القائمة الرئيسية

الصفحات



المفهوم الدستوري للخطأ القضائي الجسيم- الجزء الأول-. د عبدالحكيم الحكماوي.







المفهوم الدستوري للخطأ القضائي الجسيم ) الجزء الأول (
كتبها الدكتور عبد الحكيم الحكماوي
نائب أول لوكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
أستاذ جامعي زائر
باحث قانوني
طرحت بعض مقتضيات المواد التي تضمنها القانون التنظيمي للقضاة جدلا واسعا في الأوساط القضائية و الحقوقية ، و نتجت عنها مجموعة من ردود الأفعال بين الأطراف المتدخلة في عملية تنزيل مقتضيات الدستور في الشق المرتبط بالسلطة القضائية .
و قد كان من بين النقاط الأساسية التي شكلت حجر الزاوية في النقاش ، و احتدم حولها هذا الأخير مقتضيات المادة 97 من القانون التنظيمي للقضاة . و لعل المتتبع لتلك النقاشات سيقف لا محالة عند السجال الذي كان موضوعه مفهوم الخطأ الجسيم و ما إذا كان هذا الخطأ مجسدا في الأفعال التي أوردها واضع مشروع القانون التنظيمي للقضاة آنذاك أم أن تلك الأفعال ما هي إلا مجرد أمثلة يمكن أن يقاس عليها من أجل إدخال أفعال أخرى في دائرة الخطأ الجسيم ؟ هذا التساؤل كان مرتبطا بتساؤل آخر لا يقل عنه أهمية و هو المتعلق بمفهوم الخطأ الجسيم أساسا قبل الحديث عن تجلياته و ما إذا كانت تجلياته محصورة أم مفتوحة على مجموعة من الصور ؟
و في سياق هذا السجال جاء موقف المجلس الدستوري من أجل الفصل في طبيعة الخطأ القضائي الجسيم و ما إذا كان مناسبا أن يُمثَّل له أم لابد من أن يكون محصورا حصرا دقيقا طبقا لمبدأ التوقع القانوني و شرعية الإجراءات و الجزاءات .
و للحديث على المفهوم الدستوري للخطأ القضائي الجسيم وفق منظور المجلس الدستوري سنقف على نقطتين وفق التالي :
المبحث الأول : التعريف التأسيسي للخطأ القضائي الجسيم من الناحية الدستورية
المبحث الثاني : نطاق إعمال فكرة الخطأ القضائي الجسيم

المبحث الأول : التعريف التأسيسي للخطأ القضائي الجسيم من الناحية الدستورية
ليس من عادة المجلس الدستوري أن يتدخل في تحديد طبيعة مفهوم ما في سياق فحصه لمدى مشروعية المقتضيات القانونية المعروضة أمام أنظاره للوقوف على مدى مطابقتها للدستور . غير أن النقاش الذي دار حول مقتضيات مشروع القانون التنظيمي للقضاة جعل المجلس يتدخل لحسم مفهوم الخطأ القضائي الجسيم باعتباره مفهوما مركزيا مؤثرا في عمل السلطة القضائية بكل تمفصلاتها و مؤثرا تأثيرا حقيقيا في العمل اليومي للقضاة ،كما وقف على مجموعة من النقاط قد تسعفنا الفرصة للتطرق لها مستقبلا .
و هكذا فقد نحا المجلس الدستوري في طريق غير الطريق الذي اختاره واضع المشروع الذي نآى بنفسه على تعريف هذه المؤسسة ، بالرغم من معرفته الجيدة بأنها حجرة زاوية مؤثرة في تصور القضاة لعملهم و في تصريف شؤون العدالة . و لهذا فقد عمد واضع المشروع إلى الاكتفاء فقط بسرد مجموعة من الصور التي اعتبرها أخطاء قضائية جسيمة و رتب عليها جزاء التوقيف التلقائي و الحالي للقاضي الذي ارتكب صورة من تلك الصور.
و في هذا السياق فقد أورد واضع المشروع مقتضيات المادة 97 على النحو التالي :
يمكن توقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه إذا توبع جنائيا أو ارتكب خطأ جسيما.
