القائمة الرئيسية

الصفحات



مسئولية الدولة عن القوانين للدكتور عمر السيوى

مسئولية الدولة عن القوانين  للدكتور عمر السيوى




مسئولية الدولة عن القوانين
مسئولية الدولة عن القوانين للدكتور عمر السيوى
المقدمة
كان المبدأ السائد هو عدم مسئولية الدولة عن الأضرار التي قد تحدث بسبب تشريعاتها ، وذلك استناداً لمبررات قيل بها في هذا الشأن .
وقد سار الأمر وفقاً لهذا المبدأ فترة طويلة من الزمن ، إلا أن اعتبارات جديدة قد طرأت ، أدت إلى إعادة النظر في مبدأ عدم مسئولية الدولة عن التشريع أو القوانين ، فأتجه التطور نحو العدول التدريجي عن ذلك المبدأ وإقرار مبدأ مسئولية الدولة عن التشريع أو القوانين ، وذلك بضوابط ووفقاً لشروط معينة .
وسنعرض مبررات ذلك واتجاهات التطور في مطلبين ، على النحو التالي :
المطلب الأول : ونخصصه لبيان مبررات عدم مسئولية الدولة عن القوانين .
المطلب الثاني :وتخصصه لبيان حدود عدم مسئولية الدولة عن القوانين .
المطلب الأول:-
مبررات عدم مسئولية الدولة عن القوانين
أستند الفقه والقضاء على مبررات عديدة للقول بعدم مسئولية الدولة عن الأضرار التي تسببها القوانين ، ويأتي مبدأ سيادة الدولة في مقدمة هذه المبررات حيث قيل أن السيادة تتنافى مع المسئولية (1)، كما قيل بأن المسئولية تتنافى مع مبدأ سيادة البرلمان حيث يعتبر القانون من أهم مظاهر هذه السيادة .
كما قيل بأن السيادة تتنافى مع مبدأ سيادة البرلمان ، حيث يعتبر القانون من أهم مظاهر هذه السيادة ، كما قيل بأن إخضاع البرلمان لرقابة السلطة القضائية يتنافى مع مبدأ الفصل بين السلطات ، وذلك فضلاً على أن تقرير المسئولية يتطلب ضرر خاص يكون نتيجة لخطأ حتى يمكن التعويض عنه ، وهو ما لا يتصور توافره في حالة القوانين ، كما أن بعض الاعتبارات العملية التي تتمثل في ضرورة الإصلاح والتطور من ناحية وعدم وجو قاض يختص بنظر دعاوي مسئولية الدولة من ناحية أخرى ، تدعو إلى الأخذ بمبدأ عدم مسئولية الدولة عن الأضرار المترتبة عن قوانينها .
والواقع أن كل هذه المبررات لا تصلح سنداً مبرراً لعدم مسئولية الدولة ، كما أن أتساع نطاق نشاط الدولة وتزايد قوانينها تحقيقاً لاتجاهاتها المتداخلة من ناحية ، ومقتضيات تطبيق مبدأ المساواة أمام الأعباء والتكاليف العامة من ناحية أخرى ، كل ذلك يدعو إلى نبذ المبدأ القديم والأخذ بمبدأ مسئولية الدولة عن الإضرار التي تسببها قوانينها (2).
ولتفصيل ما سبق ، نعرض أهم المبررات التي قيل بها كسند لمبدأ عدم مسئولية الدولة عن قوانينها ، ثم الرد على كل منها ، وذلك كما يلي :-
أولاً: نظرية السيادة :
من المعروف أن الفقيه الفرنسي جون بودان قد أبرز فكرة السيادة ، ولكن قال بأن السيادة للملك ليضمن له السيطرة الداخلية وعدم الخضوع للقوى الخارجية ـ إلا أن الديمقراطية تقرر السيادة الشعبية ـ سواء وفقاً لنظرية سيادة الأمة أو نظرية سيادة الشعب ـ ومن هنا كان القانون تعبيراً عن الإرادة العامة للأمة ، الأمر الذي يعني أن القانون يعد أحد مظاهر السيادة في الدول المعاصرة .
ولما كانت السيادة تعد سلطة عليا تسمو على الجميع ، ويخضع الجميع لها لذلك فقد اتخذها البعض أساساً للقول بعدم مسئولية الدولة عن قوانينها ، حيث يعد القانون تعبيراً عن سلطة الدولة صاحبة السيادة التي يجب ألا تخضع لأحد كما لا تكون مسئولة أمام أحد .
فالدولة صاحبة السيادة لا يمكن إخضاعها لقاعدة قانونية ، لأن إخضاعها لأي قاعدة قانونية يتنافى مع سيادتها ، فالسيادة تعني تمتع الدولة بحقوق في مواجهة مواطنيها، دون إلتزامها بأية واجبات .
كما أنه لا مجال للقول بازدواج شخصية الدولة ، أي أنه لا مجال للقول بتمتع الدولة بشخصيتين قانونيتين في وقت واحد :
شخصية عامة تخضع لأحكام القانون العام ، وأخرى خاصة تخضع لأحكام القانون الخاص ، وبالتالي فلا مجال للنظر إلى الدولة على أنها سلطة عامة ذات سيادة عامة ، والنظر إليها على أنها شخصاً مسئولاً عن أعماله تارة أخرى .
فالقول بذلك لا يؤدي أيضاً إلى تقرير مسئولية الدولة عن قوانينها لأن القول بازدواج شخصية الدولة يتنافى مع اعتبار الدولة سلطة ذات سيادة ، حيث أن السيادة دائمة، غير قابلة للتصرف فيها أو التنازل عنها ، كما أنها غير قابلة للانقسام ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن القول بازدواج شخصية الدولة لا يؤدي إلى تقرير مسئوليتها حيث لا تكون الدولة كشخص خاص مسئولة عن قوانينها كسلطة عامة .
والواقع أن السيادة الآن ليست مطلقة كما كانت في الماضي ، كما أن تمتع الدولة بالسيادة لا يحول دون تحملها مسئولية التعويض عن الأضرار الناتجة عن قوانينها ، فالسيادة لا تتنافى مع إخضاع الدولة القانون ، بل أن مبدأ الشرعية يتطلب خضوع الجميع لحكم القانون ، الحكام قبل المحكومين ، كما أن السيادة وإن كانت تعني تمتع الدولة بحقوق في مواجهة مواطنيها إلا أنها تعني كذلك تحمل الدولة بواجبات معينة بالنسبة لهؤلاء المواطنين ، بل أن الدولة مطالبة بأن تكون قدوة لمواطنيها ، وأن تضرب لهم المثل في خضوع الجميع لحكم القانون .
فالسيادة لا تعني التمتع بسلطات مطلقة كما أن السيادة لا تعني عدم تحمل مسئولية التعويض عن الأضرار التي تسببها القوانين .
