القائمة الرئيسية

الصفحات



تأملات في جرائم الأموال العامة عبد الحق دهبي








تأملات في جرائم الأموال العامة
عبد الحق دهبي




مقــدمــة:
يقتضي الحديث عن جرائم الأموال العامة التطرق أولا لدراسة المحكمة التي أحدثت ليحاكم أمامها الأضناء المتهمون بارتكاب جرائم اختلاس وتبديد أموال عمومية، أو الرشوة أو جرائم الغدر واستغلال النفوذ، هؤلاء الأضناء الذين يكونون قد ائتمنوا على هذه الأموال، إلا أن شراهتهم ورذالتهم ونفسهم الأمارة بالسوء سولت لهم بارتكاب هذه الجرائم الساقطة .
و قد أنشئت المحكمة الخاصة للعدل سنة 1965، لتختص في متابعة المسؤولين والموظّفين في المؤسّسات العموميّة وشبه العموميّة الذين يتورّطون في جرائم الفساد المالي، وظلت تستقبل كل المشتبه فيهم من الذين ارتكبوا الأفعال السالفة الذكر. إلا أنها لقيت انتقادات شديدة من طرف كل المهتمين بحقوق الإنسان وطنيا ودوليا بحيث اعتبر هؤلاء أن هذه المحكمة استثنائية، نظرا لكون النصوص القانونية المطبقة على الأضناء المقتادون أمامها استثنائية ولا تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة، الشيء الذي أدى بالمشرع المغربي إلى أن يتدخل ليلغي هذه المحكمة لتحل محلها تسع غرف جنائية متخصصة في جرائم الأموال 1 ابتداء من تاريخ 16 شتنبر2004.
وهنا لابد أن نسجل أن إلغاء هذه المحكمة، باعتبارها محكمة استثنائية تتسم بغياب عناصر المحاكمة العادلة نظراً للمسطرة المتبعة فيها التي تبقى مخالفة لمبدأ استقلال القضاء، جاء في سياق الخطوات الإيجابية التي تحققت في مجال إصلاح و تعزيز السلطة القضائية، بما فيها إصلاح قانون المسطرة الجنائية وبعض مقتضيات القانون الجنائي، وإخراج مدونة الأسرة إلى حيز الوجود، وتنفيذا كذلك لتعليمات العاهل المغربيّ الذي أمر في بداية سنة 2003 بضرورة إعادة النظر في هذه المحكمة .
كما أنّ حذف هذه المحكمة من التنظيم القضائيّ المغربي، وإسناد الاختصاص في القضايا التي كانت تعرض عليها إلى غرف متخصّصة في محاكم استئنافيّة، هو تجسيد للرغبة في تحقيق المساواة بين المواطنين أمام القضاء، وتخويلهم نفس الضمانات والحقوق، وضرورة إعمال مبدأ الفصل بين السلط. ويندرج هذا الإلغاء من جهة أخرى، في إطار صيرورة الإصلاح الرامي إلى تحديث وعصرنة التنظيم القضائيّ المغربيّ، وتقريب العدالة من المواطنين، وتخليق الحياة العامة. 
لذا يصح القول بأن إلغاء المحكمة الخاصة للعدل والحرص على تخليق الحياة العامة ومحاربة كل أنواع الفساد المالي والانحراف يدخل في سياق بناء مشروع مجتمعي متكامل من شأنه تمكين المغرب من الانخراط في مصاف الدول الديموقراطية ومن تحقيق التنمية الشاملة بإشراك كافة الطاقات بغض النظر عن توجهاتها .
بناء على ما سبق، سنتناول بالدرس ما يمكن أن نسميه تجاوزا بـ "محاكم الأموال العامة" التي حلت محل هاته المحكمة، أو بالأحرى غرف الجنايات الخاصة بالنظر في جرائم الأموال -التي يمكن أن تشكل بحق نواة لمحاكم جنائية متخصصة– والنصوص القانونية المطبقة بهذه الغرف –الموضوعية والشكلية- ، لننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن أنواع الجرائم التي يمكن أن يحاكم بسببها مرتكبي هذه الجرائم التي تكون – كما سبق أن أسلفنا- إما جرائم اختلاس وتبديد أموال عمومية أو رشوة أو استغلال نفوذ أو غدر، لنتحدث فيما بعد عن صفة الجاني المقتاد أمام هذه الغرف الجنائية وموقف المشرع والفقه واجتهاد القضاء من مفهوم الموظف العمومي، كما سوف نتناول مفهوم المؤسسات العمومية التي قد ترتكب في حظيرتها مثل هذه الجرائم وبذلك ينعقد الاختصاص للغرف الجنائية المذكورة. وبعد ذلك نتطرق لمفهوم الأموال الخاصة منها والعامة وأنواعها، لنخلص في الأخير لدراسة القصد الجنائي بخصوص هذه الجرائم.

لذلك ستكون هذه الدراسة مقسمة إلى المحاور التالية:

الفصل الأول : مفهوم المال العام ومعيار تمييزه.

الفصل الثاني : النظام القانوني للمؤسسات العمومية بالمغرب.

الفصل الثالث : المفهوم الإداري والجنائي للموظف العمومي في التشريع والفقه والقضاء المغربي والمقارن. 

الفصل الرابع : القصد الجنائي في الاختلاس والتبديد والفرق بينهما من خلال الفقه والقانون والاجتهاد القضائي المغربي والمقارن.
الفصل الأول

مفهوم المـــــال العــــام ومعيــار تمييــزه


تحتاج الأشخاص الإدارية المختلفة في إدارتها للمرافق العامة والمؤسسات العمومية إلى أموال متنوعة، منها الثابت ومنها المنقول، وقد تكون هذه الأموال خاصة أو عامة، فالأموال الخاصة هي أموال تملكها الدولة أو الأشخاص الإدارية بغرض استغلالها والحصول على ما تنتجه من موارد مالية، وهي تماثل تلك التي يملكها الأفراد، لذا فهي تخضع من حيث اكتسابها واستغلالها والتصرف فيها لأحكام القانون الخاص.

أما الأموال العامة فهي أموال تخصص للنفع العام أي لاستعمال الجمهور مباشرة أو لخدمة مرفق عام، فهي بذلك تستهدف غرضا يخالف ذلك الذي يحكم الأموال الخاصة، الأمر الذي استتبع خضوعها لنظام قانوني يغاير ذلك الذي ينظم الأموال الخاصة في القانون المدني، وبذلك يستهدف النظام القانوني للأموال العمومية حمايته عن طريق عدم جواز التصرف فيه أو الحجز عليه أو تملكه بالتقادم.
ومن البديهي أن الدولة والمؤسسات العمومية حتى تتمكن من القيام بوظائفها كاملة، لابد من توفرها على الوسائل المادية اللازمة التي تمكنها من أجرأة وإعمال مشاريعها على أرض الواقع، إذ لابد أن تتاح لها الأموال اللازمة لتدبير مرافقها، لكن في نفس الوقت يتعين إحاطة هذه الأموال بحماية صارمة، وهذا ما يعرف بحماية المال العام.
فما هو إذن مفهوم المال العام في الفقه الإسلامي (المبحث الأول) ، وطبيعته القانونية في القانون الوضعي (المبحث الثاني)، وما هي معايير تمييزه عن المال الخاص (المبحث الثالث).
المبحث الأول: مفهوم المال العام في الفقه الإسلامي
تنطلق نظرة الإسلام التجريدية إلى المال العام من أنه مجرد وسيلة من وسائل تبادل المنافع، وتوطيد العلاقة بين الناس، فلا قيمة ذاتية له ، ليس قطعة فنية تقتنى وليس مادة غذائية ترد، ومن تم فالعمل لمجرد كسبه لاكتنازه عملية خاسرة وصفقة بائرة . وعلى هذا الأساس فالمال في الشريعة الإسلامية وسيلة لا غاية وجد لتحقيق العدالة الاجتماعية التي ينشدها الإسلام ، فالأموال في الشريعة الإسلامية أموالا مملوكة لله، وما  وأنفقوا مماالإنسان إلا مستخلف فيها على وجه الأرض سيما وأن الله تعالى يقول:   ، فإذا استعمل هذا المستخلف تلك الأموال في غير ما يأمر بهجعلكم مستخلفين فيه  المالك الحقيقي لها، انقلبت إلى شهوة تورث صاحبها الهلاك، وتفتح على الناس أبواب الفساد .
إذن ما هو تعريف المال (المطلب الأول) وما هي تقسيماته باعتبار الهدف منه (المطلب الثاني) ثم ما الفرق بين الأموال الخاصة والأموال العامة (المطلب الثالث) .

