القائمة الرئيسية

الصفحات



الرقابــة القضائيــة اللاحقــة علــى صــدور الحكــم التحكيمــي واتفاقيــة"نيويــورك" عبــد اللطيــف مشبــال محــام بهيئــة الدار البيضــاء






الرقابــة القضائيــة اللاحقــة علــى صــدور الحكــم التحكيمــي واتفاقيــة"نيويــورك"
 عبــد اللطيــف مشبــال
محــام بهيئــة الدار البيضــاء



مقدمــــــة
       إن السائد لدى جمهور الفقه الحديث، والقضاء وفي التشريعات الحديثة أيضا أن المحكم قاضي بالمعنى الفني، وأن الحكم الصادر عنه عمل قضائي بالمعنى الفني أيضا، وبالتالي تكون له أهم الآثار التي تكون للحكم القضائي الصادر عن قضاء الدولة العامة سواء من حيث الحجية والاستنفاذ وتمتع الحكم بقوة إثبات وبقوة تنفيذية.
      وفي صدد تمتع حكم المحكمين بحجية الشيء المحكوم فيه، من المتفق عليه فقها وقضاءا، أن هذه الحجية تلحق بحكم المحكمين بمجرد صدوره ولو لم يكن قد صدر الأمر بتنفيذه، لأن الأمر بالتنفيذ على حد تعبير محكمة النقض المصرية " إنما يتطلب من أجل التنفيذ وليس من أجل قوة الثبوت...".(1)
      ومن المقرر قضاءا أن حكم المحكمين يتمتع بحجية الشيء المحكوم فيه فور صدوره، مما لا يجوز في جميع الأحوال لأي من الخصمين أن يلجأ إلى قضاء الدولة العام أو قضاء تحكيم آخر لإعادة عرض النزاع الذي سبق صدور حكم المحكمين فيه، ومن يخالف ذلك يواجه بالدفع بعدم القبول لسبق الفصل في الموضوع.
      وقد ذهبت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في قرارها الصادر بتاريخ 4/11/97 تحت رقم 1784/97 في هذا الاتجاه معترفا لحكم التحكيم بالحجية انطلاقا من القرينة القانونية القاطعة التي تقررها، وميز بوضوح بين القوة التنفيذية التي تمنح لذلك الحكم بأمر من رئيس المحكمة الذي لا يبت في جوهر النزاع وبين حجية الشيء المقضي به. (2)
      ورغم أن الأنظمة القانونية اعترفت بالتحكيم وبدوره في تحقيق مصلحة عامة إلى جانب المصلحة الخاصة لأطراف التحكيم، فإن الدول احتفظت لقضائها بسلطة الرقابة على أعمال المحكمين من خلال الأمر بمنح الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي، غير أن هذه الرقابة لا تصدر عن القاضي باعتباره جهة قضائية تتصدى لفض نزاع من أي نوع كان، فلا يعدو أمر التنفيذ عن كونه مجرد إجراء شكلي.
      والواقع أن هذه الرقابة أثارت عددا من الانتقادات لأنها تبدو لأول وهلة غريبة وبعيدة عن الطابع التعاقدي الذي يكتسيه التحكيم، لأن نتائج التحليل التي تنبثق عن هذا التفكير تتجه إلى وجوب تنفيذ الحكم مباشرة دون الاستعانة بأية آلية أخرى طالما أن العقد هو نفسه يخضع إلى نفس الحتمية غير أن الذي ربما يغرب عن البال، أن العقد هو ثمرة الأطراف المتعاقدة بينما حكم المحكمين هو ثمرة عمل الغير.
      وأستحضر في هذه المناسبة التسائل الهام للأستاذ سانديس، الأستاذ بجامعة روطردام : " هل توجد فعلا اتفاقية تحكيمية تنص على عدم اختصاص المحاكم العادية؟ وهل يوجد هناك حكم تحكيمي جدير بالتنفيذ مثل أي حكم نهائي؟ ".(3)
      إن التحكيم يحقق مصلحة عامة يتمثل في تحقيق العدل وهو من أهم وظائف الدولة إلى جانب المصلحة الخاصة لأطراف التحكيم، لذلك ومع التسليم أن التحكيم قضاء خاص وجد لتحقيق مصلحة أطراف التحكيم بدلا من اللجوء إلى قضاء الدولة فإن كافة الأنظمة القضائية للتحكيم لم تمنح للمحكم تفويضا شاملا ومطلقا، بل احتفظت الدولة لقضائها بسلطة الرقابة على أعمال المحكمين من خلال الأمر بتنفيذ حكمهم ومن خلال استعمال الأطراف لطرق الطعن المخولة لهم.
      ولعل هناك سبب آخر يتجلى في أنه إذا كانت إرادة الأطراف قد ظهرت للسطح جلية خلال مرحلة التحكيم السابقة لصدور المقرر التحكيمي، فإن ملامح عدالة الدولة تظهر للوجود في مرحلة لاحقة له بهدف منحه الصيغة التنفيذية باعتبار أن الدولة هي الماسكة بزمام القوة اللازمة لكل تدخل يقتضيه غرض التنفيذ، ولا شك أن هذه الرقابة القضائية اللاحقة ألقت ظلال من الشك بشأن مدى إمكانية اعتبار حكم المحكم عملا قضائيا كاملا إذ من المعروف أن الأحكام تستمد قابليتها للتنفيذ من القوة التنفيذية التي تكتسبها، وإلا أضحت مجرد حبر على ورق، ولذلك فإنه يتحتم على المحكوم له بمقتضى مقرر تحكيمي اللجوء إلى آليات ومسطرة معينة لقهر ممانعة المحكوم ضده، وفق النهج الذي تسير عليه مختلف الدول في قوانينها الوطينة، مع اختلاف السبل في هذا الشأن.
       إن عملية منح الصيغة التنفيذية للمقررات التحكيمية الدولية تكتسب طابعا خاصا بالنظر لأنها تمس بمبدأ السيادة الوطنية، وتتأثر بنظرة القاضي الوطني إليها، في حين أن منطق التجارة الدولية الحديث هو نتاج غربي بلوره نظام عالمي جديد يطمح إلى تداعي منطق الحواجز والحدود الاقتصادية بين الدول، كما يطمح إلى أن تتموضع فيه مؤسسة التحكيم التجاري الدولي كأداة فاعلة، علما أن مبرر الإقبال على التحكيم التجاري الدولي ناجم عن تعقد الأنظمة القانونية المختلفة لاسيما في ميدان تنازع القوانين، الأمر الذي لم يسمح للقانون الدولي الخاص بالرد على حاجيات التجارة الدولية ويزيد من حدة هذا القصور ثقل وطأة قانون القاضي سواء فيما يتعلق بالإجراءات وتحديد التكييف أو التعسف في استخدام الدفوع المتعلقة بالنظام العام.
     ثم علاوة على ذلك فإن الثابت أن الاجتهاد القضائي المغربي اتسم بتعاط رفيع مع أحكام المحكمين الأجنبية، وتمكن من فض العديد من النزاعات المتعلقة بجوانب الصيغة التنفيذية مستلهما في هذا الخصوص المبادئ الكبرى لمعاهدة نيويورك بل وروح هذه المعاهدة التي كانت وستظل معلمة كبيرة تنير سبيل التحكيم التجاري الدولي.
     وليس هناك ما من دليل على ذلك مثلما سبق للمجلس الأعلى أن قضى به حينما منح للأحكام التي أتت بها المعاهدة قوة تفوق قوة القانون الداخلي.
     وأن هذا ما جاء في قرار المجلس الصادر بتاريخ 3/8/1979 الذي اعتبر أن قواعد القانون الدولي الخاص تقضي بتطبيق مقتضيات الاتفاقيات الدولية عند تعارضها مع مقتضيات القانون الداخلي، وخلص من ذلك إلى أن المقرر التحكيمي المؤسس على شرط التحكيم، ورغم مخالفته مقتضيات الفصل 529 ق.م.م ( القديم) لا يعتبر باطلا حينما قام بتطبيق الفصل الثاني من المعاهدة المذكورة.(4)
     ولأهمية  موضوع الاتفاق التحكيمي، ثم فضلا عن هذا وذاك نظرا للدور المركزي الذي تلعبه اتفاقية نيويورك في مجال التحكيم التجاري الدولي والتي بفضلها تمكن هذا التحكيم من التقدم أشواطا بعيدة في نطاق تحقيق عدالة خاصة بعالم المعاملات التجارية الدولية التي تستدعي تواجد فضاء رحب، خارج نطاق قيود قضاء الدولة، سيما ما هو معروف عن قضاء التحكيم من مزايا لا حاجة للتذكير بها فإنني ارتأيت أن تكون مداخلتي المتواضعة هاته مخصصة لملامسة واقع التحكيم التجاري الدولي على ضوء الاتفاقية المذكورة، التي قيل عنها أنها الكوكب الأكبر في المجموعة الشمسية للتحكيم.
      وسنتطرق للموضوع من خلال المحاور التالية:
المحــــور الأول:الرقابــة القضائيــة اللاحقــة علــى                            مقــرر التحكيــم.
المحـــور الثانـــي:الرقابـة القضائية مــن خــلال اتفاقيــة نيويــورك.

المحــــور الأول
الرقابــة القضائيــة اللاحقــة علــى الحكــم التحكيمــي

      يعتبرالبعض من الفقه عملية تذييل الحكم التحكيمي بالصيغة التنفيذية بمثابة ( تأشيرة عبور) لذلك الحكم تخرج بمقتضاه من بوتقة الأعمال الخاصة إلى بوتقة الأعمال القضائية المحضة التي تسخر أجهزة الدولة لتجسيم ما نطقت به على أساس أنه عنوان الحقيقة.(5)
      وفعلا فإن تذييل الحكم التحكيمي بالصيغة التنفيذية من طرف القضاء هو الممر الذي بدونه لا يمكن للحكم المذكور أن يضحى قابلا للتنفيذ في تراب الدولة المعنية بالتنفيذ وهو وسيلة فعالة لدى سلطة الدولة لمنع تسلل قرارات تحكيمية مخالفة للنظام العام وباقي القوانين التي تكون المنظومة القانونية والقضائية للدولة مثلما ينص على ذلك مقتضى الفصل 309 ق.م.م.
      ومن جهة أخرى - كماقيل في هذا الشأن- فإن الأمر بالتنفيذ هو الإجراء الذي يصدر عن القاضي المختص قانونا ويأمر بمقتضاه بتمتيع حكم المحكمين وطنيا أو أجنبيا بالقوة التنفيذية، ومن ثم فهو يمثل نقطة الالتقاء بين القضاء الخاص والقضاء العام.(6)
     وإذا كانت هناك بعض التشريعات القليلة التي انفردت بجعل حكم المحكمين واجب التنفيذ بمجرد إيداعه بكتابة ضبط المحكمة المختصة أصلا بنظر النزاع أو بعد مرور أجل معين بعد الإيداع ومرور أجل الطعن، دون حاجة لمنحه لأي إجراء، ومنها القانون النمساوي والقانون النرويجي، وإذا كانت هناك تشريعات تستوجب القيام بإجراء إداري يتمثل في التأشير على الحكم التحكيمي بالتنفيذ من طرف موظف إداري مختص مثلما هو عليه الحال في القانون السويدي والقانون الفلندي، فإن الغالبية من الدول تستوجب تدخل السلطة القضائية لمنح الصيغة المذكورة مثلما هو عليه الحال في القانون المغربي والمصري والفرنسي والإنجليزي والألماني.(7)
      هذا التدخل يستوجب إجراءا قضائيا يختلف من دولة لأخرى، إذ في المغرب يختص بذلك رئيس المحكمة الابتدائية أو المحكمة التجارية المودع أصل القرار في كتابة ضبطها، وفي القانون الفرنسي رئيس المحكمة الموسعة الاختصاص.
      يتجه فقهاء التحكيم التجاري الدولي في هذا الشأن إلى تقسيم موقف الدول بخصوص هذا الموضوع إلى فئتين، تتولى الفئة الأولى منها معاملة أحكام التحكيم الغير الوطنية معاملة الأحكام القضائية الأجنبية.
     هذا النهج لم يخلو من نقد بسبب ما نعت به من عيوب تتمثل في أن الدول التي تنتمي إلى هاته الفئة تستوجب أن يصير حكم التحكيم الأجنبي واجب التنفيذ في الدولة التي صدر فيها قبل الأمر بتنفيذه في الدولة المطلوب فيها تنفيذ الحكم نهائيا، وبالرغم من أن هذا التوجه يضع الرقابة على سلامة الحكم بيد سلطات المحكمة الصادر في إطارها الإقليمي فإنه يعرض الأطراف لكثير من الإجراءات وإلى بذل نفقات زائدة وإهدارا للوقت.
      أما الفئة الثانية فتنحى إلى مساواة أحكام التحكيم الأجنبية بأحكام التحكيم الوطنية، بمعنى تلك التي تخلو من كل عنصر أجنبي من وجهة نظر قانون دولة قاضي التنفيذ، وتعتنق الدول المنظوية في هذا القسم الفكرة القائلة أن حكم التحكيم ذي طبيعة مختلطة لا يجوز معه معاملته كحكم قضائي كما لا يجوز اعتباره عقدا من العقود.(8)
      وهكذا يتجلى أن النزاعات وأيضا المساطر لا تجد دائما أمامها إطارا واحدا مجسما في رقعة ترابية وطنية معينة.
الفـــــرع الأول
أسـاس الرقابـة القضائيـة علـى حكـم المحكميـن عـن طريـق الأمـر بتنفيـذه