ويعد خطأ جسيما بصفة خاصة :
- إخلال القاضي بواجب الاستقلال والتجرد والنزاهة والاستقامة؛
- الخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة أساسية لحقوق وحريات الأطراف؛
- الخرق الخطير لقانون الموضوع؛
- الإهمال أو التأخير غير المبرر والمتكرر في بدء أو إنجاز مسطرة الحكم أو في القضايا أثناء ممارسته لمهامه القضائية؛
- خرق السر المهني وإفشاء سر المداولات؛
- الامتناع العمدي عن التجريح التلقائي في الحالات المنصوص عليها في القانون؛
- الامتناع عن العمل المدبر بصفة جماعية؛
- وقف أو عرقلة عقد الجلسات أو السير العادي للمحاكم؛
- اتخاذ موقف سياسي أو الإدلاء بتصريح يكتسي صبغة سياسية؛
- ممارسة نشاط سياسي أو نقابي أو الانتماء إلى حزب سياسي أو نقابة مهنية"؛
و هي مادة تحمل في طياتها مجموعة من المؤثرات الذهنية التي من شأنها تهديد المستقبل المهني للقضاة ، و بالتالي تدفعهم نحو التباطؤ و الخوف في تصريف شؤون العدالة بدل التصدي لحماية حقوق و حريات الأفراد و الجماعات بكل ثقة و جرأة و جدارة وفق ما تقتضيه قواعد و أصول القانون و ما يستلزمه أمر التطبيق العادل للقانون .
غير أن المجلس الدستوري و هو يفحص مدى دستورية المقتضيات القانونية المذكورة، اتخذ موقفا غير مسبوق عندما وضع تعريفا للخطأ القضائي الجسيم ، و ذلك عندما نص في القرار الدستوري عدد 16/992 م. د الصادر في الملف عدد 16/1474 بتاريخ 15 مارس 2016 على أنه :
" وحيث إن الخطأ الجسيم يتمثل في كل عمل إرادي أو كل إهمال أو استهانة يدلان على إخلال القاضي، بكيفية فادحة وغير مستساغة، بواجباته المهنية لدى ممارسته لمهامه القضائية؛"
إن الوقوف عند هذا التعريف يجعلنا أمام مفهوم مسيج بمجموعة من القيود أو الاشتراطات التي تؤطر الخطأ القضائي الجسيم و تحدد معناه ، و هذه المحددات يمكن رصدها من خلال ما يلي :
أولا : التمييز بين الخطأ العمدي و الخطأ الناتج عن الإهمال أو الاستهانة ؛
إن التمييز بين هذين النوعين من الخطأ من شأنه أن يضعنا أمام تصور واضح للحالات التي تدخل في صميم الخطأ القضائي الجسيم من تلك التي لا تنطبق عليها أحكامه .

فالخطأ القضائي الجسيم متى كان إراديا فلا يمكننا تصوره إلا في حالة جريمة ، لأن عنصر العمد في عمل القضاة متى ما خرج عن سياق عملهم العادي يدخل في دائرة التجريم و الشواهد على ذلك كثيرة مثل جريمة إنكار العدالة المنصوص عليها في الفصل 240 من القانون الجنائي ، و بالتالي فإن المفهوم الذي أعطاه المجلس الدستوري لمفهوم الخطأ القضائي الإرادي هو مفهوم يقترب إلى أقصى الحدود من مفهوم الجريمة التي يتقرفها القاضي بمناسبة قيامه بعمله.

غير أنه فيما يتعلق بالخطأ الذي يأتيه القاضي نتيجة الإهمال أو الاستهانة فإن المجلس الدستوري لم يعتبره خطأ قضائيا جسيما لمجرد وقوعه . و إنما اشترط أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط حتى يقوم مقام الخطأ القضائي الجسيم و هو ما سنتطرق إليه لاحقا . و بالتالي فإن مجرد الإهمال الواقع من القاضي بمناسبة قيامه بعمله لا يعتبر خطأ جسيما يوجب توقيفه و متابعته متابعة تأديبية .