المطلب الأول: تعريف المال لغة و اصطلاحا
يمكن أن نميز بين تعريف الأموال لغة وتعريفها اصطلاحا، فالمال في اللغة هو ما يملكه الإنسان من كل شيء ، وقد ورد استعماله بمعان متعددة، وحسب كتب اللغة فقد تحملت هذه الكلمة – المال- المعاني التالية:
• في الأصل أطلق المال على ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويتملك من الأعيان.
• المال ما يملك من جميع الأشياء، سواء كان من الأعيان أو المنافع.
• يطلق المال عند أهل البادية على الأنعام والمواشي كالإبل والغنم، يقال خرج إلى ماله أي إلى ضياعه أو إبله.
ويظهر من ترتيب هذه الإطلاقات أمران:
أ ـ إن الكلمة ظلت محتفظة بمعناها الأصلي، وقد تدرجت بين أوسع المعاني.
ب ـ إن الأشياء التي لا يملكها الإنسان فعلا كالطير في الهواء لا يطلق عليها اسم مال .
أما تعريف المال اصطلاحا فهو كل ما يمكن أن يملكه الإنسان، وينتفع به على وجه معتاد، سواء كان مملوكا بالفعل أو كان قابلا للتملك كالطير في الهواء والسمك في الماء . وهذا يعني أن المال هو كل ما يملك قيمة اقتصادية تقدر بالنقود سواه كانت في حيازة شخص وفي ملكه أو كان غير مملوك لأي شخص ما دام يقبل أن يحاز ويملك.
ويستنتج من هذا أن المال يطلق على الأشياء التي تقوم به، كالدار والقمح والكتاب، وهذا ما يسمى عند رجال القانون بالأموال المادية، كما يطلق على الحقوق المالية التي تقع على تلك الأشياء، كحق الملكية الذي يقع على الدار، وحق الانتفاع بالحبس الذي يقع على الشيء المحبس، وهذا ما يسمى بالأموال غير المادية. وهذا المفهوم للمال هو الذي تمسك به رجال القانون منذ القديم، أما المحدثون منهم فقد أصبحوا يفرقون بين الأموال والأشياء، حتى يقصرون المال على الحق الذي ينصب على الشيء، وتكون له قيمة تقدر بالنقود، أما المحل الذي ينصب عليه ذلك الحق المالي من عقار وغيره فيسمونه شيئا لا مالا، بمعنى أن حق الملكية الذي يقع على عقار مثلا يسمى حقا ماليا، في حين أن ذلك العقار يسمى شيئا.
وينبني على هذا أن كل مال يعتبر شيئا، في حين أنه ليس كل شيء يعتبر مالا لأن هناك أشياء لا تكون مملوكة لأي شخص ولا تكون موضوع الحق المالي، وذلك كالشمس والهواء والنور . 
وقد اختلفت التعريفات الفقهية حول العناصر المكونة للمال المعتبر شرعا، فصياغة بعضها تدل على أنها لا تعتبر المنافع والحقوق مالا اقتصاديا، مع أن المنافع قد تكون مقصودة لذاتها، غير أن امتلاكها لا يتم إلا بسبب حيازة أصلها. ويمكن أن نرجح أن تعريف المال هو كل ما يمكن أن يملك وينتفع به على وجه معتاد شرعي . ويتضمن هذا التعريف شرطين جوهريين لابد من توفرهما في الشيء حتى يطلق عليه اسم مال في الاصطلاح الفقهي وهما:
أولا: يجب أن يكون الشيء قابلا للتملك، أي يمكن حيازته والاستئثار به للفرد والجماعة، كالمنزل والسيارة، فالشيء الذي لا يمكن امتلاكه وإخضاعه لعملية التبادل بين الناس لا يعتبر مالا اقتصاديا، وليست له أية قيمة مالية .
ثانيا: أن يكون الشيء نافعا، أي صالحا لقضاء حاجته، أو إشباع رغبته، لا في نظر صاحبه، ولكن في نظر الشرع .
وهكذا يتضح بأن مفهوم المال، وحكمه لا يكونان واضحين إلا بوضعهما في الإطار الفقهي المتكامل، فنظرة الإسلام إلى المال نظرة موضوعية، فهو وسيلة لا غاية، وجد لتحقيق العدالة الاجتماعية التي ينشدها الإسلام مما يعني أن للمال وظيفة اجتماعية هدفها إسعاد المجتمع وقضاء حاجياته ومصالحه .
و قد انقسم الفقه في تعريفه للمال العام إلى ثلاثة أقسام: 
1 ـ فريق منهم اعتمد على عنصر المنفعة، فعرفوه بأنه كل شيء يحقق للإنسان منفعة ما، وكونه قابلا للتملك الخاص.
2 ـ فريق ثاني اعتمد على عنصر الملكية، فعرفوا المال بأنه كل شيء يصلح في ذاته لأن يكون محلا لحق مالي يدخل في تقدير ذمة شخص طبيعي أو اعتباري.
3 ـ فريق ثالث اعتمد على فكرة الذمة المالية، فعرفوا المال بأنه سائر العناصر الإيجابية للذمة المالية .
وعلى الرغم من اختلاف التعاريف في صيغتها، فهي تشترك في عدم حصرها للأموال فحسب وإنما تتناول الحقوق أيضا .
المطلب الثاني: تقسيم المال باعتبار الهدف منه
بما أن الإسلام جعل بنصوصه حرمة للمال، وجعله من الضروريات للحياة، فإنه يمكن تقسيم المال باعتبار الهدف منه إلى أربعة أقسام، كما يلي:
q تقسيم المال بحسب ثبوت القيمة
ينقسم المال باعتبار ثبوت القيمة المالية إلى قسمين متقوم وغير متقوم، فالمراد بالمال المتقوم، هو ما كان مملوكا منتفعا به بوجه شرعي معتاد، كالمنزل، والسيارة، والكتاب . وهو وحده الذي يصلح مجالا للمعاملات المالية وفي حالة التعدي عليه، فإن متلفه يلزم بضمان قيمته ، إن كان قيميا، أو مثله إن كان مثليا،كما قد يكون عينيا كالأمثلة المتقدمة، وقد يكون منفعة كسكنى دار، وركوب سيارة .
ويعتبر المال غير متقوم إذا كان غير مملوك لأحد كالطير في الهواء، أو كان مملوكا بالفعل لكن المشرع حرم الانتفاع به لاعتبارات صحية وخلقية واجتماعية كالخمر، والمخدرات، والخنزير، والسم، وما شاكل ذلك مما هو رجس أو نجس.
ولا يلزم في المال غير المتقوم ضمان في حالة التعدي عليه، فمن أتلف خمرا أو حال دون تسلم مال القمار والربا لا يكون عليه ضمان. وتأسيسا على ذلك فهذا المال لا يصح أن يكون استهلاك أو رأس مال الاستثمار .
q تقسيم المال بحسب الطبيعة الذاتية
ينقسم المال بحسب الطبيعة الذاتية إلى مثلي ومقوم، فالمال المثلي هو ما يعرف بعينه، ولا تتفاوت آحاده وأوصافه تفاوتا يعتد به، بحيث يوجد له نظائر في الأسواق، ويجوز أن يقوم نظير له من جنسه ونوعه مقامه عند الوفاء، ومثاله عروض التجارة المتحدة الجنس الموجودة بكثرة عند التجار وما تمت صناعته بواسطة الآلة وكان من نوع واحد لعدم تفاوت إجراء وحداته.
أما المال المقوم فهو كل ما يعرف بعينه، وتتفاوت آحاده وأوصافه تفاوتا كبيرا في التجارة والمعاملات، كالحيوان، والعقارات، وكذا سائر عروض التجارة المختلفة الجنس. ومنه ما لا يكون كذلك، ولكن لا توجد له نظائر في الأسواق ككتاب مخطوط، أو ثوب منسوج باليد، نظرا للاختلاف في إتقان النقل أو جودة الصنعة .
q تقسيم المال بحسب الثبات والحركة
ينقسم المال بحسب الثبات والحركة إلى عقار ومنقول، ويختلف المالكية مع غيرهم في تعريف العقار والمنقول، نظرا لاختلاف وجهة النظر في بعض المنقولات، هل هي من الصنف الأول أو الثاني.
فبالنسبة للعقار عند المالكية فهو كل متمول له حيز ثابت فيه، ولا يمكن نقله من مكان إلى آخر دون إتلاف، سواء كان ذلك من أصل خلقته أو بصنع صانع، كالأرض والمناجم والبناء والشجر . ويرى غير المالكية من حنفية، وشافعية، وحنابلة، أن العقار هو كل شيء لا يمكن نقله من مكانه أبدا، وهذا يعني أن كلمة العقار لا تنطبق إلا على الأرض، أما الشجر، والبناء فلا تسمى عقارات، لأنها لا يمكن نقلها .
وعلى هذا يكون العقار عند المالكية أعم من العقار عند غيرهم، وعلى هذا الأساس تكون أنواع العقار عندهم ثلاثة:
أ ـ عقار بطبيعته، كالأراضي الزراعية والمنشآت العمرانية.
ب ـ عقار بالتخصيص، وهو المنقول الذي يضعه مالكه في عقار مملوك له، إما لخدمة العقار وإما لاستغلاله.
ج ـ عقار بالإلحاق، هو عبارة عن جميع الحقوق التي تقع على عقار، وكذا الدعاوى التي ترمي إلى استرجاع عقار . 
أما المال المنقول عند المالكية فهو ما أمكن نقله بدون إتلاف، وكان متحركا بطبيعته، أو بفعل فاعل، كالأثاث والملابس والأسلحة والآلات والماشية والبواخر ومواد البناء قبل استعمالها، والأسهم المالية والصكوك والوثائق . وهو على نوعين : المنقول الحقيقي، وقد سبق التمثيل له، والمنقول الاعتباري، أو ما يسمى بالحقوق الذهنية، كحق الملكية الأدبية، وحق الاختراع وحق المعاملات التجارية.
ويرى غير المالكية أن المنقول هو ما أمكن تحويله من مكان لآخر، وهو ما على الأرض من زرع وشجر وبناء، وعلى هذا يكون المنقول أعم مما عند المالكية كما هو واضح.
وتظهر فائدة تقسيم المال إلى عقار ومنقول في الآتي:
ـ العقار وما ألحق به تصح فيه الشفعة، دون المنقول الحقيقي أو الاعتباري.
ـ لا خلاف في جواز وقف العقار، وفي صحة وقف المنقول خلافا وتفصيلا.
ـ بيع العقار قبل قبضه جائز بخلاف المنقول.
ـ المفلس يباع عليه ما يملك من منقول لوفاء دينه، ثم العقار إن لم يكن المنقول.
ـ العقار له شخصية ثابتة، على عكس المنقول فإنه دائم الاختلاف والتحويل. 
q تقسيم المال بحسب النماء أو الاستهلاك 
يمكن تقسيم المال بحسب النماء أو الاستهلاك إلى مال نام ومال غير نام، فالمال النامي هو كل ما كان قابلا للنماء وفارغ من الحاجة الأصلية. وعلى سبيل المثال، فمن تملك رصيدا من النقود، فهذا الرصيد المالي يعتبر قابلا للنماء والزيادة فيه، إذ باستطاعة مالكه أن ينميه عن طريق استثماره وتوظيفه بأن يجعله رأس مال تجاري أو فلاحي أو صناعي، مما يدر عليه ربحا أو غلة للتسوية .
أما المال غير النامي فهو ما كان مشغولا بالحاجة الأصلية، كالتغذية والملبس والمسكن والأثاث وأدوات العمل اليدوي ومعدات الإنتاج الآتية بصفة عامة .
لذا فإن الفلسفة المالية في النظرة الإسلامية، أكدت على أن تجعله وسيلة لتعاملنا، وأداة خاضعة لإرادتنا، بشرط أن يتم ذلك في إطار توزيع عادل، وتنظيم اجتماعي أساسه التكافل، ومساهمة الأفراد في عملية النهوض بالمستوى الاجتماعي. ومن هنا يتضح بأن الحيازة للأموال، سواء كانت منقولة أو غير منقولة من مصادرها المشروعة تعتبر في حقيقتها ملكية انتفاع مؤقتة بأجل لتحقيق الاستفادة منها بالحق والعدل، وسواء كانت الأموال خاصة أو عامة، فإن الإسلام حرم التعدي عليها، فقرر عقوبات على السرقة والغصب والسلب والغش والجباية الظالمة ونحوه.
المطلب الثالث: الأموال الخاصة والأموال العامة
لتحقيق العدل الاجتماعي والتوازن بين حقوق الأفراد بعضهم بعضا وبينهم وبين حقوق الجماعة أو الأمة حث الإسلام على حفظ المال سواء كان خاصا أو عاما، ودعا إلى تنميته واعتباره أمانة في يد من أؤتمن عليه، وكل من عمل على سرقته أو اختلاسه أو تبديده أو إتلافه أو تصرف فيه بطرق غير شرعية فإنه يعاقب بعقوبة مشددة محددة شرعا بغض النظر عن هذا المال إن كان خاصا أو عاما.
إن الأصل في شريعة الإسلام أن كل من كان أهلا للتملك فله أن يستعمل حقه في تملك ما يعتبر مالا مشروعا على أن يأتي تملكه بسبب مشروع من شراء أو قبول هبة أو إرث أو ما إلى ذلك .
ومن هنا نلاحظ أن الإسلام يحمي حق التملك الشرعي في هذه الحدود، قال تعالى: ]فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون[ ، وقال النبي محمد r "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه". فالتملك الشرعي حق مقرر للفرد تحميه الدولة، ودفاع المالك عن ملكه حق شرعي ، لأن المال الذي نشده الإسلام هو الذي يكسبه الإنسان بالطرق المشروعة بكده واجتهاده وسعيه يقول الرسول r : "إن أفضل الكسب كسب الرجل من يده" .
وبما أن الإسلام اعترف بالملكية الفردية أو الخاصة فإنه منع أكل أموال هؤلاء الأفراد بالباطل ، قال الله تعالى: ]ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون[ ، وأكل أموال الناس بالباطل على أوجه، منها السرقة ومنها الاختلاس ومنها الرشوة .
وحفظ المال من مقاصد الشريعة الأساسية كما قرر الفقه لأن الأموال المتداولة بأيدي الأفراد تعود منافعها على أصحابها وعلى الأمة كلها وعلى هذا أوجب الحفاظ عليها، وبذلك يتحقق العدل الاجتماعي، والتوازن بين حقوق الأفراد بعضهم بعضا وبينهم وبين حقوق الجماعة .
وهكذا يتبين بأن الإسلام لم يكتف باعترافه للفرد بحق تملك الأموال بل عمل على صيانة هذا المال وحفظه لصاحبه من السرقة أو النهب أو السلب، أو الاختلاس بأية طريقة من الطرق أو المصادرة بوضعه الحد والردعة لكل من يتعدى على مال الغير .
وكما أقر الإسلام منذ ظهوره الملكية الفردية، أقر في نفس الوقت الملكية الجماعية، وجعلهما تعيشان معا جنبا إلى جنب في انسجام كامل وتوافق تام قصد إيجاد توازن اقتصادي داخل المعادلة الاجتماعية بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة أو الأمة الإسلامية، ولأجل ذلك بمجرد أن عم الأمن وأخذت التجارة تزدهر بادر الرسول ٍr إلى تأسيس بيت مال المسلمين، إذ منذ ذلك الوقت أصبحت للمسلمين خزينة عامة تجمع بها موارد الدولة، وتصرف من دخلها النفقات.
وإن كانت الموارد والنفقات التي تشكل ميزانية الدولة لم تكن على النمط المتعارف عليه في المفهوم المالي الحديث، إذ كانت أموال الدولة الإسلامية – آنذاك- حرفة تستجيب لمتطلبات الأمة وما تقتضيه مصلحة الدين الإسلامي .
وكانت موارد الدولة الإسلامية تشكل الخراج، والجزية، والزكاة، والفيء، والغنيمة، والعشور، وميراث من لا وارث له، ومداخيل الوقف ، والتبرعات الخصوصية وغير ذلك من المعادن والركاز، وهذه الموارد تدخل في ملك الدولة الإسلامية، وتصرف في الأموال العامة؛ وليس للحاكم أن يستأثر بها أو يؤثر بها أحدا :
✔ الخــراج : وهو ما وضع على رقاب الأرضيين من حقوق تؤدى عنها، أو هو جزية الأرض وحق يتعلق برقبتها زرعت أم لم تزرع...
✔ الـفـــيء: هو ما غنمه المسلمون من أموال الكفار المنقولة وغير المنقولة مما لا يؤجل عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، وذلك مما يتركه الأعداء رعبا وخوفا عند فرارهم من المسلمين أو أنهم يجلون عنه ويتركونه.
✔ الغنيمــة: الغنائم هي الأموال التي جاءت من وراء قتال وحرب وهي ما غنمه المسلمون وغلبوا عليه.
✔ الجزيــة: هي مبلغ معين من المال توضع على الرؤوس، وتسقط بالإسلام، وهي ثابتة بنص القرآن لقوله تعالى: ]قاتلوا الذين لا يومنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية...[ .
✔ الـعشــور: هي الضرائب التي كانت تفرض على أموال التجارة الصادرة من البلاد الإسلامية والواردة إليها، وهذا ما يسمى في العصر الحالي بالضرائب الجمركية.
✔ الـركــاز: هو ما وجد من أموال الجاهلية مدفونا بالأرض أو على ظهرها عينا كان أو عرضا من نحاس أو لؤلؤ أو طيب أو غيرها ويجب فيه الخمس لبيت المال، والباقي لمالك الأرض إن كان .
✔ مال من مات ولا وارث له : جاء في الجواهر، وإذا عدمت المعصوبة من جهة القرابة... فالمال لبيت المال، لأن بيت المال وارث من لا وارث له .
✔ المال الذي ظل صاحبه وجهلت أربابه والمراد منه غير اللقطة : فأموال الغياب الذين ثبتت وفاتهم أو تقررت وفاتهم قضائيا أو احتملت وفاتهم بعد مرور ثمانين (80) سنة ففي هذا الحالات، وفي غياب ورثة معروفين لهؤلاء تفتح تركتهم ويتولاها بيت مال المسلمين .
✔ أراضـي الحبـس: تعتبر جزءا من الملكية العامة ، فأملاك الحبس شأنها شأن الأملاك الجماعية تتمتع بنظام حمائي خاص من حيث عدم قابليتها للتفويت والتقادم بحيث إن هذا النظام الاستثنائي، وعلى خلاف نظام الأملاك الجماعية يضمن لأملاك الحبس – مبدئيا على الأقل- حماية قائمة بحكم تخصيصها بموجب عقد تأسيس الحبس الذي يضفي على المال المحبس صفة عدم قابليته للتفويت والتقادم. 
وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يميز إذن أموال الحبس عن أموال الدولة الخاصة؟ نعتقد أنه بعد اضمحلال الغاية الأصلية للحبس المنصوص عليها في عقد تأسيس الحبس ذاته؛ قد يصبح المال المحبس مع مرور الزمن حرا طليقا من إرادة المحبس، ويصبح بإمكان إدارة الأحباس توظيف هذا المال في إطار أشمل وأرحب للنفع العام، وهذا ما يغير جوهريا من نظام مال الحبس، فمن مال غير قابل للتنفيذ والتقادم مبدئيا يصبح هذا المال أو على الأقل بعضا من عناصره قابلا للتفويت والتقادم .
✔ الزكـاة أو الصدقــة: وتجبى في الأموال المرصدة للنماء، إما بنفسها وإما بالعمل فيها، ويقوم عمال الحكومة بجباية زكاة الأموال الظاهرة كالمواشي (الغنم والبقر) والمنتجات الزراعية (الزرع والثمار...) . أما زكاة الأموال الباطنة كالذهب والفضة فتترك للفرد.
ومن خلال ما ذكر يتبين أن كل الأموال ذات النفع العام تدخل تحت نفوذ الدولة حتى وإن وجدت بخلق الله تعالى كالمعادن والنفط والأحجار والماء والكلأ والنار، أو بفعل فاعل كالمساجد والمدارس والطرقات والأنهار والترع والقناطر والجسور والسكك الحديدية وخطوط النقل الجوية والبحرية والمتاحف ومكاتب الدولة والحدائق العامة وأملاك بيت المال . 
فكل هذه الأموال وما شابهها من أموال أخرى من المنافع العامة لا تؤدي غايتها إلا إذا كانت للجماعة أو الدولة، وعلى هذا لا يصح بيعها أو تفويتها إلا لضرورة أو مصلحة رابحة كالحاجة إلى ثمنها أو الرغبة فيها بضعف الثمن ونحوها، لأن أموال الدولة كأموال اليتيم عند الوصي لا يتصرف فيها إلا للحاجة. ففي هذا الصدد قال عمر بن الخطاب (ض): أنزلت نفسي من بيت مال المسلمين بمنزلة وصي اليتيم .
✔ الـهـبــات: الهبات تبرعات ممنوحة لاعتبارات دينية أو اجتماعية أو سياسية أو شخصية من قبل أشخاص خاصة لفائدة أشخاص عامة، والدولة كشخص عام مؤهلة بالدرجة الأولى لتلقي الهبات من القيم المنقولة والعقارات .