      إن تدخل قضاء الدولة لمنح الصيغة التنفيذية لحكم المحكمين الأجنبي له ارتباط بمدلول الحق في التنفيذ باعتباره حقا إجرائيا متميزا ومستقلا عن الحق الموضوعي الذي يستهدف حمايته، كما يعني هذا خضوع التنفيذ للقواعد العامة في قانون المسطرة المدنية.(9)
     والقاعدة أنه لا تنفيذ دون سند تنفيذي، مما يعني عدم كفاية الحق الموضوعي لينشأ الحق في التنفيذ، بل إن هذا الحق لا ينشأ سوى عن وجود السند التنفيذي.
      يترتب عن الطبيعة الإجرائية للتنفيذ نتائج متعددة لعل من أهمها هي قاعدة إقليمية للقانون الإجرائي.(10)
     إن حق الإجبار في التنفيذ يتولاه القضاء على اعتبار أنه إجبار في تنفيذ سندات إجرائية أي سندات قانون المرافعات باعتباره قانون القضاء .(11)
     في الواقع أن تدخل قضاء الدولة في هاته المرحلة عبر إصدار أمر تنفيذ الحكم التحكيمي لا يمكن ان يعدو كونه مجرد إجراء شكلي وذلك باعتبار أن هذا الحكم يكتسب حجيته انطلاقا من " القرينة القانونية " القاطعة التي تقررها وليس من أمر التنفيذ الذي يعتبر في الحقيقة عملا إداريا محضا لا يسدل أدنى حجية للشيء المقضي به طالما أنه لم يقض في شيء.(12)
     إن هذا ما قالت به محكمة الاستئناف بالدار البيضاء بمقتضى قرارها المشار إليه أعلاه.
     وانطلاقا مما ذكر يمكن القول أن منح الصيغة التنفيذية لأحكام التحكيم التجاري الدولي تكتسب أهمية نسبية وتجد مبررها الوحيد في غياب سلطة تعلو فوق الدول تجيز تنفيذها، مع العلم أن جزءا كبيرا من الأحكام المذكورة يتم تنفيذها طوعيا من الأطراف المعنية بها.
     يتعين القول في هذا الشأن أن أغلبية الاتجاهات الحديثة في التحكيم التجاري الدولي تبرز ميل أغلبية القوانين إلى جعل رقابة قضاء الدولة محدودا، وتزيد ميولات الفقه في اتجاه المزيد من الحد منها باقتراح البعض منه إلغاء الطعن بالإبطال أصلا، وجعل ميدان تدخل الدولة قاصرا على إسدال الصيغة التنفيذية للأحكام التحكيمية، علما أن الحاجة كانت ملحة في توحيد القواعد الإجرائية المتعلقة بتنفيذ هذه الأحكام بسبب تباين مواقف التشريعات الوطينة بهذا الخصوص.
الفـــرع الثانـــي
مـا هـي حـدود المراقبـة القضائيـة اللاحقـة؟ ومـا هـو مداهـا
ونطاقهـا؟

      تنصب الرقابة عند طلب التنفيذ على أحكام المحكمين الصادرة بالإلزام دون الأحكام المقرة والأحكام المنشئة، واحتدم الخلاف في الفقه حول تنفيذ أحكام المحكمين التعاقدية والاتفاقية والوقتية خاصة تلك المتعلقة باتخاد تدابير تحفظية.
       ومشكلة الرقابة تثار فقط بالنسبة لأحكام المحكمين دون الأحكام الصادرة من قضاء الدولة فالأحكام الصادرة عن محاكم الدولة تعتبر صادرة عن قضاء تنظمه الدولة، وتسهر على تنفيذه، وتذييله بالصيغة التنفيذية، وربما تنفذ من قبل السلطة العامة بالقوة الجبرية، أما أحكام المحكمين فهي أعمال أيضا ذات طبيعة قضائية، ولكنها صادرة من فرد أو أفراد عاديين عهد إليهم الأطراف بتولي مهمة الفصل في النزاع الذي يتفقون على طرحه أمامه، أو أمامهم، ومن ثمة فلا يقبل التنفيذ الجبري إلا إذا خضع للرقابة من قبل سلطة القضاء أو سلطة إدارية، ذلك لأنه صادر ممن لا يملك سلطة الأمر وللارتقاء به إلى مصاف العمل الصادر من قضاء الدولة، يجب أن يصادق عليه أو يأمر بتنفيذه، وذلك لا يتم إلا بعد أن يخضع للرقابة من قبل هذه السلطة أو تلك، فالمحكوم عليه إذا لم ينفذ حكم المحكيمن إراديا فإنما يقصد الاستفادة من كل صور الرقابة المخولة إليه من السلطات المختصة بمقتضى النصوص المنظمة لها، حتى يتجنب التنفيذ.
       يتضمن الفصل 321 من ق.م.م حدود المراقبة القضائية حينما نص على أن قاضي الصيغة التنفيذية ملزم بالتأكد من أن حكم المحكمين غير معيب ببطلان يتعلق بالنظام العام وخاصة بخرق أحكام الفصل 306 منه.
     إن وقفة وإطلالة متأنية على أحكام هذا الفصل من شأنها أن تبين أن المحور الذي تدور في فلكه المحاكمة التحكيمية ترتبط بوثاق قوي مع مدلول النظام العام حتى يكاد مفهومه يهيمن بكل قوة على التحكيم بأسره، خلاف حال قضاء الدولة الشديد الارتباط بمفاهيم أخرى متعلقة بالآجال، والطلبات والدفوع، وطرق الطعن المتباينة، وغيرها من الآليات التي رسمها المشرع بدقة، ووضعها سبيلا لتحقيق محاكمة عادلة في ظل هذا النظام.
       ولا ريب أن المجال المتاح في قضاء التحكيم أرحب من فضاء قضاء الدولة الشديد التحديد والانضباط لقوالب معينة، إذ أن للأطراف في ظل التحكيم حريات واسعة لاختيار قضاتهم، وقوانينهم الشكلية والموضوعية ولغة التحكيم، وفي بلورة نوع التحكيم المرغوب فيه سواء أكان عن طريق المراكز المؤسساتية أم عن طريق التحكيم الانتقائي AD-HOC، ومكان إجراء التحكيم وغير ذلك، ومن تم فلربما كان بديهيا أن يكون الفاصل بين هذا القضاء الرحب الذي يمكن تسميته بمجال التحكيم والحدود التي تحول دون بلوغ مجاله هو جدار منيع يدعى بالنظام العام يضعه المشرع عنوة  لتذكير أطراف التحكيم بوجود حدود يتولى القاضي الوطني رقابة خرقها، ويوقع جزاءا صارما لكل مخالفة تطال مدلول النظام العام يتمثل في رفض إسدال الصيغة التنفيذية للمقرر التحكيمي أو حتى إبطال حكم المحكمين عند بعض التشريعات.
       فهل انمحى من ذاكرتنا ما قاله أحد كبار شراح القانون القضائي الخاص من " أن الأمر بتنفيذ حكم المحكمين هو الذي يرفعه إلى مرتبة أحكام المحاكم وبدونه لا يستمد أية قوة من السلطة العامة "؟.(12 مكرر).
        لذلك كله ولغيره من الدواعي والمبررات فإن القاضي يتولى رقابة الحكم التحكيمي لمعرفة مدى انضباطه لما قرره المشرع في الفصل 306 ق.م.م من منع للتحكيم في الهبات والوصايا المتعلقة بالأطعمة والملابس والمساكن، والمسائل المتعلقة بحالة الأشخاص وأهليتهم، ثم أضاف في المسائل التي تمس بالنظام العام وأعطى أمثلة على ذلك حددها في النزاعات المتعلقة بعقود أو أموال خاضعة لنظام يحكمه القانون العام، النزاعات المتصلة بقانون جبائي، وبقوانين تحديد الأثمان والتداول الجبري والصرف والتجارة الخارجية، وكذا النزاعات المتعلقة ببطلان وحل الشركات.
       والمعروف أن قواعد القانون العام تعتبر كلها من النظام العام، لأن هدفها تحقيق وحماية المنافع العامة، والقصد من استبعاد هذه المواضيع من إمكانية إخضاعها للتحكيم هو تجنب الإضرار بمرافق حيوية، ولأن تحديد الأثمان والتداول الجبري وعمليات الصرف والتجارة الخارجية كلها مسائل لها تأثير مباشر في الميزان النقدي، وبالتالي على الاقتصاد الوطني، في حين قيل أيضا في تفسير هذا المنحى أن أساس منع التحكيم في هذه المواضيع مرتبط بضرورة حماية المصلحة العليا للدولة التي تتمثل في احترام السياسة الاقتصادية بينما برر بعض الفقه منع التحكيم في قضايا بطلان وحل الشركات بأن مرده كان ضرورة حماية حقوق الأغيار لصلة هذا الإجراء بالنظام العام.
الفــــرع الثالــــث
مــن يقــوم بهــذه الرقابــة؟

      إن رئيس المحكمة الابتدائية أو الرئيس الأول- حسب الأحوال- يقوم بمراقبة شكلية تهم وجود اتفاق التحكيم وصدور المقرر التحكيمي في نطاق اختصاص المحكمين، وأن يرد في القالب الشكلي الذي يستوجبه القانون لإصداره.
      وأن القضاء لم يميز في هذا الشأن بين الأحكام التحكيمية الأجنبية والأحكام الوطنية.(13)
      ونظرا لأن هذا العمل يتولاه رئيس المحكمة في غيبة الأطراف، فإن عليه التيقن من توافر كل الشروط الموضوعية والشكلية اللازمة لإصدار الأمر، غير أنه لا يجوز النظر في موضوع القضية بأي وجه من الوجوه سواء فيما يهم مراقبة الأسس التي يرتكز عليها حكم المحكمين أو ملائمته مع قواعد العدالة، وهذا واضح من أحكام الفصل 321  من ق.م.م التي تمنع على قاضي الصيغة التنفيذية النظر بأي وجه في موضوع القضية، فرقابة هذا الأخير هي مجرد رقابة خارجية تقتصر على الشروط الشكلية فيما يتعلق بوجود اتفاق التحكيم وصدور الحكم في نطاق اختصاص المحكمين، وهذا الأمر يصدره رئيس المحكمة بصفته الإدارية، وسبق لمحكمة النقض الفرنسية أن نفت عنه الصيغة القضائية وتوخت بحذر أن تصبغ عليه صفة الولائية.
      إن البعض من الفقه يميل إلى اعتباره مجرد أمر إداري كما سبق بيانه.
      وتسري نفس الأحكام حتى بالنسبة للحكم التمهيدي الصادر عن محكمة التحكيم.
      إن هذه  الرقابة تكتسي صبغة رقابة لاحقة لحصولها بعد إيداع المقرر التحكيمي في أجل ثلاثة أيام من صدوره ( الفصل 320/2 ق.م.م).
      إن هذا الأمر يفترض حالة التحكيم الداخلي، وما يفيد أن المحاكم المغربية كانت مختصة بالنظر في النزاع المطروح على التحكيم وهو فرض لا يتحقق بطبيعة الحال في جميع الحالات.
      وإذا كان المشرع المغربي قد سكت عن تنظيم حالة تصحيح الحكم التحكيمي أو تفسيره بعد عملية الإيداع - خلافا لبعض التشريعات- فإنه قد ألزم وجوب إيداع المقرر التحكيمي داخل أجل ثلاثة أيام التالية لصدوره أي بمعنى توقيع المحكمين عليه، والمقرر في هذا الشأن هو توقيع آخر محكم، دون أن يترتب عن عدم احترام هذا الأجل بطلان المقرر لأنه مجرد إجراء لاحق على صدوره لا يؤثر على سلامته.
      ولا يخفى أن القصد من الإيداع هو إتاحة الفرصة لأطراف الخصومة للإطلاع على حكم المحكمين وأيضا إطلاع رئيس المحكمة المختص لتمكينه من تذييل الحكم بالصيغة التنفيذية.
     غير أن من بين المصاعب الناتجة بدون شك عن عدم تنظيم التشريع المغربي للتحكيم الدولي أن أحكام الفصل 320 المذكور غير قابلة للتطبيق في العديد من الحالات التي يفرزها هذا التحكيم.
     ففي نازلة عرضت على القضاء المغربي حديثا، رفض فيها رئيس المحكمة الابتدائية بعين الشق الحي الحسني بالدار البيضاء منح الصيغة التنفيذية لمقرر تحكيمي صادر عن الغرفة التجارية الدولية بباريس بعلة عدم مراعاة أجل الإيداع المذكور من طرف المحكمين ألغته محكمة الاستئناف بالدار البيضاء بعلة أنه لا مجال للتمسك بمقتضيات الفصل 320 ق.م.م في النازلة لتعطيل بنود اتفاقية نيويورك المصادق عليها من طرف المغرب- المادة الأول- وأن القضاء المغربي هو المختص في إعطاء الصيغة التنفيذية للمقرر التحكيمي المراد تنفيذه مادام أن هذا التنفيذ سيتم بالمغرب، وأن الفصل 320 المذكور يطبق على التحكيم الوطني دون التحيكم الدولي، كما هو عليه الحال في النازلة، وهو قرار أبرمه المجلس الأعلى.
      على أن مشروع قانون التحكيم الجديد عالج هذا الأمر وميز بين التحكيم التجاري الداخلي والدولي وخص بالتنظيم كل منهما بمقتضيات خاصة ودقيقة.(14)




















المحــــور الثانــــي
الرقابـة القضائيـة مـن خـلال اتفاقيـة نيويــورك:

*أسبـــاب إبـــرام الاتفاقيـــة:

      لما كانت الصفة الاتفاقية للتحكيم بارزة طالما أنه يقوم على أساس اتفاق ينص على حل النزاع عند حدوثه بين المتعاقدان عن طريق التحكيم وينتهي بصدور مقرر تحكيمي، ومن تم فإن الصفة الإلزامية التي يكتسيها التحكيم ناتجة عن الاتفاق، ولما كان الرأي عند بعض من الفقه إلى اعتبار نظام التحكيم ذي طبيعة مزدوجة يبدأ باتفاق ثم يصير إجراءا وينتهي أخيرا بقضاءا في شكل مقرر تحكيمي. 
      ولما كان التحكيم في الحقيقة ليس محض اتفاق أو محض قضاء بل نظام يمر في مراحل متعددة، يلبس في كل منها لباسا خاصا ويتخذ طابعا مختلفا فهو في أوله اتفاق وفي وسطه إجراء، وفي آخره حكم، فإنه ينتج عن ذلك أنه نظام متميز قائم بذاته، ومن ثم كان هناك قانونا واجب التطبيق في نهاية كل مرحلة من مراحل التحكيم.
      إلا أنه إذا كانت سلطة المحكمين تجد مصدرها المباشر في اتفاق الطرفين فإن مصدرها الغير المباشر هو القانون.(15)
      فلولا اعتراف القانون بنظام التحكيم ما أمكن أن يكون اتفاق الأطراف بشأنه صحيحا منتجا لآثاره.(16)
      ولما كان ذلك كله صحيحا، فإن مؤداه هو أن اتفاق التحكيم يضع شرطا مانعا لاختصاص قضاء الدولة من النظر في ذات المنازعة موضوع الاتفاق، أو ما يعبر عنه بالأثر السلبي للاتفاق المذكور ومن تم كان لزاما انصراف المجهودات الساعية لإبرام قواعد التحكيم في سبيل الدفع بالحركة التجارية الدولية إلى الأمام، نظرا لما يترتب عن اختلاف التشريعات الوطينة في مناولة التحكيم التجاري الدولي من آثار سلبية على هذه الحركة.
       ووعيا بالمشاكل العديدة والمعقدة التي تحيط عملية الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية تم إنجاز العديد من الدراسات والأبحاث وأسفرت على إبرام اتفاقية نيويورك التي كانت مجرد مشروع تقدمت به غرفة التجارة الدولية إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي هو من الهيآت الأساسية في الأمم المتحدة ليحل محل الاتفاقية التي أبرمت عام 1927 في كنف عصبة الأمم التي صارت- في نظر الغرفة - غير صالحة لمواجهة متطلبات التجارة الدولية الحديثة، وأحال المجلس المشروع إلى لجنة لدراسته ووضع مشروع نهائي لاتفاقية دولية في شأن الاعتراف بقرارات المحكمين وتنفيذها ولما فرغت اللجنة من إعداد المشروع تولى المجلس الدعوة إلى مؤتمر دبلوماسي لدراسته وإقراره وبتاريخ 10/06/1958 أقر المؤتمر المشروع بعد أن أدخل عليه تعديلات كثيرة جعلته وسطا بين الاتفاقية القديمة ومشروع الغرفة التجارية.
      وتشتمل الاتفاقية على ستة عشرة مادة لا يتعلق منها بالموضوع إلا المواد السبع الأولى، أما بقية المواد فتتعلق بالمسائل التكميلية التقليدية الخاصة بالتصديق على الاتفاقية والانضمام إليها والانسحاب منها وبدء العمل بها وتعديلها، ونوجه النظر بين هذه النصوص إلى المادة 14 التي تؤكد مبدأ المعاملة بالمثل بالنسبة إلى الدول التي تستخدم التحفظات الواردة بالاتفاقية، إذ يقضي النص بأن هذه الدول لا تستطيع التمسك بأحكام الاتفاقية في مواجهة الدول المتعاقدة الأخرى إلا في حدود التزامها بها، أي مع مراعاة التحفظات التي أفادت منها. (17)
      إن اتفاقية نيويورك لسنة 1958 تمثل صياغة متكاملة مبسطة ومتطورة للأحكام التي تضمنتها اتفاقية جنيف لسنة 1927 بشأن الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها، وحلت محلها بالنسبة للدول التي انضمت للاتفاقيتين وأعطت أثرا أكثر شمولا وعمقا لصحة اتفاق التحكيم، وتعتبر أحسن ما توصل إليه المجتمع الدولي في ميدان الاعتراف وكيفية تنفيذ القرار بموجب إجراءات مبسطة وواضحة. (18)
      ونظرا لأهمية الاتفاقية المذكورة فقد حاولت بواسطة هذه الدراسة الكشف عن خطوطها العريضة ومضمونها، والمواضيع التي سعت إلى إيجاد حلول مرضية لها باعتبارها المرجع في تنفيذ الأحكام التحكيمية الأجنبية في المغرب الذي كان من الدول الأوائل التي انضمت إلى الاتفاقية.
      ولا ريب أن اتفاقية نيويورك المتعلقة بالتحكيم التجاري الدولي لسنة 1958 تعتبر حجر الزاوية في هذا البناء سواء من ناحية عدد الدول المنضمة تحت لوائها ( بلغت 139 دولة بعد انضمام دولة الإمارات العربية إليها بتاريخ 19/11/2006) أو من حيث القواعد الهامة التي أرستها لمعالجة إشكاليات تنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية ".
الفـرع الأول
نطــاق تطبيــق الاتفاقيــة

       تأخذ اتفاقية نيويورك بضابطين لتحديد معنى حكم التحكيم الأجنبي الذي يخضع لأحكامها، الأول هو ضابط مكان صدور الحكم، حيث تنص الفقرة الأولى من المادة الأولى في صدرها على أنه " تطبق الاتفاقية الحالية للاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الصادرة في إقليم دولة غير التي يطلب إليها الاعتراف وتنفيذ هذه الأحكام على إقليمها وتكون ناشئة عن منازعات بين أشخاص طبيعية أو معنوية".
     هذا النص يقابل ويطابق نص المادة الأولى من اتفاقية "جنيف" 1927 كما نجده أيضا في مشروع اللجنة الاقتصادية والاجتماعية للأمم المتحدة  المشار إليه آنفا، وقد أفصحت حكومات الدول في تعليقها على هذا المشروع عن رغبتها في تضمين الاتفاقية قواعد إجرائية موحدة ينبغي تطبيقها في حالة تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي في أي من الدول المتعاقدة ( أي بصرف النظر عن موقف القوانين الداخلية لهذه الدول)، أو أن ينص على إخضاع تنفيذ هذه الأحكام التحكيمية لإجراء مختصرSummury En forcement Procedure، أو أن ينص على أن الأحكام التحكيمية الخاضعة لهذه الاتفاقية يراعي في تنفيذها تطبيق نفس الإجراءات المتبعة لتنفيذ أحكام التحكيم الوطنية.
      ومع ذلك فقد وجدت السكرتارية العامة للجنة الاقتصادية والاجتماعية أن أي من هذه الخيارات يتولد عنها كثير من الصعاب في التطبيق، فأولها غير عملي لصعوبة أن يضم نص الاتفاقية التقاصيل الإجرائية لتنفيذ حكم التحكيم، أما عن الخيار الثاني فهو لن يؤدي إلى توحيد المعاملة المأمورة لاختلاف الأنظمة المتبعة في الدول المختلفة، أما عن الخيار الأخير فقد تم اعتبار أن الأخذ به قد يكون من شأنه جعل هذا التنفيذ مرهق في تكاليفه أو في الوقت الذي يستهلكه، وقد خلصت سكرتارية اللجنة إلى أن هذه الصعاب يمكن التغلب عليها بالنص على أن الأحكام التحكيمية الأجنبية يتبع في تنفيذها إجراءات مبسطة وسريعة والتي يجب في جميع الأحوال ألا تكون أكثر كلفة من تلك الخاصة بأحكام التحكيم الوطنية، وهو ما سوف نجد صداه في المادة 3/2 من النص النهائي للاتفاقية.
      أما الضابط الثاني فيخص أحكام التحكيم التي تصدر على إقليم دولة ويراد تنفيذها في إقليم الدولة نفسها إذا كانت هذه الدولة تعتبر أن هذه الأحكام هي أحكام أجنبية رغم صدورها في إقليمها، وهو ما ورد في الفقرة الأولى من المادة الأولى التي نصت على أنه " كما تطبق أيضا ( الاتفاقية) على أحكام المحكمين التي لا تعتبر وطنية في الدولة المطلوب إليها الاعتراف أو تنفيذ هذه الأحكام" أي على أحكام المحكمين الأجنبية التي ترتبط بمكان صدور حكم التحكيم، وذلك دون اعتبار المكان الذي تم فيه اتفاق التحكيم أو الذي تمت فيه إجراءات التحكيم بعضها أو كلها ( عدا إصدار الحكم) أو المكان الذي يوجد فيه مركز التحكيم الذي تخضع له إجراءات التحكيم، فإذا كان الحكم يعتبر أنه قد صدر بمجرد التوقيع على الحكم، فيعتبر مكان صدور الحكم هو المكان الذي وقع فيه غالبية المحكمين، فإن تم التوقيع عليه في بلد كل محكمة فإن كل بلد يعتبر مكان صدور الحكم.(19)

