القائمة الرئيسية

الصفحات



قراءة في مدونة الأسرة المغربية


قراءة في مدونة الأسرة المغربية




د.منى عباس فضل

تبوأت المدونة المغربية مكانة متميزة منذ صدورها بقانون رقم 70.03 الصادر بتنفيذها ظهير شريف رقم 1.04.22 في 3 فبراير 2004[2] وذلك بعد أن حصلت على إجماع من مختلف الأطراف والفعاليات السياسية والمدنية أثناء انعقاد جلسة للبرلمان المغربي في أكتوبر 2003، حيث أكد الجميع على أهمية التعديلات التي جاءت بها "المدونة" وأهميتها وقدرتها على تحسين واقع  المرأة المغربية. "المدونة" في صيغتها النهائية خلاصة نقاش فكري وحقوقي اعتمد النهج "التشاوري" بين مختلف المرجعيات الدينية والإيديولوجية والسياسية والأهم هي انعكاس لنضال طويل للمرأة المغربية وتضحياتها من أجل المساواة والمواطنة على الرغم مما ساد من تجاذبات خلال المنعطفات التاريخية.

تمثل "المدونة" ضرورة فرضها تطور الواقع النسائي المغربي الذي لم تعد النصوص القديمة -أي مدونة الأحوال الشخصية- السابقة تستجيب لخصائصه وتناقضاته، كما إنها جاءت إنسجاماً مع التحولات التي مر بها المجتمع وأثرت على الواقع النسائي خلال العقود الأخيرة، لاسيما مع تزايد دور المرأة المغربية في النشاط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي خصوصاً بعد حصولها على الحقوق الدستورية التي أقرت المساواة بين الجنسين أمام القانون، إضافة إلى الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تكرس حقوق المرأة والتي وقعت عليها الدولة، فكل هذا وذاك استدعى إقرار "المدونة" والانتقال من التشريع إلى إرساء قواعد لهذا التشريع، باعتبار أن النصوص القانونية لا تنشئ لوحدها إصلاحاً بل قضية الإصلاح هي قضية مركبة تتداخل فيها الأبعاد السياسية والقانونية والمؤسساتية والثقافية والتربوية، وعليه لا يمكن الحديث عن "المدونة" بمعزل عن تاريخ وتطور المجتمع المغربي الذي ناضل في سبيل الديمقراطية والحداثة في جميع المنعطفات، لقد شكلت حدثاً تاريخياً هاماً ومنعطفا فاصلا في تاريخ الأسرة المغربية، والمصادقة عليها يتجاوز في دلالاته الأبعاد التشريعية والآثار الإجتماعية للحدث، لاسيما مع المتغيرات الإجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حدثت على المستوى الوطني.  

أولاً: تاريخ صدور المدونة

مرت "مدونة الأحوال الشخصية" بمسار تاريخي في سياق تطور حركة إصلاحها وجاءت بعد تاريخ طويل من الأحداث والوقائع والتجاذبات السياسية والفكرية بين مختلف مكونات المجتمع، ففي الفترة التي سبقت "المدونة" لم يكن هناك سوى قانون الالتزامات والعقود وقانون المسطرة المدنية والقانون التجاري وقانون التحفيظ العقاري، وقانون المحافظة على الغابة وجميعها قوانين صدرت بموجب معاهدة الحماية بعد مارس 1912 وتناولت المرأة في مناسبات وأماكن عديدة وكانت تتسم بالتمييز والنظرة الدونية للمرأة[3].

صدرت "مدونة الأحوال الشخصية" بداية بقانون رقم 190-57-1 لعام 19/8/1957 بعد عدة شهور من الاستقلال الذي لم يغير أي شيء في القوانين السابقة المتعلقة بالقوانين الاستعمارية أو العلاقات الأسرية، وقد صدرت من طرف "الملك محمد الخامس" الذي عين "اللجنة الملكية الأولى" المكونة من ثماية أعضاء والتي كلفها بإعداد مدونة تنظم المجال الأسري حيث ترأسها الزعيم السابق "لحزب الإستقلال "علال الفاسي"، بيد إن هناك من يتحفظ على تكوينها الذي ضم مجموعة من خريجي القرويين الذين اهتموا في الأساس بالنص الفقهي وليس العدل ومساواة الرجال بالنساء الذي كان مثار جدل وعلى قمة المطالب التي تضمنت "منع تعدد الزوجات" منذ سنة 1947، كما اعتمد المشرع في النص النهائي "للمدونة" على الفقه المالكي المتشدد إلى جانب المحافظة على الأعراف والعادات لجهة العلاقات الأسرية، وقد عقدت اللجنة ثلاثة اجتماعات فقط خلال شهر نوفمر 1957 للموافقة على نصوص كتابي الزواج والطلاق اللذين يعتبران الأكثر خطورة نظراً لارتباطهما بمستقبل الأسرة المغربية واستقرارها، ثم دخلت "المدونة" بعد ثلاثة أعوام من إعدادها مرحلة التجاذبات[4]، وبالتالي فهي جاءت في إطار سيرورة سياسية واجتماعية فرضت ملئ الفراغ القانوني للمجال الذي ينظم الحياة الاجتماعية المغربية.

تشير الدراسات إلى أن النساء المغربيات لعبن دوراً كبيراً في تحريك ملف القضية النسائية سواءً داخل أحزابهن أو في بعض الجمعيات النسائية التي كانت نشيطة آنذاك، بل إن بعض المناضلين التقدميين كما بينت  بعض المصادر بدأوا يدعمون النضال النسائي وخصوصية القضية في إطروحاتهم وكتاباتهم ودعواتهم إلى جعل هذا النضال في إطار حركة نسائية قوية ذات استراتيجية واضحة وأساليب عمل تمكنها من انتزاع مكاسب حقيقية، ومنهم المناضل "المهدي بن بركة" الذي أكد على ضرورة العمل على إفراز حركة نسائية جماهيرية مستقلة تتمتع بالقدرة على رفع مستوى الوعي النسائي في أوساط النساء في المدن والبوادي لتصبح قوة ضاغطة ومتحركة لها ملفاتها وتحقق بالتدريج مكاسبها حتى يتأتى لها الانخراط بكل حقوق المواطنة في النضال العام من أجل الديمقراطية والحداثة[5].