يتبين مما سبق أن الإسلام اعتبر الأموال لله، وأن الإنسان يتصرف فيها لأجل تلبية حاجياته، وبتصرفه فيها تنمو وتزداد.
والأموال إما خاصة أو عامة، أي للفرد أن يملكها ويتصرف فيها لنفسه، وللدولة -أيضا- أن تملكها وتتصرف فيها. وأموال الدولة باعتبارها أموالا عامة فهي غير قابلة للتفويت أو التصرف فيما لا يخدم الصالح العام. والأموال التي يمكن أن تكون في ملك كل من الأفراد أو الدولة قد تكون منقولا أو عقارا.
ونظرا لما للأموال من أهمية فإن الإسلام أحاطها بسياج من القوانين الرادعة لكل من سولت له نفسه اختلاسها أو تبديدها أو سرقتها أو عمل على حيازتها بأي طريقة من الطرق الغير المشروعة.
المبحث الثاني: الطبيعة القانونية للمال العام في القانون الوضعي
ليس هناك تعريف جامع ومانع لمفهوم المال العام، إذ هناك جملة من التباينات في القانون المقارن أثناء معالجتها لهذا المفهوم.
ويمكن أن نعتبر الأموال العامة كل ما تملكه الدولة وسائر الأشخاص المعنوية العامة من أموال عقارية ومنقولة وتخصص لتحقيق المنفعة العامة سواء بطبيعتها أو بتهيئة الإنسان لها أو بنص تشريعي صريح.
لقد انقسم فقهاء القانون عند تعريفهم للمال العام إلى ثلاثة أقسام:
ـ فريق منهم اعتمد على عنصر المنفعة، فعرفوا المال بأنه كل شيء يحقق للإنسان منفعة ما ويكون قابلا لتملك الخاص.
ـ وفريق ثان اعتمد على عنصر الملكية، فعرفوه بأنه كل شيء يصلح في ذاته لأن يكون محلا لحق مالي يدخل في تقدير ذمة شخص طبيعي أو اعتباري.
ـ وفريق ثالث اعتمد على فكرة الذمة المالية، فعرفوا المال بأنه سائر العناصر الإيجابية للذمة المالية.
وعلى الرغم من اختلاف التعاريف في صيغتها، فهي تشترك في عدم حصرها للأموال العامة في الأشياء فحسب وإنما تتناول الحقوق أيضا. 
وللوقوف عند مفهوم المال العام يتعين التطرق تباعا في مطلب أول لهذا المفهوم في القانون المقارن، وفي مطلب ثان نعرض لتعريف التشريع المغربي للمال العام.
المطلب الأول: تعـريف المـال العـام في القانون المقارن

وبالنظر إلى مختلف التشريعات المقارنة، نجد أن مسألة إيجاد تعريف دقيق وشامل حظيت باهتمام أغلبها، فالتشريع الفرنسي يعتريه غياب معيار واضح للمال العام بحيث عمد المشرع إلى البحث عن المعيار المميز للمال العام عن المال الخاص.
ولا شك أن البحث في هذا المعيار يجب أن يبدأ بالتشريع، فهل تضمن التشريع الفرنسي معيارا لهذا التمييز؟
إن أول ما يصادفنا في هذا الصدد نصوص المادتين الأولى والثانية من "مجموعة دومين الدولة « Code du domaine de l’état » الصادر سنة 1957 تحت رقم 1336 حاول فيها واضعو هذه المجموعة وضع معيار لتعريف المال العام يفرقه عن المال الخاص المملوك للدولة، فنصت المادة الأولى على أنه: "يتكون الدومين القومي من جميع الأموال والحقوق المنقولة والعقارية المملوكة للدولة"، ونصت المادة الثانية على أن "الأموال المشار إليها في المادة السابقة التي لا تقبل الملكية الخاصة بسبب طبيعتها أو بسبب التخصيص المرصود من أجله تعتبر من توابع الدومين العام"، أما ما عداها من أموال فتتكون من "الدومين الخاص" .
والواقع أن هذا النص تضمن تعريفا للمال العام فحواه أن الأموال العامة هي الأموال التي لا تقبل التملك الخاص إما بسبب طبيعتها أو بسبب التخصيص الذي أعدت له، إلا أن المشرع الفرنسي لم يضع حصرا شاملا للأموال العامة، إذ أن هناك جملة من النصوص القانونية المنظمة للأموال العمومية كالتشريع الصادر في 18 أبريل 1953 الذي اعتبر في مادته الثانية الطرق السيارة Les autoroutes من عداد الأموال العامة.
وإذا كان المشرع الفرنسي قد تدخل بطريقة إيجابية فاعترف بالصفة العامة لبعض الأموال على النحو السالف إيضاحه، إلا أنه تدخل (في بعض الحالات) لينفي الصفة العامة عن بعضها الآخر. مثال ذلك عندما قرر اعتبار الطرق الزراعية Les chemins ruraux من أموال "الملك" الخاص لا من أموال "الملك" العام بالأمر الصادر في 7يناير 1959. 
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التشريع الفرنسي لم يتضمن معيار علميا واضحا يمكن الاعتماد عليه لتمييز الأموال العامة عن الأموال الخاصة، ولم يتضمن هذا التشريع حصرا شاملا لهذه الأموال.
لذلك وقع على عاتق الفقه والقضاء الفرنسيين عبء محاولة وضع معيارا محدد للأموال العامة تمييزا لها عن الأموال الخاصة، فكان دورهما إذن في هذا الشأن دورا منشئا وخلاقا، والحقيقة أننا لا نكاد نعرف نظريات قانونية اختلفت في ما بينها كتلك التي ساقها أصحابها للبحث عن معيار محدد للتفرقة بين المال العام والمال الخاص المملوك للإدارة، وعلى الرغم من تعدد هذه النظريات وتباينها، إلا أنه يمكن ردها إلى اتجاهات ثلاثة:
الاتجـاه الأول: تمثله مدرسة "التوجه الطبيعي" وتشتمل على النظريات التي تربط الصفة العامة للمال بطبيعة المال ذاته.
الاتجـاه الثانـي: تمثله مدرسة "التوجه التخصيصي" وتضم النظريات التي يرى القائلون بها أن التخصيص للمنفعة العامة هو السمة المميزة للمال العام.
الاتجـاه الثالث: يرى أنصاره تأسيس معيار المال العام خارج فكرة التخصيص و وجوب الربط بين الصفة العامة للمال وإرادة المشرع .
أما المشرع المصري فقد توسع في مدلول المال العام في جرائم الاختلاس والتبديد وغيرها من الجرائم المالية، فالمشرع لم يقتصر في تحديده للمال العام على المعيار الوارد في المادة 87 ـ البند الأول مدني ـ التي تنص على أنه: " تعتبر أموالا عامة العقارات والمنقولات التي للدولة أو الأشخاص الاعتبارية العامة، والتي تكون مخصصة لمنفعة عامة بالفعل أو بمقتضى قانون أو مرسوم أو قرار من الوزير المختص"، بل جاء نص المادة 119 من قانون العقوبات الذي حدد ما يعد أموالا عامة في جرائم هذا الباب، فنصت هذه المادة على أنه "يقصد بالأموال العامة في تطبيق أحكام هذا الباب ما يكون كله أو بعضه مملوكا لإحدى الجهات الآتية أو خاضعا لإشرافها أو لإدارتها:
ـ الدولة أو وحدات الإدارة المحلية.
ـ الهيئات العامة والمؤسسات العامة ووحدات القطاع العام.
ـ الاتحاد الاشتراكي والمؤسسات التابعة له.
ـ النقابات والاتحادات.
ـ المؤسسات والجمعيات الخاصة ذات النفع العام.
ـ الجمعيات القانونية. 
ـ الشركات والجمعيات والوحدات الاقتصادية والمنشآت التي تساهم فيها إحدى الجهات المنصوص عليها في الفقرات السابقة.
ـ أية جهة أخرى ينص القانون على اعتبار أموالها أموالا عامة" .
نلاحظ أن المشرع المصري قد توسع في تعريفه للمال العام، إذ لم يقتصر في إضفاء صفة المال العام على تلك الأموال المملوكة فقط لتلك الجهات ، بل أضفى تلك الصفة على الأموال الخاضعة لإشرافها أو لإدارتها ولو لم تكن تلك الأموال مملوكة لهذه الجهات.
كما أن هذا المشرع لم يعتد بمعيار صفة الشخص المالك للمال لإضفاء صفة العمومية عليه، فليس من اللازم أن يكون المال مملوكا للدولة أو أحد الأشخاص الاعتبارية العامة لإضفاء الصفة العمومية عليه، بل يكفي أن يكون مملوكا أو خاضعا لإدارة وإشراف جهة من الجهات الواردة بالمادة 119 عقوبات ولو لم تكن من الأشخاص الاعتبارية العامة مثل النقابات والاتحادات والشركات والجمعيات والوحدات الاقتصادية.
وإذا كانت جميع التشريعات المقارنة تجمع على أن الأموال العمومية هي تلك الأموال المخصصة للمنفعة العامة، وبالتالي لا يجوز في جميع الأحوال التصرف فيها أو الحجز عليها أو تملكها بمرور الزمن، فما هو موقف المشرع المغربي؟
المطلب الثاني: تعريف المال العام في التشريع المغربي
إن التنظيم القانوني للأموال العمومية جاء لأول مرة مع ظهير فاتح يونيو 1914 المعدل بظهير 29 أكتوبر 1929 عبر سبعة فصول، حيث أكد المشرع المغربي في الفصل الأول أن الأموال العمومية هي "الأملاك العمومية" التي حصرها في:
"أولا: شاطئ البحر الذي يمتد إلى الحد الأقصى من مد البحر عند ارتفاعه مع منطقة مساحتها ستة أمتار تقاس من الحد المذكور.
ثانيا: الأخلجة والمراسي والموانئ وملحقاتها.
ثالثا: المنارات والفنارات والعلامات التي توضع للإنذار بالخطر وكافة الأعمال المعدة للإضاءة والإنذار بالمخاطر في الشواطئ وملحقاتها.
رابعا: المياه التي على وجه الأرض أو تحتها ومجاري المياه والينابيع على اختلاف أنواعها. 
خامسا: الآبار المعروفة بالإرتوازية والتي يفجر منها الماء وأيضا الآبار والموارد والبحيرات كبيرة أو صغيرة والسباخ والمستنقعات والغدران على اختلاف أنواعها، وتدخل في هذا القسم سائر قطع الأراضي التي ولو كانت غير مغطاة بالماء على الدوام فهي مع ذلك غير صالحة للفلاحة اعتياديا كالمرجات وغيرها.
سادسا: البحيرات الكبيرة أو الصغيرة والمستنقعات والسباخ والآبار المعروفة بالارتوازية وسائر الآبار والموارد العمومية.
سابعا: الترع التي تسير فيها المراكب والتي تستعمل للري أو التي تجفف وتعتبر أشغالا عمومية.
ثامنا: الحواجز والسدود والقنوات والأشغال التقنية وغيرها مما يحدث بصفة أشغال عمومية وذلك لوقاية الأراضي من طغيان المياه أو لحاجات المدن أو لاستخدام قوة الماء.
تاسعا: الطرق والأزقة والسهول والسكك الحديدية الخارجية والكهربائية والجسور، وعلى العموم الطرق الموصلة أيا كان نوعها التي يستخدمها العموم.
عاشرا: الأسلاك التلغرافية والتلفونية والأبنية الحديدية المعدة للتلغراف اللاسلكي.
حادي عشر: كل الاستحكامات والتحصينات المتعلقة بالمواقع الحربية والمراكز العسكرية وتوابعها، وعلى العموم كل الأراضي والأعمال التي لا يمكن للأفراد أن يمتلكها لأنها مشاعة".
إن أهم ما يلاحظ على هذا النص، أساسا:
ـ أن المشرع المغربي أورد أمثلة لما يعتبر مالا عاما، أما ما دون ذلك فقد ترك للقاضي وفقا لكل حالة أن يحدد ما يعتبر من مرادفات المال العام.
ـ لكي تكون هذه الأملاك عمومية يجب أن تكون ملكا عموميا للدولة كما جاء في ديباجة هذا الظهير.
ـ تشمل الأملاك العمومية الأموال العقارية والأموال المنقولة، سواء كانت هذه الأموال مخصصة للاستعمال المباشر للجمهور أم كانت مخصصة لخدمة المرافق العامة.
كما ينص الفصل الثالث من ظهير 29 أكتوبر 1929 على أنه: "يجب على من له ملك خاص أن يتحمل الواجبات المتعلقة بالمرور وبالجولان في ملكه ويجعل جميع أنواع الآلات اللازمة لإحداث الأسلاك التلغرافية والتلفونية والأبنية الحديدية المعدة للتلغراف اللاسلكي ولمواصلات القوة الكهربائية الداخلة في عداد الأملاك العمومية ولصيانة جميع ما ذكر وللاستغلال به" .
ونتيجة لفكرة أن الدولة تتولى حماية الأموال العمومية بنصوص قانونية لضمان استغلالها بالطريقة الأصح من طرف الدولة والمؤسسات العمومية خدمة للنفع العام، فإن التشريع المغربي إضافة إلى الأحكام التي تحمي المال العام من التصرفات المدنية كعدم قابلية المال العام للتملك، وعدم قابليته أيضا للحجز عليه أو التصرف فيه، فإنه عني بتقرير حماية خاصة للمال العام وجعل من كل اعتداء أو تعطيل أو إضرار بمنافعه العامة عقوبة جنائية يعاقب عليها طبقا للفصول 586، 587، 590، 591، 592 و595 ... من القانون الجنائي المغربي، وذلك ليس فقط في حالة الاعتداء العمد بل وحتى في حالة الاعتداء الخطأ الناشئ عن الإهمال وعدم الحيطة.
المطلب الثالث: معيار تمييز المال العام عن المال الخاص
ثمة جملة من معايير تمييز المال العام عن المال الخاص إذ ليس هناك معيار محددا لتمييز الأموال العامة المملوكة للدولة عن الأموال الخاصة، ففيما ذهب اتجاه من الفقه يمثله الفقيه الفرنسي "برودون" إلى تقسيم هذه المعايير إلى ثلاثة اتجاهات، أولها تمثله مدرسة "التوجه الطبيعي" وتشتمل على النظريات التي تربط الصفة العامة للمال بطبيعة المال ذاته، ومن أشهر أنصار هذه النظرية الفقيه "برتلمي" الذي يقول بأن كل مال يعتبر غير قابل للتملك الخاص إنما هو وثيق الصلة أو النفع بالجمهور مثل الطرق والأنهار. 
وثانيها تعرف بمدرسة التوجه التخصيصي بحيث تركز على أن التخصيص للمنفعة العامة هو السمة المميزة للمال العام، ويدعي أنصار هذا المذهب ومنهم الفقيهان "جيز" و "دوكي" أن المرفق العام هو من أشخاص القانون الإداري والمال المخصص له يعتبر مالا عاما. 
وثالثها يقوم على أساس أن معيار المال العام خارج فكرة التخصيص ووجوب الربط بين الصفة العامة للمال وإرادة المشرع، ومن أنصار هذه النظرية "أندري هوريو" حيث يدعي بأن كل ما يخصص للنفع العام يعتبر من الأموال العامة سواء كان ذلك المال المخصص لخدمة الجمهور مباشرة أو بصورة غير مباشرة عن طريق مرفق عام .
وبعيدا عن هذا التحليل نصادف تحليلا أقرب إلى الدقة يقوم على معيارين رئيسيين، أولهما معيار التخصيص للمنفعة العامة، وثانيهما معيار التخصيص لاستعمال الجمهور:
معيار التخصيص للمنفعة العامة : ويعد هذا المعيار أكثر المعايير وضوحا وانضباطا وتجاوبا مع مقتضيات المصلحة العامة لذلك أخذت به معظم التشريعات المعاصرة كالتشريع المصري والمغربي.
لقد اتجه الرأي الراجح في الفقه والقضاء تفاديا للانتقادات الموجهة إلى معيار التخصيص لاستعمال الجمهور (الذي نعرضه في النقطة الموالية) إلى الأخذ بمعيار مزدوج قوامه التخصيص لاستعمال الجمهور والتخصيص للمرافق العامة وبذلك تشمل الأموال العامة والأموال المخصصة للاستعمال المباشر للجمهور وكذلك الأموال المخصصة لخدمة المرافق العامة، أي المخصصة للمنفعة العامة بصفة عامة.
وطبقا لهذا المعيار تعتبر أموالا عامة كل الأموال المملوكة للدولة أو لغيرها من أشخاص القانون العام والمخصصة للمنفعة العامة مهما كانت أهميتها المادية وقيمتها المنفعية سواء كانت هذه الأموال معدة لخدمة الجمهور مباشرة كالطرق وشواطئ البحار أو كانت مرصدة لخدمة المرافق العامة فلا يستفيد منها الجمهور بطريـق غيـر مباشـر كالمصالح الحكوميـة وتجهيـزات السـكك الحديدية.
ويؤخذ على هذا المعيار أنه يوسع من نطاق مجال الأموال العامة أكثر من اللازم، فهو بالمعنى السابق يدخل في مفهوم الأموال العامة حتى الأشياء القليلة القيمة والأهمية كالأدوات المكتبية فهي بذلك تخضع بلا مبرر للحماية المقررة للمال العام.
وهذا ما دفع بعض الفقهاء لإدخال بعض التحفظات والضوابط للحد من توسيع إطار الأموال العامة ، وتبعا لذلك لا تتصف الأموال بصفة العمومية إلا إذا كانت تؤدي دورا أساسيا في خدمة المرافق أو التي تكون ضرورية لخدمتها ، بحيث لا يمكن استبدال غيرها بها بسهولة لأنها معدة إعداد خاصا للغرض المخصصة له. وبذلك تعتبر السكك الحديدية والحصون العسكرية أموالا عامة بينما لا تعتبر كذلك المصالح الحكومية التي يسهل استبدالها ونقل المصالح الحكومية منها إلى غيرها.
معيار التخصيص لاستعمال الجمهور: يعتبر هذا المعيار من أهم المعايير وأقدمها ومفاده أن الأموال المملوكة للدولة أو لأحد أشخاص القانون العام تعتبر أموالا عامة إذا كانت مخصصة لاستعمال الجمهور مباشرة، وغير قابلة للتملك سواء أكانت هذه الأموال عقارات أو منقولات وسواء أكان الاستعمال مجانيا أو مقابل رسم معين يدفعه المنتفع وسواء أكانت هذه الأموال عقارات أو منقولات، وسواء أكان الاستعمال مجانيا أو مقابل رسم معين يدفعه المنتفع، وسواء أكان الاستعمال مباحا بلا إذن سابق أم معلقا على صدور ترخيص أو موافقة بشأنه.
وطبقا لهذا المعيار تكون الأموال مخصصة للاستعمال المباشر للجمهور أي للكافة إذا كان الأفراد ينتفعون بها مباشرة أي بأنفسهم، لكن لا يتعلق الأمر بأموال مخصصة لاستعمال الجمهور إذا كان الغرض الأساسي والنهائي للأفراد الانتفاع بخدمات المرافق العامة لا الانتفاع بالأموال المخصصة لخدمة هذه المرافق، فالمنتفع مثلا بخط السكك الحديدية وجهاز الهاتف إنما يكون قد قصد الانتفاع أساسا بخدمات مرفق النقل ومرفق الاتصالات، لا الانتفاع بعربة القطار أو آلة الهاتف، وإن كان ينتفع بها من حيث الواقع.
الفصــــــل الثاني
النظـــــام القانونـــي للمؤسســـات
العموميـــة فـــي المغــرب 
في غياب وجود نص قانوني يعرف المؤسسة العمومية ، يمكن أن نعتبرها نوعا من المرافق العمومية التي تمنح لها الشخصية المعنوية ، فيكون لها بموجبها قدرا من الاستقلال المالي والإداري تجاه السلطة الإدارية التي ترتبط بها برابطة الخضوع لوصايتها . فالمؤسسة العمومية إذن هي مرفق عام يدار عن طريق هيئة عامة تتمتع بالشخصية المعنوية، ومن أجل ذلك تتمتع بنصيب وافر من الاستقلال في تسيير شؤون إدارة لا مركزية .
فعناصر هذا التعريف هي:
1 ـ المؤسسة العمومية شخص قانوني عام، ويترتب على هذا العنصر عدة نتائج منها، تمتعها بذمة مالية لتحقيق الأهداف المرسومة، ووجود مستخدمين لتنفيذ مقرراتها.
2 ـ هي شخص له شكل قانوني متميز عما هو موجود في القانون وليس له مثيل في القانون الخاص، لذلك فهي تستفيد من بعض الامتيازات الخاصة منها عدم جواز الحجز على ممتلكاتها.
3 ـ هدفها القيام بنشاط متميز يدخل في نطاق المرافق العمومية.
4 ـ ارتباطها بسلطة عامة عن طريق خضوعها للوصاية.
هكذا ومن أجل تحديد مفهوم المؤسسة العمومية نشير أولا بأن هذا المفهوم يعرف أزمة حادة، يمكن إبراز العناصر المكونة للمؤسسات العمومية حيث أن نظامها القانوني يبقى مشروطا، وفي نفس الوقت بالطبيعة العامة للمؤسسة، وكذا السمة الإدارية أو الصناعية والتجارية لنشاط المرفق العام المعني بالأمر .
لذلك سنقسم هذا الفصل إلى مبحثين رئيسيين، يتناول الأول مفهوم المؤسسة العمومية، ويهتم الثاني بكيفية إدارة المؤسسة العمومية في المغرب. 
المبحث الأول: مفهوم فكرة المؤسسة العمومية
المؤسسة العمومية في المغرب واقع متعدد الأشكال والوظائف وواقع متناقض يصعب تحديد إطارها القانوني نتيجة لعدم وجود قانون أساسي مشترك تخضع له جميع المؤسسات العمومية، لهذا السبب يذهب "كولمان CULMAN" إلى القول: "أنه لا توجد فكرة عامة للمؤسسات العامة وإنما توجد مؤسسات عامة لها أشكال وأنظمة متنوعة لا ترتكز على نظرية متجانسة .
ويرجع السبب في عدم تحديد المشرع لتعريف دقيق وموحد لمفهوم المؤسسة العمومية إلى محاولة إسباغ عدم الجمود في الفقه وترك المجال مفتوحا أمام الفقهاء للنظر في المسألة، الشيء الذي ترتب عنه عدم الاتفاق على مفهوم واحد للمؤسسة العمومية وبالتالي اختلاف التعريفات في الفقه المقارن (المطلب الأول) ، مع محاولة تأصيل مفهوم مغربي لفكرة المؤسسة العمومية (المطلب الثاني) .
المطلب الأول: تحديد مفهوم المؤسسة العمومية في الفقه المقارن
يعرف الفقهاء التقليديون المؤسسة العمومية بأنها "عبارة عن مرفق عام يدار عن طريق منظمة عامة، وتتمتع بالشخصية المعنوية مع خضوعها للرقابة الإدارية، وتتخصص في أعمال معينة طبقا لقاعدة التخصص الوظيفي"، ويشترط الفقيه الفرنسي "جيز" في المؤسسة العمومية أن يتوفر فيها عنصران: الأول هو المرفق العام والثاني هو الذمة المالية المخولة للمؤسسة المنفصلة عن ذمة الدولة .
لذا، فالفقه الفرنسي يعتبر المؤسسة العمومية بمثابة مرفق ذي مصلحة عامة يحميه القانون ويسبغ عليه الشخصية المعنوية، فالجامعة إذا كانت مؤسسة عمومية فلأن لها شخصيتها المعنوية التي لا تتجلى في منشآتها أو مالها بل في المهمة التي تؤديها أي التعليم العالي، وهذا ما حدا بالفقيه الفرنسي "فالين" إلى القول: "إنه كلما وجد مرفق عام يحقق مصالح عامة للسكان ومعترف له بالشخصية المعنوية، وجدت المؤسسة العمومية ، كما أن الفقه الفرنسي عموما يعرف المؤسسة العمومية بتعريفين، اقتصادي وقانونية .
* التعريف الاقتصادي: المؤسسة العمومية تعني وحدة إنتاج تهدف إلى إشباع مصلحة عامة في إطار اقتصاد سوقي، وبما أن الدولة تكون مالكة لجزء من رأسمالها أو كله فإن السلطات العمومية تراقب تسييرها الخاص.
* التعريف القانوني: المؤسسة العمومية هي شركة مجهولة الاسم رأسمالها كله أو في أغلبيته تملكه الدولة أو الجماعات المحلية، وبفعل ممارستها للأنشطة الصناعية والتجارية فهي تخضع إلى قسط وافر من قواعد القانون الخاص، لكن بفعل صبغتها العمومية فإنها تكون خاضعة لأنواع من المراقبة من قبل السلطات العمومية.
أما بالنسبة للفقه البلجيكي فقد ذهب إلى اعتبار أن عنصر المال هو الذي يشكل المعيار الأساسي الذي تستند إليه فكرة المؤسسة العمومية، حيث يقول أصحاب هذه النظرية "أنه لا يمكن إدارة نشاط المؤسسة العمومية إلا إذا اعترف لها القانون بميزانية خاصة بها مستقلة عن ميزانية الدولة .
وبالمقابل يميز الفقه المصري بين نوعين من أشخاص المرافق العامة، إذ اعتبر أن فكرة المؤسسة العمومية تنصب على المرافق التي تتولى القيام بخدمات صناعية أو تجارية أو فلاحية أو نقدية، بينما تدخل المرافق التي تباشر نشاطا إداريا ضمن الهيئات العامة .
إلا أن هذا الاتجاه الفقهي لم يعد له وجود، وذلك بحكم قانون 1975 الذي أزال فكرة المؤسسة العمومية واحتفظ بمفهوم الهيئات العامة دون ما النظر إلى طبيعة النشاط الذي تزاوله المرافق العامة.
يتضح إذن أن المؤسسة العمومية هي مرفق عام يدار عن طريق منظمة عامة تتمتع بالشخصية المعنوية، ومن أجل ذلك كان لها نصيب وافر من الاستقلال في إدارة شؤونه إدارة لا مركزية، فهي شخص اعتباري من أشخاص القانون العام، تمارس اختصاصات السلطة العامة، وتنوب عن الوزارة الممثلة للدولة في هذا المجال، ولو فرضنا أن المؤسسة ألغيت فإن الدولة تحل محلها وتتولى إدارتها مباشرة. 
المطلب الثاني: المفهوم المغربي لفكرة المؤسسة العمومية
إن أول ما يلاحظ على المشرع المغربي أنه يستخدم مصطلح "المؤسسة العمومية" لتعيين بعض الهيئات القانونية الأخرى مثل المكاتب والمصالح ذات الامتياز دون أن يتحمل عناء تحديد كل فئة بدقة، فنجده مثلا في ظهير 14 أبريل 1960 ينص على أن الرقابة المالية للدولة تمتد إلى المكاتب والمؤسسات العمومية المتمتعة بالاستقلال المالي وإلى الشركات الملتزمة التي تدير مصالح عمومية للدولة أو للمجالس المحلية .
فالمؤسسة العمومية هي وسيلة من وسائل الحد من التركيز الإداري وبالتالي تنفيذ سياسة الدولة إما لأجل تلبية حاجة مشتركة لمجموعة من الأفراد، متميزة عن المصلحة الوطنية أو الجماعية فيتم إحداث جهاز لهذا الغرض مثل الغرفة التجارية والصناعية وإما بهدف تخفيف العبء عن الوظائف التي تمارسها وزارة معينة، وإما بتأمين وسائل الإدارة الخاصة لبعض المرافق الاقتصادية. 
إلا أن فكرة المؤسسة العمومية في المغرب – كما أشرنا إلى ذلك سابقا- لم تجد تعريفا ثابتا وموحدا خصوصا وأن تدخل الدولة في المجال الاقتصادي والاجتماعي لمواجهة داء التخلف في عهد الاستقلال أدى إلى أزمة خانقة كادت أن تقضي على مقوماتها القانونية، إذ طغت عليها فكرة المؤسسة ذات المنفعة العامة التي ظهرت وبكثرة في عدة مجالات، كما أنها اختلطت ببعض المفاهيم الأخرى كفكرة المقاولة العمومية.
ويترتب على الاعتراف للمؤسسة العمومية بالشخصية المعنوية ما يلي:
ـ أن تكون لها ذمة مالية مستقلة عن مالية الدولة.
ـ أن يكون لها الحق في قبول الهبات والوصايا وفي أن يوقف عليها.
ـ أن ترفع عليها الدعاوى وأن يكون لها حق التقاضي والتعاقد.
ـ أن تتحمل وحدها المسؤولية عن أفعالها الضارة.

