهيكلة ولا تستفيد من التقنيات العصرية3 .
ويبدو، أن حجم الإكراهات التي تعترض مشاريع الضم راجع من جهة إلى تداخل الأجهزة الإدارية المشرفة (وزارة الفلاحة – لجان الضم – المجالس المحلية – الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية) ومن جهة ثانية إلى بطء الإجراءات، ناهيك عن ممارسة بعض الأشخاص لتعرضات كيدية لعرقلة مسار عملية التحفيظ مما نتج عنه تضرر حقوق ملاك الأراضي من التجميد والمنع من التصرف بحرية في عقاراتهم، إلى أن تدخل المشرع بموجب مرسوم 6 يناير 1999 و خفف من هذا القيد، وخول للمحافظ بعد استشارة اللجنة إمكانية إلغاء الإعلان عن الضم في حالة توقف أشغال المشروع وعدم استئنافه خلال سنتين من تاريخ التوقف .
وإذا كانت أحكام الإرث واللجوء إلى القسمة الاتفاقية أو القضائية من شأنها أن تؤدي إلى تقسيم الأراضي في الوقت الذي يسعى فيه المشرع إلى ضم أكبر عدد منها لتحقيق التنمية . فإن بعض التشريعات لجأت إلى حل يقضي بأن ينفرد الوارث الأول الأكبر حظا بالضيعة الفلاحية على أن يؤدي لباقي الورثة ثمن منابهم في الإرث نقدا . 

دواعي إحداث مدونة عقارية :

والحقيقة، أن الدفع بعجلة التنمية وفقا للتصور الهادف إلى إدماج العقار في صلب الإنتاج والاستثمار يحتاج إلى مدونة عقارية واحدة شاملة لكل أنواع العقارات بالمغرب. ويكفي القول أنه بعد مرور أكثر من تسعة عقود على العمل بنظام التحفيظ العقاري لم يطرأ على مجمل نصوصه أي تغيير رغم ما تطرحه من صعوبات سواء في المرحلة الإدارية أو القضائية بل أصبحت بعض مقتضياته متجاوزة، إذ على الرغم مما يوفره التحفيظ العقاري من مزايا لحفظ وضعية العقارات من الناحيتين القانونية والمادية وتحصين كافة الحقوق المضمنة بالرسم العقاري من كل منازعة جدية أو تأثير، فإن بعض السلبيات بدأت تطفو إما نتيجة العزوف عن تحيين الرسوم العقارية وعدم تيويمها لتكون مطابقة للحالة الواقعية، أو بسبب التقييدات الاحتياطية المتعددة الناجمة عن الدعاوى، أو من جراء عدم رفع اليد عن الرهون المسجلة بتلك الرسوم . ناهيك عن استعمال طرق التدليس والتزوير في إنجاز رسوم الإراثات أو إبرام عقود تفويتات أو اعتماد وكالات غير حقيقية .
ومن المعلوم، أن "المعالجة المعلوماتية لمعطيات السجل العقاري أسفرت على أن هناك نسبة تتراوح بين 30 % إلى 40 % من الرسوم العقارية الغير المحينة"4.
ولمواجهة هذه الأوضاع المقلقة، تم إعداد مشروع قانون يتعلق بتيويم الرسوم العقارية و الذي يقترح إحداث لجنة شبه قضائية في دائرة نفوذ كل محافظة عقارية، تتولى النظر في تحيين هذه الرسوم بسبب انقطاع تسلسل التقييدات، وذلك وفق إجراءات معينة، وإصدار قرارات بشأنها قابلة للطعن من ذي المصلحة . غير أن هذا المشروع لم يخرج إلى الوجود .
ومع ذلك فإن القضايا المرتبطة بالعقارات المحفظة، والأملاك العامة والخاصة للدولة والأملاك الغابوية والحبسية كانت إلى عهد قريب في منأى عن كل منازعات جدية بحكم ما كانت تختزنه النفوس من حماس ومواطنة ذات بعد أخلاقي وما كانت توفره القوانين آنذاك من حماية للمالكين للرسوم العقارية، أو للمشرفين على الأراضي التي شملها التحديد الإداري، إلا إنه في الآونة الأخيرة، بدأت تعرف مختلف المحاكم نزاعات معقدة نتيجة للضغط الحاصل على الأراضي المؤهلة للاستثمار ولا سيما تلك  المحيطة بالمدن الكبرى مما يشجع بعض الأشخاص الطبيعيين أو المعنويين من ذوي النيات السيئة على استعمال وسائل الاحتيال والتزوير والنصب لتملك الأراضي بطرق غير مشروعة واللجوء بعد تحفيظها بعقود رسمية أو عرفية مزورة أو وكالات غير حقيقية إلى بيعها لمستثمرين أجانب أو مغاربة، مما يطرح مشاكل معقدة حول مبدأ التملك بحسن نية من طرف المتعاقبين على ملكية الأراضي –كما سنرى فيما بعد- وفتح بحث قضائي متشعب الأوجه للكشف عن مرتكبي التزوير والنصب الظاهر منهم والخفي، مما يدعو إلى التفكير الجدي لمراجعة بعض القوانين العقارية التي ظلت جامدة منذ أمد طويل .
ومن جهة ثانية، فإن الوضع القانوني للعقارات الغير المحفظة ظل يهيمن عليها ملكيات عقارية عتيقة وهشة مثل بعض أراضي الجيش والحبوس والأملاك الخاصة والأراضي الجماعية، وبسبب ذلك بقيت معظم هذه الأراضي في منأى عن الاندماج في المشروعات الاقتصادية الكبرى، بعلة عدم ملاءمة تشريعاتها للمستجدات وخضوع معظمها عند المنازعة لقواعد الفقه المالكي، وجهل المستثمرين بمبادئه، وعدم صدور قانون خاص5 يضع حدا لتعدد الآراء والاجتهادات، مما يدفع بالمستثمر إلى الابتعاد عنها، فضلا عن عدم اطمئنان المؤسسات المقترضة إلى اعتمادها . 
ولمواجهة آثار هذه الظاهرة حاولت الدولة من خلال مديرية الأملاك المخزنية من إنجاز مخطط لضبط أملاك الدولة وتسريع وثيرة تحفيظها6 واقتناء بعضها بالتراضي أو بنزع الملكية للمنفعة العامة علاوة على مراقبة وتقييم مستوى مصالحها الخارجية من خلال النتائج المحصل عليها في كل إقليم سواء على مستوى إيداع مطالب التحفيظ أو التحديد والمسح أو تأسيس الرسوم العقارية، وعقد اجتماعات منتظمة كل شهر مع المحافظين .
غير أن إيداع مطالب التحفيظ بكثرة، ودون الاعتماد على مستندات قوية ستنعكس سلبا على الإدارة إذا ما ووجهت بأول متعرض حائز أو مغتصب، مما يستدعي التفكير لمواجهة المنازعات القضائية إما بإعداد رسوم التملك أو الحيازة واستمرارها قبل الإقدام على مطالب التحفيظ أو اللجوء إلى الوسائل البديلة لحل النزاعات.