وانطلاقاً من نظرية السيادة قيل بأن القانون إذ يعد تعبيراً عن الإرادة العامة . فإن المواطن ليس أجنبياً عنه ، حيث يشترك مع غيره من المواطنين سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة في صنع القوانين التي قد تلحق به الضرر ، ومن ثم يكون المواطن هو المنشئ للقانون المسبب للضرر ، مما يعني عدم مسئولية الدولة .
والواقع أن هذا التصوير غير صحيح ، ولا يصلح سنداً لتبرير عدم مسئولية الدولة عن قوانينها والبرلمان لا يمثل إلا نسبة من بين أفراد الشعب تقل أو تزيد حسب الظروف والأحوال فقد لا يحضر بعض أعضاء البرلمان عملية صنع القانون أحياناً ، وذلك فضلاً على أن القانون لا يصدر دائماً بالاجماع بل يصدر بالأغلبية .
وكل ذلك يعني أن القانون لا يكون تعبيراً عن إرادة كل الأفراد ، ومن ثم لا يقبل القول بأن الفرد هو المنشئ للقانون المسبب للضرر .
ويضاف إلى ما سبق أن مشاركة الفرد في صنع القانون لا تحول ـ منطقياً ـ دون حقه في الحصول على تعويض عن الضرر الذي يسببه له القانون الذي يشارك في صنعه، فالمشاركة في صنع القانون لا تعني ـ بالضرورة ـ تحمل الفرد وحده (أو تحمله مع بعض الأفراد) للإضرار الناتجة عن ذلك القانون ـ لأن الأصل أن يتحمل الجميع الأضرار الناتجة عن القانون ، وذلك لا يتحقق إلا في حالة قيام الدولة بتعويض الضرر الذي لحق بالبعض دون البعض الآخر .
والخلاصة أن السيادة ليست مطلقة ، كما أنها لا تحول دون تحمل المسئولية ، وذلك فضلاً عن أن المشاركة في صنع القانون وفقاً للأساليب الديمقراطية ـ لا يجوز أن تحرم الفرد من الحصول على تعويض عن الضرر الذي يسببه له القانون .
ثانياً: سيادة البرلمان :
مع الأخذ بالديمقراطية النيابية يبرز دون البرلمان بوصفه ممثلاً للشعب ومعبراً عن إرادته ، الأمر الذي أدى بالبعض إلى القول بسيادة البرلمان وذلك على أساس النظر على أنه تجسيد للإرادة الشعبية .
ولما كان القانون من صنع البرلمان ، بل يعد عمله الرئيسي ، لذلك نظر للقانون على أنه من أهم مظاهر سيادة البرلمان ، الأمر الذي يعني عدم المسئولية عنه .
والبرلمان بوصفه صاحب السيادة ، يكون وحده الذي يقدر ما إذا كان يمكن تعويض الأفراد عن الأضرار التي يسببها القانون ، وذلك حسب جسامة الضرر وموارد الدولة وحاجاتها ، فإذا قدر عدم التعويض ، فلا مجال لإثارة المسئولية لأن التعويض ليس إلزاماً ، بل هو مجرد واجب أدبي .
والقول بسيادة البرلمان أمر لا يمكن التسليم به ، فالسيادة للشعب وليست للبرلمان ، كما لا يمكن القول بانتقال السيادة للبرلمان ، لأن السيادة لا تتجزأ ولا يمكن النزول عنها .
يضاف إلى ذلك أن للبرلمان اختصاصات محددة ومقررة بنصوص الدستور فهو إذاً ليس صاحب السيادة بل هو أحد الهيئات المعبرة عن مظاهر السيادة ومن ثم فإن البرلمان يلتزم بممارسة اختصاصاته المنصوص عليها في الدستور فقط ، كما أنه يخضع كغيره لنصوص القانون ، الأمر الذي يعني في النهاية إمكان مسئوليته إذا توافرت شروط هذه المسئولية .
ومن ناحية أخرى ، قيل بعدم مسئولية الدولة عن تعويض الأضرار الناتجة عن قوانينها ، وذلك استناداً إلى قياس وضع البرلمان بوضع أعضائه ، فالدساتير تقرر عدم مسئولية أعضاء البرلمان عن الأفكار والآراء التي يبدونها أثناء أدائهم لعملهم في المجلس وفي لجانه ومن ثم يمكن القول بعدم مسئولية البرلمان عن القوانين الصادرة منه ، وأنه إذا كان الجزء غير مسئول (العضو) فإن الكل (البرلمان) يجب أن يكون غير مسئول أيضاً .
والرد على ذلك يسير ، لأن عدم مسئولية عضو البرلمان إنما تجد سندها في نصوص صريحة في الدستور ، بينما الأمر ليس كذلك بالنسبة لمسئولية البرلمان حيث لا توجد نصوص تقرر عدم مسئولية الدولة عن قوانينها ، فإذا وجدت مثل هذه النصوص فلا مجال للقول بالمسئولية .
يضاف إلى ذلك أن تقرير عدم مسئولية عضو البرلمان إنما المقصود منها حماية الاستقلال الشخصي له ، وتوفير المناخ الملائم له للقيام بمهمته ، والأمر ليس كذلك بالنسبة لمسئولية الدولة عن قوانينها ، حيث لا يتحقق استقلال البرلمان بتقرير مبدأ عدم المسئولية ، بل يتحقق ذلك بإتباع وسائل أخرى كإعطائه الحق في الاجتماع من تلقاء نفسه ، واستقلاله بوضع لائحته الداخلية وتحقيق صحة نيابة أعضائه ، واختيار رئيسه وهيئة مكتبه وتشكيل لجانه وتحديد اختصاصاته ... الخ .
ومن ثم يتضح لنا أن البرلمان ليس هو صاحب السيادة ، فالسيادة للشعب وحده ، كما أن السيادة لا تحول دون تقرير المسئولية ، وذلك فضلاً على أن استقلال البرلمان لا يتطلب حصانة أعماله وعدم المسئولية عنها .
ثالثاً: مبدأ الفصل بين السلطات :
أستند البعض على مبدأ الفصل بين السلطات للقول بعدم مسئولية الدولة عن قوانينها ، حيث فهموا المبدأ على أنه يعني عدم السماح للسلطة القضائية برقابة أعمال السلطة التشريعية ، الأمر الذي يعني عدم مسئوليتها عن قوانينها .
ومبدأ الفصل بين السلطات إنما يقوم على فكرة أساسية حددها مونتسكيو هي أن السلطة تحد السلطة وذلك لا يتحقق إلا بإيجاد رقابة متبادلة بين السلطات بحيث يتحقق استقلال كل سلطة من ناحية مع خضوعها لرقابة غيرها من السلطات بما يكفل عدم خروجها على اختصاصاتها من ناحية أخرى .