ـ أن يعتبر مستخدموها موظفين عموميين، غير أنهم يكونون مستقلين عن موظفي الدولة، مع جواز خضوعهم لأنظمة خاصة بهم تختلف عن الأنظمة المتبعة بالنسبة إلى بقية موظفي الدولة .

إلا أن استقلال المؤسسة العمومية ليس مطلقا، وإنما مقيد بقيدين:

قيد التخصص، بمعنى أن المؤسسة مقيدة بالغرض الذي قامت من أجل تحقيقه. 

وقيد الرقابة أو الوصاية الإدارية وذلك للتأكد من عدم خروجها عن القواعد المقررة لها بقانون أو بقرار إنشائها.

ومجمل القول: فإن المؤسسة العمومية هي كل مرفق ينشئه القانون لممارسة نشاط يحدده القانون المحدث له مع الاعتراف له بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي دون الإخلال بالوصاية العامة التي تمارسها الدولة أو الهيئة المحلية التي تتبعها. وخصائص المؤسسة العمومية هي التمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري في حدود الوصاية الإدارية العامة التي يقررها القانون الذي تخضع له كل مؤسسة . وجدير بالذكر أن نشاط المؤسسة العمومية قد يكون اقتصاديا، وقد يكون هذا النشاط ذا صبغة مزدوجة إدارية واقتصادية.


المبحث الثاني: كيفية إدارة المؤسسة العمومية

في المغرب

إذا كانت المؤسسة العمومية يتم إنشاؤها بمقتضى ظهير، وتوضع تحت الوصاية الإدارية للدولة، فإنها تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، وهذه الاستقلالية تمكن المؤسسة العمومية من أداء مهامها في نطاق أكثر مرونة وأكثر حرية في التصرف، وهي ركن من أركان وجود المؤسسة العمومية ذاتها باعتبارها شخصا معنويا يسعى إلى تحقيق مصلحة عامة. لذلك فالمؤسسة العمومية تتوفر على عدة أجهزة إدارية تشرف على أداء المهمة المنوطة بها، ومن بين هذه الأجهزة نجد الجهاز التنفيذي للمؤسسة العمومية الذي يمثله المدير (المطلب الأول)، والمجلس الإداري الذي يتخذ قرارات المؤسسة ثم اللجنة التقنية أو لجنة التسيير التي تتكلف بمساعدة المدير والحلول محل المجلس الإداري في الفترة الشاغرة التي لا يستطيع الاجتماع فيها (المطلب الثاني).
المطلب الأول: المـديــر

يعهد إلى المدير بمهمة تنفيذ مقررات المجلس الإداري وبتدبير الشؤون اليومية للمؤسسة العمومية، غير أن دوره الذي قد يبدو ثانويا يمكن أن يكون هاما للغاية حسب الظروف لأن اختصاصه وسمعته يشكلان بطبيعة الحال عاملين هامين في هذا الصدد، ومع هذا يمكن التأكيد أن نفوذه يكون أشمل وأوسع كلما قلت درجة اهتمام وتتبع المجلس الإداري للاختصاصات المخولة إليه. ويتجلى ذلك على سبيل المثال في كون المجلس الإداري لا يجتمع إلا نادرا مما يفسر الحرية الكبيرة التي تطبع عمل المدير .
ويعتبر المدير الجهاز التنفيذي للمؤسسة والساهر الدائم على سير نشاطها، وتتسع سلطاته وتضيق بحسب النصوص المحددة لاختصاصاته. ويتم تعيينه إما بظهير شريف بناء على اقتراح من سلطة الوصاية ، أو بمرسوم ، أو بقرار من الوزير المختص وذلك حسب اختلاف المؤسسات العمومية، إلا أن الراجح أن تعيين المدير يدخل في اختصاصات الملك بمقتضى الفصل 30 من الدستور بواسطة ظهير .

من هذا المنطلق فإن شروط تعيين مديري المؤسسات العمومية الوطنية ورد تحديدها في الظهير الصادر بتاريخ 16 نونبر 1963 بشأن المناصب العليا ومناصب المديرين بمختلف المؤسسات، الذي ينص على أن المدير يعين بمرسوم ملكي أو بمرسوم تؤشر عليه السلطة المعهود إليها بالوصاية على المؤسسة العمومية ووزير المالية والسلطة الحكومية المكلفة بالوظيفة العمومية. أما اليوم فإن الظهير الشريف الصادر بتاريخ 18 يوليوز 1972 الذي ينظم هذه المسألة ينص في فصله الثاني على أن التعيين في مناصب مديري المكاتب والمؤسسات العمومية يرجع إلى نظر جلالة الملك .

المطلب الثاني: المجلس الإداري واللجنة التقنية أو لجنة التسيير

إذا كان المجلس الإداري أو مجلس الإدارة يعتبر أعلى سلطة إدارية في المؤسسة ويتمتع بسلطة القرار، فإن اللجنة التقنية أو لجنة التسيير لها مهمة في غاية الدقة تتمثل في العمل إلى جانب المدير ومساعدته والحلول محل المجلس الإداري في الفترة الشاغرة التي لا يستطيع الاجتماع فيها.

