القائمة الرئيسية

الصفحات



سلطة القاضي في تقدير الاعتراف الجنائي في القانون المغربـي والمقارن د, محمد بازي

سلطة القاضي في تقدير الاعتراف الجنائي  في  القانون المغربـي والمقارن     د, محمد بازي

سلطة القاضي في تقدير الاعتراف الجنائي  في  القانون المغربـي والمقارن     د, محمد بازي

سلطة القاضي في تقدير الاعتراف الجنائي  في  القانون المغربـي والمقارن     د, محمد بازي
تحميل المقال مع الهوامش من هنا

                سلطة القاضي في تقدير الاعتراف الجنائي
                       في  القانون المغربـي والمقارن
                                                            د, محمد بازي*


في ظل نظام الإثبات الجنائي الحر يرى أغلب الفقه و القضاء أن اعتراف المتهم بالجرم المنسوب إليه لا يلزم المحكمة بإدانته, فحق المتهم في المحاكمة العادلة يفرض عليها أن تتأكد من توافر شروط صحة الاعتراف الصادر عنه، فإن تأكد لها ذلك تبدأ مهمتها في تقديره، و يقصد بالتقدير التحقق من صدق الاعتراف، بمعنى أن يكون مطابقا لماديات الجريمة أما إذا كان متناقضا معها فلايصح التعويل عليه ولو استوفى كل شروطه القانونية إذ لا يجوز تأثيم إنسان بناء على اعترافه متى كان مخالفا للحقيقة والواقع، ذلك أن القيمة الإثباتية للاعتراف لا تتحقق فقط بقيام شروطه بل إنها تكتمل بصدقه ومطابقته للواقع.
و دراسة موضوع سلطة القاضي في تقدير قيمة الاعتراف، تتطلب معالجته في المباحث التالية :
المبحث التمهيدي: ماهية الاعتراف الجنائي
المبحث الأول:  خضوع الاعتراف للسلطة التقديرية للقاضي
المبحث الثاني: سلطة القاضي في تجزئة الاعتراف
 


* أستاذ بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة القاضي عياض مراكش.
                                             
 المبحث التمهيدي:
ماهية الاعتراف الجنائي


تجنبت التشريعات الجنائية المقارنة تعريف الاعتراف كما تفادت تنظيم هذا الدليل، فالمواد 154 إلى 342 المخصصة للإثبات في قانون تحقيق الجنايات الفرنسي الصادر سنة 1808 لم تذكر الاعتراف ضمن وسائل الإثبات الجنائية، وفي قانون الإجراءات الجنائية الصادر سنة 1958 نصت  المادة 428 منه على أن "الاعتراف كباقي وسائل الإثبات متروك لحرية تقدير القاضي" و يتبين أن المشرع الفرنسي و إن اقتصر على ذكر الاعتراف كوسيلة للإثبات دون تحديد ماهيته وتنظيمه إلا أنه سواه بباقي وسائل الإثبات الأخرى وأخضعه لقناعة القاضي الجنائي بعدما ساد الاعتقاد زمنا طويلا على أن الاعتراف هو "سيد أو ملك الأدلة".
وذهب الفقيه الفرنسي الكبير  Garraud إلى أن سبب عدم تنظيم المشرع للاعتراف هو نوع من الحياء التشريعي، إذ كان الاعتراف، وعلى مر العصور، رفيقا للتعذيب، بل ان بعض التشريعات، ومنها التشريع الفرنسي، تسمح بتعذيب المتهم قصد الحصول على الاعتراف.
أما التشريعات العربية فقد سارت على نهج المشرع الفرنسي فتجاهلت تعريف وتنظيم الاعتراف الجنائي في قوانينها الإجرائية، وكل ما جاء في قانون الإجراءات الجنائية المصري الصادر سنة 1950 بخصوص الاعتراف هو أن "يسأل المتهم عما إذا كان معترفا بارتكاب الفعل المسند إليه، فإن اعترف جاز للمحكمة الاكتفاء باعترافه، والحكم عليه بغير سماع الشهود، وإلا فتسمع شهادة شهود الإثبات ...".
كما كانت المادة 132 من قانون تحقيق الجنايات المصري الصادر سنة 1883 تنص على ما يلي: "... يتلو الكاتب أوراق التحقيق ماعدا محاضر شهادة الشهود التي لايصح ذكرها في المرافعة، إلا بعد تقديم أحد أعضاء النيابة العامة طلباته، وبعد ذلك يسأل القاضي المتهم عما إذا كان معترفا بارتكاب الفعل المسند إليه، فإن أجاب بالإيجاب يحكم عليه بغير مناقشة ولا مرافعة ...".
وبالرجوع لقانوننا نجد بأن المشرع قد سلك نفس الطريقة التي اتبعها الاتجاهان السابقان، فلم يعرف الاعتراف بل إنه تحاشى ذكره ضمن وسائل الإثبات في قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 الملغى، واقتصر على النص في المادة  288 منه على أنه "يمكن إثبات الجرائم بأي وسيلة من وسائل الإثبات ما عدا الأحوال التي يقضي فيها القانون بخلاف ذلك، ويحكم القاضي حسب اعتقاده الصميم".
وإذا كان المشرع المغربي قد تجاهل ذكر الاعتراف وتنظيمه  في القانون المذكور، فإنه أشار إليه في المجموعة الجنائية واعتبره وسيلة لإثبات جريمتي الفساد والخيانة الزوجية (الفصل 493 ق.ج).
وقد حاول المشرع المغربي في القانون الجديد للمسطرة الجنائية، تدارك هذا النقص فنص في الفقرة الأولى من المادة 293 منه على خضوع الاعتراف كباقي وسائل الإثبات الجنائية الأخرى للسلطة التقديرية للقضاة، كما جاء في الفقرة الثانية من نفس المادة مايلي: "لا يعتد بكل اعتراف ثبت انتزاعه بالعنف أو الإكراه، وعلاوة على ذلك، يتعرض مرتكب العنف أو الإكراه للعقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي".
كما تمت الإشارة إلى لفظ "الاعتراف" في الفقرة 5 من المادة 47 ق.م.ج التي ورد فيها " ... يمكن لوكيل الملك في غير حالة التلبس بجنحة، أن يطبق المسطرة المنصوص عليها في الفقرة الأولى والثانية أعلاه ( أي إصدار أمر بالإيداع في السجن) في حق المشتبه فيه الذي اعترف بالأفعال المكونة لجريمة يعاقب عليها بالحبس أو ظهرت معالم أو أدلة قوية على ارتكابه لها..."
وإذا كان يستفاد من مضمون الفقرة الأولى من المادة 293 ق.م.ج المشار إليها، أن مشرعنا أراد أن يسوي دليل الاعتراف الجنائي بباقي أدلة الإثبات الأخرى، فإنه خصه بقوة ثبوتية تفوق قوة وسائل الإثبات الأخرى بمقتضى الفقرة 5 من المادة 47 ق.م.ج إذ سواه بالأدلة القوية.
ومن الملاحظ أن المشرع المغربي وإن سلم للاعتراف الجنائي بهذه القوة الاقناعية دون باقي وسائل الإثبات الأخرى، عن قصد أو غير قصد، فإنه لم يتجرأ  على تعريفه وتنظيم أحكامه كما هو الحال في القانون الملغى، فترك بذلك الباب واسعا أمام الاجتهاد الفقهي والقضائي.
وبتصفح العمل القضائي المغربي نجد أن المجلس الأعلى قد حاول تحديد ماهية الاعتراف الجنائي فصرح في أحد قراراته أن "الاعتراف هو التصريح الذي يعترف بواسطته شخص بأنه يجب أن يعتبر صحيحا في مواجهته فعلا من شأنه أن ينتج وبنفسه، نتائج قانونية".
ويتبين أن تعريف المجلس الأعلى هذا يتسع لكل من الاعتراف الجنائي والإقرار المدني، بحيث لم يحدد محل التصريح الذي صدر عن المعترف، فهل الفعل المصرح به جريمة أم خطأ مدني أم  التزام تعاقدي؟
وإذا ما وفقنا بين مختلف التعريفات الفقهية للإعتراف الجنائي لوجدناها تتجه كلها إلى اعتباره إخبارا عن واقعة إجرامية ينسبها المعترف لنفسه، وعليه فإن الاعتراف هو إقرار المتهم بارتكابه السلوك الإجرامي المنسوب إليه، ذلك أن الاعتراف في جوهره إقرار أو إعلان أو إخبار، وموضوعه هو الواقعة سبب الدعوى العمومية، وأن من صدر عنه الإقرار هو المتهم، وهو نفسه من تنسب إليه الواقعة الإجرامية.
وبناء على ما تقدم، فإن الاعتراف الذي يعتد به والذي ينتج آثارا قانونية يجب أن تتوافر فيه المقومات الآتية:

أ- صدوره عن المتهم نفسه
يتعين أن يصدر الاعتراف عن المتهم نفسه، أما ما يصدر عن الغير، بخصوص واقعة منسوبة للمتهم، فهي شهادة أو تصريح عن الغير، فإقرار متهم بأن له شريك في الجريمة لا يعد اعترافا ضد هذا الأخير وإنما تصريحا، ذلك ان الاعتراف شهادة على النفس و لايمكن أن يصدر إلا من الشخص نفسه، فتصريحات الغير أو شهاداتهم بإسناد الجريمة إلى الغير لاتعد اعترافا ولذلك فإن وصف أقوال متهم على متهم آخر في الدعوى بأنها "اعتراف متهم على متهم" هو تعبير خاطئ.
وبالرجوع لقضائنا نجد بأن المجلس الأعلى أجاز لمحاكم الموضوع إدانة المتهم استنادا على اعتراف صادر عن متهم آخر متى تعدد المتهمون في القضية الواحدة.
ونعتقد خلافا لما ذهب إليه المجلس الأعلى أن "اتهام متهم لآخر" لا يجوز الاعتماد عليه لوحده للحكم بالإدانة، إذ لايعد اعترافا فالاعتراف يجب أن يصدر عن المتهم نفسه، كما لا يمكن اعتبار اتهام متهم لاخر شهادة، لأن المتهم لايؤدي اليمين القانونية فضلا عن أن تصريحات متهم ضد آخر يجب أن تؤخذ دائما بالريبة والشك من طرف المحكمة. فأقوال متهم على آخر هي مجرد تصريح لاترقى إلى مرتبة الدليل الجنائي الذي يصح الاعتداد ه،ولا يمكن للمحكمة أن تستند عليه الاإذا توافر دليل آخر يؤيد تلك الأقوال أو قرائن أخرى تعززها.
وإذا كان الاعتراف بارتكاب الجريمة هو الذي يصدر عن المتهم نفسه لا عن غيره فإن تسليم المحامي بالتهمة المنسوبة إلى موكله لايعد اعترافا ولو لم يعترض عليه هذا الأخير، وسندنا في ذلك هو أن الاعتراف مسألة شخصية تتعلق بالشخص المعترف، وسكوته وعدم اعتراضه عليه لايمكن اعتباره اقرارا من جانبه، أما إذا صرح المحامي بصحة مانسب إلى موكله وسلم المتهم هو الآخر صراحة بتصريحات محاميه فإننا نكون أمام اعتراف جنائي.
ب- وحتى نكون أمام اعتراف جنائي يصلح أساسا للحكم بالإدانة، فيشترط أن يكون متعلقا بالوقائع المكونة للجريمة وعناصرها المادية والمعنوية.  أما الإقرار بوقائع لا علاقة لها بعناصر الجريمة فلايعد اعترافا، فإذا تعلق إقرار المتهم بملابسات  الجريمة فلا نكون أمام اعتراف جنائي ولايجوز للمحكمة أن تعتمد عليه للحكم بالمؤاخدة ، فاعتراف المتهم بأنه كان على علاقة غير شرعية بالضحية لايعد اعترافا بقتلها، إلا أنه يمكن للمحكمة أن تستند على ذلك الإقرار لا كدليل وإنما كباعث على قتلها إذا استخلصت من أدلة أو قرائن أخرى أن المقر هو المرتكب الحقيقي للجريمة.
كما يتعين أن تكون الأفعال التي أقر المتهم بارتكابها هي أساس المسؤولية الجنائية، أما التصريح بسقوط الدعوى العمومية أو بواقعة يترتب عنها قيام سبب تبرير لمصلحته أو مانع عقاب أو سبب تخفيف فهو دفع لا اعتراف بارتكاب الجريمة.
وينبغي كذلك أن يصرح المتهم بالوقائع التي ارتكبها بالفعل أما التصريح بما يعتزم ارتكابه من أفعال في المستقبل، فلايعد اعترافا ولو وقعت تلك الافعال. لكن وإذا أقر فيما بعد بأن تلك الأفعال قد صدرت عنه فيصح الأخذ بإقراره هذا للحكم بالإدانة.
ولايعد التسليم بصحة التكييف القانوني للجريمة اعترافا من المتهم وإنما هو رأي في الدعوى، ذلك أن إضفاء الوصف القانوني للواقعة الإجرامية يرجع للسلطة القضائية لا لغيرها، وعلى العكس فيكفي لقيام الاعتراف أن يقر المتهم بارتكابه للجريمة أو المشاركة فيها ولو اعترض على الوصف القانوني لها.








                       المبحث لأول
خضوع الاعتراف للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع
عرف القانون الإجرائي عدة أنظمة للإثبات الجنائي تختلف فيما بينها في الأسس التي يقوم عليها كل واحد منها، فاختلف بذلك دور القاضي في تقدير الدليل سعة وضيقا حسب نظام الإثبات السائد، فيتم إما تقييد سلطته هذه أو إطلاق حريته في اختيار الدليل والاقتناع به، وإما الجمع بين الإطلاق والتقييد فاختلفت تبعا لذلك سلطة القاضي في تقدير قيمة الاعتراف.
وسنقتصر في دراستنا لتقدير قيمة الاعتراف على نظامين أساسيين هما: نظام الإثبات القانوني أو المقيد ونظام الإثبات الحر وسنخصص لكل نظام مطلبا خاصا.







المطلب الأول
تقدير الاعتراف في ظل نظام الإثبات القانوني أو الإثبات المقيد
يطلق البعض على هذا النظام "نظام اقتناع المشرع" لأن المشرع هو الجهة التي تتولى مقدما تحديد الأدلة التي تقبل في الإثبات والقيمة القانونية الخاصة بكل دليل، والقاضي لا يملك أن يختار دليلا لم يسمح به المشرع ولا أن يعطيه قيمة أكبر أو أقل مما رسمه.
كما يحدد المشرع الشروط الخاصة بكل دليل بحيث لا يجوز الحكم بالإدانة إلا إذا تحققت تلك الشروط، وبتوافرها لا يملك القاضي إلا الحكم بما يمليه المشرع بغض النظر عن اقتناعه، أي أن دور المحكمة يقتصر فقط على التحقق من قيام الدليل وتوفر شروط صحته أما تحديد القيمة الإثباتية لكل دليل فتلك مهمة المشرع. ولذلك قيل بأن اقتناع المشرع يقوم مقام اقتناع القاضيبحيث يبقى دور هذا الأخير مجرد عملية شبه حسابية يلتزم  بتطبيقها بصرف النظر عن اقتناعه الشخصي.
واقتناع المشرع هذا مبني على افتراض صحة الدليل، ويستوي بعد ذلك أن يكون مطابقا للحقيقة والواقع أم لا، أي أن القاضي عليه أن "يقتنع كقاض و لو لم  يقتنع كإنسان".
وقد ساد هذا النظام في أوربا في العصور الوسطى، وبلغ أوج ازدهاره في القرنين السادس والسابع عشر، وتضمن القانون الفرنسي الصادر بالأمر الملكي سنة 1670 قائمة بالأدلة التي يجب الاعتماد عليها في الميدان الجنائي، وجعلها تتدرج من حيث قوتها الثبوتية و قسم الأدلة إلى:


أ- الأدلة الكاملة أو التامة (Les preuves pleines)
إذا توافرت هذه الأدلة يتعين على القاضي الحكم بالإدانة، ولو كانت العقوبة المقررة للجريمة المرتكبة هي الإعدام بصرف النظر عن اقتناعه الشخصي.
ومن الأدلة الكاملة في القانون المذكور شهادة شخصين شرط أن تكون شهادتهما شهادة رؤيا لا سماعية، كما اعتبر الكتابة دليلا كاملا بشرط أن يكون المحرر رسميا أو أن يكون المتهم قد سلم بمضمنه.
وكان يلزم للحكم بالاعدام توافر دليل كامل بحيث لا يجوز أن يبنى على دليل ناقص مالم يكن معززا باعتراف المتهم.
ب- الأدلة شبه الكاملة أو الناقصة (Preuves semi-pleines)
ويطلق عليها كذلك أنصاف الأدلة demi-preuves.
هذا النوع من الأدلة لا تسمح للقاضي بتطبيق العقوبة المقررة كاملة ويلتزم في هذه الحالة بتخفيف العقوبة.
ومن أمثلة الأدلة الناقصة شهادة الشاهد الواحد.
ج- الأدلة الضعيفة أو الخفيفة (Les preuves légères)
هذا النوع من الأدلة لا يكفي للحكم بالإدانة إلا إذا كان مدعما بأدلة أخرى، وحسب بعض الفقه فإن الشخص في هذه الحالة يبقى مجرد مشبته فيه.
وكان يجوز لرجال البحث و التحقيق اللجوء إلى تعذيب المتهم الذي قامت ضده الأدلة الضعيفة قصد الحصول منه على اعتراف أو أدلة أو قرائن لتعزيز الأدلة الضعيفة.
 وإذا لم تتوافر الأدلة التي حددها المشرع فإن القاضي لا يستطيع أن يحكم بالعقوبة المقررة للجريمة المرتكبة، ولذلك قيل أن هذا النظام يحمي المتهم من تعسف وتحكم القضاة.
ويعاب على هذا النظام كونه يوفر ضمانات كبرى للمتهم على حساب مصلحة المجتمع، ويؤدي إلى إفلات الكثير من المجرمين من العقاب إذا لم تتوافر في حقهم الأدلة التي حصرها المشرع، الأمر الذي يؤدي إلى عدم تحقيق العدالة التي ينشدها كل مجتمع، ويبقى القاضي مجرد آلة تنطق بلسان ا لمشرع وتطبق أحكامها.
وبخصوص القيمة الإثباتية للاعتراف فإن نظام الإثبات القانوني كان يضعه  على رأس أدلة الإثبات، وكان يعتبره سيدها أو ملكها ، يلتزم القاضي بالحكم بإدانة المعترف ولو تبين له أن الإقرار الصادر أمامه غير صادق وغير مطابق للحقيقة والواقع، ذلك أن هذا النظام لا يسمح  القاضي باختيار الدليل الذي يراه صالحا للوصول إلى الحقيقة ولا بقناعته الشخصية، بحيث إذا توافرت شروط صحة الدليل الذي حدده المشرع يصبح لزاما على القاضي الحكم بالإدانة ولو لم يقتنع به.
ونظرا لمكانة الاعتراف، في ظل نظام الإثبات القانوني، كان التعذيب إجراء مشروعا يجوز اللجوء إليه قصد الحصول على اعتراف المتهم، بل إن بعض التشريعات نظمته كإجراء من إجراءات البحث والتحقيق. وكان القضاء يأخذ بالاعتراف غير الإرادي الناتج عن كل أنواع التعذيب المادي والمعنوي، وهكذا يكون هذا النظام، الذي وضع في الأصل لحماية المتهمين، قد أباح كل أنواع العنف والإكراه قصد الحصول على الاعتراف.
لم يستطع هذا النظام الصمود أمام التيار القوي الذي قاده المفكرون أمثال Beccaria الذي أكد بأن القناعة المطلوبة في الإثبات الجنائي لا يمكن أن تكون محصورة مسبقا، فالقناعة الحقيقية يجب أن تكون مستوحاة من ضمير القاضي، فنادى بالأخذ بنظام الإثبات الحر في الإثبات الجنائي.


















                         المطلـب  الثـاني
سلطة القاضي في تقدير الاعتراف
في ظل نظام الإثبات الحر
تقديم:
إذا كان المشرع في ظل نظام الأدلة القانونية هو الذي يحدد أدلة الإثبات وقيمتها الثبوتية و يسطر للقاضي النهج الذي يجب أن يسير عليه في حكمه، فإنه في نظام الإثبات الحر ترك للقاضي الجنائي، كقاعدة عامة، حرية تقدير الأدلة المقدمة في الدعوى دون أن يقيده بأدلة معينة، كما ترك له حرية ترجيح دليل على آخر، و بعبارة أخرى فإن عملية الإثبات أصبحت خاضعة لقناعة القاضي، فمن أجل الوصول إلى الحقيقة يستطيع أن يختار أي دليل يراه صالحا لإدانة المتهم أو براءته حسب ما يمليه عليه ضميره وما يتفق مع العقل والمنطق القانوني السليم.
وبمقتضى هذا النظام تترك كذلك للخصوم الحرية في تقديم أي دليل، فالنيابة لها إثبات التهمة بكل الطرق، والمتهم له أن يدفعها بكل ما لديه من وسائل، وللقاضي أن يأخذ بالدليل الذي يطمئن إليه، فضميره هو المعول عليه في تحديد قوة دليل الإثبات.
وهكذا يتضح أن مبدأ حرية القاضي في تكوين عقيدته يقوم على أساس استبعاد تدخل المشرع في تحديد الأدلة التي يستند إليها في حكمه وبقاء باب الإثبات مفتوحا أمامه حتى يصل إلى الحقيقة بأي وسيلة ولا يقيده في ذلك إلا ما فرضه القانون من قيود و ضوابط.
كما استبعد هذا النظام تدرج الأدلة من حيث قوتها الثبوتية فأصبحت جميعها على قدم المساواة، فلم تعد تقسم إلى أدلة كاملة وأنصاف الأدلة وأدلة ضعيفة كما هو الحال في نظام الأدلة القانونية، بحيث أصبح القاضي هو الذي يقدر قيمة الدليل في الإثبات الجنائي.
ومبدأ الاقتناع الحر تقتضيه صعوبة الإثبات في المواد الجنائية والذي ينصب على وقائع مادية ونفسية يتعذر إثباتها ما لم تترك لقاضي الموضوع الحرية في تقديرها وعدم تقييده بأدلة محددة، فالقاضي يجد نفسه أمام وقائع لم ترتكب أمامه و إنما اقترفت في الماضي، إضافة إلى أن الجناة يخططون لارتكاب جرائمهم بكل دقة حتى لا ينكشف أمرهم.
كما يبرر الأخذ بهذا النظام  ما استقر عليه الفقه والقضاء من أن الأحكام تبنى على الجزم واليقين، بمعنى أنه لا يمكن الحكم بالإدانة إلا إذا كان الدليل يقينيا وجازما، والجزم واليقين هي مفاهيم مجردة لايمكن إخضاعها لسيطرة القانون و تنظيمه، لذلك يجب أن تترك الحرية للقاضي لكي يصل إلى اليقين بأي كيفية ومن أي طريق يراه مؤديا إلى الحقيقة حتى يستمد قناعته من الدليل الذي تطمئن إليه نفسه، وبذلك لن يؤدي نظام الاقتناع الحر، عكس نظام الإثبات القانوني، إلى إدانة البريء بناء على أدلة شكلية ومحددة، وفي نفس الوقت سيضمن عدم إفلات الجاني الحقيقي الذي لم تتوافر في حقه الأدلة التي حددها المشرع كما هو الحال في نظام الاثبات القانوني.
والأهم من ذلك فإن مبدأ الاقتناع الحر يفرضه ظهور الأدلة العلمية، كتحليل الحمض النووي (A.D.N)، والتي لا تقبل بطبيعتها إخضاع القاضي لأي قيود بشأنها، بل ينبغي أن يترك الأمر في تقديرها لمحض اقتناعه، فقد تكون متناقضة مع أدلة الدعوى و ظروف الجريمة فضلا عن احتمال تضارب آراء المختصين حولها.
ونظام الإثبات الحر تم الأخذ به لأول مرة بموجب القانون الفرنسي الصادر بعد الثورة سنة 1791 الذي أقر مبدأ حرية الإثبات والقناعة الشخصية للقاضي كبديل لمبدأ الإثبات القانوني أو الإثبات المقيد, ثم أكدت عليه بعد ذلك المادة 342 من قانون التحقيقات الجنائية الفرنسي الصادر سنة 1808 إلى أن استقر المبدأ في صورته النهائية بمقتضى المادة 427 من قانون الإجراءات الجنائية والتي جاء فيها "خلافا للحالات التي نص عليها القانون فإن الجرائم يمكن إثباتها بأي طريق للإثبات ويحكم القاضي بناء على اقتناعه الشخصي ...".
وتجمع التشريعات العربية على الأخذ بنظام الإثبات الحر، وتعد بلادنا في طليعة الدول التي تأخذ بهذا النظام وذلك من خلال نص المادة 286 ق.م.ج والتي جاء فيها "... ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم، ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا للبند 8 من المادة 365"، كما ورد التأكيد على الأخذ بنظام الإثبات الحر في قانون الإجراءات الجنائية المصري في المادة 302 التي تنص على ما يلي: "يحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته ...".
هذا المبدأ تبناه كذلك قانون الإجراءات الروسي الصادر في 27 أكتوبر 1960 في المادة 71 والتي جاء فيها "إن كلا من المحكمة والنائب العام والمحقق يقدر الأدلة حسب اقتناعه الشخصي فالقانون لا يفرض مقدما قوة في الإثبات لأي دليل".
وعلى هذا النهج صارت أحكام القضاء في فرنسا وفي كل من المغرب ومصر و في غيرها من البلاد العربية.
وبهذا أصبح القاضي، في ظل نظام الإثبات الجنائي القائم على الاقتناع، سيد الأدلة والمتصرف فيها، بمعنى أن قناعته ليست محل جدل ولا تقبل الطعن، و هو بذلك غير ملزم بإبداء المبررات التي دفعته إلى الاقتناع، وبعبارة أخرى فإن تقدير القيمة الاثباتية للدليل هو  مجال خاص بقاضي الموضوع وغير خاضع لرقابة محكمة النقض، و تبعا لذلك لم يبق الاعتراف سيد الأدلة بل أصبح مساويا لغيره من الأدلة الجنائية إن لم نقل أقلها ثقة ومصداقية بحيث أصبح ينعت بالدليل المزعوم أو الدليل المشبوه بدعوى أن الإنسان العادي لن يقدم الدليل بيده للقضاء لإدانته، وعلى كل فإنه أصبح كباقي الأدلة يخضع لسلطة المحكمة في تقدير قيمته الثبوتية.
وإذا كان الأمر كذلك فما هو الأساس القانوني لهذه السلطة الواسعة المسموح بها للقاضي الجنائي في ظل نظام الإثبات الحر، وما حدودها وما موقف المجلس الأعلى من هذه السلطة؟
مواضيع سوف تتم معالجتها فيما يلي:















الفرع الأول
الأساس القانوني للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي
تمهيد:
من خلال ما تقدم، يتبين أن الغاية من إقرار نظام الإثبات الحر القائم على القناعة الوجدانية هي أن يصيب القاضي الحقيقة في حكمه الصادر بالبراءة أو الإدانة، وهو لن يصل إلى الحقيقة ما لم يكن قد بلغ مرحلة اليقين، فلا محل لدحض أصل البراءة في الإنسان وافتراض عكسه إلا عندما يصل اقتناع القاضي إلى حد اليقين. فاليقين هو أساس العدالة الإنسانية ومصدر ثقة في الأحكام القضائية، وهو وسيلة القاضي في الاقتناع بالحقيقة.
إن اليقين والاقتناع والحقيقة هي مفاهيم مجردة لا يمكن إخضاعها لسيطرة القانون وتنظيمه، ولذلك تركت الحرية للقاضي لاختيار الدليل الذي يرتاح إليه وتقديره بالكيفية التي تمكنه من تكوين قناعته دون رقابة عليه، ولا يلتزم في ذلك إلا ببناء قناعته هذه على اليقين لا على الشك والاحتمال.
وإذا كان الأمر كذلك فإنه لايمكن تحديد المقصود باليقين دون الوقوف على معنى الاقتناع، فهل اليقين هو الاقتناع أم أنهما مختلفان؟ وهل الاقتناع هو الحقيقة أم أنهما غير متطابقين؟ وهل اليقين القضائي مطلق أم نسبي؟
أولا: المقصود باليقين (La certitude)
اليقين لغة هو العلم وزوال الشك، وقيل أيضا أن اليقين هو العلم الذي يستبعد الشك أو المعرفة التي تقوم على الحجة و البرهان.
أما اليقين في دلالته القانونية فهو حالة ذهنية أو عقلانية تؤكد وجود الحقيقة، ويتم الوصول إليها بما يستنتجه القاضي من خلال ما يعرض عليه من وقائع الدعوى والتي تولد لديه ثقة عالية من التأكيد وتستبعد كل شك حول النتيجة النهائية التي وصل إليها في حكمه، وعندما يصل القاضي إلى هذه المرحلة من اليقين فإنه يقتنع بالحقيقة، وعليه فإن الاقتناع هو ثمرة اليقين وليس اليقين ذاته.
ذهب الأستاذ محمود محمود مصطفى إلى أن الاقتناع هو "عملية التقدير الحر والمسبب بعناصر الإثبات في الدعوى"، وبناء على هذا التعريف فإن الاقتناع لا يعني الحكم بالشعور أو الانطباع بل هو الوزن الدقيق للوقائع والأدلة.
كما يرى الأستاذ فرانسوا گورف أن "الاقتناع بحقيقة واقعة معينة هو التسليم الجازم والإقرار التام بثبوتها ثبوتا كاملا".
وهكذا يتبين أن اليقين يستمده القاضي من وقائع القضية وأدلة الإثبات، أما الاقتناع فهو الشعور الذي يتولد لديه بعد يقينه بالوصول إلى الحقيقة.
وإذا كان اليقين ليس هو الاقتناع كما بيننا فإنه يختلف عن الحقيقة، فالحقيقة هي كيفية وقوع الجريمة على أرض الواقع، أي الطريقة التي حدثت بها الواقعة بالفعل، أما اليقين فهو الحالة الذهنية التي تحدث لدى القاضي انطباعا مؤكدا عن كيفية حصول واقعة إجرامية لم ترتكب أمامه. و يتوقف وصول القاضي إلى اليقين على قدرة الأدلة المطروحة أمامه، أما إذا كانت غير كافية لإدراك اليقين فإن الحالة الذهنية للقاضي تتوقف عند حد الظن والاحتمال.
وهكذا يتضح أن اليقين هو العلم الأكيد بوجود الشيء أو عدمه والذي يستنبطه القاضي من الأدلة المعروضة عليه، أما الاقتناع فهو رضا القاضي بالنتيجة التي وصل إليها وهو المرحلة الأخيرة في المحاكمة الجنائية.
وفي الواقع فإن اليقين والاقتناع شيئان متلازمان، بحيث لا يمكن تصور أحدهما دون الآخر، فالاقتناع ماهو إلا ثمرة اليقين، فالقاضي الذي يبني حكمه على الشك أو على نقيض يقينه يكون قد خرق القانون، أما إذا لم يحكم بما اقتنع به فإنه يكون قد خان ضميره.
ثانيا: نسبية اليقين القضائي
إن اليقين كما رأينا هو حكم ذهني يصل إليه القاضي من خلال عملية التقدير والتقييم للوقائع المعروضة عليه، وهذه العملية تلعب فيها شخصية القاضي دورا كبيرا والتي تؤثر فيها عوامل كثيرة تنعكس على تصوره للواقع كالتعليم الذي تلقاه والأخلاق والثقافة والعادات والتقاليد السائدة، وعليه فإن اليقين الذي يصل إليه القاضي ليس يقينا مطلقا بل يقينا نسبيا وبذلك فإن النتائج التي يتم التوصل إليها قد تختلف من قاض لآخر. وبما أن لليقين خاصية ذاتية، الأمر الذي قد يعرض القاضي إلى الخطأ في بعض تصوراته، فانه يمكن القول بأن الحقيقة القضائية هي الأخرى نسبية، ولهذا قيل بأن العدالة البشرية لا تقوم إلا على اليقين المقبول والرقيب في ذلك هو ضمير القاضي الذي يملي عليه أحكاما مبنية على العقل والمنطق ومجردة من الأهواء والمصالح.
ما سبق ذكره يقودنا إلى القول بأن اشتراط بناء الأحكام الجنائية على الجزم واليقين لا يعني اليقين المطلق والذي لا يتحقق إلا في إطار العلوم التطبيقية حيث تكون النتائج محددة وقطعية، أما الحقيقة القضائية فهي دائما من النوع النسبي وبالتالي يجوز أن تبنى الأحكام على احتمالات ذات درجة عالية من الثقة والتي تستبعد كل شك حول النتيجة التي وصل إليها القاضي.
ثالثا: اليقين في القضاء المغربي والمقارن
يرجـع الفضـل في اشـتراط بلـوغ الاقتنـاع درجة اليقين للحكم بالإدانة إلى الاجتهـاد القضائي، أما التشريعـات الجـنائية فإنها اكتفـت بإقرار مبدأ الاقتناع دون استلزام درجـة معينة فيه، وفـي ذلك يقول المشرع المغربي في المادة 286 ق.م.ج بأن القاضي يحكم حسب اقتناعه الصميم على أن يتضمن قراره ما يبرر اقتناعه، كما جاء في القانـونين المصري والليبي أن القاضي يحكم في الدعـوى حسب العقـيدة التي تكونت لديه بكامل حريته (المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائيـة المصري والمادة 275 من قانـون الإجراءات الجـنائية الليبي) ونفس المبدأ أكده المشرع الفرنسي في المادة 427 من قانون الإجراءات الجنائية.
وقاعـدة بناء الأحكام على اليقين استقر عليها اجتهاد المجلس الأعـلى الذي أكد عـلى أنه "يجب أن تبنى الأحكام الجنائية على الجزم واليقين لا على الشـك والتخمين، ولهذا يتعرض للنقض الحكم الصادر بالإدانة في حين أن المحكـمة صرحت بأنه لم يوضع بين يديها دليل مادي قاطع يثبت الجريمة".
وجـاء فـي قـرار آخر أنه "مادام من الثابت أن هوية كل من الموظف الموقع للجواز والوسيط المزعوم ظلت مجهولة، كما أن المتهم يجهل مصير المبلغ الذي زعم بدله، مما يكون معه القضاة قد استوحوا دليل الارتشاء من مجرد افتراضات وتخمـينات وركزوا قضاءهم بالإدانة على أساس غير صحيح من الواقع والقانون".
وهذا الاتجاه سار عليه الاجتهاد القضائي المصري فقضت محكمة النقض بأن الأحكام تبنى على الجزم واليقين لا الحدس والتخمين، وأن القاضي إذا شك في إسناد التهمة إلى المتهم فإنه يصرح ببراءته إذ المرجع في ذلك إلى ما يطمئن إليه في تقدير الدليل.
وفي فرنسا أوجبت محكمة النقض على قاضي الموضوع أن يبني حكمه على اليقين وأن يبعد كل حجة يداخله الشك فيها أو في قوتها الاثباتية وفي ذلك تقول "... ونظرا لوجود عناصر جديدة غير معروفة لدى القضاء يوم صدور الحكم في حق المتهم من طبيعتها أن تحدث شكا حول إدانة هذا الأخير المتابع بجريمة اضرام النار فإن المحكمة تصرح بالنقض وبعدم الإحالة ".
كما أكدت نفس المبدأ المحكمة العليا في الاتحاد السوفياتي ( قبل تفكيكه) في الكثير من قراراتها وفي ذلك تقول إنه يجب على المحاكم أن تستقي اقتناعها بالإدانة من الدليل الصادق أو الحقيقي بعد مناقشة كل أوجه القضية حضوريا، وأن كل شك متعلق بإثبات التهمة يجب أن يفسر لصالح المتهم.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية يشترط الدستور أن يصدر قرار الادانة بإجماع المحلفين، إلا أن ذلك لم يمنع دساتير بعض الولايات من النص على أغلبية معينة لصحة القرار، كما منحت دساتير بعض الولايات الأخرى المشرع سلطة إصدار قانون ينظم ذلك، وقد أقرت المحكمة العليا الأمريكية دستورية هذه القوانين.
كما كان النظام الإجرائي الانجليزي هو الآخر يتطلب إجماع الآراء في حالة الحكم بالإدانة إلى أن صدر قانون العدالة الجنائية سنة 1967 (Criminal justice act 1967) الذي حدد الشروط اللازمة لاتخاذ القرار بالأغلبية.
وإذا كانت الأحكام الصادرة بالإدانة لاتبنى إلا على حجج قطعية الثبوت تفيد الجزم واليقين، فيجوز بناء أحكام البراءة على الشك في صحة أدلة الإثبات تطبيقا لقاعدة "الشك يفسر لمصلحة المتهم" ذلك أن الأصل في الإنسان هو البراءة، أما التجريم فهو أمر شاد وغير مألوف في حياة الإنسان، فالاتهام يبدأ في صورة شك وبالدليل القاطع يتحول الشك إلى اليقين، وإذا لم يتبدد الشك وجب الرجوع إلى الأصل، والأصل هو البراءة.
وقد استقرت أحكام القضاء على أنه إذا أثير احتمال واحد يفيد البراءة فلايجوز للمحكمة أن تقضي بالإدانة وإلا عد دلك لقاعدة "الشك يفسر لمصلحة المتهم، إلا أنه لا يكفي لصحة أحكام البراءة المبنية على الشك أن تصرح المحكمة بالشك في إثبات التهمة بل يجب"أن يتضمن الحكم بالبراءة ما يفيد أن المحكمة قد أحاطت بظروف الدعوى وأدلة الثبوت التي قام عليها الاتهام  ووازنت بينها وبين أدلة النفي فرجحت دفاع المتهم أو داخلتها الريبة في صحة أدلة الإثبات".
ونفس الاتجاه أكده المجلس الأعلى فصرح بأن قضاة الموضوع ملزمون بإبراز الأسباب الواقعية والقانونية للبراءة في الحكم تحت طائلة النقض.
أما محكمة النقض الفرنسية فإنها تتشدد في مراقبة الأسباب التي تبنى عليها الأحكام الصادرة بالبراءة لفائدة الشك، فقضت بأن مجرد التأكيد على وجود شك في الإدانة لايكفي لتبرئة المتهم بل يجب أن يستند هذا الشك على أدلة قاطعة.
وفي قرار آخر لها لم تسمح لمحاكم الموضوع أن تبرئ المتهم استنادا إلى عدم اكتمال عناصر الواقعة المطروحة والتي لا تفيد نسبة الجريمة إلى المتهم، بل أوجبت في هذه الحالة الأمر باتخاذ الإجراءات التكميلية للتحقيق والتي ستكشف عن الحقيقة.