وعليه فقد صدرت "مدونة الأحوال الشخصية" لعام 1957 بستة كتب متتالية، الاول منها خاص بالزواج ويضم ثمانية أبواب والثاني يتعلق بانحلال ميثاق الزوجية وأثاره ويضم ستة أبواب، فيما جاء الثالث بعنوان الولادة ونتائجها ويضم خمسة أبواب، أما الرابع فهو حول الأهلية والنيابة الشرعية ويضم تسعة أبواب، والخامس يتعلق بالوصية ويضم سبعة أبواب، والسادس يتعلق بالميراث ويضم تسعة أبواب.

ثانياً: مراحل إصلاح المدونة

أن التغيرات التي جرت على "مدونة الأحوال الشخصية" حدثت عبر مراحل إصلاحية مترافقة مع بدأ النضال النسائي الذي أخذ يشق طريقه في بداية الستينات باتجاه المزيد من وضوع الرؤية للمطالبة بتعديل "المدونة" في إطار المطلب الجوهري للمساواة بين النساء والرجال، ورافق ذلك تأسيس "الاتحاد التقدمي النسائي" عام 1962 الذي عبأ النساء للمشاركة بمسيرة ضخمة في شوارع الدار البيضاء رفعت فيها شعارات المطالبة بالمساواة حيث شاركت فيها النساء من مختلف المشارب والانتماءات  الاجتماعية والاقتصادية والفئات العمرية. هنا لابد من التنويه إلى أن الظروف السياسية التي عاشها المغرب في 1965 قد أثرت كثيراً على تطور الحركة النسائية التي أصباها الجمود كما تشير إحدى الدراسات[6] في مجال النضال النسائي المطلبي على الرغم من تفاقم مشاكل الأسرة ومعاناة النساء بسبب الطلاق الأحادي وإشكالية تزويج الفتيات الصغيرات ومشاكل الطرد من بيت الزوجية وكذلك من نصوص "المدونة" التي تبين أنها تعاني من شرخاً عميقاً في تعاطيها مع هذا الواقع.

مع الوقت عادت "المدونة" لتتصدر جدول أعمال المغربيات المناضلات اللواتي عملن على الانكباب عليها من جديد للمطالبة بتغييرها عبر خمسة مطالب أساسية تمثلت في "منع تعدد الزوجات، منع الطلاق الفردي ليصبح بحكم يصدر عن المحكمة على أن تراعى هذه الأخيرة تصريحات كل من الزوجة لتبرير الطلاق، رفع الولاية عن المرأة الرشيدة، موضوع النفقة والحضانة". هنا تشير المصادر إلى تبنى كل من "الاتحاد النسائي المغربي" و"الفدرالية الوطنية للنساء ذوات المهن الحرة" أثناء الاجتماع التمهيدي للسنة الدولية للمرأة الذي عقد في 1974 تبني المطالبة بضرورة تعديل "المدونة" على غرار ما ورد في "المجلة التونسية"، كما عرفت الفترة ولادة العديد من الأندية واللجان الخاصة بالمرأة في الجمعيات الثقافية والأندية السينمائية والنقابات والجمعيات التربوية والحقوقية التي نشطت بدورها في مجال التوعية والتأطير ومحاربة الأمية وساندت مطالبات الحراك النسائي.

برزت في هذه المرحلة أيضاً عدة مبادارت أبرزها مبادرة رؤساء المحاكم المغربية في عام 1961 ومبادرة وزير العدل في 1965، وصدرو ظهير "مرسوم" يتعلق "بالزواج المختلط" في 4 مارس 1960 لضمان احترام شروط الزواج الواردة في مدونة 1957 إضافة إلى مجموعة من التعديلات التي تمت خلال السنوات (1965، 1970، 1971، 1974).

فيما تصاعدت الحركة مع مطلع الثمانينات بإنشاء "لجنة ملكية" في 18 أبريل 1979 لإخراج "مدونة جديدة" أعلن عنها رسمياً في 5 مايو 1981 ولم تطبق هذه "المدونة" بسبب تعرضها لانتقادات شديدة إلى جانب الضغوط التي مارستها الجمعيات والمنظمات النسائية على الدولة للمصادقة على مجموعة من الاتفاقيات الدولية[7] المتعلقة بحقوق المرأة، كما اقترح بعض البرلمانيين المنتمين إلى الأحزاب الديمقراطية تعديل بعض مواد "المدونة" وأهمها، (رفع سن الزواج، إخضاع التعدد لرقابة القاضي، خضوع مسطرة الطلاق لمقتضيات واضحة ومحددة، تقديم الطلاق إلى المحكمة طبقا لقواعد المسطرة العادية، استدعاء الزوجين لمحاولة التوفيق بينهما، إذا استحال التوفيق يستدعي حكمان من أسرتيهما لإعادة القيام بالمحاولة، إذا رأى القاضي استحالة الصلح يصدر أمر بعدم التوفيق، إعطاء الحق للطرف المدعي متابعة المسطرة، ويمكن للقاضي البث في التدابير المؤقتة والتحفظية بصيانة حقوق المرأة والأطفال "النفقة والمنقولات الموجودة في بيت الزوجية"، وإذا تبين للقاضي عدم صحة الأسباب المدعى بها من طرف الزوج فإنه يلزم هذا الأخير بتعويض الضرر المادي والمعنوي الذي أصاب الزوجة نتيجة الطلاق التعسفي)، بيد إن المقترحين تم اتهامهم بالخروج عن الدين وبالكفر الأمر الذي جعلهم يتراجعون عن التمسك بمقترحاتهم والدفاع عن مشروعيتها.