فبالنسبة للمجلس الإداري فيعد أعلى سلطة إدارية تهيمن على شؤون المؤسسة العمومية، ذلك أنه يتمتع بسلطة القرار في جميع أمور المؤسسة ، ولا يخرج من اختصاصه إلا ما ينص عليه صراحة في القوانين. كما يملك كقاعدة حق التعقيب على أي قرار أو عمل يصدر عن أي عضو داخل المؤسسة ، وله مهمة التصويت على ميزانية المؤسسة العمومية وتسيير ممتلكاتها الخاصة وإبرام الصفقات المتعلقة بها والمصادقة على مشاريع المؤسسة العمومية.

من هذا المنطلق كان تشكيل المجلس الإداري يكتسي أهمية كبرى في نجاح المؤسسة العمومية، ذلك أن تكوين هذا المجلس من شخصيات متخصصة يساعد المؤسسة المعنية بالأمر، بحيث يتم تعيين أعضائه بحكم المناصب التي يشغلونها أي بصفاتهم لا بذواتهم.
ورغم هذا فإن عدم خضوع المجلس الإداري لقاعدة الاستمرارية نظرا لكون اجتماعاته متفرقة تجعله عاجزا عن تتبع المشاكل اليومية القائمة في المؤسسة ودراسة المشاريع المطروحة من زاويتها التقنية الدقيقة الشاملة ، وهذا ما يدفعه كثيرا للاستعانة إلى جانب المدير الذي كما رأينا يعد السلطة الفعلية للمؤسسة، باللجنة التقنية أو لجنة التسيير.

وتسمى هذه اللجنة أحيانا "اللجنة العلمية" إذا تعلق الأمر بمؤسسة عمومية يتناول نشاطها التنسيق والتنشيط من أجل البحث العلمي، وتقوم هذه اللجنة أساس بسد الفراغ الذي يقع بين انعقاد دورات المجلس الإداري مما يؤدي إلى انتقال السلطة الفعلية إلى المدير فتكثر عليه المهام الإدارية، فيكون ذلك سببا في ارتكاب أخطاء إما جهلا أو تقصيرا وإما انحرافا متعمدا، الشيء الذي اقتضى وجود لجنة التسيير لتساعده على القيام بمهامه وترشده وتوجهه، فهي بذلك عبارة عن "مستشار فني" موضوع رهن إشارته.
وتضم هذه اللجنة غالبا ممثلي الوزارات والهيئات التي لها علاقة بنشاط المؤسسة، وغالبا ما يرأسها ممثل الوزارة التي تتبعها المؤسسة المعنية، وتتولى الوصاية الإدارية عليها، كما تضم هذه اللجنة دائما ممثلا لوزير المالية.

أما عن اختصاصات هذه اللجنة فتتمثل في تتبع تنفيذ مقررات المجلس الإداري في الفترة الشاغرة الفاصلة بين دورات انعقاد المجلس، كما لها أن تقوم بممارسة بعض سلط المجلس الإداري بالتفويض.

والسؤال المطروح : هو أنه في ظل غياب قانون موحد يحكم نشاط المؤسسات العمومية المغربية في بداية إحداثها، وفي إطار التناقضات القانونية التي تعرفها المؤسسات العمومية خاصة في حالة نشوب نزاعات بشأن نشاطها أو في شأن مستخدميها، ما هو النظام القانوني للعاملين بالمؤسسات العمومية ؟ وهل يعتبر المستخدمون في المؤسسات العمومية موظفون بالمفهوم الإداري وفقا لقانون الوظيفة العمومية؟ أو بالتحديد موظفون عموميون حسب مدلول الفصل 40 من قانون المحكمة الخاصة للعدل الملغاة الذي يحيل على أحكام الفصل 224 من القانون الجنائي المغربي؟




الفصل الثالث 

المفهوم الإداري و الجنائي للموظف العمومي في التشريع و الفقه و القضاء المغربي و المقارن


عرف مفهوم الموظف العمومي عدة صعوبات في تحديد النظام القانوني الذي يحكم قواعد استخدامه ، فهل يخضع لأحكام قانون الشغل ؟ أم يخضع لأحكام قانون الوظيفة العمومية ؟ أم يخضع لقوانين أخرى خاصة ؟

الواقع أن تحديد مدلول الموظف العمومي يستلزم استحضار مفهومين أساسيين :

مفهوم ضيق ( المفهوم الإداري ) ، ومفهوم موسع ( المفهوم الجنائي ) ، فالمفهوم الأول تتفرع عنه ثلاثة أصناف رئيسية وفقا لمل يلي : 
1 ـ الموظفـون: وهم الأصناف الذين ينطبق عليهم تعريف الموظف العمومي بالمعنى الدقيق حسب ما جاء في قانون الوظيفة العمومية الصادر في 24 فبراير 1958 فهم لا يختلفون عن باقي موظفي الدولة في الوزارات والمرافق التابعة لها.
2 ـ الموظفون الخاضعون للنظام الخاص للمؤسسة العمومية: وهو نسخة طبق الأصل من القانون العام للوظيفة العمومية، ويتعلق الأمر بالظهير الصادر بتاريخ 19 يوليوز 1962 الذي وحد القانون الأساسي المطبق على العاملين في المؤسسات العمومية ووقع تتميمه بظهير 16 نونبر 1962 وكذلك مـرسوم 14 نونبر 1963 وكلاهما يتعلقان بالمناصب العليا ومناصب المديرين في المقاولات العمومية.

3 ـ المتعاقدون: ومنهم المرتبطون مع المؤسسة العمومية بمقتضى عقود إدارية تتضمن الشروط غير المألوفة في القانون الخاص ويخضعون للقانون العام ومنهم فئة أخرى أبرمت مع المؤسسة عقودا خاصة تشبه العقود المبرمة في ظل قانون الشغل والتي تربط العامل برب العمل .

وخلافا لجل القضايا الجنائية المعروضة أمام القضاء العادي، فإن المحاكم الاستثنائية تأخذ صفة الجاني كمعيار من معايير الاختصاص، وتبعا لذلك فإن المحكمة الخاصة للعدل الملغاة كانت لا تبت في القضايا المعروضة أمامها إلا إذا كان المتهم فيها موظفا عموميا، وهذا ما يدفعنا إلى بحث مفهوم الموظف العمومي الذي يثير عددا من الإشكاليات أمام هذه المحكمة ، ويختلف باختلاف الدول والأنظمة القانونية، وهكذا يمكن أن نقول بأن للموظف العمومي مفهومين أحدهما إداري (المطلب الأول) وثانيهما جنائي (المطلب الثاني) .

المطلب الأول: المدلول الإداري للموظف العمومي

يثير تعريف الموظف العمومي إشكالية تتمثل في وجود محاولات متعددة لتحديد العناصر الأساسية التي يجب أن تتوفر في هذا التعريف، ونلاحظ أن هذه المحاولات تتأثر بمختلف العوامل والتطورات التي عرفها تحديد مفهوم القانون الإداري نفسه ومجالات تطبيقه.
لهذا نجد تعريف الموظف العمومي يتأثر بتطور معايير تطبيق القانون الإداري، يعني هل يكفي أن يكون الشخص في خدمة الإدارة ليعتبر موظفا عموميا، أم يجب أن يكون في خدمة الإدارة بصفتها سلطة، أم يجب فقط أن يكون في خدمة المرفق العام لم يصبح كافيا لتطبيق قواعد القانون الإداري، وبالتالي لا يكفي أن يكون الشخص في خدمة مرفق عام حتى نعتبره موظفا عموميا .

وقد لعب الفقه والقضاء دورا مهما في تحديد مفهوم الموظف العمومي، ثم يأتي المشرع أحيانا ليتبنى هذا التعريف بصفة عامة أو يحدد بشكل أدق بعض جوانبه.

وبالإضافة إلى مختلف النصوص التشريعية في القانون المقارن، حاول الفقه والقضاء أن يقدم تعريفا دقيقا للموظف العمومي، ويتجلى هذا المجهود في الوصول إلى تحديد عناصر أساسية يجب توفرها في الشخص العامل بالمؤسسة العمومية حتى يمكن اعتباره موظفا عموميا، وبالتالي تمييزه عن باقي الأشخاص الذين يعملون بها. واستفادة من النتيجة التي توصل إليها الفقه والقضاء في تعريف الموظف العمومي، عمد المشرع في معظم الدول التي تميز بين الموظف العمومي وغيره من المأجورين إلى تقديم تعريف للموظف العمومي من خلال إبراز وتحديد الشروط التي يجب توفرها فيه، وبالتالي التأثير على العناصر الأساسية اللازمة لتحديد الموظف العمومي .

لكن بصفة عامة يبدو أن جل تعريفات الموظف العمومي التي تناولها التشريع والفقه والقضاء في الأنظمة المقارنة تتسم بالتباين والاختلاف والتقارب في أحيان كثيرة، إلا أن معظم فقهاء القانون الإداري إلى جانب القضاء يتفقون على اشتراط ثلاثة عناصر أساسية في مفهوم الموظف العمومي، وهي: 

ـ القيام بالعمل بصفة دائمة .

ـ العمل بمرفق عام معين.

ـ التعيين من طرف سلطة مختصة.

وأمام هذا التباين في التعريفات، نلاحظ أن جل التشريعات المقارنة لم تقدم تعريفا شاملا جامعا لمفهوم الموظف العمومي ، وذلك راجع بالأساس إلى أن الصياغة الحديثة للقوانين تميل إلى عدم إيراد التعاريف قدر الإمكان، تاركة تلك المهمة للفقه والقضاء كي يعملا على تطوير القواعد القانونية. 

أما بالنسبة للمغرب فلم يكن يتوفر قبل الحماية الفرنسية على أية إدارة متطورة وحديثة بمفهومها الغربي ولا على أي نظام أساسي خاص بالوظيفة العمومية، وبالتالي كانت جل المفاهيم المعاصرة في المجالين السياسي والإداري غائبة ولا تحظى بالاهتمام المطلوب، ومن بين هذه المفاهيم نجد مفهوم الموظف العمومي الذي كان موجودا بالفعل خلال تلك المرحلة لكن في إطار تقليدي غير مقنن وفقا لما تضمنته التشريعات الحديثة، فإلى جانب الحكومة المخزنية كان النظام المخزني في المغرب يتوفر على طاقم إداري تقليدي متكون من العمال والباشوات والقياد والولاة والشيوخ والمقدمين يقومون بخدمة العرش والمحافظة عليه ويقومون كذلك بتدبير الشؤون المخزنية المختلفة، فكان "المخزني" كمفهوم تقليدي لفكرة الموظف العمومي خادما للدولة والأعتاب الشريفة والسلطان، يمثله وينوب عنه ويجسده ويذوب في ذاته وكيان الدولة الشريفة، حتى صار الأمر أهم مسألة خصوصية في النظام السياسي والإداري المغربي .
وفي فترة الحماية، شهد المغرب إصلاحات إدارية عميقة وفقا لمعاهدة الحماية على جميع المستويات، فنال الحقل القانوني والإداري نصيبه من هذه الإصلاحات الجوهرية المهمة، وبدأ العاملون في الإدارة الشريفة يتمتعون ببعض الامتيازات – ولو على المستوى النظري- على غرار زملائهم الموظفين العموميين الفرنسيين.

وعرف المغرب حركة تشريعية مهمة في بداية هذه المرحلة، حيث جاء ظهير الالتزامات والعقود بتاريخ 12 غشت 1913 لينص لأول مرة في المغرب على مفهوم الموظف، وذلك عند تأسيسه لأحكام مسؤولية الدولة والبلديات عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير مختلف إداراتها وعن الأخطاء المصلحية لأحد "موظفيها" أو مستخدميها بأن كان هذا الخطأ غير مطبوع بالطابع الشخصي "للموظف" (الفصل 79)، أما إذا كان هذا الخطأ شخصيا فإن "الموظف" يكون هو المسؤول ولا تطالب الدولة بالتعويض إلا في حالة إعساره (الفصل 80). لكن هذا التوظيف لمفهوم الموظف العمومي كانت إشارة بسيطة لم ترق إلى مستوى تعريف هذا المفهوم، وبعد الاستقلال شهد المغرب حركة تشريعية أخرى واسعة كان من بينها الظهير الشريف رقم 1.58.008 الصادر بتاريخ 24 فبراير 1958 بمثابة نظام أساسي عام للوظيفة العمومية.
وقد جاء في الفصل الثاني من هذا القانون ما يلي: "يعد موظفا كل شخص يعين في وظيفة قارة ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة".

ونلاحظ أن هذا الفصل يخص فقط الموظفين المرتبين بأسلاك الإدارة التابعة للدولة، لهذا جاء مرسوم 27 شتنبر 1977 المتعلق بالنظام الأساسي لموظفي الجماعات ليؤكد على نفس التعريف بالنسبة لهؤلاء الموظفين الجماعيين ، إذ ينص في فصله الأول على ما يلي: "يخول صفة موظف في الجماعة كل شخص يعين في منصب دائم ويرسم بإحدى درجات تسلسل أسلاك الجماعات" .
يظهر إذن من هذا التعريف أن المشرع المغربي يشترط ثلاثة عناصر أساسية لاعتبار الشخص موظفا عموميا، وهي:

1 ـ التعيين في وظيفة عمومية: يشترط لكي يعد الشخص موظفا عموميا أن يعين في وظيفة عمومية من قبل السلطة التي تملك تعيينه قانونيا، فالأشخاص الذين لم يصدر قرار أو ظهير بتعيينهم في وظيفة ما، لا يعدون موظفين ولو أقحموا أنفسهم في الوظيفة.
2 ـ دوام هذه الوظيفة: ويعني أن يمارس الشخص وظيفة عمومية بصفة قارة وثابتة، وبذلك لا يدخل في زمرة الموظفين العموميين الأعوان الذين يتم توظيفهم للقيام بأعمال استثنائية كالأعوان المؤقتين والمياومين والمتمرنين.

3 ـ الترسيـم: وهي الوضعية القارة التي يكتسبها الموظف بصفة نهائية بعد مدة معينة بموجبها يصبح الموظف رسميا في أسلاك الوظيفة العمومية.

وهكذا نلاحظ أن هذه العناصر الثلاثة المعروفة في القانون المقارن بصفة ضمنية وذلك عن طريق التأكيد على شغل الوظيفة ودوامها بالإضافة إلى عنصر العمل بمرفق عمومي معين، فالوظيفة هنا هي وظيفة عمومية كما أن الموظف هو موظف عمومي ولو لم ترد كلمة عمومي أو عمومية في التعيين . إن عنصر التعيين من قبل سلطة مختصة هو العنصر الثاني المعروف في القانون الإداري المقارن وهو ضمني عن طريق تشغيل الشخص في الوظيفة، أما العنصر الثالث وهو ديموية الوظيفة فهو وارد بصراحة. أما عنصر الترسيم فيعتبر عنصرا إضافيا بتصنيف المشرع المغربي كما أن هذا العنصر غير مشترط في القانون الإداري المقارن.
بناء على ذلك فإن الفصل الثاني من ظهير 1958 أعطى للموظف العمومي تعريفا إداريا مهما لكونه يتميز بالدقة من حيث صياغته اللغوية ومن حيث مواكبته بل وتقدمه على مجموعة من القوانين المقارنة الأخرى بما فيها القانونين الفرنسي والمصري. فهو إذن ومقارنة بالتعريف الجنائي الذي يعتبر واسعا بشكل كبير، يبدو بأنه قد حدد تعريفا ضيقا ومضبوطا للموظف العمومي ما دام قد عمل على تناول النقط الأساسية لاكتساب صفة موظف عمومي وهي التعيين، شغل وظيفة قارة، الترسيم، والعمل في خدمة مرفق إداري تابع للدولة ، وبذلك فالمشرع المغربي حسم الأمر نهائيا في مسألة تحديد صفة الموظف العمومي، وهو بذلك قد أغلق باب الاجتهاد نسبيا أمام الفقه والقضاء المغربيين.

ونشير إلى أن هناك بعض الموظفين العموميين الذين ينطبق عليهم تعريف الفصل الثاني من قانون الوظيفة العمومية قد استبعدهم القانون صراحة من تطبيق أحكام النظام العام للوظيفة العمومية، وذلك وفقا لما نص عليه المشرع في الفصل الرابع من قانون الوظيفة العمومية فأخضعهم لنصوص قانونية خاصة بهم، وهم: رجال القضاء، العسكريون التابعون للقوات المسلحة الملكية، ثم هيئة المتصرفين بوزارة الداخلية.