المقصـود بالصفـة " الأجنبيـة " والصفـة " الدوليـة" للتحكيـم

      وإذا كان الحكم التحكيمي لا يحمل جنسية دولة معينة لعدم صدوره باسم سيادتها أو هيئة تابعة لها، فإنه يوصف مع ذلك بكونه " أجنبي" حينما يرتبط به عنصر أجنبي.
      إن التساؤل الهام والملح في هذا الصدد يتوخى الجواب عن التساؤل بخصوص عنصر الارتباط الذي من شأن قيامه إضفاء صيغة " الأجنبي" على الحكم التحكيمي.
      لقد تناول بعض من الفقه المغربي هذا الموضوع واعتبر وجوب استبعاد ضابطي الجنسية ومحل الإقامة بهذا الخصوص، لأنهما يؤديان إلى نتائج غير مقبولة.
     كما أن ضابط المكان الذي يجري فيه التحكيم وجهت إليه انتقادات شديدة باعتبار أن المكان قد يكون ظرفا طارئا أو عنصرا مصطنعا، ومزاجا سياحيا للمحكمين، فضلا عن أن الأطراف موضوع النزاع، فيكتسب الحكم التحكيمي صبغة الأجنبي حتى بالنسبة للدولة التي صدر على ترابها.
     لذلك يرى بعض الشراح وجوب الأخذ بضابط القانون الواجب التطبيق على التحكيم.(20)
     ورغم أهمية عنصر اختيار القانون الواجب التطبيق على النزاع الذي يرجح الطابع الأجنبي لهذا النزاع فإنه يتجلى من واقع التجارة الدولية أن أطرافها يتجهون في العديد من الحالات إلى اختيار " قانون محايد" لتطبيقه على النزاع مما لا يمكن معه اعتبار هذا المؤشر للدلالة على قيام تحكيم تجاري ذي طابع أجنبي حينما يقع الاختيار على هذا القانون للتهرب المقصود من القانون الوطني.(21)
     الملاحظ هو تردد واضعي الاتفاقيات الدولية بين الصفة "الأجنبية" والصفة " الدولية" في منازعات التجارة الدولية ونفس الأمر لوحظ على التشريعات الوطنية.
     يقصد بالصفة الدولية لحكم التحكيم كونه يفصل في مسألة تتعلق بالتجارة الدولية أي جميع المنازعات الناتجة عن بيوعات دولية بغض النظر عما إذا كان الحكم وطنيا أو أجنبيا بالنسبة للدولة المطلوب إليها الاعتراف به وتنفيذه.
     في حين يقصد بالصفة الأجنبية لحكم التحكيم كون لم يصدر في الدولة المطلوب إليها هذا الاعتراف والتنفيذ كدولة ذات سيادة بل صدر من هيئة تحكيم انعقدت في دولة أجنبية متمتعة بسيادة أخرى بصرف النظر عن موضوع النزاع الذي صدر بشأنه سواء تعلق بمسألة من مسائل التجارة الدولية أو مسألة أخرى، ومقابل الصفة " الأجنبية" بهذا المعنى الصفة " الوطنية" لحكم التحكيم التي تتصف بها حكم التحكيم الصادر عن هيئة تحكيم انعقدت في نفس إقليم الدولة المطلوب فيها تنفيذه.(22)
     وفي الواقع فإن مشروع اتفاقية نيويورك المقدم من غرفة التجارية الدولية بخصوص الاعتراف بأحكام التحكيم الصادرة في مسائل التجارة الدولية وتنفيذها استخذم وصف " التحكيم الدولي" الذي وضعته لهذه الاتفاقية، إلا أن الدول التي انكبت على وضع اتفاقية نيويورك لعام 1958 لم تؤيد هذا الوصف في المشروع، وفضلت بذل ذلك استعمال الصفة " الأجنبية " لأحكام التحكيم في محاولة واضحة لتحظى هذه الاتفاقية بقبول الدول التي لا زالت تتمسك بهذه الصفة باعتبارها الصفة التقليدية السائدة في معظم الدول، لذا عنونت اتفاقية نيويورك المذكورة بعنوان اتفاقية بشأن الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها ".(23)
     ورغم ذلك خطت الاتفاقية خطوة أخرى نحو صفة " الدولية" بهدف توسيع نطاق تطبيقها قصد تشجيع التجارة الدولية ولو لم يقع التنصيص على تلك الصفة صراحة.
     إن ذلك ما يفهم من سياق المادة الأولى من الاتفاقية التي بعد أن قررت " أن الاتفاقية تطبق على الاعتراف بأحكام التحكيم وتنفيذها متى صدرت في إقليم دولة أخرى غير الدولة التي يطلب إليها الاعتراف بها وتنفيذها في إقليمها سواء فصلت هذه الأحكام في منازعات بين أشخاص طبيعيين او معنويين " فإنها أضافت إلى ذلك ما يلي:
     " تطبق الاتفاقية أيضا على أحكام التحكيم التي لا تعتبر وطنية بالنسبة للدولة التي يطلب إليها الاعتراف بها وتنفيذها في إقليمها".
     واستخلص الفقه من ذلك وعن صواب أن المشروع الدولي ولو أنه استخدم في تلك الاتفاقية وصف " الأجنبية" بالمدلول المشار إليه فإنه لم يحسم الأمر نهائيا وبالتالي لم يتخل عن وصف " الدولية" بالنسبة لأحكام التحكيم المذكورة.
     في رأي هذا الفقه فإن المادة الأولى المذكورة تتعلق بطائفتين من أحكام التحكيم، الأولى تتعلق "بالأحكام الأجنبية " والثانية تتعلق بالأحكام التي لا هي " أجنبية" ولا " وطنية".(24)
     ويبدو أن مشروع القانون رقم 5-08 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية قد عالج هذا الموضوع في الفصل 36-327 بعناية واعتبر دوليا حسب مدلول هذا الفرع، المقرر التحكيمي الذي يتعلق بمصالح التجارة الدولية والذي يكون لأحد أطرافه على الأقل موطن أو مقر بالخارج حيث جاء فيه بأن التحكيم يعتبر دوليا إذا:
I- كان لأطراف اتفاق التحكيم وقت إبرام هذا الاتفاق مؤسسات بدول مختلفة.
II- أو كان أحد الأمكنة التالي بيانها واقعا خارج الدولة الموجودة بها مؤسسات الأطراف:
أ‌- مكان التحكيم عندما يكون منصوصا عليه في اتفاق التحكيم أو معينا بمقتضى هذا الاتفاق.
ب- كل مكان يجب أن ينفذ فيه جزء مهم من الالتزامات المترتبة على العلاقة التجارية أو المكان الذي تربطه أكثر  بموضوع النزاع صلة وثيقة.
III- أو كان الأطراف متفقين صراحة على أن موضوع اتفاق التحكيم يهم أكثر من بلد واحد.
      لأجل تطبيق مقتضيات الفقرة 2 من هذا الفصل يطبق ما يلي:
1- إذا كان لأحد الأطراف أكثر من مؤسسة فإن المؤسسة الواجب اعتمادها هي المؤسسة التي تربطها صلة وثيقة باتفاق التحكيم أكثر من غيرها.
2- إذا لم تكن لأحد الأطراف أية مؤسسة قام مقامها محل سكناه الاعتيادية.
     ويمكن مواجهة هذه الحالة عندما تأخذ دولة من الدول بضابط جنسية المحكمين أو القانون الواجب التطبيق على التحكيم أو صدوره من هيئة تحكيم داخل الدولة ويكون لهذه الهيئة نظامها الخاص باعتبارها هيئة دولية كالغرفة التجارية الدولية في باريس ( I.C.C).
     ومما يجدر ذكره أن الاتفاقية فيما يخص حكم التحكيم الأجنبي الذي يطلب تنفيذه في دولة عضو في الاتفاقية، لا تشترط أن يكون صادرا في دولة عضو في الاتفاق ما لم تتحفظ الدولة المنضمة إلى الاتفاق عند انضمامها على ذلك وتشترط أن يكون حكم التحكيم الذي يراد الاعتراف به وتنفيذه صادرا في إقليم دولة أخرى عضو في الاتفاقية، لذلك أباحت تلك الفقرة للدولة التي تريد الانضمام للاتفاقية الحق في التحفظ عليه حين نصت على أن " لكل دولة عند التوقيع أو التصديق عليها أو الانضمام إليها أو الإخطار بامتداد تطبيقها عملا بنص المادة العاشرة أن يصرح على أساس المعاملة بالمثل أنها ستقصر تطبيق الاتفاقية على الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الصادرة على إقليم دولة أخرى متعاقدة ".
      كما أن الاتفاقية تشمل أحكام التحكيم في جميع أنواعه سواء أكان التحكيم صادرا عن تحكيم خاص " ad hoc" أم كان تحكيما منظما صدر عن هيئات تحيكم دائمة، وهذا ما أوردته الفقرة الثانية من المادة الأولى التي تنص على أن: " ويقصد بأحكام المحكمين " ليس فقط الأحكام الصادرة من محكمين معينين للفصل في حالات محددة بل أيضا الأحكام الصادرة من هيئات تحكيم دائمة يحتكم إليها الأطراف ".
      إن النصوص الاتفاقية تشمل بحكمها أحكام التحكيم في المنازعات مهما كانت طبيعتها أو أطرافها، سواء أكانت المنازعة ناشئة عن الروابط التعاقدية أم غير التعاقدية وسواء أكانت المنازعة بين أشخاص طبيعية أم معنوية.
       بمعنى تصدي المحكمين للمنازعة الناشئة عن عقد اتفق فيه على إحالتها إلى التحكيم بغض النظر عن نوع هذا العقد أكان عقدا تجاريا أو مدنيا أو إداريا أو عقد أحوال شخصية، أو كانت المنازعة ناشئة عن أحكام المسؤولية التقصيرية والتي اتفق على الوصول إلى تسويتها بالتحكيم بعد بروز المنازعة، وسواء أكانت العلاقة بين شخصين طبيعيين أم بين شخصين معنوي وطبيعي أم بين شخصين معنويين حسبما يستفاد بوضوح من احكام الفقرة الأولى من المادة الثانية من الاتفاقية.
      وأجازت الاتفاقية للدول التي انضمت إليها حصر المنازعات الناشئة عن روابط القانون التعاقدية  أو الغير التعاقدية التي تعتبر تجارية طبقا لقانونها الوطني.
      ويستشف من موقف الاتفاقية القاضي بترك مهمة تحديد إجراءات تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية لقانون الدولة المطلوب إجراء التنفيذ فيها مدى رغبة واضعي الاتفاقية في تلافي وضع حلول تفصيلية للقضايا الشائكة التي تطرحها إجراءت التنفيذ سواء على مستوى الجهة المختصة بوضع الصيغة التنفيذية على تلك الأحكام أو طرق الطعن، أو غير ذلك من الإجراءات التي ترتبط بكيفية معالجة هذه المسائل من طرف السلطات العامة في الدول.
      أما فيما يتعلق بأطراف علاقة التحكيم فإن الاتفاقية تطلقها دون تحفظ فتسري أحكامها على جميع أحكام التحكيم أيا كانت أطراف العلاقة سواء أكانت أشخاصا طبيعية أم أشخاصا معنوية والأخيرة تشمل أشخاص القطاع الخاص كالشركات الخاصة كما تشمل القطاع العام كالهيآت والمؤسسات العامة.
الفــــرع الثانــــي
الشــروط المتعلقــة باتفــاق التحكيــم فــي اتفاقيــة نيويــورك

      يجب أن يتوفر في اتفاق التحيكم شروط متعددة تم التنصيص عليها في المادة الثانية منها يمكن إيجازها في وجوب قيام مكتوب على اللجوء إلى التحكيم وأن يكون الاتفاق صحيحا وقابلا للتحكيم فضلا عن أن يكون موضوعه مما يجوز التحكيم فيه.

أولا: يجـب أن يكـون اتفـاق التحكيـم مكتوبـا

      أوردت الفقرة 1 من المادة الثانية " تعترف كل دولة متعاقدة بالاتفاق المكتوب الذي بمقتضاه يتفق الأطراف أن يخضعوا للتحكيم كل أو بعض المنازعات الناشئة أو التي قد تنشأ بينهم موضوع من روابط القانون التعاقدية أو غير التعاقدية المتعلقة بمسألة يجوز تسويتها عن طريق التحكيم".
      كما نصت الفقرة الثانية من المادة الثانية على أنه: " يقصد باتفاق مكتوب شرط التحكيم في عقد أو اتفاق التحكيم الموقع عليه من الأطراف أو الاتفاق الذي تضمنته الخطابات المتبادلة أو البرقيات".
      وبناء على هاتين الفقرتين فيشترط في اتفاق التحكيم الذي تلتزم الدولة بالاعتراف به وبالتالي تنفيذ الحكم المنبثق عنه من هيئة التحكيم أن يكون مكتوبا، فإن لم يكن كذلك فللدولة التي يراد فيها الاعتراف باتفاق التحكيم أو بتنيفذ الحكم المنبثق عنه أن ترفض ذلك، ولكن لا يشترط في اتفاق التحكيم أن يكون عقدا منفصلا كمشارطة تحكيم بل يكفي أن يكون شرطا مدرجا ضمن العقد الأصلي.
      والملاحظ بهذا الشأن أن الاتفاقية راعت أيضا حقائق التجارة الدولية حينما أتاحت قيام الاتفاق التحكيمي بالمراسلة الكتابية والبرقيات المتبادلة.
      ويمكن أن يفهم من مقتضيات هذه المادة أنه يجب على المحكمة المطروح عليها مسألة تذييل القرار التحكيمي بالصيغة التنفيذية أن تتيقن من أن المقرر أتى نتيجة اتفاق تحكيمي مستوفي لأحكام المادة 2 المذكورة.
      ويستخلص من أحكام هذه المادة أن الدول المتعاقدة غير ملزمة بالاعتراف باتفاق التحكيم إلا إذا كان مفرغا في محرر" Convention écrite " ولو كان القانون الواجب التطبيق على الاتفاق لا يشترط الكتابة لصحته أو لإثباته وهو شرط لم يرد في اتفاقية جنيف التي اكتفت باشتراط أن يكون اتفاق التحكيم صحيحا وفقا للقانون الواجب التطبيق وسنرى فيما يلي ماذا تعني اتفاقية نيويورك بالكتابة.
     والواقع أن الاتفاقية باستلزامها هذا الشرط لم تفعل إلا تأكيد ما دل عليه العمل في مجال التحكيم التجاري الدولي حيث يتم الاتفاق عادة في وثائق مكتوبة، قد تكون عقودا مبرمة لهذا الغرض أو مراسلات وبرقيات يتبادلها الخصوم وتحتوي على الاتفاق على التحكيم.
      تلزم الدول المتعاقدة بالاعتراف باتفاق التحكيم سواء أكان سابقا على نشوء النزاع أم لاحقا لنشوئه، ويتضح هذا المعنى من إشارة النص إلى النزاع " الذي نشأ أو الذي يمكن أن ينشأ "Des Différends qui se sont élevés ou pourraient s'élever كما يتضح من الفقرة الثانية من المادة ذاتها التي فسرت المعنى المقصود من " اتفاق التحكيم المكتوب " بقولها " شرط تحكيم سابق على قيام النزاع مدون في عقد أو اتفاق تحكيم لاحق لقيام النزاع مذيل بتوقيعات أطراف النزاع أو وارد في خطاباب أو برقيات متبادلة بينهم ".
ثانيـا: يجـب أن تكـون المنازعـة الخاضعـة للتحكيـم ممـا يجـوز التحكيـم فيـه
     وفقا للفقرة الأولى من المادة الثانية المشار إليها أعلاه يجب أن يكون موضوع اتفاق التحكيم قابلا للتحكيم بشأنه، مع العلم أن أحكام هذه المادة اتسمت بالعمومية فلم تحدد المسائل التي يمنع الاتفاق على حلها بالتحكيم، الأمر الذي يعني أنها أحالت هذه الأمور إلى القوانين الوطنية لتكون مرجعا في هذا الشأن.
      وتختلف الدول في طبيعة المنازعات التي لا يجوز التحكيم فيها، فإذا صدر حكم التحكيم الأجنبي في نزاع لا يخضع للتحكيم فيه وفقا للقانون المغربي فإن على القاضي أن يرفض إصدار الأمر بتنفيذه ولو كان الحكم قابلا للتنفيذ وفق طبيعته.(25)
      يعتبر هذا الجانب من المسائل المعقدة ذات امتدادات واسعة تشمل القواعد الموضوعية التي قد تطرح في المجال القانوني الوطني أو كذلك في المجال الدولي كما يمكن إثارتها في نطاق مدى صحة الاتفاق التحكيمي وكذا كشرط من شروط تنفيذ التحكيم، وهو موضوع تعرض لنقد شديد.
      والواقع أن للموضوع علاقة بمدى صلاحية قانون دولة التنفيذ للبت في مسألة قابلية النزاع للتحكيم  وكذا فيما يتعلق بعدم إمكانية الفصل بين تلك القابلية كشرط لصحة اتفاق التحكيم وبين اعتباره شرطا للاعتراف بالحكم التنفيذي ونفاده.
      إذ أنه قد يقتصر اتصال التحكيم على تواجد أموال للشخص المحكوم ضده بمقتضى الحكم التحكيمي في دولة التنفيد التي لا علاقة لها ولا يهمها موضوع قابلية إيجاد حل  للنزاع عبر التحكيم بقدر ما يهم الدولة التي تم فيها التحكيم أو التي جرى التحكيم وفق قانونها.
      فالمشكلة حتى ولو طرحت أمام محكمة التحكيم أو أمام قاضي الدولة الذي ينظر في دعوى بطلان التحكيم فإن الحل يتمثل في القانون الذي يحكم الاتفاق التحكيمي في حين أن الأمر يتغير إذا ما عرض على قاضي دولة التنفيذ طالما أن اتفاقية نيويورك أجازت للسلطة القضائية في البلد المطلوب فيه الاعتراف وتنفيذ حكم المحكمين أن ترفضه في حالة ما إذا تجلى لتلك السلطة أن قانون ذلك البلد لا يتيح إمكانية حل النزاع عن طريق التحكيم.
      إن هذه المسائل تكتسي أهمية بالغة وتلقي بظلالها على منصة التحكيم، ولا يمكن في نطاق وضع منظومة التحكيم التجاري الدولي حاليا أن تجد حلا لها سوى في تفهم قاضي الدولة المنوط به إسدال الصيغة التنفيذية على الحكم التحكيمي الأجنبي مستعينا في ذلك وبدون شك بقواعد النظام العام الدولي لتكون نبراسا له في سبيل تدليل الصعاب والدفع بعجلة التحكيم التجاري الدولي إلى الأمام.
      ويلاحظ أن القرارات القضائية في هذا المجال قد ساهمت في تفسير هذه الفقرة من اتفاقية نيويورك وقد رفض القضاء تنفيذ العديد من القرارات التحكيمية الدولية بسبب كونه قد وقع على موضوع لا يمكن خضوعه للتحكيم طبقا لأحكام قانون بلد القاضي المراد تنفيذ القرار فيه.
          على أنه يلاحظ مع بداية عقد التسعينات من القرن القاضي صدور قرارات تنطوي على تغيير للآلية القانونية المعتمدة في تقييم صحة اتفاقية التحكيم حينما تم الركون إلى قاعدة مادية في هذا الصدد مؤداها أن النظام العام الدولي هو القيد الوحيد على صحة اتفاقية التحكيم الدولي وبصورة منفصلة عن كل قانون داخلي.
      وهكذا صدر عن المحاكم الفرنسية عدة قرارات في هذا الاتجاه نذكر منها قرار 14/11/91 الذي تخلت بمقتضاه محكمة استئناف باريز ضمنيا عن احتضان منهجية التنازع عند تقييمها لصحة ومشروعية البند التحكيمي فاعتبرت في هذا الصدد:
    " بأنه في مادة التحكيم الدولي يكون البند التحكيمي صحيحا، بموجب المبدا العام المتمثل باستقلالية اتفاقية التحكيم، والذي يعد قاعدة مادية تؤمن له فعالية خاصة.
     وبصورة مستقلة عن القانون الواجب التطبيق على العقد المدرج فيه، وعن أطراف هذا العقد تحت شرط وحيد هو احترام النظام العام الدولي، وخصوصا فيما يتعلق بقابلية النزاع للتحكيم ".