أما الحركة النسائية فلم تتوقف عن جعل ملف "المدونة" خلال هذه الفترة على واجهة الأحداث رغم كل النقاش الذي كان يدور في أوساطها حول ضرورة تجاوز معيقاتها وتطوير إمكانياتها وتوسيع قاعدتها وإحداث تحول نوعي في حركيتها، وقد تظافرت جهود مكوناتها الجمعوية والسياسية في صياغة ملفات مطلبية التقت كلها حول أهم النقاط في حدها الأدنى بإشراك المرأة في تغيير "مدونة الأحوال الشخصية"، وجعل الطلاق بيد القضاء، ورفع الولاية، ومنع تعدد الزوجات، ومسألة النفقة والحضانة، كما عقدت الندوة الوطنية الأولى للقطاع النسائي "لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي" عام 1983 التي أكدت على نفس المطالب إلى جانب تأكيد المؤتمر الرابع "للاتحاد الاشتراكي" في 1984 على نفس المطالب داعياً إلى الاستجابة إليها لإنصاف المرأة، وتجدر الإشارة إلى أن كل المحاولات الاصلاحية قد واجهت رفضاً من المشرع المغربي والتيارات المحافظة وبقي العمل "بمدونة الأحوال الشخصية" لعام 1957 ساري حتى مطلع التسعينيات.

مرحلة التسعينيات تعد من أهم المراحل التي عرفتها "المدونة" وذلك نظراً للحراك الكبير الذي شهده هذا الملف من قبل منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والحركة النسائية المغربية، فقد راكمت الأخيرة تجربة غنية خلال سنوات قوتها وضعفها بتناقضاتها وتفاعلاتها حتى بلغ بها مستوى التحول من تقديم الملفات المطلبية بشكل منفرد وتعميمها على الرأي العام والدفاع عنها أمام أصحاب القرار، إلى مستوى إعادة النظر في تنظيماتها وهياكلها ووسائل عملها لتتخذ قراراً تاريخياً بشأن أسلوب عملها الجماعي، فقد ثبت وتأكد لكل مكونات الحركة النسائية وإن بشكل متفاوت بأن مستوى الأداء في  ملف "المدونة" لن يكون إيجابياً ومثمراً إلا بالاعتماد على توحيد صفوفها وتنسيق عملها كي تتحول إلى قوة ضاغطة لها وزنها في الساحة، كما تعززت المطالبات أيضاً بمبادرة "اتحاد العمل النسائي" التي أطلقها في 8 مارس 1991 وذلك للإعلان عن انطلاق "الحملة الوطنية" من أجل تغيير المدونة بدعوى مخالفتها لنصوص الدستور وللاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها المغرب، وقد طالبت الحملة بتعديل أحكام المدونة والقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة خاصة في "الولاية وسن الزواج والطلاق والإرث". وفي السياق انطلقت حملة المليون توقيع التي نظمها "الإتحاد" والتي وجدت لها صدى إيجابياً وسط المجتمع المغربي وتواصل العمل على تكوين "لجنة مختصة" مكونة من علماء وقانونيين وخبراء في مجال علم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد، عمد إليها مهمة وضع "مشروع مدونة" بديل يتم تقديمه إلى أصحاب القرار[8].

تلى ذلك تنظيم ندوة صحفية لنفس "الإتحاد" بالرباط في 8 مارس عام 1992 بهدف تجميع المطالب التي تشكل أساس الحملة التي أطلقها الاتحاد عام 1991. وفي 20 أغسطس 1992 ألقى "الملك الحسن الثاني" خطاباً أصبحت بمقتضاه "مدونة الأحوال الشخصية" من اختصاصه، وهذا ما جعله يشكل "لجنة لتعديل مدونة الأحوال الشخصية" برئاسة "عبد الهادي بوطالب" في 14 أكتوبر 1992 توجت بإصدار "مدونة الأحوال الشخصية" بتعديلات وذلك في 10 سبتمبر 1993. في هذا الصدد تخلص إحدى الدراسات إلى أن التعديلات الأخيرة التي حدثت على "المدونة" لم تكن جذرية واقتصرت على بعض الفصول دون غيرها في موضوع الزواج في الفصول (5، 12، 30، 41)، حيث تم إقرار قيدين على التعدد، واشترط المشرع على الزوج ضرورة إخبار الزوجة الأولى برغبته في الزواج عليها، وإن أهم مستجد في هذه المادة هو أن التعدد لا يمكن أن يتم إلا بعد الحصول على إذن القاضي بذلك.

كذلك في قضة الطلاق في الفصول (48، 52) حيث وضعت حداً فيه "للطلاق الغيابي" إذا كان يعطي الصلاحية للزوج لتطليق زوجته غيابياً، وفي الولادة ونتائجها بتعديل الفصول (99، 102، 119)، والأهلية والنيابة الشرعية بتعديل الفصلين (148، 156)، فيما أصبح الأب يحتل المرتبة الثانية في الحضانة بعد الأم في ترتيب الحاضنين (ف 99)، بعد أن كان يحتل المرتبة السادسة قبل تعديل 1993، وتم تحديد سن الحضانة في عمر (2 سنة) للفتى و(15 سنة) للفتاة بعدها يختار الاثنان الطرف الذي يريدان العيش معه، إضافة للنفقة التي أصبح بالإمكان رفع دعوى إستعجالية بقصد الحكم بالنفقة وأسند للقاضي السلطة التقديرية في تحديدها، كما ضمن تعديلات أخرى إضافة إلى إنشاء "مجلس للعائلة" تتلخص مهمته في مساعدة القاضي في تدبير شؤون ونزاعات الاسرة (ف 156)، غير أن هذه التعديلات وتلك لم تلبي مطالب الحقوقيين والجمعيات والمنظمات النسائية لم تستسغ هذه التعديلات التي لم تحقق أغلب مطالبها المرتكزة على إلغاء التمييز بين الجنسين وتكريس مبدأ المساواة والقضاء على التعددية نهائياً وغيرها من المطالب، لذلك عبرت عن استيائها منها، أملا في إيجاد "مدونة" قادرة على استيعاب الواقع الجديد للمرأة المغربية وتؤسس لعلاقة متكافئة بين الرجل والمرأة تستند إلى المرجعية الدولية المتمثلة في المواثيق والاتفاقيات المتعلقة بالمرأة.