وهناك نوع ثالث من الأشخاص يخضعون لأحكام قانون الوظيفة العمومية بصفة أساسية، وقد يعفون من بعض أحكامه بمقتضى قوانين أساسية خصوصية، إذا كانت تلك الأحكام لا تتفق والالتزامات الملقاة على عاتق الهيئات والمصالح التي يعملون فيها. وهؤلاء الأشخاص كما جاء في نص الفقرة الثانية من الفصل الرابع هم: أعضاء السلك الدبلوماسي والقنصلي، والهيئات المكلفة بالتفتيش العام للمالية، ورجال التعليم، أعوان الشرطة وإدارة السجون، ورجال المطافئ وأعوان المصلحة بإدارة الجمارك الغير المباشرة، المفتشون والمراقبون والحراس بالبحرية التجارية، وضباط الموانئ وموظفو المنارات وأخيرا موظفو المياه والغابات .

وتجدر الإشارة إلى أن الفصل السادس من قانون الوظيفة العمومية نص على مسألة في غاية الأهمية وهي: "إن التعيين في بعض المناصب العالية يقع من طرف جنابنا الشريف باقتراح من الوزير المعني بالأمر". وقد حدد بكيفية حصرية كل من ظهير 25 غشت 1971 وظهير 18 يوليوز 1978 المناصب العليا التي تبقى محفوظة للتعيينات الملكية مباشرة، إضافة إلى نصوص أخرى خاصة تقضي صراحة بأن التعيين في منصب ما يتم بظهير شريف، وتتصل هذه التعيينات بالخصوص بمجال الدفاع الوطني ومجال الأمن والداخلية ومجال التعليم والمجال الدبلوماسي. والقاعدة أن التعيين في المناصب السامية المشار إليها أعلاه قابل للرد جوهريا سواء كان الأمر يتعلق بموظفين أو غير موظفين.

المطلب الثاني: المدلول الجنائي لفكرة الموظف العمومي

لم تتبن أغلب التشريعات الجنائية المفهوم الإداري للموظف العمومي، ذلك أن القانون الإداري يأخذ بمعايير ثابتة ومستقرة، وهو بذلك يضيق من حلقة الموظفين العموميين عكس القانون الجنائي الذي يأخذ بتعريف واسع وشامل يتفق وسياسة التجريم.
وإذا كان كل من يعتبر موظفا عموميا في القانون الإداري هو كذلك في القانون الجنائي، فإن بعض الأشخاص لا يعتبرون موظفين عموميين في القانون الإداري، ولكن من وجهة نظر القانون الجنائي يعتبرون موظفين. فالنظرية الجنائية لتعريف الموظف تشمل الإدارية، ولكن دون أن تقف عندها أي تتعداها، ويمكن القول أنه لا يوجد تعريف موحد للموظف العمومي في الفقه والقانون الجنائي، على أن جل التعاريف تكاد تتفق في ما بينها على بعض الخصائص الأساسية .

لقد ذهب الفقه الجنائي الفرنسي في بداية الأمر إلى قصر معنى كلمة "موظف عمومي" في جريمة الرشوة على كبار موظفي الإدارة ومن يملكون قسطا من السلطة العامة.

إلا أن الاجتهاد القضائي الفرنسي سرعان ما نبذ هذا التعريف الضيق، بحيث وسع من مفهوم الموظف العمومي، فاعتبر كل من يعمل في السلم الإداري ابتداء من الوزير حتى أدنى الموظفين درجة موظفا عموميا. ويعرفه الفقه المصري بأنه كل شخص يعمل في مواجهة الأفراد باسم الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة ويمارس إزاءهم في صورة طبيعية تستدعي ثقتهم أحد الاختصاصات التي خولها القانون لمرفق عمومي تديره الدولة أو الشخص المعنوي العام إدارة مباشرة.

وفي تعريف آخر يجمع الفقه بأن الموظف العمومي هو كل شخص من الأفراد احتاجت إليه الدولة في أداء واجباتها العامة وتنفيذ أوامرها، فخولته جزءا من سلطتها العامة.

كما عرفه بعض الفقهاء المصريون كذلك بأنه شخص يمارس عملا من أعمال الحكومة مهما كان هذا العمل صغيرا أم كبيرا، ومهما كانت صفة هذا الشخص أو العمل الذي يقوم به، وسواء كان دائما أو مؤقتا، ثبت فيه الموظف أم لم يثبت .

وإذا تفحصنا النظم الاشتراكية، فإننا نجد أن النظام السوفياتي سابقا لا يعرف قانونا أو نظاما عاما للوظيفة العمومية، وأن النص الوحيد المتعلق بمفهوم الموظف ورد في المادة 17 من القانون الجنائي السوفياتي والتي تتعلق بالجرائم المرتكبة من طرف الموظفين ، فالمفهوم الذي تعطيه هذه المادة للموظف العمومي هو كل شخص يمارس بكيفية دائمة أو مؤقتة وظائف إدارية تنطوي على سلطة، أو يمارس وظائف تنظيمية أو إدارية، داخل مؤسسات الدولة، أو الهيئات الاجتماعية ونلاحظ من خلال هذا التعريف أن المفهوم السوفياتي للموظف العام يتسم بالإبهام وعدم الوضوح، فهو لا يقصر هذه الصفة على من يمارس وظائف إدارية تنطوي على سلطة بل يمده ليشمل كل من يمارس وظائف تأطيرية أو تنظيمية .

وفي نفس الاتجاه، فقد أكد "ماوتسي تونغ" (الصين الشعبية) على أن أطر الحزب والدولة إنما هم عمال عاديون ومن دون أن يكونوا مثل أسياد ينزلون بكل ثقلهم على الشعب .

وقد عرفت المادة 216 من قانون العقوبات لجمهورية اليمن الديمقراطية الموظف العمومي بأنه: "كل من يعين في وزارات الحكومة أو مصالحها أو في الإدارة المحلية أو في القوات المسلحة، ويعتبر موظفا عموميا في أحكام هذا القانون:
1 ـ العاملون في الهيئات والمؤسسات العامة والشركات التابعة لها ومزارع الدولة والتعاونيات والمنظمات وسائر الهيئات الاجتماعية.
2 ـ أعضاء المجالس والوحدات واللجان وغيرهم ممن لهم صفة تمثيلية عامة سواء كانوا منتخبين أو معينين".

ونخلص إلى أنه يعتبر موظفا عموميا، في الفقه والقانون الجنائي المقارنين، كل شخص توفرت فيه الخصائص الآتية:

ـ أن يقدم الشخص خدماته لصالح الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية التابعة لها. 

ـ أن يمارس الاختصاصات التي خولها القانون للمرفق الذي يعمل فيه، فإن كان يمارس اختصاصا لا علاقة له بالمرفق عد غير موظف.
وهناك من العناصر ما يستبعده الفقه، بحيث لا يعتد به، من ذلك مثلا أنه لا أهمية لكون الشخص يمارس عمله بصورة منتظمة ومستمرة ، ثبت فيه أم لم يثبت، تقاضى عنه أجراء أم لا .

أما بالنسبة للمشرع الجنائي المغربي لم يأخذ بالمفهوم الضيق الذي جاءت به المادة الثانية من قانون الوظيفة العمومية، حيث أقر مفهوما واسعا لفكرة الموظف العمومي. وهكذا فقد نص الفصل 224 من القانون الجنائي المغربي على أنه: "يعد موظفا عموميا في تطبيق أحكام التشريع الجنائي كل شخص كيفما كانت صفته يعهد إليه في حدود معينة بمباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة بأجر أو بدون أجر ويساهم بذلك في خدمة الدولة أو المصالح العمومية أو الهيئات البلدية أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع عام.
وتراعى صفة الموظف في وقت ارتكاب الجريمة، ومع ذلك فإن هذه الصفة تعتبر باقية له بعد انتهاء خدمته، إذا كانت هي التي سهلت له ارتكاب الجريمة أو مكنته من تنفيذها".

ونلاحظ من خلال هذا التعريف الجد موسع، بأن صفة موظف عمومي يمكن أن ننعت بها كل من يمارس عملا تابعا في المؤسسات الخاصة أو التي من الممكن تكييف نشاطها بأنه نشاط ذو نفع عام، على الرغم من خضوعها سواء من حيث النشاط الذي تقوم به أو من حيث علاقتها بمستخدميها لأحكام القانون الخاص لا القانون العام، بالإضافة طبعا إلى عامة الموظفين والمستخدمين في مختلف أجهزة الدولة وفي المؤسسات العمومية وفي الشركات التي تقدم رأسمالها أو جزء منه للدولة وكذلك في الجماعات المحلية سواء أكانت بلدية أم قروية.

فالقاضي الجنائي وهو يبحث عن مفهوم الموظف العمومي، عليه أن يرجع إلى مقتضيات الفصل 224 من القانون الجنائي وليس إلى نصوص القانون الإداري، وإلا عرض حكمه للنقض. وبالفعل فإن هذا المفهوم الموسع للموظف سمح للمحكمة الخاصة للعدل بإدانة العديد من الأشخاص الذين يمارسون عملا تابعا ومأجورا تحكمه قواعد القانون الخاص .

وقد أحسن المشرع صنعا بعدم اعتداده – في الميدان الجنائي- بالمعايير المتفق عليها في القانون الإداري، وهو بذلك يسعى إلى تعميم تطبيق التشريع الجنائي على كل شخص يعمل باسم الدولة ولحسابها أو يساهم بعمله في خدمتها حتى لا يسلم الجناة من العقاب الجنائي.

فالمشرع الجنائي المغربي بناء على ذلك لا يعتد بنوعية العمل أو الوظيفة، أي أن تكون دائمة أو مؤقتة، ثبت فيها الشخص أو لم يثبت. كما أنه لم يشترط في الشخص كي يعتبر موظفا عموميا توفره على صفة معينة، وإنما أورد في سياق النص عبارة عامة (كيفما كانت صفته)، الشيء الذي يفهم منه أنه لا عبرة بصفة الشخص. والصفة تندرج إلى عدة معان، فهو إما أن يكون رسميا أو متدربا أو مؤقتا أو مياوما أو مستخدما، يرتبط بالدولة بصفة نظامية أو تعاقدية، وهو من جهة أخرى قد يكون موظفا ساميا أو موظفا بسيطا. 

وواضح إذن أن جميع موظفي الدولة على اختلاف درجاتهم وأصنافهم يعتبرون في حكم المادة 224 من القانون الجنائي المغربي موظفين عموميين، حتى ولو كانت صفة تقلدهم الوظيفة مشوبة مثلا بعيب شكلي :

"يعد موظفا عموميا في تطبيق أحكام التشريع الجنائي، كل شخص كيفما كانت صفته يعهد إليه في حدود معينة بمباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة بأجر أو بدون أجر ويساهم بذلك في خدمة الدولة أو المصالح العمومية أو الهيآت البلدية أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع عام" .

وهكذا يتضح أن التشريع الجنائي عمد إلى التوسع في تحديد من يمارس سلطة عامة أو يكلف بوظيفة مرفق عام أو يتولى نيابة عمومية، فالموظف لا يمكن اعتباره كالآخرين حيث ينبغي أن يتقيد بمجموعة من الالتزامات الخاصة . ولذلك فإن المشرع المغربي رغبة منه في إضفاء الشرعية الجنائية على المفهوم الموسع لصفة "موظف" أتى بتعريف يخالف تماما التحديد الضيق الذي وردت به ذات الصفة في القانون الإداري .

فهذا الأخير يشترط توافر عناصر أساسية في الشخص كي يعتبر موظفا عموميا، منها الدوام والاستمرارية أي تقلد وظيفة دائمة ثم صحة تعيينه في منصبه.

أما التعريف الجنائي فلا يشترط توافر هذه العناصر، ويكتفي بأن يؤدي الشخص خدمة عامة ولو كانت عارضة ومؤقتة بل ولو أن صفته كان مطعون فيها بعيب ما دام يعمل باسم الدولة ولحسابها .


الفصـــل الرابع

القصـد الجنائـي في الاختلاس والتبديد والفرق بينهما من خلال الفقه والقانون والاجتهاد القضائي المغربي والمقارن 
يعني الاختلاس مدلولا قانونيا آخر غير المدلول الذي يعنيه لفظ التبديد، فإذا كان الاختلاس لغة يفيد أخذ الشيء خلسة والخلسة تعني الخفية، فإنه يقصد به قانونا أخذ الأموال الموضوعة تحت يد الجاني بنية تملكها، أما التبديد فهو ليس مجرد تحويل الحيازة كما هو الشأن في الاختلاس، بل التصرف في الشيء بأي وجه من أوجه التصرفات سواء كانت قانونية أو غير قانونية. وفي كلا الجريمتين يشترط توفر القصد الجنائي لدى الجاني.

وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم هذا الفصل إلى مبحثين، نتناول في الأول مفهوم الاختلاس والتبديد، والثاني نخصصه للقصد الجنائي.
المبحث الأول: مفهوم الاختلاس والتبديد

لدراسة القصد الجنائي في جرائم الاختلاس والتبديد واستغلال النفوذ والفرق بين ما ذكر من خلال الفقه والاجتهاد القضائي والقانون المقارن، ينبغي التطرق إلى القصد الجنائي (المطلب الأول) ثم الفرق بين كل من جرائم الاختلاس والتبديد واستغلال النفوذ (المطلب الثاني) ، ثم الاختلاس والتبديد من خلال الفقه والقضاء المقارن (المطلب الثالث) لنخلص في الأخير لموقف القضاء المغربي (المطلب الرابع).

المطلب الأول: مفهوم القصد الجنائي في جرائم الاختلاس و التبديد

يتضمن التعريف الشامل لكل جريمة صراحة أو على سبيل الاستدلال إشارة إلى الركن المعنوي، وعلى هذا إذا ثبت تخلف العنصر المعنوي في أي سلوك يدعى لتشكيل جريمة في أية قضية مطروحة فإن الجريمة بهذا الوصف لا تكون قد ارتكبت وبعبارة أخرى إذا تم تعريف الجريمة بشكل شامل فإن أي شيء لا يرقى إلى تلك الجريمة ما لم يوافق ذلك التعريف ، وبعبارة أخرى لا يمكن تجريم الشخص ما لم يمكن تجريم قصده.

ولقد اعتبر قانون المحكمة الخاصة للعدل "الملغاة" هذا الركن ضروري، حيث نصت المادة 32 صراحة على أنه يتحقق القصد الجنائي بتعمد الفاعل تبديد الأشياء أو اختلاسها أو احتجازها بدون حق أو إخفاء أموال عامة أو خاصة مع علمه أنه لا حق في تصرفه هذا.

وتنتفي الجريمة بانعدام القصد الجنائي كأن يعتقد الفاعل أن المال ماله أو أنه لم يسلم إليه بسبب وظيفته كتوصله بمبلغ مالي عن طريق البريد وباسمه الشخصي فاعتقد أنه وفاء دين أو هدية واستهلكه ثم تبين أنه وجه إليه بمقتضى وظيفته أو بسببها أداء لضريبة أو رسم مثلا .

وإذا بدد الموظف المال على أساس الاقتراض وبنية إرجاعه لا بقصد الاستئثار به نهائيا خضع للمادة 32 المذكورة، لأن القانون لم يقتصر على تجريم الاختلاس الذي يتحقق عادة بالاستيلاء على الشيء بقصد التملك والاستئثار به، بل جرم إلى جانبه التبديد والاحتجاز بدون حق وهما يتحققان ولو لم تتوفر لدى الجاني نية التملك .