ملاحظات عامة حول الوعاء العقاري المغربي :

وإذا كان الإجماع حاصلا على أن العقار يعتبر دعامة أساسية لإنجاز المشاريع الاقتصادية والإنتاجية والإسكانية، وأن حماية مصالح كافة المتعاملين في الميدان العقاري وجلب واستقطاب المستثمرين يتطلب تشريعا جيدا وإدارة سليمة وعدالة نزيهة وسريعة تبعث الاطمئنان في نفوس كل الفرقاء من ملاكين ومنعشين عقاريين وبائعين، ومقتنين ومقرضين ومقترضين .فإنه يلاحظ من جهة أن القانون العقاري المغربي يعاني من التعددية في مرجعية أنظمته وفي مجال التطبيق، فالتشريع العقاري الغير المحفظ يطبق على بعضه قواعد الفقه المالكي بالنسبة لما يصطلح عليه بالعقارات العادية أو الملك بينما يطبق على العقارات المحفظة ظهير 9 رمضان 1331 هـ وظهير 19 رجب 1333 هـ، علاوة على المقتضيات العامة المنصوص عليها في قانون الالتزامات والعقود ومدونة الأسرة، في حين تطبق تشريعات حديثة خاصة على الملكية المشتركة للعقارات المبنية (ظهير 3 أكتوبر 2002) وبيع العقارات في طور الإنجاز (ظهير 3 أكتوبر 2002) والإنجاز المفضي إلى تملك العقار (ظهير 11 نونبر 2003) وغير ذلك .
ومن جهة ثانية، يعتري أنظمة التوثيق لإبرام التصرفات العقارية أوجها من التعددية أيضا، فهناك التوثيق العصري (ظهير 4 ماي 1925)، والتوثيق العدلي المؤسس وفق ظهير 15 محرم 1427 (14 فبراير 2006)، والتوثيق الاسرائيلي المنظم بظهير 22 مايو 1918، وهناك نمط من العقود الثابتة التاريخ مؤهل قانونا بتحريرها المحامون، وكذا لائحة المهنيين المعينين بقرار وزيري، بالإضافة إلى وكلاء الأعمال (ظهير 12 يناير 1945) . ناهيك عن العقود العرفية وما تخلفه من مشاكل ومتاعب وما يتفرع عنها من دعاوي، حيث أفادت بعض الدراسات أن 90 % من مجموع العقود المبرمة هي عقود عرفية7.
ومن جهة ثالثة، فإن المهتم والمتتبع للتطور التشريعي المغربي يدرك أن مساره شاق، وأن سن قانون وتداوله، ثم اللجوء إلى تعديله أو تتميمه أو نسخه، يطرح في بعض الأحيان إشكاليات جمة كالبطء، والتباين في الصياغة بين النصين العربي والفرنسي، واحتمال التأويل، ويكفي أن نسوق الأمثلة التالية لندرك حجم المشاكل التي عرفتها بعض القطاعات عند تعميم نظام التحفيظ العقاري أو التحديد الإداري على مجموع الأراضي في التراب الوطني8.