في إطار الحراك ابتدعت الحركة النسائية أساليب متطورة في تعاطيها مع "ملف المدونة"، واعتماد التكامل بين وسائلها وطرق عملها وبرامجها وتخصص كل تنظيم في الأسلوب الذي يراه مناسباً للمساهمة في تطوير النضال النسائي، فهناك من الجمعيات من حرص على عقد ورش للتوعية وسط النساء بإشراكهن حتى في صياغة المطالب والدفاع عنها بشكل مستميت، بينما أخذت جمعيات أخرى بأسلوب الدراسات والبحوث فقط، واعتمدت أخرى على أسلوب الترافع، وجميعها ركزت على المطالب الأساسية التي شكلت العمود الفقري لهذا التغيير من خلال المطالبة بـ"إلغاء الولاية أثناء الزواج بالنسبة للراشدات؛ منع تعدد الزوجات؛ رفع سن الزواج إلى (18) سنة؛ وجعل الطلاق بيد القضاء مع إلغاء مسطرة التطليق؛ إلغاء أحكام بيت الطاعة؛ جعل بيت الزوجية من حق الأطفال والحاضنة؛ الاعتراف بحق إثبات النسب بالطرق العلمية الحديثة (ADN) لحماية حقوق الأطفال؛ التنصيص على المسؤولية المشتركة للزوجين على الأطفال؛ خلق صندوق لتغطية النفقة مباشرة بعد الطلاق؛ التنصيص على اقتسام الممتلكات المتراكمة أثناء الزواج بعد الطلاق"، وقد تقدمت الحركة النسائية للحكومة المغربية بهذه المطالب في عدة مناسبات، وطالبت الدولة بتحمل إلتزاماتها الدولية المحددة بسقف زمني.

إلى جانب ذلك تعزز الحراك النسائي بتأسيس جمعيتين نسائيتين هما: "الجمعية المغربية للدفاع عن حقوق النساء" و"الرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة" اللتين ساهمتا بشكل كبير وإيجابي في تطويرالحوارات حول الاستراتيجية المقبلة للحركة النسائية إنطلاقا من تقييم حصيلة المكاسب الراهنة، ودأب كل تنظيم على صياغة ورقة عمل تتضمن تصوراً دقيقاً لطبيعة العمل والملفات الواجب التركيز عليها، فانطلقت "الرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة" في أبريل 1994 في حملة حول تعديل قانون الشغل مركزة على إدماج خدم وخادمات المنازل في قانون الشغل والتي أفرزت تنسيقا كبيراً في متابعة قضايا المرأة والشغل، فيما ركزت الجمعية المغربية للدفاع عن حقوق النساء عن التحرش الجنسي في أماكن العمل، بيد إن "المدونة" بقت مركز اهتمام الحركة النسائية، لأنها فعلا مصدر كل المشاكل والويلات التي تعاني منها الأسرة، وبالتالي المجتمع المغربي.

في عام 1999 بدأت أهم المحطات التاريخية التي سبقت صدور "مدونة الأسرة" لاسيما حين أطلقت وثيقة "مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية" التي اعتبرت حداً أدنى لما توصلت إليه الحكومة والحركة النسائية لاسيما وإن المشروع لم يستجب لكافة المطالب النسائية، لكن أغلب التنظيمات اعتبرته خطوة إيجابية نحو المزيد من المكتسبات المستقبلية، وهو الذي أثار ردود فعل قوية من المجتمع المغربي بمختلف فئاته التنظيمية والإجتماعية والرسمية وذلك بين مؤيد ومعارض، وبدأت تصدر بيانات المجالس العلمية التي انضمت إليها بعض الصحف والأحزاب والجمعيات المعادية لحقوق المرأة وللديمقراطية والحداثة وكفُرت الحركة النسائية وكل المناصرين لمطالبها، ومع ذلك لم تقف المنظمات النسائية مكتوفة الأيدي بمصادرة حقها، وأفرزت هذه المرحلة تنسيقين مهمين؛ هما "الجبهة من اجل حقوق المرأة" و"شبكة دعم خطة إدماج المرأة في التنمية"، اللتين تكامل تحركهما وطريقة إدارتهما للملف؛ إذ تشير المصادر إلى إن "الشبكة" عمدت للتوجه إلى جميع الفعاليات المثقفة ورص صفوفها ووضع برنامج عمل للتأثير على أصحاب القرار، وفتح ورش عمل كبيرة على مستوى وطني لبلورة جبهة وطنية عريضة داعمة لحقوق المرأة وللمساواة والمواطنة؛ وانخرطت فيها كافة الفعاليات ومكونات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والنقابية والجمعيات الحقوقية في كل الأقاليم.

تكشف الوثائق بأن الحركة النسائية المغربية جندت كل طاقاتها واستعانت بالمتخصصين في مجال الفقه من العلماء المتنورين وبعض الدارسين والمثقفين وعلماء الاجتماع والقضاة والقانونيين والخبراء إلى جانب إنجاز الدراسات التحليلية والبحوث الميدانية التي تدحض كل تأويلات التيار المحافظ للشريعة ومحاولاته لتزييف المطالب النسائية وجعلها متعارضة مع الإسلام ودخيلة على المجتمع، كما تم التعامل بحذر مع محاولات الاحتواء أو العرقلة والتفجير أو التشكيك في مصداقية نضالها، وتفادت المنزلقات بالكثير من الإصرار والشجاعة وعدم إضاعة الفرص في تحقيق نقلة نوعية في مجال المساواة، فاستطاعت بذلك الإرتقاء بالحركة النسائية من حركة مطلبية إلى حركة اجتماعية تتمع بقوة الاقتراح والانتقال من تحصين تنظيماتها وتوسيعها إلى فتح ورش عمل للتوعية وصياغة المطالب والتوحد حولها في إطار عمل تنسيقي فاعل والتفاوض مع أصحاب القرار، إضافة إلى اتباع أسلوب الوقفات أمام البرلمان والمحاكم في العديد من المدن المغربية، ووقفات الأطفال والشباب للمطالبة بمدونة تضمن حقوق الطفل واستقرار الأسرة وتنظيم الاحتجاجات والمسيرات، مثل المسيرة الضخمة في مدينة الرباط يوم 12 مارس 2000.