ثالثـا: يجـب أن يطلـب الخصـوم إحالـة الأمـر إلـى التحكيـم

      وهذا الشرط أوردته الفقرة الثالثة من المادة الثانية بقولها: " على محكمة الدولة المتعاقدة التي يطرح أمامها نزاع حول موضوع كان محل اتفاق من الأطراف بالمعنى الوارد في هذه المادة أن تحيل الخصوم بناء على طلب أحدهم إلى التحكيم".
      وفي هذا الصدد يتبين أنه يجب أن يتمسك أحد أطراف عقد التحكيم بإحالة الأمر إلى التحكيم حتى يصبح ذلك التزاما على المحكمة المعروض عليها النزاع وفقا للاتفاقية بأن تحيله إلى التحكيم، فإذا رفع الأمر إلى المحكمة وحضر الطرف الآخر ولم يتمسك بإحالة الأمر إلى التحكيم كما ورد في الاتفاق المكتوب بينهما، فإن المحكمة لا تكون ملزمة بإحالة الأمر إلى التحكيم من تلقاء نفسها بل لها أن تتصدى للموضوع إذا كانت وفقا لقانونها مختصة في نظره ولا تثريب عليها في ذلك وفقا للاتفاقية.




      وقضت محكمة النقض المصرية في هذا الصدد:
   " إن شرط التحكيم لا يتعلق بالنظام العام فلا يجوز للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها وإنما يتعين التمسك به أمامها، ويجوز النزول عنه صراحة أو ضمنا ويسقط الحق فيه لو أثير متأخرا بعد الكلام في الموضوع ".(26)
رابعـا: يجـب أن يكـون اتفـاق التحكيـم صحيحـا وقابـلا للتطبيـق
      يستفاد قيام هذا الشرط من أحكام الفقرة الثالثة من المادة الثانية التي أوجبت على محاكم الدول المتعاقدة إحالة الموضوع إلى التحكيم عند وجود اتفاق بهذا الشأن وطلب أحد الخصوم ذلك " وذلك ما لم يتبين للمحكمة أن هذا الاتفاق باطل أو لا أثر له أو غير قابل للتطبيق".
      فلا شك أنه لكي تلتزم محكمة الدولة المتعاقدة بإحالة الأمر إلى التحكيم يجب أن يكون اتفاق التحكيم المكتوب صحيحا غير مشوب بأحد أسباب البطلان، كما يجب أن يكون قابلا للتطبيق دون أن تعترضه استحالة مادية.
     وتطبق في هذه الأحوال مقتضيات القواعد العامة المتعلقة ببطلان الالتزامات وإبطالها.
الفـــرع الثالـــث
إجــراءات طلــب التنفيــذ ووقــفــه وشروطهمــا

     لم تحدد اتفاقية نيويورك قواعد الاختصاص والمسطرة التي من شان سلوكها تتويج الحكم التحكيمي بالاعتراف به كسند تنفيذي، وبدلا من ذلك اكتفت المادة الثالثة منها بالقول:
     " تعتبر كل من الدول المتعاقدة بحجية حكم التحكيم وتأمر بتنفيذه طبقا لقواعد المرافعات المتبعة في الإقليم المطلوب إليه التنفيذ وطبقا للشروط المنصوص عليها في المواد التالية.
     ولا تفرض للاعتراف أو تنفيذ أحكام المحكمين التي تطبق عليها أحكام الاتفاقية الحالية شروط أكثر شدة ولا رسوم قضائية أكثر ارتفاعا بدرجة ملحوظة من تلك التي تفرض للاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الوطنيين ".
     ومع ذلك فإن الاتفاقية تضمنت قاعدتين رئيسيتين بخصوص قواعد الإثبات ومهمة القاضي.
     وهكذا من جهة فإن الاتفاقية لم تلزم طالب التنفيذ سوى بالإدلاء بعدد من الوثائق لإثبات حكم التحكيم.
     ومن جهة ثانية فإن الاتفاقية أدخلت تعديلات جوهرية على معاهدة " جنيف" لسنة 1927 التي كانت تلزم الطالب إثبات أن حكم التحكيم يشتمل على جميع الشروط المتطلبة للحصول على الاعتراف أو تنفيذ المقرر التحكيمي، فعكس ذلك فإن على المطلوب في التنفيذ أن يثبت سببا لرفض الطلب وعلى سبيل المثال عدم إعلامه بمسطرة التحكيم التي جرت في غيابه.(27)
     ويبدو أن الاتفاقية نجحت في تحقيق هدف أساسي وهو التمييز بين الدفوع التي يمكن أن تثار من طرف المعني بالأمر خلال سير مسطرة الحصول على الصيغة التنفيذية وبين تلك الدفوع التي يمكن لقاضي الدولة إثارتها تلقائيا. (28)
     إذن فالمادتين الثالثة والرابعة أوردتا إجراءات طلب التنفيذ، أما المادة السادسة فقد أوردت إجراءات طلب وقف التنفيذ.
أولا: إجــراءات طلــب التنفيــذ
     تلتزم الدول المتعاقدة بالاعتراف بجميع أحكام التحكيم التي تنطبق عليها أحكام اتفاقية نيويورك، وعلى كل منها أن تأمر بتنفيذها وفقا للقواعد المسطرية المطبقة في الدولة المطلوب إجراء التنفيذ على ترابها، ويتجلى استنادا على أحكام المادة الثالثة لاتفاقية نيويورك أنها أتاحت للدول المتعاقدة  أن تفرق بين أحكام التحكيم الوطنية والأحكام الأجنبية من حيث الشرط ومن حيث الرسوم القضائية، ولكنها اشترطت ألا تكون تلك الشروط أكثر شدة، أو أن تكون الرسوم القضائية أكثر ارتفاعا بدرجة ملحوظة من تلك التي تفرض للاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الوطنية، ولكن الملاحظ على المادة أنها لم تحدد مدى الشروط أو الرسوم التي تكون أشد بدرجة ملحوظة مما يعد ثغرة في اتفاقية نيويورك كان من الواجب سدها.(29)
      فالملاحظ أن الاتفاقية جعلت من حكم المحكمين سندا معتبرا، حجبت عنه ما كان قائما في ظل اتفاقية جنيف من شروط واعتبارات كانت تؤدى إلى رفض التنفيذ.

ثانيـا: الشـروط الشكليـة الإيجابيـة لتنفيـذ حكـم التحكيـم الأجنبـي
     تتضمن المادة الرابعة من اتفاقية نيويورك 1958 مجموعة من الشروط الشكلية يجب على طالب التنفيذ استيفاؤها حتى يمكن النظر في تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي ومؤداها أنه:
1- على من يطلب الاعتراف والتنفيذ المنصوص عليهما في المادة الثالثة أن يقدم مع الطلب:
أ)- أصل حكم التحكيم مصدقا عليه أو صورة معتمدة من هذا الأصل تجمع الشروط المطلوبة لرسمية السند.
ب)- أصل الاتفاق المنصوص عليه في المادة الثانية أو صورة معتمدة منه تجمع الشروط المطلوبة لرسمية السند.
2- وعلى طالب الاعتراف والتنفيذ إذا كان الحكم أو الاتفاق المشار إليهما غير محرر باللغة الرسمية للبلد المطلوب فيها التنفيذ، أن يقدم ترجمة لهذه الأوراق بهذه اللغة، هذه الترجمة يجب أن تكون معتمدة من قبل مترجم رسمي أو مترجم محلف أو أحد رجال السلك الدبلوماسي أو القنصلي.
      بادئ الأمر يلاحظ على هذا النص أن اتفاقية نيويورك على عكس الحال في ظل اتفاقية "جنيف" 1927 ( م 4/1) لم تضع ضمن الالتزامات الملقاة على عاتق طالب التنفيذ أن يقيم الدليل على أن حكم التحكيم الصادر لصالحه قد صار نهائيا في الدولة التي صدر فيها.
    كما أغفلت اتفاقية نيويورك ما ذهبت إليه اتفاقية " جنيف" من التزام طالب التنفيذ بإقامة الدليل- إذا ما اقتضى الأمر ذلك- على أن:
1)- هذا الحكم قد صدر في دولة من الدول الأعضاء في هذه الاتفاقية وأن طرفي التحكيم خاضعين لقضاء هذه الدولة المتعاقدة.
2)- إن الحكم قد صدر على أثر اتفاق تحكيم ( شرط تحكيمي أو مشارطة تحكيم) صحيح طبقا للقانون الواجب التطبيق عليه.
3)- إن الحكم قد صدر من قبل محكمة تحكيمية شكلت تشكيلا صحيحا طبقا لاتفاق الأطراف وحسبما تقضي قواعد القانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم.
     في الواقع ان اقتضاء إقامة الدليل على ثبوت هذه الأمور من شأنه أن يفسح مجالا رحبا أمام الطرف الآخر، أي من صدر الحكم في غير مصلحته لإثارة الطعون ووضع العقبات والعراقيل أمام تنفيذ حكم التحكيمي لذا فقد أحسنت اتفاقية نيويورك صنعا عندما استبعدت بصفة عامة هذه الأعباء من على كاهل طالب التنفيذ علاوة على إلغائها للبند الأول إذ يتعارض مع فلسفة الاتفاقية وتوجهها نحو العالمية.
     فيكفي إذن في ظل اتفاقية نيويورك أن يقدم هذا الشخص – طالب التنفيذ- نص حكم التحكيم وكذا اتفاق التحكيم أو صورة معتمدة منها لكي نفترض أن هذا الحكم صحيح ونهائي وواجب التنفيذ، إلا بطبيعة الحال ما قد تسفر عنه الرقابة التي سيبسطها القاضي المطلوب منه الأمر بالتنفيذ ومدى تقديره للوثائق المقدمة وما قد ينتهي إليه بحثه في الاعتراضات التي قد يثيرها الطرف الآخر.
     وبالرغم من أن نص المادة الرابعة يوحي في ظاهره بالبساطة وسهولة التحديد، فإنه بنظره أكثر تعمقا سوف نجد أنه من الممكن أن يولد الخلط وتعدد التفسيرات في التطبيق.
     فإذا كانت المادة 4/1/أ من اتفاقية جنيف 1927 قد نصت على أن الرسمية الخاصة لأصل الحكم ( أيضا وبالنسبة لصورته) تتم باجتماع الشروط الخاصة بالرسمية والمنصوص عليها في قانون دولة محل صدور الحكم، فإن نص المادة الرابعة من اتفاقية نيويورك قد جاء خاليا من هذا التحديد، وتفسير ذلك كما ورد في التقرير المرفق بمشروع الاتفاقية الذي أعدته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية Ecosoc أنه من الأفضل " السماح للمحكمة المطلوب الاعتراف أو التنفيذ أمامها بقدر من الحرية تجاه هذه المسألة".
     هذه الشروط الإجرائية تدخل في الواقع ضمن الإجراءات التي تقع في نطاق اختصاص قانون القاضي  La Lex Fori، أي قاضي الدولة التي ينظر أمامها في مدى توافر صحة هذه الشروط من أجل الاعتراف بالحكم التحكيمي أو تنفيذه ومع ذلك فإنه طبقا لما ورد في التفسير المتقدم فإنه يجب على المحكمة، بغية التخفيف من على كاهل طالب التنفيذ وتحاشي العقبات التي قد توضع في طريقه، أن يبحث في رسمية السند دون التقيد بقانون واحد محدد.(30)
    ونشير في هذا الصدد إلى أن رئيس المحكمة التجارية بالدار البيضاء أصدر أمرا بعدم قبول طلب تذييل حكم تحكيمي أجنبي بالصيغة التنفيذية لكون الطالبة اكتفت بالإدلاء بأصل القرار التحكيمي ونسختين منه مع ترجمتهما إلى اللغة العربية في حين أغفلت تقديم أصل الاتفاق الذي يحتوي على شرط التحكيم أو صورة منه مشهود على مطابقتها للأصل مع ترجمته إلى اللغة العربية مطبقا في ذلك صحيح أحكام المادة الرابعة المذكورة أعلاه.(31)
- ونفس التوجه ذهب إليه رئيس المحكمة التجارية بالرباط- ( 32)
     يلاحظ ختاما أن هذا النص من اتفاقية نيويورك على عكس الحال في ظل اتفاقية جنيف 1927 ( م 3/1)، لم يضع ضمن الالتزامات الملقاة على عاتق طالب التنفيذ أن يقيم الدليل على أن حكم التحكيم الصادر لصالحه قد صار نهائيا في الدولة التي صدر فيها.