أولا : إشكالية التشريع من خلال تطبيق نظام التحفيظ في المنطقة الشمالية 

إن أول سؤال يتبادر إلى الذهن، كيف تم التعامل مع حاملي الرسوم العقارية الخليفية عند سن المرسوم الملكي بتاريخ 24 أكتوبر 1966 الذي أضفى على الرسوم التي مرت عليها عشر سنوات أو وقع عليها تقييد ثان صبغة نهائية لا يجوز الطعن فيها باستثناء المنازعة حول حدودها ؟ إن تطبيق هذا المرسوم واجهته صعوبات تمثلت في تقديم تعرضات على حدود الأراضي المعنية به كوسيلة للتعرض على كافة الملك بسبب غموض نص المرسوم الذي لم يتعرض إلى المقصود الحقيقي من التعرض على الحدود وإلى تحديد إطار النزاع وحالاته في جوهر تأسيس الصك العقاري وكذا النزاعات المتعلقة باستحقاق الملك.
وتلافيا لهذا النقص التشريعي صدر ظهير 19 شتنبر 1977 . إلا أن أصحاب السندات العقارية في الشمال ظلوا يعانون من وجود نزاع قانوني نتيجة عدم تحصين الملكية العقارية المحفظة بالمناطق الشمالية بالحماية القانونية بسبب امتناع المؤسسات البنكية المقرضة من قبول سنداتهم لضمان النشاط الاقتصادي والتجاري الذين يودون إنشاءه أو تطويره .
ولمعالجة هذه الأوضاع تقدمت الحكومة بمشروع قانون بتاريخ 19 شتنبر 1979 بهدف اتخاذ إجراءات لتعميم نظام التحفيظ العقاري بمقتضى ظهير 12 غشت 1913، على أن يتم حصر التعرض على الحدود عن المجاورين فقط، وأن لا يتعدى مساحة عمقها خمسة أمتار . وبعد مرور تسع سنوات من تقديم المشروع أرجئت مناقشته في البرلمان مرتين بطلب من الحكومة، ولم يصادق عليه إلا بتاريخ 13 يونيو 1988 .
ولمواجهة ظاهرة عدم تحيين الرسوم العقارية أقدمت الوزارة الوصية على إعداد مشروع قانون التحفيظ العقاري سنة 1997 بهدف تدعيم الوسائل الوقائية الكفيلة بتفادي ذلك، إلا أن هذا المشروع لم ير النور إلى يومنا هذا.
ويبدو من خلال المثال الذي سقناه، أن العقارات بالمغرب متعددة المصدر، ولكل منها قواعدها الخاصة، فهناك الأملاك الحبسية9، والأراضي الغابوية والجماعية، وأملاك الجيش10، والأملاك العامة11، بالإضافة إلى الأملاك الخاصة التي تعتبر الأسهل للتداول . لكن صرامة بعض القواعد الثانوية والمسؤولية الملقاة على عاتق المحافظ من جهة وبعض النزاعات من جهة ثانية يحول دون تحقيق أهداف المتعاملين في الحقل العقاري .
ويكفي أن نستعرض نموذجا آخرا من هذا الرصيد العقاري لمعرفة حجم المعوقات المطروحة على الأراضي الجماعية .

ثانيا : إشكالية التشريع من خلال تدبير الرصيد العقاري الجماعي 

إذا كانت المساحة العقارية التي يغطيها الرصيد العقاري الجماعي الذي تديره مديرية الشؤون العقارية القروية ومجلس الوصاية التابعين لوزارة الداخلية يقدر بحوالي اثنى عشر مليون هكتارا، منها ما يفوق ستة ملايين هكتار أراضي صالحة للفلاحة، وهي تمثل    46,1 % من مجموع الأراضي الفلاحية بالمغرب، وأن عدد القاطنين بها أو المستفيدين منها يقدر بحوالي عشرة ملايين نسمة، فإن المتتبعين12 لهذا الشأن يؤكدون على أن الرصيد العقاري المذكور يعاني من مجموعة من المعوقات والمشاكل نذكر من أهمها : 
1) أن هذه الثروة العقارية التي كانت تستغل على وجه الشياع وبشكل جماعي وتخضع لأعراف وتقاليد القبائل المغربية، تتعرض لاستنزاف مستمر إما عن طريق الترامي على الممتلكات الجماعية من قبل أشخاص غير سلاليين أو لوجود نزاعات بين ذوي الحقوق أنفسهم أو بين هؤلاء والأغيار من قبيل المطالبة بالقسمة أو دعاوى الاستحقاق أو إثبات الصبغة الجماعية للأرض موضوع النزاع واسترجاع حيازتها واسترداد الديون العالقة بذمة المكترين واسترجاع عقاراتها وإعادة كرائها مجددا .
2) أن تدبير هذا الرصيد العقاري يعاني من عدم ملاءمة النصوص التشريعية المنظمة له لمتطلبات استغلاله واستثماره بشكل أفضل منذ قانون 27 أبريل 1919 إلى ظهير 6 فبراير 1963،  لذلك فإن مديرية الشؤون القروية اتجهت نحو رقمنة المعطيات المتعلقة بالرسوم العقارية واستجماع ما لديها من تصاميم وإخضاعها للمعالجة، حيث شملت هذه العملية فقط حوالي 130.024 هكتار من أصل 236831 هكتار، ومع ذلك يظهر أن هذه العملية تخللتها صعوبات مرتبطة بغياب الإحداثية الجغرافية بالنسبة ل 147 تصميم من أصل 909 تصميم تمت معالجتها .
3) أن تجميع التصاميم المتعلقة بالأراضي الجماعية المكراة لم تشمل سوى 140 ملف كراء تهم استغلال عقارات جماعية لأغراض تجارية أو صناعية أو خدماتية من أصل 961 ملف كراء، كما أن واجب كراء هذه الأراضي من أجل إنجاز مشاريع استثمارية عرف انخفاضا كبيرا وصل إلى حوالي 40 % حيث انتقل من 10,1 مليار درهم سنة 2005 إلى 6,2 مليار درهم سنة 2006 13.
4) إذا كانت الأراضي الجماعية غير قابلة للحجز ولا للتقادم ولا للتفويت، فإنها استطاعت في الغالب أن تحافظ على تماسكها وعدم تفويت ملكيتها باستثناء ما استفادت منه الدولة أو المؤسسات العمومية بالمراضاة أو بواسطة نزع الملكية للمنفعة العامة .
وفي هذا الصدد، تعالت نداءات جمعيات المجتمع المدني للتنديد بعمليات نزع بعض هذه الأراضي14 أو تفويتها لبعض المستثمرين، واتضح أن الاستفادة من أراضي الدولة يتم التعامل بشأنها خصوصا مع المستثمرين والمنعشين العقاريين الخواص بالتزامات واضحة وعقود محددة15، طالما أن الدولة لم تعد منافسا حقيقيا لهم وأن سياستها اتجهت في الآونة الأخيرة إلى معالجة السكن غير اللائق وتوفير وعاءات عقارية جديدة للمستثمرين بأثمان مشجعة .
حقيقة أن حجم استثمارات الدولة عبر مؤسساتها المكلفة بالإسكان ارتفع خلال الأربع سنوات الأخيرة من مليار ونصف المليار درهم إلى خمسة مليارات درهم . وأن قطاع العقار يستفيد من تخفيضات وتسهيلات ضريبية في المجال العقاري، وأن مطالب المنعشين في هذا الجانب تقتضي الاستماع إلى ملاحظاتهم، ولم لا، إحداث مرصد وطني للعقار يكون من بين مهامه دراسة كل القوانين ذات الصلة بالعقار وتحيينها، وتجميع المعطيات العقارية على صعيد الجهات، وتوضيح الرؤى لكافة الأطراف المعنية بشؤون العقار .