ثانيا : خصائص الخطأ الناتج عن الإهمال أو الاستهانة ؛
لقد حدد المجلس الدستوري خصائص الخطأ القضائي الجسيم متى كان ذلك الخطأ ناتجا عن الإهمال أو الاستهانة ، و في هذا السياق نص القرار المشار إليه أعلاه على أن : " الخطأ الجسيم يتمثل في كل عمل إرادي أو كل إهمال أو استهانة يدلان على إخلال القاضي، بكيفية فادحة وغير مستساغة، بواجباته المهنية لدى ممارسته لمهامه القضائية؛ "
إذ يتضح مما ذكر أن الخطأ القائم على الإهمال أو الاستهانة لا يتحول إلى خطإ جسيم إلا إذا اتصف بالفداحة ، و أن يكون غير مستساغ ، و أن يكون الأمر متعلقا بإهمال أو استهانة تدلان على الإخلال بالواجبات المهنية و أن يتحقق ذلك الإهمال أو الاستهانة أثناء ممارسة المهام القضائية .
الخاصية الأولى : أن يكون الخطأ فادحا
تعتبر هذه الخاصية مدخلا مهما للتمييز بين الأخطاء التي ترتب نتائج على جانب كبير من الأهمية من تلك التي لا يترتب عنها إلا أخطاء يسيرة . و بالرغم من كون الفصل بين مختلف أنواع الخطأ وفق معيار النتيجة المترتبة عنه يبدو أمرا صعبا في الكثير من الأحيان ، فإن السياق الذي جاء فيه تعريف مفهوم الخطأ القضائي الجسيم يدل على أن المجلس الدستوري اتجه إلى التضييق إلى أبعد الحدود لمعنى هذا المفهوم .و بالتالي فخاصية الفداحة لا يمكن تصورها إلا في الحالة التي تترتب عنها نتائج غير قابلة للإصلاح أو التدارك مهما كانت مظاهر ذلك الإصلاح و ذلك التدارك . و هذا ما يفسر إيراد المجلس الدستوري لمفهوم الخطأ القضائي الجسيم في سياق استحضار مفهوم الخطأ القضائي عموما و مسؤولية الدولة في التعويض عنه . و بالتالي فما دام أن هناك خطأ يمكن تداركه و جبر الأضرار الناتجة عنه فإنه لا يمكن أن يعتبر خطأ فادحا .
الخاصية الثانية : أن يكون الخطأ غير مستساغ
إذا كانت فداحة الخطأ مرتبطة أكثر بالنتائج المترتبة عنه فإن عدم استساغة الخطأ متعلقة بالممارسة الاعتيادية لمهنة القضاء وفق الأصول المتعارف عليها .
من المعلوم أن عمل القضاة يقوم على مجموعة من الأسس المتعارف عليها مهنيا و القائمة على الاجتهاد و إعمال الفكر وفق آليات محددة و داخل نطاق القانون ، و تلك الأسس و الآليات باعتبارها من مقومات العمل القضائي فإن المفروض أن يتمتع القاضي بالحد الأدنى منها ، و إذا ما حصل و افتقدها و مارس مهامه بالرغم من افتقادها فإن ما يقوم به يكون غير مستساغا لأن القاضي العادي لا يتصور أن يأتي سلوكا مفتقرا للمقومات الأساسية و الضرورية لعمله المهني شأنه شأن أي مهنة لها أصولها المرعية و التي يجب احترامها .

و من هذا المنطلق فإن خاصية عدم الاستساغة التي يجب أن يتصف بها الخطأ غير الإرادي للقاضي حتى يكون جسيما ، تعتبر خلاصة عمل لمجموع الجهات المشرفة على السلطة القضائية ، فلا يمكن أن يترك القاضي وحيدا في غياب تكوين مستمر مثلا يطلعه على المستجدات القانونية و التوجهات القضائية الحديثة و فحصها و تمحيصها من أجل الرقي بالعمل القضائي ، إذ لا يمكن اعتبار خطإ ما بكونه غير مستساغ أو حتى فادحا إلا بمرجعية قانونية و قضائية قائمة في ذهن من سيتولى وصف العمل الذي سيأتيه القاضي . و على ذلك فإن نفس المعايير التي ستعتمد لتصنيف خطأ القاضي بأنه غير مستساغ يجب أن تكون معروفة و واضحة لدى المجلس الأعلى للسلطة القضائي باعتباره الجهة التي ستتولى مباشرة إجراءات التأديب و القاضي نفسه حتى يكون مقتنعا اقتناعا حقيقيا بأن فعله يعتبر خطأ غير مغتفر و أنه لا يدخل في باب الاجتهاد .