ثالثــا: إجـراءات طلـب وقـف التنفيـذ
      كما جاء في المادة السادسة من اتفاقية نيويورك، يحق للسلطة المختصة في البلد المطلوب إليه التنفيذ أن توقف تنفيذ حكم التحكيم إذا رأت لذلك مبررا، وكما هي صياغتها لا تكون كذلك إلا إذا كان قد طلب إلغاء الحكم أو وقفه أمام السلطة المختصة في البلد الذي صدر فيه الحكم أو الذي صدر الحكم بموجب قانونه، أو كما جاء بتعبير الاتفاقية " السلطة المختصة المطروح أمام محاكمها- إذا رأت مبررا- أن توقف الفصل في هذا الحكم إذا كان قد طلب إلغاء الحكم أو وقفه أمام السلطة المختصة المشار إليها في  الفقرة (ه) من المادة السابقة".
      أما الفقرة (ه) من المادة الخامسة فتجيز للدولة عدم الاعتراف وتنفيذ الحكم إذا تم إثبات " أن الحكم لم يصبح ملزما للخصوم أو ألغته أو أوقفته السلطة المختصة في البلد التي فيها أو بموجب قانونها صدر الحكم".
      ويرى بعض الفقه أن هذا النص لم يكن محكما، لأن هذه المادة أرادت أن تعطي للمحكمة المطلوب إليها التنفيذ الحق في إيقافه أو عدم إيقافه في حالة واحدة، هي أن يكون الحكم لم يصبح نهائيا في البلد الذي صدر فيه، ولم يكن قصدها إطلاق الحق لهذه المحكمة في الموافقة أو عدم الموافقة على وقف التنفيذ لأي مبرر آخر، باعتبار ما ورد في الفقرة الثانية من المادة السادسة حيث نصت على أن " ولهذه السلطة أيضا بناء على التماس طالب التنفيذ أن تأمر الخصم الآخر بتقديم تأمينات كافية"، ومعنى ذلك أن المحكمة المطلوب إليها التنفيذ لها أن تأمر بالتنفيذ حتى لو لم يكن الحكم نهائيا أو كان قد استأنف في البلد الذي صدر فيه، إذا قدم طالب التنفيذ تأمينات كافية.
      كما أن الملاحظ أن حكم المادة قد أدخل الدولة التي صدر الحكم بموجب قانونها طرفا في موضوع وقف التنفيذ عندما أحال إلى حكم الفقرة (ه) من المادة الخامسة الذي اشتمل على ذلك.(33)

الفـــرع الرابـــع
شـروط الأمـر بتنفيـذ حكـم التحكيـم الأجنبـي

      إذا تم استيفاء الشروط المتعلقة باتفاق التحكيم والإجراءات العامة التي تم شرحها في الفروع السابقة فإن محاكم الدولة التي يطلب إليها الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم ملزمة بالأمر بتنفيذه إلا إذا شابه عيب من جهة أحد الخصوم وطلب عدم تنفيذه بناء على هذا العيب، أو إذا شاب الحكم عيب قانوني وفقا لقانون المحكمة المطلوب إليها التنفيذ، فهنا لها أن ترفض الاعتراف والتنفيذ من تلقاء نفسها دون طلب من الخصوم.
أولا: رفـض الاعتـراف والتنفيـذ بنـاء علـى طلـب الخصـوم-  الشـروط الموضوعيـة السلبيـة لتنفيـذ حكـم التحكيـم غيـر الوطنـي
      إذا ما أوفى طالب التنفيذ بالالتزامات التي تلقيها على عاتقه المادة الرابعة من اتفاقية نيويورك، فإن
حكم التحكيم محل هذه المطالبة تقوم في شأنه قرينة الصحة والسلامة، وأنه من الناحية القانونية يعد هذا الحكم- في حدود المنازعة التي صدر في شأنها – نهائيا وملزما- وبالتالي واجب التنفيذ.
      ومع ذلك فإن هذه القرينة يدحضها توافر إحدى الحالات المنصوص عليها على سبيل الحصر في المادة الخامسة من الاتفاقية بحيث يشكل ثبوت أي منها سببا كافيا لرفض تنفيذ حكم التحكيم.
      وتنقسم هذه الحالات إلى مجموعتين: الأولى منها ألقت الاتفاقية بتبعة إثباتها على عاتق الطرف الذي صدر حكم التحكيم في غير مصلحته أي المطلوب تنفيذ الحكم ضد ( 5/1)، والثانية تدخل في اختصاص قاضي التنفيذ يتصدى لها ويثيرها من تلقاء نفسه وسوف نعرض لهاتين المجموعتين تبعا.
 حـالات عـدم التنفيـذ المنصـوص عليهـا فـي المـادة 5/1
    حصرت المادة الخامسة إمكانية الطرف المذكور إثارة الحالات الخمس التالية من أجل رفض التنفيذ:
- عدم صحة اتفاق التحكيم، الإخلال بحقوق الدفاع، تجاوز الحكم حدود النزاع، عدم صحة تشكيل محكمة التحكيم أو الإجراءات التحكيمية، أن الحكم لم يصبح بعد ملزما أو نهائيا.
      ولا ريب أن التصدي لدراسة هاته البنود بالتفصيل المطلوب يخرج عن نطاق هذا البحث المتواضع، باعتباره يمس جوهر التحكيم الأمر الذي يتطلب تخصيص دراسة مطولة بشأنه، ومع ذلك يمكن تلخيص هذه الحالات كالتالي:
1- عــدم صحــة اتفــاق التحكيــم
      إن مضمون الحالة الأولى موضوع المادة 5/1-أ  من الاتفاقية ينصرف إلى إلزام قضاء الدولة برفض الاعتراف وتنفيذ الحكم التحكيمي إذا ما أثبت الطرف المعني أن الاتفاق التحكيمي غير صحيح وفقا للقانون الذي أخضعه له الأطراف أو عند عدم النص على ذلك طبقا لقانون البلد الذي صدر فيه.
    لا شك أن أطراف الاتفاق التحكيمي المنصوص عليه في هذه المادة كانوا طبقا للقانون المطبق عليهم عديمي الأهلية أو أن الاتفاق المذكور غير صحيح وفقا للقانون الذي أخضعه له الأطراف أو عند عدم وجود مؤشر على ذلك طبقا لقانون البلد الذي صدر فيه الحكم. 
      و لا ريب أن الاتفاق التحكيمي يتصل بجوهر التحكيم وبالتالي فهو أساس الحكم نفسه، ومن ثمة كان طبيعيا أن يؤثر عدم صحة هذا الاتفاق على الاعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه، وقد أكدت اتفاقية نيويورك في هذا الصدد على مبدأ هام مقتضاه أن تقدير صحة الاتفاق التحكيمي يخضع بصفة عامة لقانون الإرادة.
      ومع ذلك فقد ميزت الاتفاقية من ناحية بين الشروط الموضوعية والشروط الشكلية لاتفاق التحكيم كما فرقت من ناحية أخرى في داخل الشروط الموضوعية بين شرط الأهلية وسائر هذه الشروط.
      وتأسيسا على ما سبق تكون صحة التحكيم منعدمة إذا كان أحد الأطراف غير أهل لإبرام اتفاق التحكيم أو ولوجود عيب لحق بجوهر الاتفاقية، ويشمل انعدام الأهلية غياب السلطات للاتفاق ويشير الفقه إلى أن حالة انعدام الأهلية أثيرت خلال الأعمال التحضيرية لاتفاقية نيويورك بخصوص حالات الأشخاص المعنوية كما يمكن إثارة انعدام هذه الأهلية عند إبرام اتفاقية التحكيم مع أشخاص خاضعة للقانون العام.
 و تتوفر هذه الحالة إذا كان الطرفان قد اتفقا على فسخ اتفاق التحكيم أو سقط بانتهاء مدته أو إذا لم يوجد أدنى اتفاق، و لقاضي الدولة أن يتجلى له ذلك من أوراق الملف بوضوح حتى لا يقع المساس من طرفه بالاتفاق التحكيمي.
       يجدر التذكير في هذا الصدد إلى أنه سبق للقضاء المغربي أن رفض الدفع المثار من الطرف المحكوم عليه بمقتضى حكم تحكيمي أجنبي بدعوى أنه شخص عام وأنه عندما يبرم عقدا من أجل متابعة نشاطه الإداري يخضع لأحكام القانون العام، ومن ثم فإن الحكم المذكور هو باطل لمساسه بالنظام العام، واعتبر هذا القضاء عكس ذلك لكون الطرف المذكور يتعاطى التجارة وأن أعماله بصفته مؤسسة عمومية لا تعتبر بالتالي أعمالا إدارية خلافا لدفعه ويظل خاضعا في معاملاته التجارية للقانون الخاص بالنسبة لتصريف شؤونه العادية.
       وأكد هذا القضاء صحة انعقاد مشارطة التحكيم المبرمة من الدولة والمؤسسات العمومية متى اكتسبت العقود التي من أجلها أبرمت المشارطة طابعا مزدوجا من التعاقد الدولي والقانون الخاص مثلما هو عليه الحال في النازلة التي صدر بشأنها الحكم التحكيمي.
       ويستخلص من هذا القرار توجه القضاء الوطني إلى تفعيل التحكيم التجاري الدولي متى تبين أن أشخاص القانون العام يزاولون أعمالا تجارية.
    كما أن القضاء المذكور تعرض لمسألة دقيقة تتعلق بمعرفة ما إذا كانت الصيغة المطلوب تذييل الحكم التحكيمي الأجنبي بها تنصب على هذا الحكم أم على الأمر الأجنبي الذي جعل هذا المقرر قابلا للتنفيذ، واعتبر أيضا هذا القضاء أمام سكوت قانون المسطرة المدنية عن معالجة مسألة تنفيذ المقرر التحكيمي الأجنبي المأمور بتنفيذه في بلد الصدور وجوب الرجوع إلى الفصل الثالث من اتفاقية نيويورك الذي يستفاد منه أن شروط التذييل لا يمكن أن تكون أكثر صرامة من الشروط المنصوص عليها بشأن القرارات التحكيمية الوطنية معتبرا بالتالي كفاية صدور أمر عن رئيس المحكمة في الحالتين معا.(34)