ثالثا : عدم ملاءمة التشريع مع تدبير الأراضي التابعة للمندوبية المكلفة بالشؤون الغابوية 

إذا كانت الأراضي الغابوية تغطي 6,5 مليون هكتار أي ما يناهز 8 % من مجمل مساحة التراب الوطني المغربي، فإنها تعاني من إكراهات متعددة نتيجة الضغط البشري القائم عليها وتدني دورها في خلق التوازنات البيئية وضعف مردوديتها، وعدم تحديد سوى جزء منها16. علاوة على جمود القانون المنظم لها (ظهير 10 أكتوبر 1917) الذي أصبح قانونا متجاوزا مما ساهم في تعميق الأزمة، لكن الذي لطف من مفعولها، هو أنه نص على أن أي تفويت أو تصرف في الملك الغابوي يعتبر لاغيا ولو تم تحفيظه خطأ في المحافظة العقارية . لذا أضحت الحاجة ماسة لفتح نقاش موسع حول إعادة هيكلة القطاع بهدف تدبير النزاعات حول استعمال الغابة والحد من الترامي عليها، وإيجاد حلول لها، وهو ما دفع بالدولة إلى إحداث المندوبية السامية المكلفة بالشؤون الغابوية، ذلك أنه "بعد مضي خمسين سنة من الاستقلال، لم يتم تحديد سوى   6 % من المساحات الغابوية في منطقة الريف . في حين يتواصل الضغط على المساحات المتبقية، حيث تضيع مساحة 4500 هكتار كل سنة، بسبب الاجتثاث الذي يستهدف إزالة الملك العمومي والاستحواذ على الأراضي، على أن الخاسر الأكبر في هذه العملية هو الغطاء الغابوي، لذا يتمثل التحدي الأساسي –كما يقول تقرير الخمسينية- في ضرورة التحديد العقاري للمنطقة الشمالية، حيث من الأفضل التوصل إلى أي حل تفاوضي ونهائي، بدل الإبقاء على الوضع الحالي الذي سيفضي خلال بضعة عقود، إلى إخلاء الريف كليا من كل غطاء غابوي"17 ، فضلا عن ذلك، فإن الانعكاسات البيئية بسبب عمليات الانجراف والتعرية والتصحر وتدهور الأراضي الغابوية يكلف البلاد ثمنا باهضا، على الرغم من أن التوقعات الاقتضادية تشير إلى أن التوسع الذي تم على حساب بعض أراضي الرعي والغابة والاستيلاء عليها، وامتصاص جزء كبير منها في الطرق السيار، وتحويل بعضها إلى أراضي زراعية صالحة أو مشاريع استثمارية سياحية أو سكنية سيجعل منها عنصر إنتاج عوض أن تبقى مجرد ميدان للمضاربات أو الغصب .
مقترحات لمواجهة بعض المشاكل في الميدان العقاري 