وهكذا يتبين أن القصد الجنائي يعني القصد الإجرامي اللازم لإدانة الشخص العادي البالغ والذي يتصرف دون إكراه لارتكاب جريمة من جرائم الاختلاس والتبديد أو استغلال النفوذ، فالقصد الجنائي أشبه بالحرباء يتلون بمختلف الألوان طبقا للظروف المتباينة .
فالقصد الجنائي في جرائم الاختلاس يتحقق بكل عمل أو تصرف تتجه فيه نية المتهم قصد استيلائه على الشيء الموضوع تحت يده ويتصرف فيه ، وإرجاع الشيء المختلس أو المحتجز من طرفه لا يؤثر على ارتكاب الجريمة لأن الجريمة قد استنفذت آثارها، وأن إرجاع ذلك الشيء إنما هو من قبيل الندم على الفعل الذي ارتكبه، وإنما يكون له أثر على الحكم في التخفيف من العقوبة عن المتهم واعتبار أن إرجاع ذلك الشيء إنما أظهر إصلاحا للآثار التي تركتها أفعاله الإجرامية .

وفي جريمة استغلال النفوذ فإن القصد الجنائي يتحقق بحمل الغير على قضاء حاجة صاحب المصلحة الذي قدم له مكافأة عن تدخل وحمل ذلك الغير على تحقيق رغبة من أخذ المكافأة ، هذا النفوذ قد يكون حقيقيا أو مفترضا، وهذه الجريمة تقع بمجرد الموافقة، ولا يشترط أن تكون قد تمت أو تم البدء في تنفيذها وقد ترتكب من طرف غير موظف ، على خلاف جريمة الرشوة التي تشترط أن يكون الجاني يحمل صفة موظف .

ولا ريب أن المشرع يهدف من وراء ما ذكر إلى الحد من استغلال الموظف لوظيفته أو المتاجرة بها .

المطلب الثاني : الفرق بين الاختلاس والتبديد واستغلال النفوذ

يقصد بجريمة الاختلاس المصنفة في إطار جرائم الإخلال بالثقة العامة ، الجريمة التي كان منصوص عليها وعلى عقوبتها في المادة 32 من قانون المحكمة الخاصة للعدل "الملغاة" والمادتين 241 و242 من القانون الجنائي كما وقع تغييره وتتميمه دون ما سواها من جرائم الإخلال بالثقة العامة التي يرتكبها الموظفون العموميون وغير الموظفين العموميين.

وقد ميز القانون بين جرائم التبديد والاختلاس والاحتجاز بدون حق والإخفاء ، فالتبديد يقصد به التصرف في الشيء تصرفا ماديا أو قانونيا كاستهلاكه أو بيعه أو إيجاره ومقايضته أو نحو ذلك .

وعلى هذا فالتبديد ليس مجرد تحويل الحيازة الناقصة إلى حيازة كاملة كما هو الحال في الاختلاس، ولا يدخل في التبديد تعييب الشيء وجعله غير صالح للانتفاع به إضرارا بصاحبه، فهذه الحالة تدخل في التبديد المنصوص عليه في المادة 242 من القانون الجنائي والذي يتحقق بمجرد وجود سوء النية أي تعمد التبديد ذاته بصرف النظر عن الغاية منه كما يتحقق بقصد الإضرار .

أما الاختلاس فيتحقق بكل عمل أو تصرف ينبئ عن اتجاه نية الجاني إلى الاستيلاء على الشيء بصفة نهائية أو بقصد تملكه أو لأي سبب آخر كتملكه للغير أو إتلافه.

والإخفاء قد يكون تتمة لعملية الاختلاس، وقد يتم ببقاء الأشياء في مستودعها، ويكتفي الجاني بادعاء عدم وجودها، أو بإخفائها عن الأعين وهي في مكانها. ومجرد اكتشاف نقص لدى الجاني في الأموال أو الأشياء المعهود بها إليه يعتبر قرينة على قيامه بالإخفاء أو الاختلاس ولا يعفيه من العقاب إلا نفيه القصد الجنائي بأن يثبت سببا أجنبيا لذلك النقص، أو أنه كان نتيجة غلط أو خطأ غير مقصود .

أما استغلال النفوذ فيعد مرتكبا لاستغلال النفوذ حسب المادة 26 من المحكمة الخاصة للعدل "الملغاة" كل من طلب أو قبل عرضا أو طلب أو تسلم هبة أو هدية أو أي فائدة أخرى من أجل تمكين شخص أو محاولة تمكينه من الحصول على وسام أو نيشان أو رتبة شرفية أو مكافأة أو مركز أو وظيفة أو خدمة أو أية مزية أخرى تمنحها السلطة العامة، مستغلا بذلك نفوذه الحقيقي أو المفترض .

ويقصد بالنفوذ أن يكون للشخص نوع من التقدير لدى بعض رجال السلطة الذين بيدهم تحقيق مصلحة ذي شأن مما يمكن له من حملهم على قضائها، وقد يكون ذلك راجعا إلى مركزه العام في المجتمع وقد يكون بسبب حقوق خاصة تربطه ببعض رجال السلطة كالقرابة والصداقة أو ما شابه ذلك .

وتجتمع الرشوة واستغلال النفوذ في الركن المادي، وفي الهدف أو الغاية من التجريد .

ويتعين لقيام جريمة استغلال النفوذ أن يسعى الجاني بنفوذه (سواء لدى رجال السلطة العمومية أو بسبب وظيفته أو جاهه) إلى جهاز السلطة العمومية أو إدارة أو مؤسسة عمومية تحت إشرافها ولا يشترط في الجاني أن يكون موظفا .

المطلب الثالث: الاختلاس والتبديد من خلال الفقه والقضاء المقارن

انقسم فقهاء القانون الفرنسي في تعريفهم لمدلول كلمة الاختلاس Soustraction إلى فريقين:

المذهب الأول: يقول أصحاب هذا المذهب في تعريفهم للاختلاس الوارد في المادة 379 من القانون الفرنسي أنه يقصد به نفس المعنى الواسع الذي كان متعارف عليه في ظل القانون الروماني، وذلك للاعتبارات الآتية:

1 ـ إن التعريف الوارد في المادة 379 هو نفس التعريف الذي كان يقول به فقهاء القانون الروماني.

2 ـ إن كلمة « Soustraction » التي كان يستعملها دائما فقهاء القانون الفرنسي القديم هي ترجمة كلمة « Contect aia » اللاتينية، وإذا قيل بأن الكلمة الفرنسية ليست ترجمة حرفية للكلمة اللاتينية فإنه يرد على ذلك بأن هذه الكلمة الفرنسية هي أدق تعبيرا بالنسبة للكلمة اللاتينية. وعلى ذلك فإن المقصود بالاختلاس في القانون الفرنسي هو نفس المعنى القديم الذي كان متعارف عليه في القانون الروماني.

3 ـ إنه لو صح أن المشرع الفرنسي أراد مخالفة المعنى الواسع المقصود في القانون الروماني لما استعمل كلمة اختلاس في أحوال يكون المال فيها مسلما إلى الجاني، ومن ذلك مثلا نص المادة 169 من القانون الفرنسي التي تعاقب الصيارفة الذين يختلسون الأموال الأميرية التي تسلم إليهم بسبب وظائفهم، ولا شك في أن هذا يدل أوضح دلالة على أن كلمة الاختلاس في هذا النص لها نفس معنى كلمة Contrectatio .

4 ـ وأخيرا يستند أصحاب هذا المذهب إلى نص المادة 408 من القانون الفرنسي التي لم تكن تعاقب الوكيل المبدد ومن تم كان يفلت من العقاب، وكذلك فإن هناك أحوالا لو أخذ بالتفسير الضيق فيها لكلمة الاختلاس لما عوقب جناة يتأتى الشعور العام من إفلاتهم من العقاب ولما أمكن تطبيق نص المادة 404 الخاصة بالنصب عليهم، والقول بتعميم معنى الاختلاس يؤدي إلى سد مثل هذه الثغرات دون ما تعارض مع هذه النصوص .

المذهب الثاني: يقول أنصار هذا المذهب أن المشرع وقد فرق بين جرائم الاعتداء على الأموال وميز بين جرائم السرقة والنصب وخيانة الأمانة وحدد الفعل المادي لكل منها، فلا شك أنه قد حدد لكلمة الاختلاس في كل جريمة من هذه الجرائم معنى يختلف في كل منها عنه في الآخر.

وخلاصة هذا المذهب أنه لكي يكون هناك اختلاس فيجب أن يقوم الجاني بفعل ينقل به الشيء من حيازة صاحبه إلى حيازته بغير رضاه، وعلى ذلك فإن الاختلاس يتضمن عنصرين اثنين: عنصر مادي هو نقل الشيء وعنصر معنوي هو القصد الجنائي أي نية التملك، وبمعنى آخر فإنه حيث يكون هناك تسليم سابق لا يكون اختلاس وأن الاختلاس هو الركن المادي لجريمة السرقة ولا يتعداها إلى سواها من جرائم الاعتداء على الأموال.

ويتفق الفقيهان "جارو" و"جارسون" بأن جريمة اختلاس الأموال العمومية ليست سرقة بل هي خيانة أمانة من نوع خاص، ويتم الاختلاس كما في جريمة خيانة الأمانة متى أضاف المختلس الشيء الذي سلم إليه إلى ملكه أو تصرف فيه على اعتبار أنه مملوك له ، أما التبديد DISSIPATON فهو التصرف في الشيء تصرف المالك بعد أن كان مسلما على سبيل الأمانة، ويرى هذان الفقيهان أن الاختلاس DETOURNEMENT والاستعمال EMPLOI والتبديد DISSIPATION هي أفعال تتضمن كلها فكرة تغيير وجه الشيء متى غير الحائز حيازته الناقصة إلى حيازة كاملة بنية التملك.
أما عن الاختلاس في التشريعات العربية فإن هذا اللفظ لم يذكر إلا في التشريع المصري ( المادة 341 عقوبات مصري) والسوري ( المادة 656 عقوبات سوري) واللبناني ( المادة 970 عقوبات لبناني) ، ويلاحظ أن المادة 656 عقوبات سوري هي صورة طبق الأصل بدون تحريف أو اختلاف عن المادة 970 عقوبات لبناني بمعنى أنها نقلت نقلا حرفيا عن قانون العقوبات اللبناني.
كما أن نص المادة 341 عقوبات مصري ينطبق تماما على نفس اللفظ الوارد في المادتين 656 سوري و970 عقوبات لبناني إذا ما أخذنا في الاعتبار أن النصين المذكورين قد تأثرا بنص المادة 408 عقوبات فرنسي إلى حد ما.
ويتحقق الاختلاس حسب التشريع المصري بكل فعل لا يخرج به الأمين الشيء من حيازته وكل ما يفعله أنه يغير من حيازته الناقصة إلى حيازته بنية التملك، ومن تم فكل فعل ينبئ عن مجرد قصد الجاني في تغيير الحيازة الناقصة إلى حيازة كاملة.
أما عن موقف القضاء من جريمة الاختلاس فقد أخذت محكمة النقض الفرنسية بعدم كلمة الاختلاس وعدم التوسع في تفسيرها، فقضت في قضية مشهورة تعرف بقضية « Yvornet » بأنه لا سرقة إذا كان الشيء قد سلمه المجني عليه برضاه واختياره، وإنما السرقة هي أن يختلس الجاني الشيء اختلاسا أي يسلبه أو يأخذه أخذا بدون رضا صاحبه.
ولقد رددت المحاكم الفرنسية في معظم أحكامها هذه العبارات مقتفية في ذلك أثر محكمة النقض الفرنسية، كما ردد أغلب الشراح هذه الألفاظ مستعملين في تعريف الاختلاس عدة كلمات هي: الأخذ والنقل والانتزاع والسلب، وبذلك نرى أن المذهب الثاني في تعريف الاختلاس هو الذي سار عليه الفقه والقضاء الفرنسيين.

أما عن موقف القضاء المصري، فقد ذهبت محكمة النقض المصرية في تعريف الاختلاس إلى أن التسليم الذي ينفي ركن الاختلاس في جريمة السرقة هو الذي ينقل الحيازة ، أما مجرد التسليم المادي الذي لا ينقل حيازة ما وتكون به يد المتسلم على الشيء يدا عارضة فلا ينفي الاختلاس . وذلك مفاده أن محكمة النقض تفرق بين ركني الاختلاس في جريمة السرقة وجريمة الأمانة وتضع معيارا للتفرقة بينهما تربطه بالحيازة كمبدأ أصلي وتجعل ميزاته التسليم، وفي حدود ذلك أيضا تفرق بين التسليم الذي يفيد معنى التخلي والتسليم الذي لا يفيد ذلك أي التسليم المادي الذي لا تكون يد المتسلم فيه إلا يدا عارضة.

كما أن هذه المحكمة قررت في قرار آخر أن لفظ الاختلاس معناه في المادة التي تعاقب على سرقة الأموال العمومية "تصرف الجاني في المال الذي بعهدته على اعتبار أنه مملوك له"، وهو معنى مركب من فعل مادي هو التصرف في المال ومن فعل قلبي يقترن به وهو نية إضاعة المال، فاللفظ دال بذاته على ركنين أساسيين من أركان الجريمة، الركن المادي وهو التصرف في المال وركن القصد الجنائي وهو نية إضاعة المال.

وقد قضت المحاكم المصرية بأن تسليم الأمين الشيء الذي كان في عهدته للغير يعتبر بمثابة تصرف المالك في ملكه وبه تتحقق جريمة الاختلاس (قضية عدد 1285 بتاريخ ماي 1935)، على أن نية الأمين يمكن أن تظهر بإضافة الشيء مباشرة إلى ملكه بأن يحتفظ به لنفسه أو يستعمله في غير ما أعد له.

وخلاصة القول إذن أن القضاء المصري وعلى رأسه محكمة النقض المصرية قد أخذت بالرأي الذي يضيق من معنى الاختلاس ويفرق بينه في السرقة عنه في خيانة الأمانة.

أما بالنسبة لجريمة التبديد، فيلاحظ أن التشريعات العربية التي استعملت هذا اللفظ هي التشريع اللبناني والتشريع السوري فضلا عن التشريع المصري، بمعنى أن التشريعات التي استعملت هذا اللفظ هي التشريعات التي أخذت عن التشريع الفرنسي كمصدر لها بينما استعملت التشريعات العربية الأخرى عدة ألفاظ أخرى.

ويلاحظ أن بعض التشريعات العربية قد نصت صراحة على اعتبار الأمين الذي يتلف عمدا المال المسلم إليه خائنا للأمانة، بينما لم تنص على ذلك بعض التشريعات الأخرى، وعلى ذلك يثور البحث بالنسبة لهذه التشريعات الأخيرة في حالة ما إذا اقتصر فعل الأمين على إتلاف المال المسلم إليه فهل يعتبر فعله خيانة للأمانة.

فلا شك إذن أن من يقوم بإتلاف المال المسلم إليه عمدا يعتبر نفسه سلفا مالكا له، وأن له حق التصرف المطلق فيه، ومن افترض في نفسه هذه السلطة على المال يعتبر مختلسا له. ولا ينال من هذا القول ما قد يقال من أن خائن الأمانة لابد من حصوله على فائدة من وراء اختلاسه للمال أو تبديده.

وجدير بالذكر الإشارة إلى موقف القضاء المصري من جريمة التبديد، حيث فرقت محكمة النقض المصرية في أحكامها ما بين التبديد والاختلاس، إذ صرحت أن التبديد لا يتحقق إلا باستهلاك الأمانة أو بالتصرف فيها للغير والتخلي له عن حيازتها، أما اختلاس الأمانة فإنه يتحقق بكل ما دل به الأمين على اعتباره الأمانة مملوكة له يتصرف فيها تصرف المالك فهو يقع متى غير الحائز حيازته الناقصة إلى حيازة كاملة بنية التملك .