و تحقيق هذا التلازم و الموازنة بين سلطة جهة التفتيش و سلطة القاضي في رصد و كشف الخطأ غير المستساغ هو الكفيل بتجنيب استقلالية القاضي من أي تأثير محتمل و لو كان تأثيرا نفسيا داخليا ناتجا عن التخوف المستمر من الوقوع في المحظور .
الخاصية الثالثة : أن يتصل الخطأ القضائي المعتبر خطأ جسيما بالواجبات المهنية للقاضي
إن هذه الخاصية تعتبر مسألة بديهية ، إذ لا يمكن إعمال آليات التأديب في سياق المادة 97 من القانون التنظيمي للقضاة إلا في معرض الحديث عن الواجبات المتعلقة بعمل القاضي ، و هنا لا يجب الحديث إلا على أداءه لمهامه القضائية كالفصل في النزاعات المعروضة عليه بالنسبة لقضاة الأحكام ، أو القيام بما يلزم من إجراءات بالنسبة لقضاة النيابة العامة . و من مثال اتصال الخطأ القضائي الجسيم بالواجب المهني عدم الفصل في النزاع متى أصبح جاهزا أو أن يتم التواطؤ مع الخصوم أثناء تسيير الخصومة القضائية بالنسبة لقضاة الأحكام ، أو خضوع قاضي النيابة العامة لتعليمات غير كتابية صدرت من الجهة التي يتبع لها قضاة النيابة العامة بالرغم من كون تلك التعليمات غير قانونية متى اتصلت تلك التعليمات بممارسة المهام القضائية دون غيرها من المهام الإدارية التي لا علاقة لها بحقوق و حريات الأفراد و الجماعات .
فاتصال الخطأ القضائي المعتبر خطأ جسيما بالواجبات المهنية للقاضي يعتبر شرطا جوهريا لا يمكن تجاوزه عند الحديث عن الخطأ المهني الجسيم للقاضي ، و بالتالي فإن أي مقرر تأديبي يستند على مفهوم الخطأ الجسيم يجب أن يبرر بشكل واضح طبيعة هذا الخطأ و نوعه و مدى اتصاله بالواجب المهني للقاضي ، و إلا كان منعدم الأساس و غير مشروع .
ومما يترتب على هذه الخاصية أيضا ألا يتم ربط مفهوم الخطا القضائي الجسيم بكل نشاط أو تصريح للقضاة خارج نطاق واجباتهم المهنية لأن السير في طريق ربط الخطأ الجسيم الموجب للتوقيف بالتصريحات الصادرة بالصفة الجمعوية مثلا يعتبر من باب حرمان القضاة من حق التعبير وفق ما أقره الدستور لهم و هو حق أصيل لكل إنسان و أساسي لكل مواطن .

و مما يخرج عن نطاق الخطأ الجسيم ما يمكن أن يصرح به القضاة بصفتهم الجمعوية لا بصفتهم القضائية ، إذ أن هذه الأخيرة حصرها التعريف موضوع النقاش في الواجبات المهنية دون الحقوق الجمعوية و بالتالي لا يمكن الخلط بين النطاقين نطاق الواجب المهني و نطاق حرية العمل الجمعوي .
الخاصية الرابعة : أن يرتكب الخطأ أثناء ممارسة المهام القضائية
تبدو هذه الخاصية متشابهة مع الخاصية الثالثة غير أنه يجب الانتباه للفرق الكبير الذي بينهما .