وكما أن مبدأ الفصل بين السلطات لا يتعارض مع رقابة البرلمان على السلطة التنفيذية ،فإن المبدأ لا يتعارض أيضاً مع رقابة السلطة القضائية على أعمال البرلمان .
وإذا كان من المقبول تقرير رقابة القضاء على دستورية القوانين ، مما يعني إعطاء السلطة للقضاء للحكم بعدم دستورية القانون وبالتالي عدم تطبيقه فيكون مقبولاً القول بتعويض الأضرار التي يمكن أن يسببها القانون لبعض الأفراد ، فالتعويض عن القانون يبدو أقل وطأة من الحكم بعدم دستوريته .
ونخلص من ذلك إلى أن الأخذ بالمفهوم الصحيح لمبدأ الفصل بين السلطات لا يؤدي إلى القول بعدم مسئولية الدولة عن قوانينها ، لأن مبدأ الفصل بين السلطات يتطلب الرقابة المتبادلة بين هذه السلطات .
رابعاً: نظرية المسئولية :
أستند البعض على مقتضيات تطبيق نظرية المسئولية للقول بعدم مسئولية الدولة عن قوانينها ، وذلك نظراً لأن مطالبة الدولة بالتعويض عن قوانينها إنما يتطلب ـ في رأيهم ـ أن يكون التعويض عن ضرر خاص Dommage Special من ناحية ، وأن يكون بسبب التقصير أو الخطأ La Faute من ناحية أخرى .
وتستند الحجة الأولى على الإدعاء بأن التعويض عن القانون إنما يتطلب ضرر خاص بفرد محدد أو أفراد محددين لأن الضرر إذا كان عاماً لا يمكن التعويض عنه .
ولما كان القانون يعد تعبيراً عن الإرادة العامة حيث يضع قواعد عامة مجردة تطبق على الجميع ، فإنه لا يتصور حدوث ضرر خاص بسببه ، وإذا أحدث ضرراً فإن الضرر يكون عاماً ومن ثم لا مجال للتعويض عنه .
وهذه الحجة رغم وجاهتها الظاهرة ، إلا أنها ليست صحيحة على إطلاقها ذلك أن القانون وإن كان يضع قواعد عامة مجردة الأمر الذي يعني أنه لا يحدث ضرراً خاصاً ، فإن هذا الضرر يكون عاماً بالنسبة لكل الأفراد ولا يصيب البعض دون البعض الآخر ، وإذا كان ذلك صحيحاً في معظم الحالات إلا أنه يتصور ـ بل يحدث عملياً ـ أن يحدث القانون ضرراً خاصاً لا يمس كل الأفراد ، بل يصيب فرداً واحداً أو عدداً محدوداً من الأفراد ، مثال ذلك صدور قانون باحتكار نشاط معين كان يمارسه فرد واحد أو هيئة أو شركة واحدة ، كذلك الأمر إذا صدر قانون باحتكار التعليم الخاص ، فإن الضرر في الحالة الأولى إنما يصيب فرداً واحداً أو هيئة أو شركة واحدة بينما يصيب الضرر في الحالة الثانية عدداً محدوداً من الأفراد هم أصحاب المدارس الخاصة .
بل حدث ذلك فعلاً عندما صدر قانون في فرنسا بتاريخ 30 / مارس / 1902ف تقرر بمقتضاه منع السكارين حماية للسكر والبنجر ، فإن القانون لم يضر إلا بعض من الأفراد فقط كانوا وحدهم هم الذين يصنعون السكارين عند صدور القانون ، الأمر الذي يعني أن الضرر الذي أحدثه ذلك القانون يعد ضرراً خاصاً وليس ضرراً عاماً .
ومن ناحية أخرى ، تستند الحجة الثانية ـ للقول بعدم مسئولية الدولة عن قوانينها على الإدعاء بأن التعويض إنما يكون على أساس الخطأ ، والخطأ لا يمكن أن ينسب إلى المشرع عندما يتسبب القانون في إلحاق ضرر ببعض الأفراد ، لأن المشرع هو وحده الذي يقرر معايير الخطأ والصواب ومن ثم لا يقبل القول بمسئوليته على أساس الخطأ فالمشرع لا يخطئ ، لأن المشرع منزه عن الخطأ (3).
والواقع أن ذلك محل نظر ، فالبرلمان يتكون من مجموعة من البشر ـ وهؤلاء شأنهم شأن غيرهم من البشر عرضة للخطأ والصواب ، فهم ليسوا معصومين عن الخطأ ، لأن العصمة لله وحده سبحانه وتعالى ، بل أن المشرع في بعض الدول ـ يعترف بإمكانية خطأ البرلمان ، حيث يقرر الرقابة على دستورية القوانين(4).
يضاف إلى ما سبق أن الخطأ ليس أساس المسئولية وحده ، حيث يمكن إقامة مسئولية الدولة على أساس المخاطر أو استناداً على مبدأ المساواة أمام التكاليف والأعباء العامة .
ونخلص مما سبق إلى القول بإمكانية مساءلة الدولة عن الضرر الذي تسببه قوانينها ، وذلك إذا توافرت شروط تحقق المسئولية سواء على أساس الخطأ أو على أساس تحمل التبعة أو المخاطر أو المساواة أمام الأعباء العامة .
خامساً: الاعتبارات العملية :
أستند رأي إلى بعض الاعتبارات العملية للقول بعدم مسئولية الدولة عن قوانينها ، وذلك اعتماداً على أن تقرير مسئولية الدولة عن قوانينها قد يكون عقبه تحول دون الإصلاح ، حيث ينهى القانون الجديد وضعاً أقل موافقة للقانون القديم ، أو اعتماداً على القول بعدم وجود نص مقرر للمسئولية من ناحية ، وعدم وجود قاض يختص بنظر دعاوي المسئولية من ناحية أخرى .
فقد نادي البعض بعدم مسئولية الدولة عن قوانينها وذلك على أساس اعتبار عملي تمثل في أن تقرير مبدأ المسئولية يؤدي إلى عرقلة الإصلاح ، لأن الدولة ستتردد كثيراً بل قد تحجم عن القيام بتطوير قوانينها وتحقيق الإصلاحات بواسطتها ، وذلك إذا كانت تعلم سلفاً بأن ذلك يعرضها للمسئولية ويلزمها بدفع تعويضات عن من أصابهم ضرر من قوانينها الإصلاحية ، ويزداد خطر ذلك في الدول الفقيرة قليلة الإمكانيات المالية ، مما قد يدفعها إلى إرجاء الإصلاح خشية دفع تعويضات لمن يتضرر من مثل هذه القوانين .