رابعا: اليقين في الفقه الإسلامي
يشترط الفقه الجنائي الإسلامي أن تصل قناعة القاضي درجة القطع واليقين في ثبوت الجريمة حتى يتمكن من الحكم بالإدانة،  ففي هذه الحالة تسلم الواقعة الإجرامية من وجود شبهة في إثباتها، لأن اليقين يزيل كل شك أو ريب في صحة الحكم الصادر بالإدانة. كما أكد الفقه على أن القاضي الجنائي يملك تقييم الدليل حتى مع الأخذ بمذهب الجمهور القائل بحصر وسائل الإثبات، فحصر وسائل الإثبات لايعني إلزام القاضي بضرورة الحكم متى توافر الدليل بل انه يحكم بما يطمئن إليه وجدانه، وبذلك سيتمكن من بناء حكمه على الجزم واليقين.
فإذا تردد القاضي بين الإدانة والبراءة أو ساوره الشك في تقديره للادلة تعين عليه أن يرجح البراءة ويقضي بها تطبيقا للحديث النبوي الشريف "ادرؤوا الحدود بالشبهات".
هذا المبدأ يشمل جرائم الحدود والقصاص وجرائم التعزير، كما ينطبق في كل الحالات التي تثير الشك في توجيه التهمة، سواء تعلق الشك بماديات الواقعة الإجرامية أم تعلق بالأدلة المعروضة في الدعوى، وعلى كل فإن القاضي يلتزم التزاما شرعيا بتطبيق هذا المبدأ الذي أقرته السنة النبوية.
وهكذا يتبين أن" قاعدة درء الحدود بالشبهات" التي أقرتها الشريعة الإسلامية منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان لم تأخذ بها التشريعات الجنائية الوضعية إلا حديثا، والمشرع عندنا لم ينص صراحة على قاعدة "الشك يفسر لمصلحة المتهم" إلا في القانون الجديد للمسطرة الجنائية النافد ابتداء من اكتوبر 2003.