يتضح من خلال الأمثلة التي سقناها، أن هناك جملة من الصعوبات الناجمة عن مسألة التوفيق بين ضرورة مراجعة الأوضاع القانونية المعقدة لهذه الأراضي والتوازنات القائمة في المجتمع القروي والبحث عن السلم الاجتماعي، وهي مهمة حساسة تفرض نفسها ويعيها جيدا أصحاب القرار . وأن البحث عن وضعية قانونية تعتمد على سياسة تشاركية هي أحسن سبيل وأكثر جدوى . خصوصا وأن النزاعات العقارية التي تعرض على المحاكم عديدة ومتنوعة، فهناك دعاوى خاصة بالاستحقاق والارتفاق واسترداد الحيازة والتعرضات المتفرعة عن مطلب التحفيظ، والرهون العقارية، ودعاوى نزع الملكية للمنفعة العامة، وقضايا الكراء السكني والمهني والتجاري، والقسمة، والإرث وانتزاع عقار من حيازة الغير وغير ذلك من القضايا، ولكل دعوى خصوصياتها ومسطرتها مما يستدعي التخصص والتأهيل المطلوب سواء من طرف المحامين أو القضاة الذين يتولون مباشرة هذه القضايا أو الفصل في هذه النزاعات .  
 إن التعايش القائم بين أنواع من الملكية وتعدد أنظمة التوثيق تحتم مواجهة المشاكل العقارية بجرأة، وأناة للدفع بعجلة التنمية ببلادنا، وأن كسب الرهان بدأ يتجلى في العديد من المبادرات المتمثلة في فتح نقاش عمومي، وإشراك الفاعلين، واتخاذ تدابير ملموسة كإسناد تدبير بعض القطاعات المرتبطة بالشؤون العقارية للوكالات مثل الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح الطوبغرافي، والمندوبية السامية للمياه والغابات التي تمت إعادة هيكلتهما وتحديث أساليب إداراتهما بشكل أفضل شأنهما في ذلك شأن الإدارة الوصية على الأراضي الجماعية، ومديرية الأملاك المخزنية .
وإسهاما في النقاش لإصلاح المنظومة العقارية نقترح ما يلي :
1- تشكيل لجنة تقنية مختلطة من ممثلي الوزارات المعنية بالعقار برئاسة ممثل للوزير الأول (العدل – الداخلية – الفلاحة – الإسكان – التجهيز - المالية) على أن تتولى كل جهة حصر المشاكل التي يعاني منها الوعاء العقاري وأن ترفع مقترحات حلول بديلة لها على الأمدين القريب والمتوسط . على أن تحال جميع هذه التقارير على لجنة قانونية متخصصة (قضاة – محامون – جامعيون – موثقون – محافظون...) لتحيين ومراجعة كل النصوص القانونية العقارية .
2- تجهيز مكاتب قضاة التوثيق والموثقين بالتقنيات الحديثة واستعمالها واستغلالها في ربط الاتصال الآلي بالمحافظين العقاريين بمجرد خطاب القضاة على عقود التصرفات العقارية وإبرام الموثقين للمحررات الرسمية الهادفة إلى نقل أو إقرار أو إسقاط حق على عقار محفظ خصوصا بعد أن خطا المغرب نحو الاعتراف بالعقد المحرر إلكترونيا من خلال مصادقة مجلس النواب (يناير 2007) على مشروع القانون رقم 53.05 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية الذي يرمي إلى إدراج العقد الإلكتروني ضمن العقود الأخرى التي تنجز عن بعد للتعبير عن إرادة المتعاقدين الذين لا يتواجدون ماديا في مكان إبرام الاتفاق حسب الفصلين 24 و 25 من قانون الالتزامات والعقود . وبذلك فإن المشروع يهدف إلى مواكبة تتجلى في "جعل الإطار التشريعي المرتبط بالتقنيات الإعلامية أحد العوامل الأساسية لتمكين هذا القطاع من كسب ثقة مختلف الفاعلين وباستقطاب الاستثمارات اللازمة لذلك"18. 
3- إحداث قسم عقاري متخصص بكل محكمة ابتدائية أو استئنافية شبيه بقسم الأسرة، وكذا إحداث غرفة عقارية بالمجلس الأعلى .
4- إحداث مركز للدراسات القانونية بالمجلس الأعلى يكون من بين اختصاصاته صلاحية إبداء الرأي والاستشارة في كل إشكال أو صعوبة قانونية يواجههما أي قطاع حكومي أو مؤسسات عمومية . 
5- العمل على تأهيل قطاع التوثيق، وذلك بإحداث قسم متخصص لدراسة التوثيق وإعادة التكوين فيه يكون مقره بالمعهد العالي للقضاء يتولى جمع شتات التوثيق العدلي والعصري وما يرتبط به، وتأطير الندوات ومجالات التكوين، والإشراف على تنظيم قطاع الكتاب العموميين الحاصلين منهم على شواهد الإجازة19وإخضاعهم لتكوين معين ومنح المتفوقين منهم لشواهد تؤهلهم لإنجاز الوثائق العرفية في مجالات محددة حصرا طالما أن الدراسات أكدت أن العقود العرفية تشكل 90 % بينما العقود الرسمية لا تمثل سوى 10 % وأن حوالي 15 % من المحررات العدلية وحوالي 90 % من العقود العرفية يتم رفضها من قبل المحافظين مما يضاعف من نسبة الرسوم المجمدة20.
6- جعل وزارة العدل هي الوزارة الوصية على الوكالة القضائية عوض وزارة المالية وعلى الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية عوض وزارة الفلاحة بحكم الاختصاص والترابط، وأن يتم إحداث مرصد وطني للعقار .
نعم، قد يحلو للبعض أن يتدرع بمبدأ فصل السلط واستقلالية القضاء وحدود هيمنة وزارة العدل . لكن، يبدو أن الجميع بات مقتنعا بتحقيق طفرة تشريعية في مجال العدل وجعل آليات فاعلة لضمان استقلال القضاء على الرغم من أن الحفاظ على هذا المبدأ رهين بالممارسة وليس بالنص التشريعي .
7-إذا كانت الوظيفة الرقابية للمحافظ العقاري والمسؤولية الشخصية الملقاة على عاتقه تتطلب منه التحري من صحة المحررات شكلا وجوهرا، وأن يرفض كل عقد غير مستوف للشروط القانونية . فإن الدراسات أسفرت على أن حوالي 90 % من المحررات العرفية بسبب الأخطاء التي ترد فيها يكون مآلها الرفض مما يؤدي إلى ضياع الحق وكثرة المنازعات واللجوء إلى المحاكم وعدم تحيين الرسوم العقارية بالمرة، لذلك ينبغي أن يكون الحل تشريعيا وأن يعمد المشرع إلى تضييق نطاق استعمال المحررات العرفية في تسجيل الحقوق العقارية .