إذ أن ما يعتبر خطأ يوجب التوقيف هو ذلك الخطأ الذي يرتكب أثناء ممارسة المهام القضائية ، أي بمناسبة قيام القاضي بمهامه القضائية و ليس بصفة أخرى . ومناسبة هذا القول أن القاضي قد يتولى القيام بمهام أخرى داخل المحكمة لا تدخل في صلب المهام القضائية ، و إنما تبقى قاصرة على العمل الإداري اليومي اللازم لتصريف شؤون المحكمة مثلا ، فمثل هذه الأعمال لا يدخل في صلب ممارسته للعمل القضائي و إن كانت من ضمن واجباته المهنية .
بمعنى آخر يجب التمييز بين الواجب المهني عموما و الذي يشمل العمل القضائي و العمل الإداري الذي قد يكلف به القاضي ، والواجب المهني المتصل مباشرة و حتما بالعمل القضائي .
فنطاق الخطأ القضائي الجسيم حسب التفسير الدستوري يتعلق فقط بالواجب المهني المتصل بممارسة المهام القضائية و أثناء ممارستها ، مما يتعين معه استبعاد أية صورة من صور الخطأ التي قد ترتكب خارج هذا النطاق .
و الجدير بالذكر أنما يدخل في صميم ممارسة المهام القضائي الفصل في النزاعات المعروضة على أنظار القضاء و أمام المحاكم أو مباشرة الإجراءات الضرورية للفصل في تلك القضايا سواء أكانت تلك القضايا تدخل في اختصاص قضاء النيابة العامة أو قضاء الحكم . أما ما دون ذلك فلا يعتبر من صميم ممارسة المهام القضائية .
الخاصية الخامسة : أن يثبت الخطأ القضائي الجسيم بحكم قضائي نهائي
تعتبرهذه الخاصية مرتكزا أساسيا أضافها المجلس الدستوري ، و لم يتطرق لها واضع مشروع القانون التنظيمي ، و قد كانت محل نقاش مستفيض بين مختلف المتدخلين في العمل القضائي و أساسا الجمعيات المهنية للقضاة من جهة و وزارة العدل و الحريات من جهة أخرى .
إذ في الوقت الذي كانت المطالبات القضائية تربط مفهوم الخطأ الجسيم كما نص عليه الفصل 109 من الدستور بضرورة ثبوته بحكم قضائي نهائي احتراما لبمدأ قرينة البراءة كانت قراءة أخرى تعتبر أن الخطأ المهني يمكن فصله عن الخطأ الجنائي أو ما يشابهه ، و بالتالي فإنه بموجب هذه القراءة الثانية كان الخطأ المستند عليه كخطإ جسيم يمكن أن يوقف من أجله القاضي و لو لم تصدر في شأنه أية أحكام قضائية نهائية .
و لعل هذا الموقف الذي تبناه واضع مشروع القانون التنظيمي للقضاة كان قاسيا و تعامل مع القضاء بصفتهم مذنبين و مخطئين أساسا ، و قلب وضعهم و مركزهم القانوني في المحاكمة التأديبية عندما أراد تأسيسها على المسؤولية المفترضة بدل المسؤولية الثابتة .
و في خضم هذا الجدل الدستوري بين طرفي النقاش العمومي ، جاء موقف المجلس الدستوري منتصرا للطرح الذي ما فتئ القضاة ينادون به ، و هو الطرح القائم على ضرورة ثبوت الخطأ الجسيم بحكم قضائي نهائي . أي أن اعتماد مفهوم الخطأ القضائي الجسيم كأساس للمتابعة التأديبية للقضاة في ظل المادة 97 من القانون التنظيمي للقضاة مشروط بضرورة أن يكون ثابتا بحكم قضائي نهائي ، و أن غياب هذا الشرط يجعل القرار التأديبي الصادر في شأن المتابعات التأديبية للقضاة في ظل مقتضيات المادة 97 منعدم الأساس و بالتالي معرضا للبطلان . و هو اتجاه يحترم مبدأ قرينة البراءة و مبدأ تأسيس المتابعة التأديبية على المتابعة القضائية من جهة أو تأسيسها على أمر ثابت قضاءا من جهة أخرى بشكل ينفي فرضية الاحتمال في التعاطي مع الأوضاع المهنية للقضاة .