                            


الفرع الثاني
حدود السلطة التقديرية للقاضي الجنائي
في تقدير قيمة الاعتراف
إن إعفاء القاضي من تبرير قناعته هو تشريف للعدالة الجنائية، و إذا كانت قناعته لا تخضع للرقابة فإنه يجب أن تخضع لرقابة ضميره، إلا أن هذا الضمير قد يجنح أحيانا إلى التعسف والتجاوز، الأمر الذي دفع المشرع والقضاء والفقه إلى إقرار الكثير من الضوابط التي تحد من كل تجاوز محتمل في  تقدير الدليل.
إن إقرار مبدأ الاقتناع لا يعني التحكم القضائي، فإذا كان القاضي غير ملزم بتحديد علة اقتناعه فإنه ملزم بذكر الأدلة التي اعتمد عليها وكانت مصدرا لاقتناعه، وبعبارة أخرى فإنه غير مطالب بتبرير لماذا اقتنع ولكنه ملزم بتحديد بماذا اقتنع، ومرد ذلك إلى أن الاقتناع مسألة ذاتية يصعب نقلها إلى الغير وتستعصي على المراقبة.
وهكذا فلايجوز للقاضي أن يحكم حسب هواه، فهو ملزم بتحري المنطق السليم الذي قاده إلى اقتناعه، فإذا كانت محكمة النقض لا تراقب قاضي الموضوع في تكوين قناعته فإنها بغير شك لن تقره على رأيه إذا تبين لها أنه أخل بالأصول المسلم بها في العمل القضائي، فهو ملزم بأن يستمد اقتناعه من حجج سليمة عرضت عليه وأتيحت مناقشتها في جلسة المحاكمة، فلايجوز للقاضي أن يبني قناعته على المعلومات الشخصية التي حصل عليها خارج جلسة المحاكمة، إذ يكون في هذه الحالة جامعا بين صفة الشاهد وصفة القاضي وهذا ما لا يجوز، فالمتهم لن يتمكن والحالة هذه من مناقشة هذه الشهادة والرد عليها، الأمر الذي يمس بحقه في الدفاع.
كما يلتزم القاضي بتعليل حكمه، وذلك بتحديد الأدلة التي استمد منها اقتناعه حتى يتمكن المجلس الأعلى من التحقق من مشروعية هذه المصادر، ويكون مخلا بذلك في حالة ما إذا صرح بأنه اقتنع بنتيجة معينة دون أن يحدد الدليل الذي استمد منه اقتناعه، أو ذكر أدلة متعارضة يستبعد بعضها بعضا، بحيث تكون النتيجة هي صدور حكم غير مستند إلى دليل، أو أن يستمد قناعته من دليل باطل، أو من دليل لا يسمح به القانون، فعدم اعترافه بذلك الدليل يعني انعدامه، فقناعة القاضي لها حد لايمكن تخطيه وهو مشروعية الأدلة ذلك أن الدعوى العمومية تقوم على ضمان حرية المتهم لا على مجرد إثبات سلطة الدولة في العقاب، وبالتالي يتعين على القاضي ألا يثبت توافر هذه السلطة تجاه المتهم إلا من خلال إجراءات مشروعة تحترم فيها الحريات وتؤمن فيها الضمانات التي رسمها القانون.
وإذا كان الغرض من إقرار نظام الاقتناع القضائي هو تقريب الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية، فإن قناعة القاضي يجب أن تقوم على الجزم واليقين، ولا يجوز له أن يستمدها من الشك والاحتمال، فإذا لم يقتنع القاضي بثبوت التهمة ونسبتها إلى المتهم فيجب أن يحكم بالبراءة.
وإذا كان الشك لا يصلح سندا للإدانة فإنه يمكن أن يكون أساسا للحكم بالبراءة تطبيقا لقاعدة "الشك يفسر لفائدة المتهم" وهي ضمانة نصت عليها المادة الأولى من ق.م.ج. الجديد.
هذه باختصار بعض الضمانات، التي شرعت لمصلحة المتهم، ووضعت كضوابط و شروط لأعمال المبدأ ووسيلة أساسية لتطبيقه التطبيق الأمثل.












                            


الفرع الثالث
               موقف المجلس الأعلى من السلطة
التقديرية للقاضي الجنائي
إن اليقين، الذي تبنى عليه الأحكام الجنائية الصادرة بالإدانة، له مفهوم مجرد لا يمكن إخضاعه لسيطرة القانون وتنظيمه، وتبعا لذلك تركت الحرية للقاضي حتى يصل إلى اليقين من أي طريق وذلك باختيار الدليل وتقديره بالكيفية التي تمكنه من تكوين عقيدته في الدعوى المطروحة أمامه دون رقابة عليه، بحيث لا يخضع في ذلك إلا لصوت ضميره وهو الذي يملي عليه الحكم الذي يصدره.
وإذا كان الأمر كذلك فما موقف المجلس الأعلى من هذه الصلاحية المخولة لقضاة الموضوع؟
إن المجلس الأعلى باعتباره أعلى مؤسسة قضائية لم يستقر على موقف واحد بخصوص الرقابة على تقدير القيمة الثبوتية للدليل، فبالرجوع إلى قراراته نجده أنه يسير في اتجاهين متعارضين:
وفقا للاتجاه الأول: يرى أن قناعة قاضي الموضوع بدليل ما لا تخضع للمراقبة فهي تدخل في نطاق سلطته التقديرية، وفي ذلك يقول "إن رقابة قضاة النقض لا تمتد إلى حقيقة الوقائع التي شهد بثبوتها قضاة الزجر ولا إلى قيمة الحجج التي حظيت بقبوله".
وجاء في قرار آخر أن "الأخذ بشهادة الشهود أو عدم الأخذ بها موكول إلى تقدير محكمة الموضوع التي لها أن تأخذ بها متى اطمأنت إليها أو الا تأخذ بها في حدود السلطة التقديرية التي لقضاة الزجر في هذا المضمار، وهذه السلطة لا تخضع لرقابة المجلس الأعلى طبقا للفصل 568 ق.م.ج" .
كما قضى بأن "تصريحات الأطراف وتقدير قيمتها موكول إلى السلطة التقديرية التي لقضاة الموضوع ولا رقابة عليهم في ذلك من طرف المجلس الأعلى".
وإذا كان المجلس الأعلى قد كرس مبدأ حرية القاضي في تقدير الدليل الجنائي في قراراته السابقة فإنه تنكر لهذا المبدأ في قرارات أخرى، وفرض رقابته على سلطة قاضي الموضوع في تقدير الدليل على الرغم من أن التشريعات المقارنة تعتبرها مسألة موضوعية ومن صلاحيات قاضي الموضوع، وبذلك يتحول المجلس الأعلى من محكمة يقتصر دورها على مراقبة التطبيق السليم للقانون إلى محكمة موضوع تراقب الوقائع وتقيم القوة الثبوتية للأدلة والترجيح بينها، وهذا تدخل في السلطة التقديرية لقضاة الموضوع ومجادلة في القيمة الثبوتية للدليل، الأمر الذي تمسك به المجلس في الكثير من قراراته.
وهذا التوجه هو خرق لمضمون المادة 568 من قانون المسطرة الجنائية الملغى التي تنص صراحة أن مراقبة المجلس الأعلى لا تمتد إلى حقيقة الوقائع التي يشهد بثبوتها قضاة الزجر ولا إلى القيمة الثبوتية للأدلة التي حظيت بقبولهم.
هذا المبدأ عاد وكرسه المشرع في المادة 518 من قانون المسطرة الجنائية الجديد بقوله أن المجلس الأعلى يسهر على التطبيق الصحيح للقانون وعلى توحيد الاجتهاد القضائي ويراقب التكييف القانوني لوقائع المتابعة الجنائية، ولا تمتد هذه المراقبة إلى الوقائع المادية التي يشهد بثبوتها قضاة المحاكم الزجرية، ولا إلى قيمة الحجج التي أخذوا بها ما عدا في الحالات المحددة التي يجيز فيها القانون هذه المراقبة