2-خــرق حقــوق الدفــاع

      منحت الاتفاقية للطرف الصادر ضده حكم التحكيم الأجنبي أن يعترض على طلب الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم إذا لم يتمكن من العلم بمباشرة التحكيم بسبب عدم تبليغه بكيفية صحيحة بجريان المحاكمة التحكيمية أو استحالة تمكنه من تقديم دفاعه، وذلك حينما نصت الفقرة " ب" من ( 1) من المادة الخامسة على ذلك الحق عن طريق إثباته: " (ب) أن الخصم المطلوب تنفيذ الحكم عليه لم يعلن إعلانا صحيحا بتعيين المحكمة أو بإجراءات التحكيم أو كان من المستحيل عليه لسبب آخر أن يقدم دفاعه".
      هذه الحالة تدخل في باب تحقيق العدالة وممارسة حق الدفاع، فإن لم يمكن الخصم من تعيين محكمه أو لم يعلن بالبدء بإجراءات التحكيم أو كان الإعلان غير صحيح، أو كان قد أعلن ولكن كان من المستحيل عليه لأي سبب من الأسباب أن يقدم دفاعه لعدم حصوله أو حصول محاميه مثلا على إذن الدخول إلى البلد الذي تقوم فيه إجراءات التحكيم بالموعد المناسب، جاز له طلب عدم الاعتراف والتنفيذ.
      ويثير هذا المقتضى تساؤلا هاما يتعلق بتحديد القانون الذي يمكن القول استنادا على أحكامه بوقوع خرق لحقوق الدفاع، ثم عن الصلة بين مضمون هذا المقتضى مع نص المادة 5/2/ب من الاتفاقية الذي يتعلق بالامتناع عن تنفيذ حكم التحكيم في حالة توفر اخلال بالنظام العام في دولة القاضي.
      يتعين التنويه في هذا الصدد إلى أن بعض المحاكم الأمريكية والإيطالية توجهت في تطبيقها لمقتضى المادة 5/1/ب إلى التأكيد على أن الغرض من القاعدة التي يتضمنها النص هو حماية الأصول المرعية للمرافعات في إطار التحكيم الدولي دون تحديد مفهوم هذه الأصول مما يتعين معه الرجوع في شأنه إلى قانون دولة تنفيذ الحكم(34 مكرر).
      ونظرا للخلاف الحاصل في هذا الشأن فإنه وفي حدود رأيي يتعين مجاراة ما نحى إليه بعض الفقه عن صواب من أن مقتضى المادة المذكورة هو تعبير عن وجود قاعدة مادية دولية لاحترام حقوق الدفاع دون الاستناد في هذا الخصوص لقانون معين.
     ويتعين أيضا في هذا الخصوص الإشارة إلى قرار مبدئي أصدرته محكمة النقض المصرية التي اعتبرت وعن صواب بأن" مفاد نص المادة 22 من القانون المدني خضوع قواعد المرافعات لقانون القاضي وذلك باعتبار أن القضاء وظيفة من وظائف الدولة يؤديها وفقا لقواعد المرافعات المقررة في قانونها دون قواعد المرافعات في أي دولة أخرى، وباعتبار أن ولاية القضاء إقليمية بما يوجب أن تكون القواعد اللازمة لمباشرته هي الأخرى إقليمية.. فإن ما اشترطته المادة الخامسة ( ب) من اتفاقية نيويورك الواجبة التطبيق لرفض طلب تنفيذ الحكم الأجنبي من تقديم الدليل على عدم إعلان المحكوم ضده إعلانا صحيحا بتعيين المحكم أو بإجراءات التحكيم أو أنه قد استحال عليه لسبب آخر تقديم دفاعه يعد من قواعد المرافعات التي تخضع لقانون القاضي".(36)
      واضح من هذا القرار أن على القاضي أن ينظر إلى ما ينص عليه قانون البلد الذي تم فيه التحكيم لضمان مبدأ المواجهة، ومع ذلك يجب أن يراعي أن المادة 5/1/ب من اتفاقية نيويورك تنص على حالة مجرد ة قائمة بذاتها دون إشارة إلى قانون معين تقدر وفقا له، مما يتعين معه الرجوع في هذا الشأن إلى ما كرسته التشريعات الحديثة بالنسبة لمبدأ المواجهة المعتبر من النظام العام.
      وبديهي على القاضي الذي ينظر في طلب منح الصيغة التنفيذية أن يقدر ما إذا كان ما يثيره الطرف المعني يصل إلى درجة استحالة لتقديم دفاعه.
       وبديهي أيضا أنه إذا أثبت الطرف المذكور خرق مبدأ المواجهة، فإنه ليس عليه أن يثبت الضرر طالما أن ذلك الخرق يكفي في هذه الحالة.(37)
     ولما كان مقتضى هذه المادة يعتبر من الركائز الأساسية لإدارة المسطرة القضائية فإن للقاضي أن يثيره ولو تلقائيا.(38)

3- فصـل الحكـم التحكيمي فـي أمـر لـم يتفـق عليـه أو تجـاوز الاتفـاق
يحق للطرف المطلوب تنفيذ الحكم في حقه أن يعترض على ذلك وفقا للفقرة (ج) من (1) من المادة الخامسة من الاتفاقية إذا أثبت " أن الحكم فصل في نزاع غير وارد في مشارطة التحكيم أو في عقد التحكيم أو تجاوز حدودهما فيما قضى به".
      يتعين بادئ الأمر الإشارة إلى أن لهذا المقتضى صلة بالفقرة 1/أ من المادة 5 التي تعاقب عدم صحة الاتفاق التحكيمي.

      لذلك فإن بعض التشريعات مثل الفرنسي و اللبناني جمعت هذين المقتضيين. (  و هو ما ذهب إليه مشروع قانون التحكيم في  الفصل 46-327).
      وهذه الحالة من حالات رفض التنفيذ تؤكد من ناحية أخرى على سلطان إرادة الأطراف وعلى أن مسعى اتفاقية نيويورك الأساسي هو العمل على ترسيخ هذا المبدأ وإرساء دعائمه.
      فالمحكم يجب أن يلتزم في حكمه حدود ما تم الاتفاق عليه، فإن قضى بما لم يتم الاتفاق عليه أو تجاوز ذلك فإن حكمه يكون عرضة للبطلان، وهذا الأمر متعارف عليه في شأن التحكيم ويعد قاعدة صلبة يرتكز عليها نظام التحكيم.
      وإذا تجاوز الحكم ما هو متفق عليه، ففي الحالة التي يمكن فيها فصل الجزء الخاضع للتحكيم عن غيره مما يكون خارجا عن حدود التحكيم فإن الاتفاقية تجيز أن يتم الاعتراف وتنفيذ هذا الجزء المتفق عليه، وهذا ما يمكن أن يحصل في حالة ما إذا قام الحكم بالفصل في عدة مسائل نزاعية وكان اتفاق التحكيم يشمل بعضها فقط، مما يعني قيام الاتفاق بخصوص بعض المسائل فحسب مما يسوغ معه لقاضي الدولة أن يصدر ولو تلقائيا أمرا بتنفيذ الجزء من الحكم المتعلق به تلك النزاعات متى كان من الجائز فصل هذا الجزء عن أجزاء الحكم الأخرى وذلك استنادا على ما جاء في الفقرة ( ج) التي نصت على أنه " ومع ذلك يجوزالاعتراف وتنفيذ جزء من الحكم الخاضع أصلا للتسوية بطريق التحكيم إذا أمكن فصله عن باقي أجزاء الحكم غير المتفق على حلها بهذا الطريق ".

4- مخالفـة تشكيـل هيئـة التحكيـم وإجراءاتـه للاتفـاق أو للقانـون

      لقد  أجازت الفقرة (د) من (1) من المادة الخامسة  من الاتفاقية للخصم المطلوب تنفيذ حكم التحكيم عليه الاعتراض على ذلك إذا أثبت " أن تشكيل هيئة التحكيم أو إجراءات التحكيم مخالف لما اتفق عليه الأطراف أو لقانون البلد الذي تم فيه التحكيم في حالة عدم الاتفاق".
      إن اتفاقية نيويورك سارت على ما هو متفق عليه بشأن التحكيم بين غالبية الفقهاء من إعطاء إرادة الأطراف الحرية في اختيار هيئة المحكمين وتشكيلها وتحديد إجراءات التحكيم، غير أنها وحين عدم وجود اتفاق جعلت ذلك خاضعا لقانون البلد الذي يتم فيه التحكيم، وإن كان ذلك مقبولا بشأن تشكيل هيئة التحكيم فإنه غير مقبول بشأن إجراءات التحكيم، فالاتفاقية لم تعط للمحكم سواء أكان التحكيم تحكيما خاصا أم كان تحكيما مؤسساتيا أن يختار الإجراءات التي تتبع أمامه في حالة عدم وجود اتفاق بهذا الشأن بين الأطراف، بل أوجبت تطبيق قانون البلد الذي يجري فيه التحكيم، وهذا الحكم مخالف لما هو متفق عليه في الفقه بشأن إجراءات التحكيم، ففي حالة عدم وجود اتفاق على ذلك يعطي الفقه في غالبيته الأمر لهيئة التحكيم، فإن كان التحكيم حرا فللهيئة أن تضع إجراءاتها بنفسها، وإن كان التحكيم منظما فالهيئة تتبع الإجراءات الموضوعة من قبل مؤسسة التحكيم كغرفة التجارة الدولية بباريس أو غرفة تجارة نيويورك.. إلخ.(39)
    ومن الواضح أيضا أن هذا المقتضى أتى مؤسسا على معيارين للاختصاص أولهما مرتبط بما هو منبثق عن إرادة الأطراف وثانيهما عن مقر التحكيم.
      وتتجسم إرادة الأطراف فيما هو ناتج عن القواعد المتفق عليها المنظمة للتحكيم أو الناتجة عن إحالة لقانون أو لائحة للتحكيم، في حين لا يمكن اعتبار اختيار الأطراف لمقر معين لإجراء التحكيم بمثابة اختيار من طرفهم للقواعد المسطرية المعمول بها في هذا المقر، إذ أن تطبيق هاته القواعد رهين بغياب إرادة واضحة للأطراف.(40)
       ويرى البعض من الشراح(41) أن أي مخالفة لإجراءات التحكيم المتفق عليها من الأطراف أو تنص عليها قانون البلد الواقع فيه الاتفاق على التحكيم ( عند انعدام اتفاق على إجراءات التحكيم) يمكن التمسك بها لمنع إصدار الأمر بالتنفيذ مهما كانت هذه المخالفة.
 غير أنه رأي لا يجاريه البعض الآخر من الشراح(42) الذين اعتبروا أنه لا يمكن الأمر بالتنفيذ لمخالفة بسيطة تتعلق بتشكيل هيئة التحكيم أو إجراءات التحكيم بل يجب أن يكون من شأنها الإخلال بحقوق الدفاع، أو بضمانات تشكيل الهيئة، فضلا عن أن التمسك بهذه المخالفة لمنع الأمر بالتنفيذ يفترض أن المخالفة لم تسقط وفقا للقانون الواجب التطبيق لعدم إثارتها في الوقت المناسب أمام هيئة التحكيم.

5- عـدم نهائيـة حكـم التحكيـم

      أعطت الاتفاقية في الفقرة (ه) من (1) من المادة الخامسة للخصم المطلوب تنفيذ حكم التحكيم عليه الحق في طلب عدم الاعتراف وتنفيذ الحكم إذا لم يصبح حكما نهائيا، وذلك حين نصت على جواز ذلك إذا أثبت الخصم "  أن الحكم لم يصبح ملزما للخصوم أو ألغته أو أوقفته السلطة المختصة في البلد التي فيها أو بموجب قانونها صدر الحكم".
      فإذا لم يصبح الحكم نهائيا أو تم إلغاؤه أو وقفه من قبل محاكم الدولة التي صدر فيها، يجوز للطرف المعني المطالبة بعدم الاعتراف به وتنفيذه في الدولة المطلوب فيها تنفيذه، وهذا أمر منطقي وبديهي، فالحكم لا يحوز حجيته ولا يصبح قطعيا في إثبات الحق ما لم يكن قد أصبح نهائيا غير قابل للإلغاء أو الوقف.
      ولكن الاتفاقية أضافت عبارة لا يرى البعض من الفقه أن لها محلا باعتبار أنها نصت على: " جواز رفض الاعتراف والتنفيذ إذا أثبت الخصم أن الحكم لم يصبح ملزما للخصوم أو ألغته أو أوقفته السلطة المختصة التي " بموجب قانونها صدر الحكم".
       فالدولة التي يطبق قانونها على المنازعة موضوع الحكم ليس لها علاقة به من حيث كونه حكما أو من حيث قابليته للتنفيذ إلا إذا كان الحكم قد صدر فيها أو كان مطلوبا منها تنفيذه، أما مجرد كون قانونها قد طبق على موضوع حكم التحكيم فليس لقانونها في آلية إصدار الحكم أو تنفيذه أي أثر، وبذلك فلا يكون هناك داع لذكرها في العبارة، فكون أن الحكم لم يصبح نهائيا وفقا للقانون الذي طبق على التحكيم، ويفترض هنا أنه قانون بلد غير البلد الذي صدر فيه التحكيم أو البلد الذي يراد تنفيذه فيه، ليس له أي تأثير عليه، فلا يمكن استئناف الحكم أمام محاكم تلك الدولة أو طلب إلغائه أو وقف تنفيذه لأنها ليست لها علاقة به سوى أن قانونها قد طبق عليه، فالسلطة التي يمكن استئناف الحكم امامها هي وحدها سلطة الدولة التي صدر فيها الحكم، والسلطة التي لها إلغاء الحكم أو وقفه هي أيضا وحدها سلطة الدولة التي صدر فيها الحكم، أما غيرها من الدول فهي الدول التي يطلب منها الاعتراف وتنفيذ الحكم وهي التي لها سلطة الاعتراف والتنفيذ أو وقف التنفيذ المؤقت.
      وتطبيقا لهذه الحالة صدر حكم من محكمة في نيجيريا بإبطال حكمي تحكيم صدر في نيجيريا، وعندما طلب المحكوم له من محكمة ضاحية شمال نيويورك الأمر بتنفيذ الحكمين، رفضت الأمر بتنفيذه مطبقة المادة 5/1/ه من اتفاقية نيويورك، ومقررة أن هذا النص يجيز للمحكمة رفض الأمر بتنفيذ حكم تحكيم أجنبي أبطل أو أوقف تنفيذه من سلطة مختصة في البلد الذي صدر الحكم فيه أو الذي صدر طبقا لقانونه، وتأيد هذا الحكم استئنافيا.(43)
       ويلاحظ أن حكم البطلان لا يبرر رفض التنفيذ إلا إذا كان صادرا لإحدى الدولتين المعنيتين في النص، والقصد من ذلك حماية قرار التحكيم من الدعاوى الكيدية التي قد تقام في دول لا علاقة لها به، كما أن النص لم يذكر أسباب خاصة للبطلان.(44)


ثانيـا: حـــالات عـــدم التنفيـــذ الــمثارة تلـــقائيا من قضاء الدولة
       تطرقت المادة الخامسة بفقرتيها الأولى والثانية على الأسباب التي على أساسها يسوغ رفض التنفيذ، ويتعين الإشارة في هذا الصدد أن هذا المقتضى أتى على سبيل الاستثناء لكون الأصل هو الالتزام بالتنفيذ عند توفر شروطه.
       نستخلص أن المحكمة المرفوع إليها طلب الاعتراف والتنفيذ تستطيع رفض ذلك من تلقاء نفسها ودون حاجة لطلب الخصوم وفقا للاتفاقية في حالتين: الأولى إذا كان قانونها لا يجيز حسم النزاع عن طريق التحكيم، والثانية إذا كان الحكم مخالفا للنظام العام فيها.