وهذه الحجة غير مقبولة ، لأن الإصلاح وتعويض الأضرار التي تسببها القوانين لا يتعارضان حيث لا يقبل أن يتم الإصلاح على حساب البعض دون البعض الآخر ، أما تبرير عدم مسئولية الدولة عن قوانينها على أساس عدم وجود قاض يختص بنظر دعاوي المسئولية في هذا الشأن . فهو أمر يمكن حله عن طريق تدخل المشرع لتحديد جهة القضاء المختصة بنظر دعاوي مسئولية الدولة عن قوانينها .
والخلاصة أن الاستناد على بعض الاعتبارات العملية لم يعد كافياً ولا سائغاً للقول بعدم المسئولية ولا يمثل عقبة أمام الإصلاح ، كما أن هذه المسئولية تجد أساسها وسندها في مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة ، وذلك فضلاً عن إمكان تدخل المشرع لتقرير جهة القضاء المختصة بالفصل في دعاوي مسئولية الدولة عن قوانينها .
رأينا الخاص :
ونخلص من جماع كل ما سبق أن الحجج التي قيل بها لتبرير عدم مسئولية الدولة عن قوانينها لا تصمد أمام التحليل الدقيق ولا تصلح سنداً لتنصل الدولة من مسئوليتها .
فالسيادة ليست مطلقة من ناحية أولى ، ولا تتعارض مع تحمل الدولة لمسئوليتها من ناحية ثانية ، كما أن مشاركة الفرد في صنع القانون ـ وفقاً للنظرية الديمقراطية ـ لا تصلح مبرراً لحرمانه من الحصول على تعويض عن الأضرار التي يسببها له القانون، من ناحية ثالثة .
كما أن السيادة للشعب وليست للبرلمان أو الجهة المختصة بالتشريع واستقلال هذه الجهة لا يتحقق بتقرير عدم المسئولية بل يتحقق بوسائل أخرى أكثر ملاءمة لتحقيق هذا الغرض .
كذلك لا يعني الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات عدم مسئولية الدولة عن قوانينها، لأن مبدأ الفصل بين السلطات يتطلب الرقابة المتبادلة بين هذه السلطات .
كذلك يمكن مساءلة الدولة عن الضرر الذي تسببه قوانينها في حالة توافر شروط المسئولية وذلك على أساس الخطر أو تحمل التبعة .
وأخيراً يمكن تقرير مسئولية الدولة عن قوانينها على أساس مبدأ المساواة أمام التكاليف والأعباء العامة ، دون أن يعد ذلك عقبة تحول دون الإصلاح .
ومن ثم فقد أتجه الفقه والقضاء نحو تقرير مسئولية الدولة عن قوانينها ، بل أن المشرع ينص صراحة على مبدأ التعويض عن الأضرار التي تحدثها بعض القوانين .
المطلب الثاني:-
حدود عدم مسئولية الدولة عن القوانين
اعتماداً على المبررات السابق بيانها ، ساد مبدأ عدم مسئولية الدولة عن قوانينها، وظل الأمر كذلك حتى عهد قريب ، فكان القضاء لا يحكم بالتعويض عن الإضرار التي يسببها القانون إلا في حالة وجود نص صريح مقرر لحق التعويض ، أي أن القضاء يلتزم بإرادة المشرع أياً كان موقفه من التعويض عن الأضرار التي يسببها القانون .
وموقف المشرع لا يخرج عن أحد فرضين :
الفرض الأول : النص الصريح على مبدأ التعويض ، أو النص الصريح على منع التعويض عن الأضرار التي يسببها القانون .
الفرض الثاني : السكوت ، وعدم التعرض لموضوع التعويض عن الأضرار التي يسببها القانون .
فإذا تعرض المشرع لموضوع التعويض عن الأضرار التي يسببها القانون ، فإن القضاء يلتزم بإعمال إرادة المشرع في هذا الشأن ، وهي قاعدة معمول بها حتى الآن في القضاء الليبي والمقارن ، وإذْ حيثما يعلن المشرع عن إرادته في هذا الشأن فلا مناص من النزول عند هذه الإرادة ووضعها موضع التطبيق .
أولاً: تقرير المشرع للحق في التعويض :
إذا قرر المشرع الحق في التعويض عن الأضرار التي يسببها القانون يحترم القضاء إرادة المشرع ويضعها موضع التطبيق .
- مثال ذلك في فرنسا :
القانون الصادر بتاريخ 2/ أغسطس/ 1872 الخاص باحتكار الدولة لصناعة وبيع الكبريت ، وقانون 14/أغسطس/ 1904 الخاص بإلغاء مكاتب التخديم الخاصة مقابل تعويض عادل على أن تقوم البلديات بإنشاء مكاتب تقدم خدماتها مجاناً والقانون الصادر بتاريخ 9/مارس/1918ف الذي خفض أجرة المساكن وأعفى البعض منها بشروط معينة .
- ومثال ذلك في مصر :
القانون رقم (285) لسنة 1956ف بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية الذي قرر انتقال كل أموال وحقوق الشركة وما عليها من التزامات إلى الدولة ، وذلك مقابل تعويض حدد القانون شروط منحه مبيناً طريقة تحديد مقداره ، وهو ما أتبعه المشرع المصري أيضاً في القانون رقم (39) لسنة 1960ف بنقل ملكية بنك مصر إلى الدولة ، وكذلك القانون رقم (40) لسنة 1960ف بنقل ملكية البنك الأهلي إلى الدولة .
- ومثال ذلك في ليبيا
القانون رقم (115) لسنة 1971ف الذي نص على تأميم حصة شركة ب، ب للاستكشاف (ليبيا) والقوانين الأخرى بتأميم حصص الشركات الأمريكية مثل القانون رقم (10) لسنة 1974ف والقانون رقم (11) لسنة 1974ف حيث نصت على التأميم مع الحق في التعويض .
ثانياً: منع المشرع للتعويض :
أما إذا قرر المشرع منع التعويض عن الإضرار التي يسببها القانون ، يحترم القضاء إرادة المشرع في هذا الشأن ، ويضعها موضع التطبيق .
- مثال ذلك في فرنسا :
القانون الصادر بتاريخ 29/12/1819ف باحتكار الحكومة لصناعة وتجارة الدخان والقانون الصادر بتاريخ 28/12/1904ف باحتكار البلديات لعمليات نقل ودفن الموتى ، والقانون الصادر بتاريخ 12/4/1946ف بتحريم البغاء .
- ومثال ذلك في مصر :
القانون رقم (31) لسنة 1963ف الذي أجاز إحالة الموظفين إلى المعاش بقرارات جمهورية ، على أن تعتبر هذه القرارات من أعمال السيادة ، فلا يجوز الطعن فيها بالإلغاء أو بالتعويض ،ومن ثم يكون المشرع المصري قد منع التعويض بصورة غير مباشرة .