                  المبحث الثاني
سلطة القاضي في تجزئة الاعتراف
تمهيد:
سبقت الإشارة إلى أن التشريعات الجنائية المعاصرة قد أكدت على خضوع الاعتراف الجنائي كباقي الأدلة الجنائية لتقدير محكمة الموضوع، ومرد ذلك إلى الأخذ بنظام الإثبات الحر المبني على قناعة القاضي،حيث أصبح الدليل الجنائي غير قاطع في حد ذاته ، وتبعا لذلك فإن الاعتراف غير ملـزم للمحكمة، لها أن تأخذ به أو أن تستبعده. وإذا كان من المسلم به فقها وقضاء، أن للمحكمة أن تأخذ بالاعتراف كله أو أن تستبعده كله إذا لم تقتنع به، فإن المنطق القانوني السليم يفرض بأن يسمح لها بأن تستبعد الجزء الذي لم تطمئن إليه وتأخذ بالجزء الذي تراه مطابقا للحقيقة والواقع.
وطبقا لمبدأ حرية القاضي في تكوين قناعته، فإن لمحكمة الموضوع أن تستند في حكمها على اعتراف المتهم بالنسبة لوقائع معينة وتطرحه بالنسبة لوقائع أخرى، وبعبارة أكثر وضوحا، فإن للمحكمة أن تجزئ الاعتراف الجنائي فتأخذ بالجزء الذي اقتنعت بصحته وتطرح الباقي.
وإذا كان الاعتراف الجنائي قابلا للتجزئة فإن التشريعات المقارنة اعتبرت الإقرار المدني حجة قاطعة على المقر لايستطيع القاضي طرحه جانبا، وبما أنه لا يستطيع استبعاده كله فمن باب أولى لا يستطيع استبعاد جزء منه، ومن ثم يكون الإقرار المدني غير قابل للتجزئة لأنه دليل مفروض على القاضي.
وإذا كان للمحكمة أن تجزئ الاعتراف الجنائي فتأخذ بما اقتنعت به، فإن سلطتها هذه تحددها طبيعة الاعتراف ذاته، فقد يكون بسيطا Aveu  simple، والاعتراف البسيط هو الإقرار بارتكاب الجريمة بدون قيد أو تحفظ ،ففي هذه الحالة إما أن تأخذ المحكمة بالاعتراف كله أو تطرحه كاملا فهذا النوع لا تجوز تجزئته.
ومن جهة أخرى قد يكون الاعتراف موصوفا aveu qualifié، وهو المقرون بظروف وملابسات تؤدي  إذا ما أخذت بها المحكمة إلى إباحة الفعل الإجرامي أو نفي المسؤولية عن المعترف . فقد يعترف الشخص بجريمة القتل إلا أنه يضيف بأنه كان في حالة دفاع عن النفس أو أنه كان في حالة سكر غير اختياري، فإذا ما جزأت المحكمة الاعتراف وأخذت بإقراره بفعل القتل دون زيادة أو نقصان  فسيدان المتهم بجريمة القتل العمد، أما إذا أخذت بإقراره مقرونا بالظروف المصاحبة ،حسب تصريح المعترف، فستتم تبرئته أو إعفاؤه من العقاب.
فهذا النوع من الاعتراف هو الذي يثير مشكلة التجزئة من عدمها حيث انصب الاعتراف على وقائع متعددة، بعضها يستلزم حتما عدم توافر الأركان اللازمة لقيام الجريمة، وفى هذه الحالة لا بد من تجزئة هذه الوقائع والأخذ ببعضها دون الأخرى، فالإقرار بهذه الوقائع مجتمعة لايعد اعترافا بالجريمة، فإرادة المعترف لم تتجه إلى التسليم بمسؤوليته عنها، وإذا أخدت المحكمة بأقوال المتهم برمتها واعتبرتها اعترافا فإن حكمها يكون معيبا.