من جهة متصلة عمدت الحركة إلى ربط الجسور بين النساء المغربيات داخل المغرب والمهجر فكان للمؤتمرات الدولية مثل مؤتمر "النساء المغربيات هنا وهناك" تأثيراً قوياً على الحراك، كما تم صياغة المذكرات في إطار مجموعة ربيع المساواة في 16 مارس 2001 التي وجهت لأصحاب القرار من حكومة وبرلمان وكذلك مذكرة الترافع أمام الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات الحقوقية إضافة لتلك التي وجهت للملك في يونيو 2003، فيما نادت مجموعة من فعاليات المجتمع المدني إلى تأسيس "جبهة للدفاع" عن حقوق المرأة والنهوض بها وتطبيق بنود الخطة، وطرحت مبادرة المليونى توقيع التي من أهم مطالبها "منع التعدد وإلغاء الولاية وتحديد سن الزواج فى 18 عاما وجعل الطلاق بيد القضاء، وإعادة النظر فى تربية الأطفال بعدها وأحقية بيت الزوجية للأم الحاضنة وغيرها"[9].

لقد شهد هذا المنعطف ارتفاعاً حاداً في حدة النزاع بين جميع الأطراف المهتمة بالأسرة والمرأة والمناصرة لحقوقها ومطالبها في أوساط تيارات اليسار والعلمانيين والمنظمات النسائية والأحزاب السياسية والنقابات من جهة وبين التيارات الدينية المحافظة من جهة أخرى، فتدخل "الملك" ليحسم الصراع في 27 أبريل 2001، ويعلن عن تشكيل "اللجنة الملكية الاستشارية" المكلفة بتعديل بنود المدونة برئاسة "إدريس الضحاك" الذي تم استبداله بـ"محمد بوستة" الزعيم السياسي في "حزب الاستقلال" وبذلك دخل ملف "المدونة" منعطفا جديداً أفرز "إعلاناً ملكياً من قبة البرلمان في 10 أكتوبر 2001  يتضمن التعديلات الجوهرية في المدونة والتي "سنتطرق إليها لاحقاً"، ومنه انتقل المغرب من "مدونة الأحوال الشخصية" إلى "مدونة الأسرة الجديدة"، التي رحبت بها جميع الهيئات السياسية والمنظمات النسائية ومؤسسات المجتمع المدني واعبتروها مكسباً من المكاسب التي يبنى عليها تراكمات لصالح النساء، إلا إن بعض الجمعيات النسائية الناشطة في مجال حقوق المرأة لاتزال تمارس ضغوطاً من أجل الحصول على مكاسب أكثر جذرية وتحقيق بعض التعديلات التي تحقق المساواة خصوصاً مع ما يشوب "المدونة" من قصور في نواحي التطبيق.

ثالثاً: أهم التجديدات في مدونة الأسرة المغربية

مما سبق تعد "مدونة الأسرة" المغربية الجديدة اجتهاداً جماعياً ساهمت فيه كل فعاليات المجتمع من الجانب الرسمي والأهلي المتمثل في الحركة النسائية المغربية ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية بكافة تلاوينها الدينية والإيديولوجية، وعلى الرغم من اعتماد "المدونة" في مضمونها على المذهب المالكي إلا إنها أيضاً طُعمت بتعاليم من المذاهب الأخرى وبما جاء في المواثيق الدولية لحقوق المرأة، وهي تضمنت على ديباجة وباباً تمهيدياً للأحكام العامة، وسبعة كتب مقسم كل منها إلى أقسام مبوبة بدورها إلى أبواب مشتملة على عدد من المواد التي بلغ عددها (400) مادة، تتناول أحكام الأسرة من حيث الزواج والطلاق وما قبلهما وما بعدهما، كما ترافقت مع إنشاء محاكم للأسرة منفصلة عن محاكم الدرجة الأولى العادية التي كان لها الولاية في شؤون قانون الأسرة[10]، ويمكن تحديد أبرز ما تتميز به المدونة المغربية والمستجدات التي وردت فيها كما يلي:

(1)    المميزات
في مقاربة لأهم ما تميزت به مدونة الأسرة المغربية تشير إحدى التقارير إلى ما يلي[11]:
1.     تبنت المدونة المغربية الرقابة على مختلف التصرفات القانونية المتعلقة بالأسرة كالزواج والطلاق؛ إضافة إلى جعل النيابة العامة طرفا أصلياً في كل القضايا الرامية إلى تطبيق المدونة بمقتضى المادة (3) منها.
2.     كما تبنت القضاء الجماعي في غير دعوى النفقة والطلاق والتطليق والمسطرة الكتابية في غير قضايا النفقة؛ بالإضافة إلى تبنيه القضاء الفردي والإجراءات الشفوية.
3.     اشترطت المدونة توثيق عقود الزواج والإشهاد على الطلاق وفق إجراءات مضبوطة؛ مع الحصول على إذن قضائي بعد التأكد من صحة الوثائق المدلى بها في الزواج، وإجراء محاولة الإصلاح، ووضع المستحقات في صندوق المحكمة في الطلاق.
4.     تم المزج بين القواعد الموضوعية والقواعد المسطرية في قضايا الأسرة في المدونة.
5.     تحديد مجموعة من الإجراءات والآجال بهدف سرعة البت في قضايا الأسرة مثل تحديد (30) يوماً للبت في قضايا النفقة و(6) أشهر للفصل في دعوى الشقاق و(15) يوما كأجل للطعن بالاستئناف.
6.     تنظيم أوضاع الجالية المغربية فيما يتعلق بالزواج وإنهائه من خلال المواد (14، 15، 128)، بمعنى الاعتراف بالزواج المدني المبرم من طرف أفراد الجالية المغربية لدى السلطات المحلية في بلدان الإقامة.
7.     اعتبار الولاية على المرأة في الزواج اختيارية وليست إجبارية بمقتضى المادتين (24،25) تمارسها المرأة أو تفوضها لمن تشاء من أقاربها.
8.     تنظيم تعدد الزوجات.
9.     أهلية الزواج في المدونة هي (18) سنة مع إمكانية زواج القاصر بإذن قضائي بعد اعتماد خبرة طبية وإجراء بحث اجتماعي، وتفعيل سلطة القاضي في ممارسة سلتطه التقديرية.
10.   عدم اعتماد التقسيم بين حقوق الزوج وحقوق الزوجة في المدونة وجعلها حقوقا متبادلة مشتركة بينهما مشمولة في مادة واحدة اعتمادا على تكريس مبدأ المساواة الذي كان حاضراً بقوة في صياغة المدونة.
11.   تنظيم المدونة لكيفية تدبير أموال الزوجين في مرحلة الزواج، وحق كل منهما في الثروة المكتسبة خلال مرحلة الزوجية بقدر مساهمته فيها من خلال المادة (49) من المدونة.
12.   اشتراط المدونة في زواج المعاق رشد الطرف الآخر ومنع القاضي من تزويج من هي تحت ولايته من نفسه بنفسه، وجعل التحريم في الرضاع بحصول واقعة الرضاع دون تحديد عدد الرضعات.
13.   إعطاء الحق للزوجة التي خالعت زوجها أن تسترجع ما دفعت للزوج مع إمضاء الطلاق إذا أثبتت أنها كانت مكرهة على الخلع.
14.   جعل مدة الحضانة إلى بلوغ سن الرشد مع إعطاء الحق للمحضون في اختيار الحاضن إذا بلغ (15) سنة مع جعل الأب في المرتبة الثانية بعد الأم في استحقاق الحضانة، الأخذ بعين الاعتبار الوضع الاجتماعي للطفل عند افتراق الأبوين سواء من حيث السكن أو مستوى العيش الذي كان عليه قبل الطلاق، والاعتراف بنسب الطفل المولود في مرحلة الخطبة.
15.   إحداث أقسام لقضاء الأسرة بالمحاكم. 

(2)   مستجدات المدونة في 2004
1. الزواج
عرفت المادة (4) من المدونة الزواج تعريفاً جديداً على "أنه ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة، على وجه الدوام، غايته الإحسان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين طبقا لأحكام هذه المدونة"، وحسب بعض المحللين فأن هذا التعريف يجسد الإعلان عن المساواة بين الأزواج في تحمل الأعباء الأسرية، كما يكرس قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات.

2. تحديد سن الزواج
حددت المادة (19) من المدونة "سن الزواج" بـ (18) سنة للرجل والمرأة على حد سواء، مع إمكانية تخفيضه بإذن من قاضي الأسرة بمقرر معلل، وغير قابل لأي طعن، وبالتالي لم يعد هناك مجال للتفرقة بناء على المؤشر الجنسي، وقد جاء ذلك استجابة لمطالب الحركة النسائية المتكررة المبنية على مبررات تعود بالأساس إلى المشاكل التي كانت تحصل من جراء بعض حالات الزواج المبكر، وحفاظاً على حق الفتاة الصغيرة في إكمال تعليمها قبل تحميلها بأي التزامات زوجية تفوق قدراتها التحملية، كذلك تفادي السلبيات الناتجة عن الولادة المبكرة وتأثيرها الخطير على حياة الأم و الطفل، فضلاً عن محاولة توحيد سن الزواج بسن الرشد القانوني والسن القانوني للتصويت وغيرها، وقد أخذت "المدونة" في هذا المجال بالفقه المالكي الذي يستوجب إتمام (18) سنة للذكر والأنثى خلافا لبقية المذاهب الأخرى.

3. التعددية
تشير الدراسات إلى أن التعدد استغرق وقتاً هاماً من اللجنة وتم التنصيص على مقتضياته في المواد من (40-46) من "المدونة"، حيث نصت المادة (40) على إنه "يمنع التعدد إذا خيف عدم العدل بين الزوجات، كما يمنع في حالة وجود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها"، وبمقتضى هذه المادة وتبعاً لأحد الدراسات أصبحت إمكانية التعدد شبه مستحيلة، عندما ربطه واضعي المشروع بشروط صارمة تحت مراقبة وموافقة القاضي. وتجد حالة المنع المنصوص عليها في الفقرة الأولى سندها الشرعي في الآية الكريمة: فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة.. وأن الحق سبحانه نفى هذا العدل في قوله تعالى: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم. أما الحالة الثانية فتجد سندها في القاعدة القانونية: العقد شريعة المتعاقدين الذين عليهما احترام ما التزما به في العقد، وسمحت المدونة باستثناء لمن يرغب بالتعدد تقديم طلب إلى المحكمة، متضمناً بيان الأسباب المبررة لطلبه، ومرفقاً بما يثبت وضعيته المادية، وقيدت ذلك بضوابط  وإجراءات صارمة، لكن المنظمات النسائية والحقوقية الناشطة، تجد أن تجربة الاستثناء في التعدد كشفت عن تعسف الكثيرين من مريدي التعدد في استعمال هذه الرخصة، وعدم التزامهم بالجانب الأخلاقي والوازع الديني الذي يشترطه النص وهو ضرورة العدل بين الزوجات، وضرورة توفر أسباب جدية وموضوعية، وكانت النتيجة حيف وظلم في حق الزوجة المتزوج عليها دون احترام المقاصد الشرعية في ذلك، ولعل المدونة قد راعت من خلال هذه المقتضيات، حماية الحلقة الأضعف في العلاقة الزوجية /الزوجة والأطفال، لهذا تطالب الحركة النسائية بإصرار بإلغاء التعدد نهائياً.