- ومثال ذلك في ليبيا
القانون رقم (19) لسنة 1968ف بشأن البلديات الذي منع الطعن بأي طريقة كانت ضد القرارات الصادرة بنقل موظفي البلديات وإحالتهم إلى التقاعد من قبل مجلس الوزراء وغيره من القوانين الأخرى( 5 ).
ويستخلص القضاء إرادة المشرع ويضعها موضع التطبيق سواء اعلن المشرع عن إرادته صراحة ، أو كان ذلك بصورة ضمنية ، حيث يستشف القضاء الإرادة الضمنية للمشرع من الأعمال التحضيرية للقانون أو من ظروف الدعوى .
فإذا قرر المشرع عدم التعويض عن الأضرار التي يسببها تنفيذ القانون يثور السؤال التالي : هل يكون منع التعويض مقبولاً ؟
وبمعنى آخر ، هل يطبق القاضي النص المانع للتعويض دون بحث مدى دستوريته ؟
في فرنسا ، حيث لا يقوم القضاء ببحث دستورية القوانين ، يطبق النص المانع للتعويض دون مناقشة مدى دستوريته .
أما في مصر وليبيا ، حيث يختص القضاء ببحث دستورية القوانين ، فيمكن بحث دستورية القانون المانع لحق التعويض ، فإذا دفع أمام القاضي بعدم الدستورية ، يلتزم القاضي بوقف النظر في الدعوى ، وذلك لحين البت في دستورية النص المانع من التعويض .
ثالثاً: أما إذا سكت المشرع ولم يتعرض لموضوع التعويض عن الأضرار التي يسببها تنفيذ القانون :
فقد اختلف موقف مجلس الدولة الفرنسي في الماضي عنه في الوقت الحاضر ، حيث كان يفسر السكوت في الماضي على أنه رفض لمبدأ التعويض بينما يفسره في الوقت الحاضر على أنه لا يحول دون إمكانية التعويض إذا توافرت شروط معينة .
وفي الفقه ، نادي البعض بإمكانية التعويض عن الأضرار التي يسببها تنفيذ القانون وذلك استناداً لأسس تختلف باختلاف رأي كل فقيه .
ومن ثم سنعرض لآراء الفقهاء في هذا الشأن أولاً ، على أن يعقب ذلك بيان تطور موقف مجلس الدولة الفرنسي ثانياً ، وذلك على النحو التالي :
أولاً: موقف الفقه :
أتجه جانب من الفقه إلى القول بمسئولية الدولة عن قوانينها ، وأنصار هذا الاتجاه وإن كانوا قد اتفقوا فيما بينهم على تقرير مبدأ المسئولية إلا أنهم قد اختلفوا حول أساس هذه المسئولية (6).
ونعرض فيما يلي مضمون أهم الآراء التي قيل بها في هذا الشأن :
الرأي الأول : التفرقة بين القوانين الأصولية والقوانين التكميلية :
وهو الرأي الذي نادي به الفقيه الفرنسي جورج سيل G.Scelle حيث يدعو إلى ضرورة التمييز بين نوعين من القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية : القوانين الأصولية والقوانين المكملة .
والقوانين الأصولية les Lois Nor matives هي القوانين التي تضع قواعد عامة يعبر بها المشرع عما يكمن في ضمير الجماعة ، أي أن يكشف عنها فقط لأنها موجودة أصلاً في ضمير الجماعة مثال ذلك القانون الصادر بتحريم صناعة معينة على الجميع نظراً لخطورتها ، فهو لا ينشئ قاعدة جديدة ، بل يكشف فقط عن قاعدة كانت موجودة في ضمير الجماعة من قبل .
أما القوانين التكميلية LES Lois constructives فهي القوانين التي تنظم مسألة معينة تنظيماً جديداً ، وذلك مثل القانون الصادر بتنظيم صناعة معينة وجعلها احتكاراً بعد أن كانت حرة تخضع للمنافسة .
والدولة لا تسأل بالتعويض في حالة القوانين الأصولية ، وذلك لأن دورها آلي بحت ، فهي تكشف فقط عن وجود هذه القوانين دون أن تنشئها ، وعلى العكس من ذلك ، تكون الدولة مسئولة في حالة القوانين التكميلية لأن هذه القوانين تكون من صنع الدولة ، ومن ثم تسأل بالتعويض عن الأضرار التي يمكن أن تسببها .
وقد أنتقد الفقه ـ وبحق ـ هذا الرأي ، وذلك نظراً لصعوبة التمييز بين القوانين الأصولية والقوانين التكميلية ، حيث لا يوجد معيار واضح ومحدد يتم طبقاً له معرفة القوانين الأصولية والقوانين التكميلية .
الرأي الثاني : نظرية الإثراء بلا سبب :
قال العميد مورس هوريو M. Hauriou بإمكان مساءلة الدولة عن الإضرار التي تسبها قوانينها على أساس نظرية الإثراء بلا سبب Enrichissement Sans cause وهي النظرية المعروفة في القانون المدني والتي يلزم لتطبيقها توافر ثلاثة شروط :
الشرط الأول: حدوث إثراء في ذمة شخص .
الشرط الثاني: حدوث افتقار في ذمة شخص آ خر .
الشرط الثالث: أن يكون الإثراء بلا سبب قانوني .
وتفادياً للانتقادات الموجهة للنظرية ، نادى هوريو بتحرير قواعد نظرية الإثراء بلا سبب لتتلاءم مع متطلبات القانون العام ، فأدخل تعديلين على النظرية : تمثل الأول في أنه لا يصح اعتبار القانون سبباً للإثراء لأنه من صنع الدولة ، ومن ثم تنطبق النظرية حتى ولو كان الإثراء سببه القانون بينما تمثل التعديل الثاني في عدم اشتراط إثراء الدولة لتطبيق النظرية ، بل يكفي لتحقيق هذا الشرط أن يتم الاقتصاد في النفقات ، أي الإثراء عن طريق تقليل المصروفات .
وقد أنتقد الفقه هذه النظرية ، وذلك على أساس أنها غير محددة المعالم بحيث أنها لا تبين بدقة أنواع التشريعات التي تسأل الدولة عنها ، وذلك فضلاً عن أن الدولة إنما تسعى ـ بقوانينها ـ إلى تحقيق النفع العام ، الأمر الذي لا يقبل معه أن تشبّه بالفرد الذي يثرى على حساب الغير .
الرأي الثالث : نظرية الخطر :
ينادي العميد ديجي Duguit بمسئولية الدولة عن أعمالها ليس فقط على أساس الخطأ ، بل على أساس الخطر La Risque الذي يعد تحقيقاً لمبدأ المساواة أمام التكاليف والأعباء المالية ، ويفرق بين نوعين من القوانين :
النوع الأول:
يشمل القوانين التي تحرم أعمالاً أو نشاطاً مخالفاً للآداب أو ضاراً بالصالح العام أو الصحة العامة ، مثال ذلك صدور قانون بتحريم استخدام الفوسفور في صناعة الكبريت أو صدور قانون بتحريم صناعة وبيع كلورات الرصاص .