أولا: تجزئة الاعتراف في الفقه والقضاء في فرنسا
يجمع الفقه الفرنسي على أن الاعتراف الجنائي دليل غير قاطع في حد ذاته، وبالتالي فللمحكمة الا تأخذ منه إلا بما اقتنعت بصحته وتستبعد الباقي، فلا مانع من الأخذ بإقرار المتهم بارتكاب الجرم المنسوب إليه واستبعاد المبررات التي أضافها والتي تؤدي إلى إباحة الفعل أو الإعفاء من العقاب. فإذا اعترف المتهم بجريمة القتل إلا أنه صرح بكونه في حالة دفاع شرعي، فيجوز للمحكمة إدانته واستبعاد الدفع بحالة الدفاع الشرعي.
أما محكمة النقض الفرنسية فكانت ترفض الأخذ بمبدأ تجزئة الاعتراف الجنائي وتلزم قضاء الموضوع بالأخذ بالاعتراف كله أو بطرحه بكامله ولاتسمح له بتجزئته مبررة موقفها بقاعدة "عدم تجزئة الإقرار" "Indivisibilité de l'aveu" المطبقة في القانون المدني وصرحت في قرار لها بأن "الأخذ بما يضر المقر وطرح ما ينفعه مخالف لما قصده من إقراره"،الا أنها تراجعت عن اتجاهها هذا واستقرت أخيرا على جواز تجزئة الاعتراف الجنائي فقضت بأن مبدأ عدم تجزئة الاعتراف المطبق في المواد المدنية لا يؤخذ به في المواد الجنائية.
فسمحت بذلك لقضاء الموضوع بتجزئة الاعتراف الجنائي، وتأكيدا لذلك أيدت حكما لمحكمة الموضوع التي جزأت فيه أقوال متهم بجريمة إخفاء الجناة في منزله وعدم التبليغ عنهم، والذي اعترف بالمنسوب إليه إلا أنه أضاف بأن عدم التبليغ عنهم يرجع إلى تهديد الجناة له بالقتل إذا أخبر الشرطة، أخذت محكمة الموضوع باعترافه بجريمة إيواء الجناة واستبعدت الجزء المتعلق بوقوع الإكراه عليه.
والهدف من هذه النقلة النوعية في موقف القضاء الفرنسي هو توسيع حرية القاضي في تكوين قناعته، فلم تبق سلطته محصورة في الاخذ بالاعتراف كله أو استبعاده بالمرة، وإنما أصبح بامكانه أن يستمد الحقيقة من بعض أجزائه فيأخذ بالجزء المطابق للحقيقة ويرفض الجزء الذي لم يقتنع به.
ثانيا: تجزئة الاعتراف في الفقه والقضاء في مصر
وفي مصر استقر الفقه والقضاء على أن للمحكمة كامل الصلاحية في الأخذ بالاعتراف كله أو بالجزء الذي تطمئن إليه وطرح ما عداه، ذلك أن محكمة الموضوع غير ملزمة، كقاعدة عامة، بأدلة معينة، فلها أن تعتمد في قضائها على ما تشاء وتستبعد ما لا تطمئن إلى صدقه.
وتطبيقا لذلك قضت محكمة النقض بأن عدم تجزئة الاعتراف لا محل له في المواد الجنائية ومرد ذلك إلى اقتناع القاضي، فهو ملزم فقط بالأخذ بما تطمئن إليه نفسه وأن يعرض لما يراه مغايرا للحقيقة. و في قرار آخر لهاجاء فيه أن "لمحكمة الموضوع تجزئة الـدليل ولو كان اعترافا والأخذ منه بما تطمئن إليه وطرح ما عداه ...".
وهذا الاتجاه أخذت به المحكمة العليا في ليبيا فقضت بأن "الاعتراف في المسائل الجنائية ... هو من العناصر التي تملك محكمة الموضوع كامل الحرية في تقدير حجيته وقيمته في الإثبات شأنه في ذلك شأن سائر الأدلة ولا تلتزم في أخذها باعتراف  المتهم بنصه وظاهره، ولها في سبيل تكوين عقيدتها في المواد الجنائية أن تجزئ الاعتراف وتأخذ منه بما تراه مطابقا للحقيقة وأن تعرض عما تراه مغايرا لها".
ويجمع الفقه المصري على أنه وان كان لمحكمة الموضوع أن تجزئ الاعتراف، فإن عليها في المقابل تعليل موقفها القاضي بالأخذ بجزء من الاعتراف دون الباقي.
وإذا كانت التشريعات اللاتينية النزعة متفقة على الأخذ بمبدأ تجزئة الاعتراف الجنائي، فإن النظام الأنجلوسكسوني لا يأخذ بهذا المبدأ وسوى بين الإقرار المدني والاعتراف الجنائي من حيث عدم القابلية للتجزئة، و تبعا لذلك استقر الفقه والقضاء في انجلترا وكندا وأمريكا على عدم جواز تجزئة الاعتراف في المسائل المدنية والجنائية لكونه حجة على المعترف ولايجوز استبعاده كله ولا استبعاد جزء منه، ويسير في هذا الاتجاه التشريع الجنائي السوداني.
ثالثا: تجزئة الاعتراف في الفقه والقضاء في المغرب
لقد سبقت الإشارة إلى أن للمحكمة حرية تقدير الاعتراف والأخذ بالجزء الذي تطمئن إليه وطرح ما عداه طالما أنها لم تقتنع به، بخلاف الإقرار المدني الذي لا يقبل التجزئة ، فهو حجة على المقر ودليل قانوني تلتزم المحكمة بالأخذ به والحكم بمقتضاه، وبما أنه لا يمكن لها أن ترفضه كله فلايمكن أن ترفض جزءا منه، هذا ما نص عليه المشرع المغربي في الفقرة الأولى من الفصل 414 ق.ل.ع بقوله "لايجوز تجزئة الإقرار ضد صاحبه إلا إذا انصب على وقائع متميزة ومنفصل بعضها عن البعض"، وهذا المقتضى كرسه المجلس الأعلى في الكثير من قراراته.
وإذا كان الإقرار المدني يخضع لقاعدة عدم التجزئة فإن هذه القاعدة لا محل لها في الميدان الجنائي، ومرد ذلك إلى أن القيمة الثبوتية للاعتراف الجنائي، في ظل مبدأ الإثبات الوجداني، ترتبط بمدى اطمئنان المحكمة إلى صدقه، فقد يحصل أن تطمئن إلى بعض أقوال المتهم دون البعض الآخر، الأمر الذي يفترض السماح لها بتجزئة أقواله.
فقد يقر المتهم بارتكاب جريمة القتل ويضيف أنه كان في حالة دفاع شرعي أو في حالة الضرورة، وقد يسلم بضبط السلاح في منزله ثم يدعي بأن شخصا آخر هو الذي أخفاه لديه قصد الانتقام ، ففي هذه الحالات انصب الاعتراف على وقائع متعددة، بعضها يستلزم عدم توافر أحد أركانها، فهذا الاعتراف المركب لا يعتبر تسليما بالمسؤولية عن الجريمة، وبالتالي لا يجوز للمحكمة أن تأخذ به كدليل للإدانة لأن بعض وقائعه تستبعد البعض الآخر، وإنما لها أن تجزئه وتأخذ منه ما تراه مطابقا للحقيقة وكل ما تلتزم به هو تعليل الموقف الذي انتهت إليه؟
وانطلاقا من مبدأ خضوع أدلة الإثبات الجنائية لقناعة محكمة الموضوع فإن الراجح في الفقه الجنائي المغربي يسلم بقابلية الاعتراف الجنائي للتجزئة، كما استقر قضاء المجلس الأعلى على أن تجزئة الاعتراف ترجع لقضاء الموضوع بحيث لا يجوز تقييدهم بمبدأ عدم التجزئة لأنه متعلق بالإثبات المدني.
وفي قرار آخر قضى بأن "تجزئة الاعتراف تدخل ضمن السلطة التقديرية لقاضي الموضوع ولا رقابة عليه في ذلك من طرف قاضي النقض".
كما أيد المجلس الأعلى الحكم المطعون فيه والقاضي بتجزئة الاعتراف في قضية أقر فيها المتهم المضاربة وادعى أنه كان في حالة دفاع شرعي، حيث أخذت المحكمة بالشق الأول من الاعتراف وأبعدت الباقي.







خلاصة:
وبناء على ما سبق يتبين أن قناعة القاضي لا تخضع لرقابة محكمة النقض وإنما تخضع فقط لرقابة ضميره ووجدانه، ومن ثم لا يقع على كاهله واجب تعليل اقتناعه ولكنه  ملزم بتعليل حكمه، وهناك فرق بين هذا وذاك، فتعليل الاقتناع يتطلب من القاضي ذكر تفاصيل تقديره للأدلة وتقييمها، وتحديد مدى ما يتركه كل دليل منها من انطباع أو تأثير في وجدانه وشعوره وتحليل الطريقة التي تكون بها الاقتناع، بينما تعليل الحكم يراد به  فقط مجرد التـأكد من وقوع الجريمة و الإشارة إلى نص القانون الواجب التطبيق والأدلة التي استند إليها القاضي في حكمه، وشتان ما بين الاثنين، فالثاني سهل وممكن بخلاف الأول فإنه صعب إن لم يكن مستحيلا، لأن الاقتناع أمر ذاتي ووجداني لا يمكن ضبطه و تنظيمه و مراقبته.
كما يتبين أن للقاضى حرية تقدير قيمة الاعتراف الجنائي فله أن يأخذ به كاملا أو أن يستبعده كله وله أن يأخذ بالجزء الذي يطمئن إليه ويطرح ما عداه طالما أنه لم يقتنع به، فإذا كان الاعتراف مقرونا بوقائع تنفي عن الجريمة أحد أركانها، ففي هذه الحالة يكون القاضى أمام اعتراف هو في جزء منه دليل إدانة وفي جزئه الآخر وسيلة دفع المتهم للتهمة المسندة إليه, بحيث لا يجوز له أن يأخذ بالاعتراف كاملا لأن بعض الوقائع تستبعد البعض الآخر ولا يبقى أمامه إلا أن يجزئه ويأخذ بالجزء الذي يراه مطابقا للحقيقة، ويحكم تبعا لذلك بالإدانة أو البراءة، وكل ما يلتزم به في كلا الفرضيتين هو واجب تعليل حكمه بشكل منطقي ومقنع.










تعليقات