المحور الثاني : آثار جمود التشريع العقاري على العمل القضائي 

للإحاطة ببعض جوانب الموضوع نتساءل : أي دور للعمل القضائي في تنمية الاستثمار ؟ وهل يمكن التوفيق بين نص تشريعي جامد في خضم مجتمع متطور وبين تحقيق قواعد العدل والإنصاف ؟ أم سيظل الاجتهاد القضائي التقليدي حبيس النصوص   الجامدة ؟
من الصعب الإجابة على هذه الأسئلة في هذه العجالة لسببين إثنين : أولهما تعدد المجالات التي تحظى بالاجتهاد القضائي لاسيما في الميدان العقاري، وثانيهما أن جميع الندوات الاثنى عشر التي سينظمها المجلس الأعلى في ربوع المملكة بمناسبة إحياء الذكرى الخمسينية لتأسيسه هي المؤهلة لتقييم وملامسة إسهام العمل القضائي في صلب التنمية . كما أن انطلاق أول مشروع لإحداث متحف قضائي جامع للتراث الفقهي والقضائي لإحياء الذاكرة القضائية، من شأنه أن يعزز هذا الدور ويشفع للجهاز القضائي في صمت للرد على التخوفات والانتقادات الموجهة إليه ، واستشراف الآفاق المستقبلية .
ومع ذلك، سنحاول من خلال ملامسة بعض النوازل التالية ذات الصلة بالعقار أن نبرز من جهة المعاناة التي يواجهها القاضي عند تطبيق نص تشريعي غير منصف، ومن جهة أخرى إخفاقه أو نجاحه في محاولة التوفيق بين القاعدة القانونية وقواعد العدل والإنصاف، للبلوغ إلى الكمال المنشود، دون أن ننسى الحيرة التي طبعت مواقف الفقه أيضا، والخلاف في الرأي بين مؤيد ومخالف لهذا الاتجاه أو ذاك، ولنبدأ بالحالة الأولى :