النوع الثاني:
يشمل القوانين التي تحرم أعمالاً أو نشاطاً غير ضار بالمجتمعات وليس منافياً للأخلاق ، مثل صدور قانون باحتكار الدولة للتأمين أو النقل أو صناعة الدخان .
في مثل هذه الحالات تلزم الدولة بتعويض الأضرار التي تسببها مثل هذه القوانين ، وذلك تحقيقاً لمبدأ المساواة أمام التكاليف والأعباء العامة .
وقد انتقد البعض هذه النظرية ، وذلك على أساس أن المساواة أمر نسبي ومرن، وذلك فضلاً عن أن ذلك يؤدي إلى فتح باب التحكم والاختيار أمام القضاة .
وهكذا قدم الفقه اجتهادات مختلفة لتقرير مسئولية الدولة عن الأضرار التي تسببها قوانينها ، فما هو موقف القضاء ؟ .
ثانياً: تطور قضاء مجلس الدولة الفرنسي :
رأينا أن جانباً من الفقه قد نادى بتقرير مسئولية الدولة عن الأضرار التي تسببها قوانينها ، وذلك على أساس يختلف وفقاً لرأي كل فقيه ، وأن كان يجمع بينها جميعاً أنها لا تقوم على أساس الخطأ .
كذلك أشرنا إلى موقف المشرع ذاته من مبدأ المسئولية فوجدناه ينص أحياناً على الحق في التعويض ، بينما ينص أحياناً أخرى على منع التعويض ـ ويتأثر المشرع في موقفه من مبدأ التعويض ـ سواء بالموافقة أو بالرفض ـ باعتبارات عديدة : مالية واجتماعية وسياسية ، فهو يوازن بين النفقات المالية التي يمكن أن تتحملها الخزانة في حالة تقرير مبدأ التعويض والآثار الاجتماعية التي تتولد عن تقرير مبدأ التعويض أو رفضه، وانعكاسات كل ذلك من الناحية السياسية ومن ثم يقرر أو يرفض مبدأ التعويض بناء على الموازنة بين كل هذه الاعتبارات .
أما القاضي فيلتزم بتطبيق القانون سواء تضمن تقرير مبدأ التعويض أو لم يتضمن شيئاً من ذلك ، لأن مهمة القاضي هي وضع القانون موضع التطبيق ، دون الحلول محل المشرع وهو مبدأ يسري على القاضي الإداري أيضاً ، حيث لا يكون للقاضي الإداري سلطة إنشاء القواعد القانونية إلا في حالة عدم وجود نص ، لأنه لا اجتهاد مع النص .
فسواء أستبعد المشرع التعويض عن الأضرار التي سببها القانون أو قرر مبدأ التعويض كما يحدث في قوانين التأميم ، فإنه يكفي تطبيق النص نزولاً على إرادة المشرع (7).
ولئن كان القاضي يلتزم بتطبيق نص القانون في حالتي تقرير مبدأ التعويض أو منعه ، إلا أنه في الدول التي تأخذ بمبدأ الرقابة على دستورية القوانين يمكن للقاضي عدم تطبيق النص المقرر لمنع التعويض ، وذلك إذا كان ذلك يخالف الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور ، فإذا انتهى القضاء إلى الحكم بعدم دستورية النص المانع للتعويض ، يتحلل القاضي من تطبيق هذا النص ، وينظر في الأمر على ضوء نصوص الدستور بوصفها المبادئ القانونية العليا للمجتمع .
ويحدث في كثير من الحالات أن يسكت المشرع ولا يفصح عن إرادته فيما يتعلق بالحق في التعويض فما هو الحل الواجب الاتباع في مثل هذه الحالات .
هل يفسر على أنه رفض من جانب المشرع لمبدأ التعويض أم يفسر على أنه لا يحول دون تقرير التعويض .
لقد أختلف موقف مجلس الدولة الفرنسي في تفسيره لسكوت المشرع ، حيث مر قضاؤه بمرحلتين :
كان يفسر سكوت المشرع في الأولى منهما على أنه يعني عدم التعويض ، بينما يفسر سكوت المشرع في المرحلة الثانية على أنه لا يحول دون منع التعويض إذا توافرت الشروط لذلك .
وتفصيل ذلك كما يلي (8)
المرحلة الأولى: لا تعويض عن القانون إلا بنص :
أخذ مجلس الدولة الفرنسي في هذه المرحلة بقاعدة مؤداها أنه لا تعويض عن الأضرار التي يسببها القانون إلا إذا نص القانون صراحة على مبدأ التعويض سواء ورد ذلك النص في القانون ذاته أو في قانون لاحق .
أما إذا سكت المشرع ، فإن ذلك يعد رفضاً لمبدأ التعويض ، ومن ثم كان يحكم مجلس الدولة الفرنسي برفض التعويض .
وقد سار مجلس الدولة الفرنسي على هذه القاعدة لسنوات طويلة ، وفي أحكام متتالية ، في مقدمتها حكمه الصادر بتاريخ 11/يناير/1938ف قضية Duchare Lier ،حيث رفض المجلس طلب الحكم بالتعويض استناداً على أن القانون الصادر بتاريخ 12/فبراير/1835ف المحرم للتبغ الصناعي لم ينص على منح أي تعويض للصناع الذين أضرهم هذا التحريم .
كذلك أخذ مجلس الدولة الفرنسي بذات القاعدة في حكمه الصادر بتاريخ 1/8/1852 ف في قضية Ferrier حيث رفض تعويض المدعى عن الأضرار التي أصابته من جراء تنفيذ القانون الصادر سنة 1837ف الذي قضى باحتكار الدولة للمواصلات التلغرافية ، الأمر الذي ألحق ضرراً بالمدعي في إلغاء أستغلاله للخط التلغرافي الذي كان قد أنشأه بين مدينتي باريس وروان .
ثم عاد المجلس ليؤكد تطبيقه لذات القاعدة في حكمه الصادر بتاريخ 5/إبريل/1879ف حيث رفض الحكم بالتعويض لصاحب إمتياز إحدى المطابع القديمة التي ألغى إمتيازها بمقتضى القانون الصادر في 14/سبتمبر/1870ف .
وهكذا أتضح لنا أن مجلس الدولة الفرنسي كان يفسر سكوت المشرع على أنه يعني رفض التعويض ، ومن ثم كان لا يحكم بالتعويض إلا إذا وجد نص صريح في القانون بتقرير مبدأ التعويض أما إذا لم يوجد النص المقرر لمبدأ التعويض فإن ذلك يعني عدم الحق في التعويض .