و ما ذكر بخصوص هذه الخاصية يظهر جليا من خلال تنصيصات القرار المشار إليه و إلى مراجعه أعلاه إذ جاء في هذا الأخير ما يلي : " وحيث انه، لئن كان لا يجوز الخلط بين الاجتهاد، المتمثل في المجهود الفكري الذي يبذله القاضي وفق الأصول المتعارف عليها في هذا الصدد، لتفسير وتطبيق مقتضيات القانون، بما يحتمله ذلك من الصواب والخطإ، وبين الخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة أساسية لحقوق وحريات الأطراف وكذا الخرق الخطير لقانون الموضوع، وهي أعمال تعتبر ـ سواء كانت عمدية أو ناتجة عن تهاون غير مستساغ ـ إخلالا من القاضي بواجباته المهنية، فإن هذا الخرق الخطير لا يمكن اتخاذه أساسا لتوقيف القاضي ولا لمتابعته تأديبيا إلا بعد ثبوته بحكم قضائي نهائي؛" مما يتضح معه أن المجلس الدستوري ربط الخطأ القضائي الجسيم بصدور حكم قضائي نهائي و أغلق الباب أمام كل محاولة لاعتماده كأساس للمتابعة التأديبية إلا بتوفر هذا الشرط .
لكن السؤال المطروح بعد كل ما ذكر هو هل يمكن الاستناد على خاصية دون أخرى أم أن المجلس الدستوري اعتبر المتابعة التأديبية قانونية و دستورية متى استجمعت كامل شروطها و توفرت على جميع الخصائص المذكورة ؟
تبدو أهمية الجواب على هذا السؤال من خلال الوقوف على نطاق تطبيق فكرة الخطأ القضائي الجسيم ، ذلك أن الاتجاه الذي سار في سياق التوسيع من هذا المفهوم أراد أن يجعل من هذا الأخير مستندا لتبرير ما يمكن أن يدخل في مفهوم الخطأ القضائي الجسيم و هو اتجاه يضيق من حرية القضاة أثناء عملهم و يجعلهم تحت رحمة سلطة التأديب ، غير أن ما سار عليه المجلس الدستوري كان مخالفا لذلك مخالفة صريحة .
فقد اشترط المجلس الدستوري ألا يتم اعتماد مفهوم الخطأ القضائي الجسيم إلا إذا توافرت فيه جميع تلك الشروط و الخصائص ، رغبة منه في التضييق إلى أقصى الحدود من إمكانية اللجوء إليه ، و ذلك لأسباب متعددة منها ما يتعلق بضرورة التمهيد لتكريس سلطة قضائية حقيقية في مستوى التطلعات الدستورية أو ما يتعلق بدسترة حق التعويض عن الأخطاء القضائية من قبل الدولة أو ما إلى ذلك . و عليه فلا يمكن الحديث عن أي خطأ قضائي جسيم خارج توافر تلك الشروط و في حالة انتفاء تلك الخصائص .
و ما يؤكد ذلك هو ما ذهب إليه المجلس الدستوري كذلك من التضييق من حالات الخطأ القضائي الجسيم عندما اعتبر أن عبارة " بصفة خاصة " الواردة بالمادة 97 من مشروع القانون التنظيمي غير دستورية و أسس رأيه هذا على فرضية عدم إمكانية التوسع في حالات الخطأ القضائي الجسيم من الناحية الدستورية حتى لا تكون قيدا مسلطاعلى السلطة القضائية المستقلة و مانعا لها من ممارسة مهامها .
و ارتباطا بهذا السياق يجوز لنا التساؤل هل موقف المجلس الدستوري توقف عند تحديد مفهوم الخطأ القضائي الجسيم فقط أم أن تصوره الدستوري امتد إلى الحديث عن نطاق تطبيق هذا التعريف ؟ هذا هوما سيكون موضوع الجزء الثاني بإذن الله تعالى


تعليقات