4.    الولاية
نصت المدونة في المادتين (24 و25) على تخيير المرأة الرشيدة في أن تزوج نفسها بدون ولي، أو تفوض ذلك لأبيها أو لأحد أقاربها،  بهذا فأن المدونة هنا سلكت منحى مدونة سنة 1957 لكن بشكل أكثر إنصافا للمرأة هذه المرة، إذ كانت المادة (14) من مدونة 1957 تنص "على أنه إذا زوجت المرأة نفسها من غير موافقة الولي، فان كان الزوج كفئا لزم العقد وإلا فللولي فسخ العقد، رغبة من المشرع في مراعاة مصلحة الزوجة واستقرار الأسرة، وأخذا بنظرية أن العقد في الزواج يهم المتعاقدين الذين هما الزوج والزوجة قبل غيرهما، وبالمناسبة فقد تم التراجع عن هذا المكسب الذي طالما شغل مجالا واسعا من مطالبات الجمعيات النسائية في مدونة 1993، وقد تم الاستجابة له من خلال المادة (24) من المدونة التي تنص: الولاية حق للمرأة الرشيدة حسب اختيارها و مصلحتها، وللرشيدة حسب المادة (25) أن تعقد زواجها بنفسها أو تفوض ذلك لأبيها أو لأحد أقاربها."، وترى إحدى الدراسات بأنه تم الأخذ هنا بالمذهب الحنفي، خروجا على مبدأ الوحدة المذهبية في إطار المذهب المالكي، لكن في إطار المرجعية الإسلامية، على اعتبار أن قضايا العصر والتطورات الهائلة التي يعرفها لا يمكن أن يسعها فقه مذهب واحد، وإنما تسعها أصول الإسلام كاملة، واجتهادات علمائه أجمعين، واعتماداً على أحد تفاسير الآية الكريمة القاضية بعدم إجبار المرأة على الزواج بغير من ارتضته بالمعروف، وهي الآية 232 من سورة البقرة: و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن، فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف.

هذا الرأي في جعل الولاية اختيارية، هو رأي لبعض فقهاء المذهب الشافعي أيضا، وخلافا لرأي الجمهور ومنهم الفقه المالكي الذي يعتبر الولاية شرط لصحة العقد. وعليه فإن المدونة الجديدة اختارت موقفا وسطاً فهي أبقت على الولاية ولم تسقطها بالمرة، كما طالبت بذلك بعض الجمعيات النسائية، لكنها تركت الخيار للمرأة، تبعا للظروف والأسباب. ويلاحظ أن هذا الاختيار جاء كما قيل في سبيل تفادي المشاكل الناجمة أساسا عن التأخر في سن الزواج وتوفير إمكانية لتمدرس المرأة ومشاركتها في الحياة العملية، استجابة للتطورات الحاصلة في هذا المجال حسب الدراسة.

رابعاً: التحديات وأوجه القصور في مدونة الأسرة المغربية
على الرغم من التطورات التي حدثت على مدونة الأسرة المغربية، إلا إن الجمعيات الحقوقية والمنظمات النسائية في المغرب تطالب بمراجعة شاملة "للمدونة" بعد مضى 15 عاماً من إصدارها، خصوصاً فيما يتعلق بشق "التعدد" الذي يصطدم بالنصوص الشرعية والتي تعتبر أحد مصادر تشريع للمدونة المغربية.

في هذا الصدد تجدر الإشارة إلى نتائج دراسة نفذتها "الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب" لتقييم "المدونة" بعد مرور 15 عاماً من إقرارها لاسيما وإن الواقع المعاش والممارسة الميدانية قد أظهرت وجود عيوب في تطبيقها، وأشارت الدراسة إلى ضرورة حذف الفقرات (2، 3 والأخيرة) من المادة (16) من "المدونة" وهي المواد  المتعلقة بالاستثناءات في إثبات عقود الزواج، وضرورة أن تواكب هذه الخطوة بحملات إعلامية فعلية حول توثيق العقود، إضافة لما رصدته الدراسة أيضاً من ضرورة لتوحيد إجراءات الطلاق والتطليق وتوحيد المستحقات، وإعادة النظر في القانون المتعلق بالنيابة الشرعية، من خلال إقرار المساواة بين الأم والأب في كل ما يتعلق بتدبير مصالح الأطفال المعنوية والمادية من دون تمييز أو أولوية لأحد منهما وتحت مراقبة القضاء".

أما القصور الثالث الذي أشارت إليه نتائج الدراسة فيتعلق بالمادتين (20 و21) المرتبطتين بالترخيص الاستثنائي للزواج المبكر للفتيات، حيث تبين أن زواج القاصرات لا يزال مستمراً، بل تم تسجيل إرتفاع في عدد زواج القاصرات، حييث ارتفع العدد من (18,341) حالة زواج في 2004 وهو تاريخ انطلاق العمل "بالمدونة" إلى (39,031) حالة في عام 2011، بسبب "ممارسات التحايل"، وقد سبق أن دعا نشطاء وحقوقيين إلى حذف هاتين المادتين من المدونة، وإقرار عقوبات زجرية في حق كل من ساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تزويج فتاة قاصر، عن طريق ما يسمى "بزواج الفاتحة"، أو عن طريق التحايل من طرف الزوج، أو التحايل لممارسة "تعدد الزوجات" بالنسبة للبعض.