المرحلة الثانية: يمكن التعويض عن القانون بدون نص :
على عكس المبدأ الذي ساد قضاء مجلس الدولة الفرنسي في مرحلته الأولى ، بدأ المجلس الأخذ بمبدأ جديد كان بداية مرحلة جديدة في قضاء مجلس الدولة الفرنسي في موضوع مسئولية الدولة عن الأضرار التي تسببها قوانينها .
يؤرخ الفقه لبداية هذه المرحلة الثانية بتاريخ 14/1/1938ف حيث صدر في هذا التاريخ حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية شركة.(9) la fleurette .
وتتلخص وقائع هذه الدعوى في أن شركة منتجات الألبان المسماة لافلوريت كان قد رخص لها بصناعة نوع من الكريما أسمته Gradine يتكون من خليط بنسب معينة من اللبن وزيت نباتي وصفار البيض ، ولكن المشرع أصدر قانوناً بتاريخ 29/يوليو/1934ف تم بمقتضاه منع وتحريم إنتاج الكريما إلا من اللبن الخالص ، وتنفيذاً لهذا القانون ، توقفت الشركة عن الإنتاج ، وطلبت من وزير الزراعة تعويضها عن الخسائر التي لحقت بها بسبب تنفيذها للقانون ، فرفض الوزير الاستجابة لطلب التعويض ومن ثم لجأت الشركة إلى مجلس الدولة الفرنسي مطالبة بتعويضها عن الخسائر التي لحقت بها بسبب قانون سنة 1934ف ا لذي حرم النشاط الذي كانت تقوم به .
ولئن كان مفوض الحكومة ـ إلتزاماً منه بقضاء مجلس الدولة السابق ـ قد أوضح أن المشرع كما يبدو من الأعمال التحضيرية لهذا القانون قد أظهر نيته في عدم منح تعويض عن الأضرار التي يسببها القانون ، إلا أنه قد أوضح أيضاً أن هذا القانون قد قصد به حماية النشاط الزراعي الفرنسي ، وذلك فضلاً عن أن مسئولية الدولة في حالة عدم وجود خطأ من جانبها يمكن أن تؤسس على أساس مبدأ مساواة المواطنين أمام التكاليف العامة ، أو على أساس الخطر .
ورغم ذلك قضى مجلس الدولة الفرنسي بحق شركة لافلوريت في الحصول على التعويض ، هادماً بذلك المبدأ القديم ، وبادئاً عهداً جديداً يتميز بإقرار مسئولية الدولة عن قوانينها حتى ولو لم يكن ذلك نتيجة خطأ ، بل على أساس مبدأ مساواة المواطنين أمام التكاليف العامة ، أي على أساس الخطر .
وتبدو أهمية هذا الحكم في أنه قرر صراحة مسئولية الدولة عن الأضرار التي تسببها قوانينها بالتعويض عنها ، وذلك رغم سكوت المشرع وعدم ذكره لمبدأ التعويض، أن مجلس الدولة الفرنسي قد فسر سكوت المشرع في هذه القضية على أنه لا يعني عدم الحق في التعويض ، بل يمكن الحكم بالتعويض إذا توافرت شروطه بالرغم من سكوت المشرع .
كذلك تبدو أهمية هذا الحكم من ناحية أخرى ، حيث قرر مسئولية الدولة بالتعويض عن الأضرار التي تسببها قوانينها ، وذلك على أساس فكرة المساواة أمام التكاليف العامة وليس على أساس الخطأ كما كان الحال في أحكام المجلس السابقة ، ومن ثم يكون المجلس قد قرر إمكانية مساءلة الدولة حتى ولو لم يكن هناك خطأ أو تقصير من جانبها ، وذلك على أساس المساواة وبشرط توافر الشروط التي سنذكرها فيما بعد .
وقد طبق مجلس الدولة الفرنسي هذا المبدأ الجديد في أحكام لاحقة ، نذكر منها حكم المجلس في قضية Catcheteux et Dasmont وقد صدر هذا الحكـم بتاريخ 14/يناير/1944ف .
وتتلخص وقائعه في أن القانون الصادر بتاريخ 9/يوليو/1934ف قد خفض النسبة المئوية لبعض المنتجات الداخلية في صناعة البيره الأمر الذي ضيق على صانعي الجلوكوز ، ونظراً لأن الضرر كان جسيماً بالنسبة للمدعى حيث أنه قد اضطر إلى وقف إنتاج مصنعه نظراً لقصر نشاطه على هذا الإنتاج من ناحية ، ولأن آلات المصنع لا تنتج إلا هذا النوع فقط ، من ناحية أخرى .
وقد استجاب المجلس لطلب المدعي ، وحكم بحقه في التعويض ، وبحيثيات مماثلة لما ورد في حكم شركة لافلوريت الصادر في 14/1/1963ف .
كذلك طبق مجلس الـدولة الفرنسي المبدأ الجديد في حكم حـديث له صادر في 1/12/1961ف في قضية La Combe حيث قضى بمسئولية الدولة بالتعويض عن قوانينها ، وذلك على أساس مساواة المواطنين أمام التكاليف العامة وليس على أساس الخطأ .
وفي ذات الاتجاه ، تقدم مجلس الدولة الفرنسي خطوة أخرى إلى الأمام وذلك في حكمه الصادر بتاريخ 25/يناير/1936ف في قضية ovaro (10) .
وتتلخص وقائع هذه الدعوى في أن القضاء كان قد أصدر حكماً لصالح المدعي يقضي بطرد ساكن كان يقيم بشقة منزله ، إلا أنه لم يتمكن من تنفيذ هذا الحكم نظراً لصدور قانون يمنع طرد العسكريين الذين كانوا يعملون بالجزائر من المساكن التي يقيمون بها ، ومن ثم تعذر تنفيذ الحكم الصادر بالطرد ، مما دفع المدعي لرفع دعواه أمام مجلس الدولة طالباً التعويض عن الأضرار التي لحقت به من جراء تنفيذ هذا القانون ، فاستجاب المجلس لطلبه ، وحكم له بالتعويض .
وتميز هذا الحكم بأنه حكم بالتعويض بالرغم من أن المتضررين من تنفيذ القانون كانوا فئة محدودة وغير قليلة العدد من ناحية ، كما أن المجلس لم يستند على سكوت المشرع لإقرار التعويض بل أقام حكمه على أساس مبدأ المساواة أمام التكاليف والأعباء العامة من ناحية أخرى .
ومن ثم فقد أصبح من المسلم به الآن (11) إثارة مسئولية الدولة أمام القضاء الإداري أما بسبب القوانين ، أو بسبب إجراءات تنفيذ القوانين .