أولا : أي معيار لتطبيق مبدأ حسن نية المشتري لعقار في حالة تزاحم المشترين ؟

من المعلوم أن تزاحم المشتريين يقتضي المفاضلة بين التصرفات بحسب الأولوية في التسجيل في الرسم العقاري إذا كان التصرفين صادرين من نفس المالك وهو ما ينص عليه القانون ويسير عليه العمل القضائي بالمجلس الأعلى بقوله : "حيث إنه لما كان المبيع عقارا محفظا فإن تسليمه لا يتم بكيفية قانونية حسب الفصول 65 و 66 و 67 من قانون التحفيظ العقاري إلا بتسجيل عقد البيع في الرسم العقاري"21 . 
ومن الطبيعي أن يرفض المحافظ تسجيل عقد بيع توثيقي أبرم سنة 1995 من طرف ورثة مالك عقار محفظ بدعوى أن والدهم فوت قيد حياته نفس العقار إلى الغير بمقتضى عقد عرفي مؤرخ في 18 مايو 1963 وأن هذا المشتري باع بدوره العقار إلى مشتر ثان وأن المحافظ وافق على تقييد العقدين بوضع تأشير القبول عليهما منذ 22/6/1987، إلا أن المشتري الثاني تقاعس عن أداء واجبات ورسوم التحفيظ فلم يتم تقييد البيع بالشكل النهائي في الرسم العقاري، فتم الطعن في قرار المحافظ من طرف المشتري الثالث فقضت المحكمة الابتدائية بعدم القبول إلا أن محكمة الاستئناف ألغته وقضت على المحافظ بتسجيل إراثة الهالك ثم أصل الشراء المبرم بين الورثة والمشتري الثالث بالرسم العقاري، فتم الطعن في هذا القرار بالنقض، فكان مآله الرفض بعلة "أن العبرة في مجال العقارات المحفظة بالتسجيل في الرسم العقاري لانتقال الملك لا بتاريخ العقود تطبيقا للفصلين 66 و 67 من ظهير التحفيظ العقاري وأن توقيع المشتري الثالث لتقييد احتياطي على الرسم العقاري يكسبه الرتبة والأسبقية في التسجيل على غيره من المتعاقدين على نفس العقار الذين أهملوا تسجيلهم، وأن من توفي عن حق فهو لورثته وأن أشرية الغير تظل غير نافذة رغم وجودها مادامت غير مسجلة"22
لكن، ألا يحق القول بأن هذه القاعدة القانونية غير عادلة، وأنها تشجع على النصب والاحتيال ؟ وهل يمكن أن نساير موقف المشتري الثالث في النازلة أعلاه بدعوى أنه حسن النية في حين أن عقدي بيع لفائدة الغير يوجدان بملف الرسم العقاري المؤشر عليهما بالقبول من طرف المحافظ وأن الموثق من المفترض أن يطلع عليهما قبل إبرام البيع ؟ ولماذا لا يحدو تشريعنا حدو المشرع المصري (المادة 23 من القانون 136/1981) حين اعتبر البيع الثاني الواقع على نفس العقار باطلا، وأن العبرة في حالة اللجوء إلى القضاء هو تاريخ إبرام العقد لا بتاريخ التسجيل ؟ ولماذا لم يحاول الاجتهاد القضائي المغربي تطبيق قواعد الإنصاف تمشيا مع قواعد الشريعة الإسلامية السمحاء، والخروج عن دائرة حماية الشخص الذي يسارع إلى تسجيل المبيع في الشهر العقاري عندما يكون تاريخ إبرام العقدين متقاربين ؟ أو بالأحرى الاقتداء بالتوجه الحديث لمحكمة التعقيب التونسية حين اعتمدت على قواعد القانون المدني واعتبرت بيع نفس العقار بعقدة ثانية تكون فاقدة لركن المحل وباطلة ولو وقع ترسيمها بالسجل العقاري طالما أن محل البيع لم يعد في ملك البائع23. خصوصا وأن الالتزامات تنتج أثرها لا بين المتعاقدين فحسب وإنما أيضا بين ورثتهما وخلفائهما .
نعم، قد يقال بأن هذا المنحى قد يؤدي إلى جمود الرسوم العقارية ولا يوفر الأمان للمتعاملين الذين يطمئنون إلى تقييدات هذه الرسوم، وأن الأصل هو حسن النية وعلى من يدعي العكس إثباته، خصوصا وأن المجلس الأعلى اتجه منذ فترة طويلة إلى24 "إبطال عقد بيع رغم تسجيله باسم المشترية لفائدة المشتري الأول الذي تراخى في التسجيل، طالما أن العقد أبرم بسوء نية نتيجة تدليس من البائع المالك والمشترية زوجته قصد الإضرار بحقوق المشتري الأول وحرمانه من الملك" كما قضى في قرار حديث25 بنقض قرار استئنافي لم يناقش مجموعة من القرائن القوية الدالة على سوء نية المشترية الثانية باعتبارها كانت من ضمن الورثة وأن المشتري الأول حائز للعقار لمدة تزيد عن 16 سنة .
لكن، ألا يجوز التوفيق بين الاتجاهين لحماية المشتري الأول أو الموعود له بالبيع، كأن يحدد المشرع لهما أجلا معينا يكون فيها العبرة بتاريخ إبرام العقد لا بتسجيل المبيع بالرسم العقاري تمشيا مع قرار المجلس الأعلى الذي اعتبر أن المشتري الذي تقاعس أكثر من ست سنوات عن تسجيل شرائه في الرسم العقاري إلى حين بيع العقار للغير هو الذي فوت على نفسه فرصة تملك العقار وأن المشتري الثاني حسن النية26. 
صحيح أن تحديد هذا الأجل رغم انتفاء ركن المحل في البيع الثاني إنما هو وسيلة قانونية لتفادي جمود الرسوم العقارية مع حفظ حق المتضرر في الرجوع على المالك الأصلي الذي باع عقاره مرتين، وأن تراخي المشتري الأول يسقط حقه ويتحمل وزر خطئه ما لم يبادر لإقامة دعوى إبطال البيع الثاني، ويثبت للمحكمة أن التصرف الثاني نتج عن سوء نية وتدليس.
وفي هذا الصدد، عرضت على القضاء نازلة مفادها أن المؤسسة الجهوية للبناء باعت قطعة لأحد المستثمرين من أجل بناء معمل بالمنطقة الصناعية دون أن يلجأ إلى تسجيل بيعه في الرسم العقاري، فصدر قرار من طرف والي الجهة قضى بسحب القطعة منه بسبب تقاعسه في إنجاز المشروع وتم إبرام عقد بيع ثان لفائدة إحدى الشركات التي سجلت عليه رهنا من الدرجة الأولى لفائدة مصرف المغرب . فطعن هذا المستثمر في قرار الوالي بالإلغاء للشطط أمام القضاء الإداري فقررت الغرفة الإدارية إلغاء قرار السحب بعد أن ثبت لها أن البيع لم يكن معلقا على شرط وأن المستثمر أنجز استثمارات وبنايات فوق العقار، كما أقام هذا الأخير دعوى ثانية يطالب فيها الحكم على المؤسسة الجهوية للبناء بإتمام إجراءات البيع وذلك بتسوية وضعية العقار المبيع وتسجيل عقد البيع بالصك العقاري، فاستجابت المحكمة الابتدائية للطلب، لكن محكمة الاستئناف قررت إلغاء الحكم الابتدائي فنقضه المجلس الأعلى بعلة أن المشتري الثاني أي المطلوبة في النقض كانت عالمة بالمشتري الأول وقاضته أمام المحكمة برفع الحجز التحفظي الذي أوقعه على العقار بنية قيامه بإنجاز منشآت عليه وأن حجية التسجيل الذي يحوز الحجية هو التسجيل الذي يتم عن حسن نية27 .
وفي نازلة مماثلة، شطب المحافظ خطأ على حظوظ الدولة التي استرجعتها في إطار ظهير 2/3/1973 وعلى ما كانت تملكه مع آخرين على الشياع، فتوالت بعد ذلك تقييدات عقود الشراء على نفس العقار فاستعصى على المحافظ إلغاءها، فلجأت الدولة إلى القضاء طالبة إلغاء قرار المحافظ وبإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه، فقضت المحكمة الابتدائية وفق الطلب، لكن محكمة الاستئناف ألغته بعلة أن التسجيلات اللاحقة لا يمكن بطلانها مادام تسجيلها كان بحسن نية، إلا أن المجلس الأعلى نقض هذا القرار لكون "القرار المطعون فيه اقتصر في تعليل قضائه على ما ذكر دون أن يناقش دفوع الطاعنة الواردة في مذكرتها التي أثارت فيها أن المطلوبة كانت مستفيدة من القرار الوزيري المتعلق باسترجاع الأراضي المملوكة للأجانب وكانت هي أيضا شريكة على الشياع في العقار المدعى فيه منذ أن تم التشطيب خطأ على حقوق الدولة الطاعنة"28 .