المطلب الرابع: الاختلاس والتبديد من خلال القضاء المغربي

لقد سبق المحكمة الخاصة للعدل "الملغاة" أن نظرت في قضية متهمين أحيلوا على هذه المحكمة من أجل اختلاس وتبديد أموال عمومية، بأن كان المتهم) ع.م (خلال سنتي 1998 – 1999 وهو موظف عمومي بدد مبلغ 842.787,51 درهم من الأموال العامة التي كانت تحت يده بحكم وظيفته بمشاركة الغير وباتفاق سابق بينهما ، وذلك بأن قام بتسديد 48 شيكا بنكيا يحمل المبلغ المذكور في الوقت الذي لم يقم بتسجيلها في حساب هذا الأخير ودون أية ضمانة مسبقة ، ثم قام بإخفاء تلك الشيكات عوض إرجاعها إلى مصلحة المقاصة وهو يعلم أنها لا تتوفر على الرصيد. فأدانت المحكمة هذا الأخير بجريمة تبديد أموال عامة كانت تحت يده بحكم وظيفته ومعاقبته من أجل ذلك بالحبس لمدة خمس سنوات، كما أدانت نـفـس المحكمة في نفس الملف المتهمة )خ.ق( بجريمة المشاركة في تبديد أموال عامة ومعاقبتها من أجل ذلك بالحبس ثلاث سنوات، حيث إن هذه الأخيرة ساعدت وأعانت عن علم في الجريمة المذكورة ، ذلك أنها كانت تقوم بسحب تلك المبالغ وتكليف المتهم السالف الذكر بالدفوعات وتسلم له دفتر شيكات وهي تعلم أنها لا تتوفر على رصيد .

كما أن هذه المحكمة أدانت المتهم )ح.ك( بجريمة اختلاس أموال عمومية كانت تحت يده بسبب وظيفته ومعاقبته من أجل ذلك بالسجن لمدة عشر سنوات، وهو موظف عمومي مستخدم بوكالة القرض العقاري والسياحي مكلف بمهمة الصرف ، اختلس على فترتين مبلغ 9000 درهم من الأموال العامة التي كانت تحت يده بسبب وظيفته وذلك بافتعاله توقيع الزبون )ب.ع( على شيكات الشباك وبذلك تمكن من الاستحواذ على المبلغ لفائدته بدون وجه حق .

كما أن هذه المحكمة أدانت – في ملف جمعية أرباب المطاحن- المسمى )غ.س( بجريمة التبديد والمشاركة فيها ومعاقبته بخمسة عشر (15) سنة سجنا، حيث إن هذا الأخير خلال سنة 1994 و1995عمل على تبديد أموالا عامة كانت تحت يده بسبب وظيفته على فترات بمساهمة الأغيار، وبعد اتفاق سابق معهم مبلغ 20.000,00 درهم ذلك أنه عمل على سحب المبلغ المذكور من حساب الجمعية المهنية للمطاحن بدعوى استرداد مصروف سبق له أن صرفه في إقامة حفل لفائدة المزارعين الفرنسيين ، والحال أنه يعلم أن الحفل المذكور لم يقع ولا مصلحة للجمعية المهنية في ذلك ولا يمس أغراضها.
كما أنه – أيضا- علل جناية تبديد أموال عامة كانت تحت يده بسبب وظيفته مبلغ 168.020,00 درهم بادعائه أنه عمد إلى صرف المبلغ المذكور لإعادة صباغة المعهد دون مبرر ، مع أنه لم تمر فترة طويلة على صباغته من طرف شركة أنتير بناء التي كلفت بإنجاز الصفقة .

كما أدانت هذه المحكمة كذلك في الملف عدد 1269 بتاريخ يوليوز 2000 المسماة )ن.ه( باختلاس وتبديد المال العام بصفتها مديرة وكالة القرض العقاري والسياحي بشارع محمد الخامس الدار البيضاء بأنها عمدت إلى إنشاء وتوقيع 67 كمبيالة مضمونة الأداء باسم وكالة القرض العقاري والسياحي لفائدة الغير صاحب شركة أم الربيع للاستفادة من مقابلها المادي وذلك دون ترخيص أو إذن من اللجنة المكلفة بالقروض أو علم من الإدارة المركزية وبذلك مكنت الغير من الاستيلاء على المبالغ المذكورة والتصرف فيها دون وجه حق، كما أدان نفس الحكم مدير شركة أم الربيع )م.ف( باعتباره مساهما في الاختلاس والتبديد.
وبقراءة متأنية لمضامين القرارات المذكورة يتبين الفرق الواضح بين جرائم الاختلاس والتبديد، إذ المختلس يعمل على الاستحواذ على المبالغ لفائدته بدون وجه حق كما هو الشأن بالنسبة للحكم الجنائي عدد 1493 الصادر عن المحكمة الخاصة للعدل بتاريخ 3 دجنبر 2002، بينما المبدد يعمل على صرف المبالغ المالية التي توجد تحت يده بحكم وظيفته في أغراض غير الأغراض التي رصدت لها كما هو الشأن بالنسبة للحكم الجنائي عدد 1322 الصادر عن نفس المحكمة بتاريخ 24 أبريل 2001، أو أن الأموال العمومية التي تقع تحت يد المسؤول في المؤسسة تمنح للغير دون احترام المساطر المعمول بها أو الترخيص من المصالح المختصة بذلك، كما هو الشأن في واقعة )ن.ه( و )م.ف( في ملف أم الربيع.

من خلال ما سبق، يتضح جليا بأن كلا من جرائم الاختلاس والتبديد واستغلال النفوذ لا تتحقق إلا بتحقق القصد الجنائي الذي يعتبر ركنا معنويا في كل هذه الجرائم. إذ لابد من إرادة حرة نابعة من طرف الموظف المتهم بإحدى هذه الجرائم دون إجبار من أي كان. 
إن المعيار السليم للتجريم في مثل هذه الحالات يكمن في العلم والإدراك القائمين لدى الجاني بأن الأذى أو الضرر محتمل الحدوث أو راجح الوقوع عن فعله بحيث يقوم التجريم على تعمده .

وعلى هذا فمتى عمل المتهم على الاستيلاء على الشيء الموضوع تحت يده فإن جريمة الاختلاس تتحقق مهما كان عمله أو تصرفه هذا، كما أنه متى عمل على تحويل الأموال الموضوعة تحت يده بحكم وظيفته بأن صرفها في غير ما رصدت له فإنه يكون قد ارتكب جريمة التبديد.

المبحث الثاني: القصد الجنائي في الفقه الإنجليزي، الفرنسي والمصري

القصد الجنائي هو القوة النفسية التي تقف وراء النشاط المجرم الذي استهدف به الفاعل إراديا الاعتداء على مصلحة من المصالح المحمية من طرف المشرع الجنائي ، ذلك أن الجريمة التي تتحقق في الواقع بسبب نشاط الفاعل ما هي إلا نتيجة لما خالج نفسه قبل تنفيذه لها ماديا ، فالإرادة هنا تكون إرادة آثمة تطبع سلوك الجاني بالإثم فيجعل منها بالتالي سلوكا مجرما يعاقب عليه القانون.
ولا يتحقق الركن المعنوي في الجرائم العمدية إلا إذا توافر القصد الجنائي عند الفاعل، وهذا الأخير لا يتوافر إلا إذا:

1 ـ وجه الجاني نشاطه الإرادي في صورة فعل أو امتناع من أجل تحقيق واقعة مجرمة.

2 ـ كان الجاني محيطا إحاطة تامة (عالما) بحقيقة هذه الواقعة المجرمة واقعيا وقانونيا.

والقصد الجنائي فكرة جوهرها الإرادة التي اتجهت إلى مخالفة القانون، وقد كان تحديد اتجاه الإرادة وتعيين الوقائع التي يتعين انصرافها إليها محلا لآراء عديدة ومناقشات فقهية كثيرة، لذلك سنتناول دراسة هذا الخلاف الفقهي حول تحديد عناصر القصد الجنائي في مطلبين رئيسيين، نتطرق في المطلب الأول إلى القصد الجنائي في الفقه الإنجليزي، ثم نتعرض في المطلب الثاني إلى موقف الفقه الفرنسي والمصري من هذا النقاش.

المطلب الأول : القصـد الجنائـي في الفقه الإنجليزي

يعد مبدأ ألا يشكل الفعل بحد ذاته جريمة ما لم يرتكب بقصد جنائي من أهم المبادئ في القانون الإنجليزي عبر تطوره ، فهذا المبدأ يقرر وجود ركنين هامين في الجريمة: الركن المادي والركن المعنوي، إذ لا يجوز اعتبار الشخص مرتكبا لجريمة ومن ثم محلا للعقاب إلا إذا كان وقت إتيانه الفعل الضار المحضور ذا ذهن يستحق أن يؤاخذ.

إلا أن القصد الجنائي يطرح صعوبة شرح مقصوده بشكل عام لأنه يتباين من جريمة إلى أخرى، مما دفع بعض الفقهاء الإنجليز إلى التأكيد أنه مما لا طائلة وراءه السعي إلى استبانة دلالة القصد الجنائي باللجوء إلى نظرية عامة ذات تطبيق شمولي تنطبق على جميع الحالات ، إن القصد الجنائي لا يعني حالة منفردة في ذهن الفاعل يتعين إثباتها كشرط سابق التجريم ، ذلك أن القصد الجنائي أشبه بالحرباء يتلون بمختلف الألوان طبقا للظروف المتباينة .

وللقصد الجنائي عدة أشكال:

1 ـ القصـد: يستخدم الفقهاء هذا التعبير للإشارة إلى النتائج المرجوة من الفعل وهي ما أطلق عليها الفقيه "جيرمي بانتام" بالقصد المباشر.
2 ـ الإرادة: إن الشرط الجوهري في المسؤولية الجنائية ينبني على ضرورة أن يكون الفعل المنسوب إلى المتهم قد تم عن طواعية.
3 ـ العلـم: يشترط صراحة العلم بالملابسات اللصيقة والتي تشكل الجريمة. 

4 ـ الطيـش: ويعد إحدى العناصر الذهنية التي يقرها القانون ، وهو ضرب من التثريب يقع بين القصد والإهمال غير العمدي ، حيث لا يرغب الجاني في النتيجة ولا يتوقعها على وجه اليقين ولكن كاحتمال ومع ذلك يقوم بمخاطرة لا مبرر لها.
5 ـ الإهمـال: يوصف عادة بأنه الإخفاق في ممارسة الحيطة اللازمة التي كان الرجل العادي – طبقا لظروف الحال – يمارسها، وبينما يعتبر الطيش مجازفة واعية غير مبررة فإن الإهمال هو المجازفة الواعية التي كان يتعين على المتهم إدراكها.

6 ـ سوء القصـد: يعتبر توفر النية لإتيان الفعل بسوء القصد الركن المعنوي اللازم الذي يشترطه القانون في العديد من الجرائم المتعلقة بالأموال. 

7 ـ الغــش: لقد عبر الفقيه "ستيفان" بأن الغش ينطوي بشكل عام على فكرة إلحاق الضرر العمدي أو القصد إليه خفية أو خداعا، فمن الجوهري ألا يكون سلوك الجاني خاطئا فحسب، بل يتعين أن يكون خاطئا بالتعمد والعلم.
المطلب الثاني: القصد الجنائي في الفقه الفرنسي والمصري

يمكن تعريف القصد الجنائي بأنه العلم بعناصر الجريمة إرادة متجهة إلى تحقيق هذه العناصر أو إلى قبولها، ويتضح من هذا التعريف أن قوام القصد الجنائي عنصران: العلم والإرادة، وعلى الرغم من قيام القصد على هذين العنصرين معا، فإن أهمية الإرادة تزيد على أهمية العلم، ذلك أن الإرادة هي جوهر القصد، وليس العلم متطلبا لذاته ولكن باعتباره مرحلة في تكوين الإرادة وشرطا أساسيا لتصورها .

لذلك فإنه من الصعب أن نحدد موقف الفقه الفرنسي والمصري من النقاش الذي ثار بين أنصار نظريتي العلم والإرادة، لأن النظريتين تجتمعان في جوهر المسائل، بل لقد أتاح هذا الموقف أن توضح للقصد الجنائي تعريفات تجمع بين الأفكار التي تقوم عليها النظريتين معا.
وهكذا سنعرض أولا بصورة موجزة لأهم التعريفات التي قال بها الفقه الفرنسي، فقد عرف الفقيه "جارسون EMIl garçon " القصد الجنائي بأنه "إرادة الفاعل ارتكاب الجريمة كما حددها القانون مع علمه – أو افتراض ذلك – بأن ذلك منهي عنه قانونا" ، وهذا ما يجعل هذا التعريف يميل إلى نظرية الإرادة، وقد تبنى هذا التعريف كذلك كل من "ميرل" و"فيتو" و"ديكوك".
وقد عرف الفقيه "جارو" القصد الجنائي بأنه علم الفاعل بمخالفة الفعل الذي يأتيه للأخلاق وللقانون، أو علمه بالنتائج الضارة التي قد تترتب على الفعل وتمس المصالح التي يحميها القانون واتجاه إرادته على الرغم من هذا العلم إلى ارتكاب الفعل، فالقصد الجنائي إذن حسب هذا الفقيه هو إرادة ارتكاب فعل بعلم مرتكبه أنه مجرم ومعاقب عليه، وهذا التعريف يجعلنا نقرر أن "جارو" يميل على الأخذ بنظرية العلم لأن الإرادة في رأيه تتجه إلى الفعل وليس إلى النتيجة التي يتمثل فيها الاعتداء.

ويعرف "رو" القصد الجنائي بأنه إرادة مخالفة القانون، أي السعي في سبيل الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون. ويذكر "فيدال" و"مانيول" التعريف التالي للقصد الجنائي: "إرادة ارتكاب الفعل مع العلم بأنه محظور أو إرادة الامتناع مع العلم بأن الفعل يأمر به القانون"، فالقصد الجنائي هنا هو إرادة الفاعل ارتكاب الجريمة بشروطها التي يحددها القانون والتي يفترض العلم بها، ويقترب من ذلك التعريف الذي تقدم به الفقيهان "ستيفاني" و"ليفاسير" .

أما بالنسبة للفقه المصري، فإن الأستاذ علي بدوي يعرف القصد الجنائي بأنه نية الاعتداء على حق يحميه القانون بالعقاب، أو بعبارة أخرى هو تعمد إتيان الأمر المكون للجريمة في حدودها المبينة قانونا مع علمه بأنه يرتكب جريمة، أي مع شعوره بأنه يرتكب فعلا محرما عليه أو بأنه يمتنع عن فعل مفروض عليه.

ويرى الدكتور محمد مصطفى القلمي أن القصد الجنائي عبارة عن انصراف إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة بالشروط التي نص عليها القانون، أو بعبارة أخرى هو إرادة الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون ويعاقب على انتهاكه. ويعرف الدكتور السعيد مصطفى السعيد القصد الجنائي بأنه تعمد ارتكاب الجريمة كما عرفها القانون، أي توجه الإرادة لإحداث أمر يعاقب عليه القانون عن علم بالفعل ومع العلم بتجريمه قانونا.

ويرى الأستاذ محمود إبراهيم إسماعيل أن القصد الجنائي هو إرادة الفعل ونتيجته معا، أي أن القصد الجنائي يعني توجيه إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة بالشروط التي يتطلبها القانون. ويعرف الدكتور رمسيس بنهام القصد الجنائي بأنه انصراف الإرادة إلى السلوك المكون للجريمة كما وصفه نموذجها في القانون مع مراعاة الملابسات التي يتطلب هذا النموذج إحاطتها بالسلوك في سبيل أن تتكون به الجريمة.

وقد سار في نفس الاتجاه الدكتور أحمد فتحي سرور معرفا القصد الجنائي بأنه اتجاه إرادة الجاني إلى النشاط الإجرامي الذي باشره وإلى النتيجة المترتبة عليه مع علمه بها وبكافة العناصر التي يشترطها القانون لقيام الجريمة .

وأخيرا يعرف الدكتور علي راشد القصد الجنائي بأنه علم الجاني بالواقعة الإجرامية حال مباشرته لنشاطه المادي المحدث لها، وإذا كانت كل التعريفات السابقة تقر نظرية الإرادة فإن هذا التعريف يرجح نظرية العلم، ويتفق معه في هذا الرأي الدكتور عبد المهين بكر.

تعليقات