وهنا تشير المحامية المغربية عتيقة الوازيري التي أعدت الدراسة المشار إليها إلى "ندرة القرارات الصادرة عن محكمة النقض في مجال الأحوال الشخصية، بسبب عدم قابلية بعض الأحكام للطعن، كالإذن بالزواج وتزويج القاصر، إضافة إلى إشكالية الولوج إلى العدالة، خاصة بالنسبة للنساء في وضعية من الهشاشة" وطالبت بأن القرارات الصادرة عن محكمة النقض يجب أن تكون في متناول الرأي العام الوطني والمختصين من أجل مراقبة توجه العمل القضائي ومدى انسجامه مع توجه المشرع والإرادة السياسية"[12]، كما طالبت الدراسة "البرلمان" كسلطة تشريعية، بالعمل على إخراج "قانون يمنع تعدد الزوجات" في المغرب بشكل نهائي، ومن دون منح أي استثناءات، كما ورد في "مدونة الأسرة"، فضلاً عن ضرورة إقامة مراجعة شاملة لبنود "المدونة" من أجل تحديثه ليحمي حقوق المرأة وتوضيح بعض المواد التي ما زالت تضم مفاهيم قابلة للتأويل من كلا الطرفين[13]. 

كذلك كشف تقرير[14] "للرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة" رصدت فيه "مدونة الأسرة" لمدة أربع سنوات في مختلف مناطق المغرب من خلال الأبحاث والحالات التي ترد على مراكز الاستقبال التي تتوفر عليها، أو من خلال الإحصائيات الرسمية التي تنشرها وزارة العدل أو ما توفر لها من مصادر أخرى إضافة للحالات التي تنشد الاستشارة القانونية التي تقدمها الرابطة، كشفت أن هناك أعداد مخيفة لزواج القاصرات بالمغرب، حيث بلغ عدد طلبات زواج القاصر (38,710) عام 2007 مقابل (30,312) عام 2006 وصلت فيها نسبة القبول إلى (86.79%)، وإن هناك ملفات منح فيها الإذن بزواج (2,021) صبية دون الخامسة عشرة سنة، منها (159) لفتاة في سن14 سنة، و(1862) لفتاة في سن 15 سنة مما يعد خرقاً للقواعد القانونية، وأشارت إلى بعض الإيجابيات المتمثلة في كيفية تعامل وزارة العدل والمحاكم مع قضية الإذن بزواج القاصر، والتي سجلت انخفاضاً في عدد الأذونات بين عامي 2006-2007، بيد إن ما سبق يشكل هاجساً مقلقاً للفعاليات المهتمة بحقوق المرأة الذي دفعها إلى رفع مطالبها إلى وزارة العدل وهي تتمثل في ضرورة وضع معايير محددة لمنح الإذن بزواج القاصر، وبتحديد سن أدنى، ومراعاة تقارب السن بين الزوجين، وإجبارية الخبرة والبحث الاجتماعي، وتوحيد العمل القضائي، حتى يصبح زواج القاصر بالفعل استثناء، مع اتخاذ إجراءات زجرية بحق الولي الذي يثبت ضده أنه زوج من يتولى أمرها قبل السن القانوني، دون اللجوء إلى طلب إذن المحكمة،  بغض النظر عن قبول أو رفض ثبوت الزوجية، الذي يتقدم به الزوجان فيما بعد.

إضافة لما سبق طالبة الرابطة بإلغاء التعدد، ولاحظت أن هناك انخفاضاً في الطلاق والتطليق (50.763) عام 1998 إلى (27.904) في عام 2007، كما انخفض طلاق الخلع بنسبة (10.07%) وارتفاع الطلاق الاتفاقي بنسبة (22.28%) وبزيادة بنسبة (79.98%) للتطليق للشقاق، وهو في ارتفاع مستمر وهذا مؤشر يدعم توجه وموقف الجمعيات النسائية والحقوقية التي تطالب بوضع الطلاق في يد القضاء والاكتفاء بنوع واحد يمارس بمساواة بين الرجل والمرأة، وبالنسية للنفقة، وجدت دعاوى النفقة تحتل الصدارة في المحاكم وطالبت بضرورة التعجيل بإخراج صندوق التكافل الاجتماعي للوجود، الذي يعوض نفقة زوج ليست له الإمكانيات للنفقة على أطفاله، كما تطرق التقرير إلى النسب وإشكالية الطرد من بيت الزوجية، التي تدخل في خانة العنف ضد النساء، ما يستدعي إصدار قانون شامل لمحاربة الظاهرة، وإلى اقتسام الممتلكات كمستجد جاءت به المدونة، وما زال يجهل نصه الكثير من النساء.

ومن من المهم الإشارة إلى ما خلص إليه تحقيق آخر[15] بإنه وخلال السنوات الأولى من تطبيق مدونة الأسرة المغربية تبين أن هناك تراجع في معدلات نسبة الطلاق بشكل لافت مقارنة بالسنوات الماضية التي كانت تسجل نحو (50 ألف) حالة طلاق سنوياً لتستقر على نحو (30) ألف حالة طلاق سنة 2007، فضلاً عن إرتفاع نسبة الزواج (من 263 ألف إلى 314 ألف)، وتسجيل (986) حالة تعدد زوجات،  فيما يسجل ارتفاع في نسبة زواج القاصرين والقاصرات والتي فشلت "المدونة" في الحد منها حيث تم تسجيل (33 ألف) حالة في عام 2009 مقابل (30 ألف) عام 2008.


ختاماً لاشك إن الحركة النسائية المغربية إستطاعت تحقيق إنجازات لا يستهان بها على مستوى "مدونة الأسرة" التي جاءت استجابة لجزء مهم من المطالب النسائية إلا إنه بات عليها بالمقابل العمل على تحصين المكتسبات وتعزيزها بالحرص على التطبيق السليم لمقتضيات "مدونة الأسرة" ومتابعة المشاكل التي يطرحها التطبيق على أرض الواقع، ومواصلة عقد ورش التوعية وتبني القضية النسائية من أجل المواطنة والمساواة الحقيقية، ذلك لأن معركة "المدونة" لم تنته بعد طالما النواقص لاتزال كامنة بين موادها وفصولها التي يعاني بعضها من تناقضات.


تم تقديم هذه القراءة في المنتدى الذي عقده الاتحاد النسائي البحريني حول "قوانين الأسرة في الدول العربية والإصلاحات المطلوبة" بالعاصمة المنامة من 30-31 مارس 2019.




تعليقات