ثانيا : من هو الأولى بالحماية في حالة بيع عقار بوثائق مزورة ؟

ارتباطا بموضوع المشتري حسن النية، نتساءل : هل الشخص الذي سجل العقار باسمه استنادا إلى وثائق مزورة ثم باعه للغير وسجله بالصك العقاري بحسن نية، هل هو الأجدر بالحماية ؟ أم المالك الحقيقي الذي انتهكت ملكيته بالتزوير؟
أعتقد أن الدستور كأسمى قانون يحمي حق الملكية الشخصية، وأن موقف محكمة النقض السورية الآتي بيانه فيه إجحاف للضمانات الدستورية لحقوق الملكية حين اعتبر "أن القضية موضوع الدعوى تثير الإشكال ذاته لأن صاحب القيد الذي انتقل إليه الحق عن طريق التزوير قد نقل هذا الحق إلى الجهة المدعى عليها التي استمدت حقها من قيود السجل العقاري لا من العقد المزور، فلا يمكن مداعاتها بإلغاء هذا الحق إلا إذا كانت عالمة بالعيوب التي تشوب العقد السابق"29.
وحبذا لو أن المجلس الأعلى بغرفتيه المجتمعتين طبق قواعد العدل والإنصاف وسار على خلاف هذا الاتجاه خصوصا بعد أن أثبت الورثة الحقيقيون زورية الوكالة والإراثة الصادرين عن موثق بمقتضى حكم جنائي، لكن المجلس الأعلى على غرار نظيره السوري علل قراره بما يلي :
" تكون محكمة الاستئناف قد عللت قرارها تعليلا كافيا حين صرحت أن ما يدعيه الطاعنون كونهم الورثة الحقيقيون لم يثبت بأي حجة مقبولة قانونا، كما أنه لم يثبت سوء نية الورثة المسجلين بالرسم العقاري بأي حجة لكون الإراثات والعقود كلها صادرة عن موثق، وسجلت من طرف المحافظ العقاري مكان المالكين الأولين الذين يدعي كل طرف أنه الوارث الحقيقي لهم، وأن الأصل بالنسبة للخلف الخاص أن أشريتهم تمت بحسن نية مادام العقار غير مثقل بأي قيد أو تحمل وأن ما يعيبه الطاعنون على القرار بعدم اعتبار الحكم الجنحي الذي أدان أحد المطلوبين بجنحتي التزوير واستعماله لوكالات تحمل إمضاءات مزورة لموثق تعتبر علة زائدة يستقيم القرار بدونها"30 .
وفي هذا الصدد، فإن تفاعلات قضية الاستيلاء على 350 هكتار في ملك الأملاك المخزنية التابعة للدولة بمنطقة بوسكورة بالدار البيضاء استنادا على عقود اعتبرتها وزارة المالية مزورة، ستعرف الكثير من التداعيات على ضوء التحقيق القضائي الذي بوشر في الموضوع، ونتمنى لو أتيحت الفرصة للمجلس الأعلى بجميع غرفه أن يحمي المالك الحقيقي أو خلفهم الخاص وأن يضع حدا للازدواجية في التطبيق بين العقار المحفظ وغير المحفظ . ذلك أن المجلس الأعلى استقر على تطبيق قواعد الفقه المالكي في العقارات غير المحفظة التي تحمي المشتري الأول وأكد في قرار حديث له أنه :" لما قضت المحكمة على البائعين بمقتضى قرار بات بأن عقد البيع الصادر عنهم بيع تام مستجمع لأركانه، ثم عمدوا بعد ذلك إلى بيع العقار لسلف المطلوبين، فقد باعوا ما لا يملكون، وأن حسن نية المشتري الثاني وحدها لا أثر لها على صحة شرائه لعقار غير محفظ في ملك الغير، وإنما تمنع المالك من مطالبة المشتري بإزالة البنايات التي أقامها على الأرض التي اشتراها .
لذلك كان على المحكمة أن تبت في طلبات الطاعن باعتباره المشتري الأول على ضوء الوثائق المدلى بها، وأنها لما اعتمدت مجرد حسن نية المشتري الأخير وتسلمه للعقار للحكم بعدم قبول طلب الطاعن ودون أن تبين ما إذا كانت حيازة المشتري مستوفية للشروط المنصوص عليها فقها فقد عللت قرارها تعليلا ناقصا يوازي انعدامه مما عرضه للنقض والإبطال"31.
ولقد أتيحت للمجلس الأعلى في نوازل متعددة أن تعامل مع الحقوق العينية التي تنطبق عليها قواعد الشريعة الإسلامية كالهبة والإرث من جهة وقانون التحفيظ العقاري من جهة أخرى، واعتبر أن عقد الهبة الذي لم يتم تسجيله بالرسم العقاري بسبب وجود رهن لفائدة القرض العقاري والسياحي وبقاء العقار المحفظ في اسم الواهب إلى حين وفاته وانتقال الملك إلى الورثة الذين بادروا إلى رفع الرهن وتسجيل أسمائهم فيه رغم أن المتصدق عليه يحوز العقار مدة طويلة، كل ذلك لا يمنع هذا الأخير من إقامة دعوى تقييد حق عيني على عقار محفظ طالما أن قانون التحفيظ لا يمنع من المطالبة بتسجيل الحق المذكور وأن القرار الاستئنافي المطعون فيه الذي اعتبر أن ثبوت الحيازة لا تنشئ الملكية في العقارات المحفظة مهما مر عليها الزمن يكون غير مرتكز على أساس قانوني مما يتعين نقضه32.
والخلاصة أن هذه الازدواجية التي تفرضها بعض القواعد القانونية الواجبة التطبيق في مجال العقار المحفظ والغير المحفظ تخلق لدى المستثمر الوطني الحيرة والدهشة، فبالأحرى لدى المستثمر الأجنبي، لذلك نأمل من جهة مراجعة كافة تشريعاتنا العقارية في الأمد القريب، ومن جهة ثانية نرجو من الاجتهاد القضائي بدوره اختراق القواعد القانونية الجامدة واستنطاق النصوص المتباينة والبحث عن مبادئ عادلة منصفة مسايرة للتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . وما ذلك على قضاة المجلس الأعلى بعزيز .
وصدق الله القول "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي، عليه توكلت وإليه أنيب"33 صدق الله العظيم .

تعليقات