1)- رفـض الاعتـراف وتنفيـذ حكـم التحكيـم بسبـب تطرقه لمسألـة لا يجوز التحكيـم فيهـا
      يمكن لقضاء الدولة أن يرفض ولو تلقائيا الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم إذا تبين له أنه قضى في مسألة لا يجيز قانونها تسوية النزاع حولها عن طريق التحكيم ( فقرة أ/ 2 المادة الخامسة).
      وثار التساؤل بشأن ما إذا كان رفض التنفيذ المشار إليه يدخل في نطاق السلطة التقديرية أم لا لقاضي الدولة، والمعول عليه بهذا الشأن أن هذه السلطة تتعلق فقط بثبوت المخالفة.
      وبناء على ذلك فإنه يجب على قاضي الدولة أن يرفض منح الصيغة التنفيذية كلما تبين له أن حكم المحكمين فصل في أحد المواضيع التي يمنع عليه ذلك.
      ولا ريب أن هذا الموضوع يعد من المسائل المعقدة التي لها امتدادات في المجال القانوني الوطني وكذا المجال الدولي، كما يمكن معالجتها في نطاق تحديد مدى صحة الاتفاق التحكيمي أو في نطاق شروط تنفيذ حكم المحكمين.
      وفي رأي الراجح من الفقه-في نظرنا- فإن قانون الدولة قد يقتصر اتصاله بالتحكيم على وجود موطن أو أموال للشخص الذي صدر الحكم التحكيمي لغير صالحه في هذه الدولة، التي لا يهمها موضوع قابلية النزاع للتسوية بطريق التحكيم بقدر ما يهم الدولة التي تم فيها التحكيم أو التي جرى التحكيم وفق قانونها.
      كذلك ليس من المنطقي أن ننظر تارة لشرط القابلية للتحكيم باعتباره من شروط صحة التحكيم ونخضعه بهذا الوصف للقانون الذي يحكم اتفاق التحكيم بصفة عامة، وهو في الغالب القانون الذي انصرفت إليه إرادة الأطراف أو ما يحل محله ثم ننظر إليه تارة أخرى باعتباره ضمن شروط تنفيذ حكم التحكيم ونخضعه في هذه الحالة لقانون دولة قاضي التنفيذ .
     ولا شك أن المسألة تكون أكثر تعقيدا في الحالة التي يقرر فيها قانون الاتفاق التحكيمي جواز اللجوء إلى التحكيم بالنسبة لمسألة ما، بينما أن قانون دولة التنفيذ يقضي عكس ذلك بخروج هذه المسألة من نطاق المسائل التي يجوز فيها اللجوء للتنحكيم.
      وفي مجال القانون الدولي الاتفاقي، فقد عالجت الاتفاقيات الدولية المعنية هذا المحظور لكنها واجهت صعوبة إيراد قائمة متكاملة، ترتضيها الدول الأطراف فيها، للمسائل التي يجوز أو لا يجوز فيها التسوية بطريق التحكيم ومن ثم فلم تورد هذه الاتفاقيات قاعدة موضوعية موحدة في هذا الشأن.(45)

      ومن أجل التضييق على الآثار المعيبة التي يمكن أن تطرأ على مثل هذه الرقابة فإن عددا هاما من الشراح اعتبروا أن رقابة قضاء الدولة لمدى قابلية خضوع النزاع للتحكيم ليس سوى مظهرا من مظاهر رقابة النظام العام الدولي.
      غير أن الواقع يخالف ذلك باعتبار أن واضعي اتفاقية نيويورك رفضوا التعديل الذي تقدم به  مندوب فرنسا الرامي إلى إلغاء الفقرة 2 من المادة 5 بعلة انعدام الموجب لمنح مدى دولي لقواعد قانونية داخلية في حين يكفي في ذلك مراعاة النظام العام الدولي.(46)
      وقد راعت الاتفاقية أن الدول تختلف في تحديد المسائل التي يجوز أو لا يجوز التحكيم فيها، لذلك فهي أخضعت الأمر لقانون الدولة التي يراد تنفيذ الحكم فيها، فإن كان هذا القانون لا يجيز تسوية النزاع عن طريق التحكيم جاز لمحاكم تلك الدولة أن ترفض الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم، وفي هذا يمكن تصور أن يجري التحكيم في دولة تجيز تسوية النزاع عن طريق التحكيم ويصدر الحكم ولكنه لا ينفذ إلا في الدول التي تجيز قوانينها حسم موضوعه عن طريق التحكيم ولا تجبر سلطات الدولة على الاعتراف والتنفيذ إذا لم يكن قانونها يسمح بذلك، ولها في هذه الحالة ومن تلقاء نفسها أن ترفض الاعتراف و التنفيذ.
      وفي محاولة لتلافي تقييمات ذاتية ومتباينة من طرف المحاكم للمواضيع القابلة للتحكيم، آقترح البعض من الشراح إضافة لائحة لتلك المواضيع تلحق باتفاقية نيويورك بمناسبة مراجعتها، غير أن هذا المقترح ظل دون أدنى متابعة.(47)
      وعلى هذا الأساس يجب على القاضي المغربي أن يرفض منح الصيغة التنفيذية لمقرر تحكيمي متى تبين له أن الاتفاق على التحكيم شمل إحدى الحالات التي لا يجوز فيها التحكيم المنصوص عليها في الفصل 306 ق.م.م.

2)- رفـض الاعتـراف والتنفيـذ بسبـب مخالفـة حكـم التحكيـم للنظـام العـام

      أوردت هذا الحكم الفقرة ب من 2 من المادة الخامسة حين نصت على جواز رفض الاعتراف والتنفيذ من قبل السلطات المختصة في البلد المطلوب إليه ذلك بقولها "( ب) أو أن في الاعتراف لحكم المحكمين أو تنفيذه ما يخالف النظام العام في هذا البلد ".   
      إن العديد من الاتفاقيات الدولية المعنية بالتحكيم تضمنت مقتضى مشابه.   
      يقصد بالنظام العام برأي مجمل الفقه: " مجموع القواعد القانونية التي تستهدف تحقيق مصلحة عامة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأفراد الذين
يجب عليهم جميعا مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها ولا يجوز لهم أن يناهضوا باتفاقات فيما بينهم حتى ولو حققت هذه الاتفاقات مصالح فردية وذلك لأن المصالح الفردية لا تقوم أمام المصلحة العامة ".
      إن للنظام العام علاقة متينة مع مبدأ القابلية للتحكيم وهذا ما نجد له صدى بمقتضى الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية الذي يمنع إجراء التحكيم في المسائل التي تمس بالنظام العام، ومن شأن الالتزام الحرفي بهذا النص استبعاد النزاع تلقائيا من نطاق التحكيم بمجرد ارتباطه بمادة تهم النظام العام.
 




   وإذا كان الفصل 306 المذكور قد وضع قاعدة جوهرية تحول دون إمكانية إخضاع منازعات
 تتعلق بمواد تهم النظام العام للتحكيم فإنه ومع ذلك لم يحدد مدلولا للنظام العام كما أنه لم يحدد أي  ضوابط يمكن أن تساعد على فهمه واكتفى النص بذكر حالاته:
النزاعات المتعلقة بعقود أو أموال خاضعة لنظام يحكمه القانون العام.
النزاعات المتصلة بتطبيق قانون جبائي.
النزاعات المتصلة بقوانين تتعلق بتحديد الأثمان والتداول الجبري والصرف والتجارة الخارجية.
النزاعات المتعلقة ببطلان وحل الشركات.
      إن التجارة الدولية وإنعاشها وتطورها هو رهين بالنظرة التي يسدلها قضاء دولة التنفيذ على مدلول النظام العام، إذ لا يخفى أن من شأن الإبقاء على نظرة تقليدية وجامدة على هذا الموضوع أن يحول دون تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية في العديد من الحالات، مما ينتج عنه عرقلة انسياب وازدهار حركة التجارة الدولية، عصب الحياة في عصر العولمة.
       لذلك بزغت إلى الوجود توجهات جديدة في الفقه والقضاء نحت إلى تبني معيار جديد لتحديد قابلية المنازعات للتحكيم وهو معيار حرية التصرف بالحقوق كما أن بعض التشريعات الليبيرالية الحديثة كالتشريعات السويسرية اتجهت إلى اتجاه آخر يتسم بليبيرالية مفرطة، وهذا ما تؤكده المادة 1030 من القانون القضائي الألماني التي تنص على أن: " كل نزاع ذو طبيعة مالية يمكن أن يكون موضوع اتفاقية التحكيم التي تتعلق بمنازعات ذات طبيعة غير مالية تنتج آثارها القانونية عندما يكون للأطراف الحرية بالمصالحة على موضوع النزاع ".
      كما أن المادة 2059 من القانون المدني الفرنسي تنص على أن " كل الأشخاص يمكنهم اللجوء إلى التحكيم فيما يتعلق بالحقوق التي يملكون حرية التصرف بها ".
     ويسير القانون البلجيكي في نفس التوجه بمقتضى المادة 1676 من القانون القضائي، كما أن الفقرة الأولى من المادة 177 من القانون الدولي الخاص السويسري تتضمن: " أن كل قضية ذات طابع مالي يمكن أن تكون موضوع تحكيم.
      ويتفوق المشرع الألماني في هذا المنحى على ما نحى إليه نظيره السويسري في هذا الشأن، إذ يعتمد معيار الطابع المالي للنزاع في التحكيم الداخلي والدولي بمقتضى المادة 1030 المذكورة ".
      فيتجلى من هذا المقتضى تبني المشرع الألماني الطابع المالي للنزاع بصورة أساسية ومعيار حرية التصرف بالحقوق ( التصالح) بصورة احتياطية.(48)
      ولا شك أنه بالنسبة للوضع على مستوى التشريع المغربي فإن الاختصاصات المحددة حصريا بمقتضى الفصل 306 ق.م.م المشار إليه أعلاه تمنع على المحكم البت في النزاعات موضوع هذا الفصل. 
     على أن البعض يرى مع ذلك أن الطابع الآمر لاختصاص المحاكم لا يؤثر على التحكيم ويعتبرون أن المحكمين غير معنيين مبدئيا بالتنظيم القضائي، لأن سلطاتهم مستمدة من الاتفاق، باعتبار أن إسناد الاختصاص الحصري للقضاء لا يعني سوى أن إرادة المشرع تتجه إلى منع إخضاع النزاع لقضاء رسمي آخر، ولا يتعارض بالتالي مع إخضاعه للتحكيم، بينما يرى البعض الآخر بأن منع التحكيم لا ينتج عن مجرد الإسناد الحصري للاختصاص، لأن هذا المنع لا يجب أن يكون مقبولا سوى في الحالة التي يترجم فيها هذا الإسناد فكرة أن تسوية النزاع بطريق التحكيم تكون بذاتها مخالفة للنظام العام.
      وينقسم الاجتهاد القضائي بين هاتين الواجهتين للنظر.(49)
     وعموما يمكن القول بازدياد ظاهرة اعتراف القضاء بعدم ملائمة المفاهيم الوطنية للنظام العام في مجال العلاقات التجارية الدولية، ومع ذلك فإن الأمر لم يخرج نهائيا عن سيطرة القوانين الوطنية.
      غير أنه مع ذلك يمكن إجمالا القول بأن من أهم الظواهر المعاصرة في نطاق آليات حل المنازعات القائمة في نطاق العلاقت الداخلية أو الدولية هو التوسع في اللجوء إلى التحكيم، وتنامي هذه الظاهرة بتقبل الاجتهاد القضائي في الكثير من الدول سيما المتقدمة لفكرة توسيع نطاق القابلية الشخصية والموضوعية للتحكيم وعدم ممانعته بل وعلى الخصوص ترحيبه بتزايد نطاق سلطات المحكيمن في مجال البت في النزاعات المعروضة عليه.
       ولا يمكن سوى أن نرصد التطور الإيجابي للقضاء المغربي في هذا الصدد الذي نحى إلى القول أن على المحكمة وهي بصدد استلهام مبادئ النظام العام المغربي في هذا الخصوص أن تسترشد بمبادئ
النظام العام الدولي بمعرفة أن النزاع مشخص وناتج عن معاملة تجارية دولية انبثق عنها وبصددها القرار التحكيمي المطلوب منحه الصيغة التنفيذية.(50)


خاتمة
حاولنا من خلال هذا البحث المتواضع التعرض إلى الرقابة القضائية اللاحقة على صدور الحكم التحكيمي الأجنبي بهدف إجراء مقاربة لهاته الرقابة التي يتولى قضاء الدولة القيام بها بكل مسؤولية     و اقتدار لحماية حقوق أطراف علاقات التحكيم التجاري الدولي و الدفع إلى الأمام بعجلة هذا القضاء الخاص الذي برهنت متطلبات التجارة الدولية حاجتها الماسة إليه كوسيلة فعالة لفض النزاعات في محيط مشبع بالطمأنينة، الأمر الذي و لا شك يؤثر إيجابيا على مجالات الاستثمار و النمو الاقتصادي و ذلك رغم النقص الذي يعرفه القانون المسطري الحالي في هذا الشأن، مستلهما هذا القضاء المبادئ و الأحكام الدقيقة التي أتت بها معاهدة نيويورك سبيلا في أداء مهمته السامية.
آملين المعذرة عن الإطالة و كذا عن الأخطاء و الهفوات التي لا بد أن تكون قد تسللت إلى هذا البحث .


تعليقات