ولقد وضع مجلس الدولة الفرنسي شروطاً ثلاثة لإمكانية الحكم بالتعويض وهي :
أولاً: ألا يكون المشرع قد منع التعويض عن الأضرار التي يحدثها القانون ـ فالأصل هو احترام إرادة المشرع ، ومن ثم يجب وضع هذه الإرادة موضع التطبيق طالما تم الإفصاح عنها ، حيث لا يستطيع القاضي الخروج عليها .
ويلتزم القاضي باحترام إرادة المشرع سواء عبر عنها صراحة ، أو عبر عنها ضمناً ، وهو ما يفهم من الأعمال التحضيرية أو من ظروف الدعوى ، مع تفسير الشك لصالح من أصابه الضرر من القانون .
وفي بداية الأمر ، ذهب مجلس الدولة الفرنسي في أحكامه إلى اعتبار كل قانون يستهدف تحقيق المصلحة العامة يؤدي ضمناً إلى استبعاد الحق في التعويض عن الأضرار الناتجة عنه ، مع تفسير المصلحة العامة تفسيراً واسعاً ، فرفض المجلس التعويض عن الأضرار التي يسببها القانون إذا كان النشاط الذي حرمه المشرع يعتبر نشاطاً غير مشروع أو فيه مساساً بالأخلاق أو بالصحة العامة ، وكذلك رفض التعويض إذا كان القانون يستهدف أهداف اقتصادية واجتماعية ، كمقاومة ارتفاع الأسعار ، أو تنظيم الأسواق والإنتاج والتجارة الخارجية .
إلا أن موقف مجلس الدولة قد أتخذ مساراً جديداً منذ حكمه في قضية بوفيرو سنة 1963ف حيث لم يستند على سكوت المشرع للحكم بالتعويض بل حكم بالتعويض على أساس مبدأ المساواة أمام التكاليف العامة .
فالمشرع إذاً صاحب الكلمة العليا ، فإذا قرر التعويض أو منعه ، لا يستطيع القاضي تجاوز إرادته ، بل يلتزم بوضعها موضع التطبيق ، أما إذا سكت فإن السكوت لا يعني رفض مبدأ التعويض ، حيث يمكن للقاضي تقرير التعويض على أساس مبدأ مساواة الموطنين أمام التكاليف والأعباء العامة (12).
ثانياً: أن تكون المصالح التي لحقها الضرر مشروعة ، حيث يشترط للحكم بالتعويض أن تكون المصالح التي لحقها الضرر من القانون مشروعة ، أي يشترط أن تكون جديرة بحماية القانون ، فإذا كانت هذه المصالح غير مشروعة ، فإنها لا تتمتع بحماية القانون ومن ثم لا يمكن الحكم بالتعويض .
وقد أتضح ذلك من رفض مجلس الدولة الفرنسي الحكم بالتعويض لشركة كانت تمارس نشاطاً غير مشروع ، وقد صدر هذا الحكم في قضية شركة La grande peche بتاريخ 14/يناير/1938ف وهو ذات اليوم والتاريخ اللذان صدر فيهما حكم المجلس في قضية لافلوريت .
وتتلخص وقائع هذه الدعوى في أن هذه الشركة كانت تقوم بتهريب الكحول إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث قامت بتخزين كميات كبيرة منه في جزيرتين تمهيداً للقيام بعملية التهريب ، إلا أنه صدر بتاريخ 9/إبريل/1935ف مرسوم منظم لعملية تصدير الكحول ، ترتب عليه عدم إمكان الشركة المذكورة تهريب الكحول الخاص بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، إلا أن المجلس رفض الحكم لها بالتعويض ، وذلك على أساس أن نشاط الشركة لم يكن مشروعاً ، ومن ثم لا حق لها في التعويض .
ثالثاً: أن يكون الضرر خاصاً ، ومباشراً ومحققاً ، ذلك أنه فضلاً عن تطلب الشروط المعروفة التي ينبغي أن تتوافر في كل ضرر يُطالب بالتعويض عنه قضائياً وهي اشتراط أن يكون الضرر محققاً وحالاً وليس احتمالياً ويمكن تقديره بالنقود يشترط في الضرر الذي يُطالب بالتعويض عنه أن يكون خاصا ًومباشراً ، ومحققاً .
ويكون الضرر خاصاً عندما يلحق بفرد واحد أو عدد محدود من الأفراد ، ولئن كان الأصل عمومية القانون مما يعني أن يكون الضرر الذي يسببه هذا القانون عاماً بالنسبة للكافة ، إلا أنه من المتصور أن يترتب على القانون ضرر خاص بعدد محدود من الأفراد ، كما هو الحال في قضية لافلوريت ، وكما يمكن أن يحدث عند تأميم أو احتكار صناعة معينة لا يعمل بها إلا خمسة أو عشرة أفراد مثلاً .
إلا أن حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية بوفيرو قد كشف عن اتجاه المجلس للتخفيف من شرط أن يكون الضرر خاصاً ، حيث كان الضرر الناتج عن القانون المانع لطرد العسكريين من مساكنهم ضرراً عاماً لحق بفئة غير محدودة من المواطنين ورغم ذلك حكم المجلس بالتعويض .
كذلك يشترط أن يكون الضرر مباشراً ، أي أنه يترتب مباشرة على صدور القانون ، أما الضرر غير المباشر فلا يمكن التعويض عنه .
أخيراً: يجب أن يكون الضرر جسيماً ، ذلك أن الضرر العادي normal أو المألوف لا يتم التعويض عنه فيجب أن يكون الضرر غير عادي unnormal أو غير مألوف ، أي ينبغي أن يكون على درجة معينة من الجسامة ، فالضرر اليسير والمحتمل لا يتم التعويض عنه .
الخــاتمة
وهكذا نستطيع القول في ختام هذا البحث أن الحجج التي قيل بها لتبرير عدم مسئولية الدولة عن القوانين لا تصمد أمام التحليل الدقيق ولا تصلح سنداً لتنصل الدولة من مسئوليتها كما سلف البيان .
ولهذا السبب بذلت محاولات فقهية وقضائية في فرنسا لإقرار مسئولية الدولة عن القوانين ، وفي حكم جرئ قضت محكمة القاهرة الابتدائية بتاريخ 25/1/1986ف بتعويض المدعى عما لحق به من أضرار بسبب قانون قضى بعدم دستوريته (13).
وإذا كان هذا الحكم قد أقر المسئولية عن القوانين على أساس الخطأ ، لأن المحكمة العليا الدستورية كانت قد قضت بعدم دستورية النص الذي سبب الضرر فليس ثمة ما يمنع أن يقرر القضاء ـ من باب أولى ـ المسئولية عن القوانين على أساس المخاطر ، ويمكن الاسترشاد في هذا الصدد بالضوابط والشروط التي وضعها مجلس الدولة الفرنسي في حكم " لافلوريت " وما تلاه من أحكام .

تعليقات